المادة    
‏الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما نقله ابن القيم: لماذا أهل السنة والجماعة وعلماء الحديث يقولون: إن أخبار الآحاد تفيد العلم، فيقول: إن أهل الحديث لا يجعلون حصول العلم بمجرد هذه الأخبار الثابتة من جهة العادة المطردة، ليس لأن أي خبر آحاد عندهم يفيد العلم هكذا عادة مضطردة، في أي مخبر أو في حق سائر المخبرين؛ لأن هذا الأمر أو هذه القاعدة التي عندهم في إفادته العلم ترجع إلى أمور: منها: ما يرجع إلى المخبر، ومنها: ما يرجع إلى المخبر عنه ومنها: ما يرجع إلى المخبر به، ومنها: ما يرجع إلى المخبر المبلغ، فهذه الأربعة الأنواع.
فأما ما يرجع إلى المخبر -اسم فاعل- فهم الذين أخبروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الصحابة والتابعون رضي الله تعالى عنهم ومن بعدهم، فهؤلاء -كما ذكر الشيخ رحمه الله- كانوا أصدق الخلق لهجةً، وأعظمهم أمانة، وأحفظهم لما يسمعون، وخصهم الله تبارك وتعالى من ذلك بما لم يخص به غيرهم، يقول: (فكانت طبيعتهم قبل الإسلام الصدق والأمانة) أي: هؤلاء الذين أسلموا رضي الله تعالى عنهم، حتى قبل إسلامهم كانوا أحفظ الناس، وأرعى الناس للحق والأمانة والصدق، فلما أسلموا زادهم ذلك صدقاً وأمانةً، فكانت عدالتهم وصدقهم وضبطهم وحفظهم هو عند الأمة أمر معلوم بالاضطرار، كما يعلمون إسلامهم وإيمانهم وجهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاضطرار أنهم ثقات عدول صادقون حافظون متقنون.
يقول: (كل من له أدنى علم بحال القوم يعلم أن خبر الصديق وأصحابه رضي الله تعالى عنهم لا يقاس بخبر من عداهم، وأن حصول الثقة واليقين بخبرهم فوق الثقة واليقين بخبر من سواهم) إلى آخر كلامه، أي: أن المقصود ليس آحاد الناس في أي زمان ومكان أن يخبرنا آحاد من الناس فلان عن فلان أنهم رأوا أمراً معيناً وقع، أو أخبروا عن واقعه، أو عن مشاهدة رأوها، لا يكون ذلك بدرجة أو بقيمة ما يخبرنا به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمور الدين، فهذه الثلاثة الأمور: المخبر، والمخبر عنه، والمخبر به، فلا يمكن أن يقاس هذا على هذا، ومن سوى بين خبر آحاد الخلق في أي زمان ومكان، وبين أخبار الصحابة وروايتهم ابتداءً من أبي بكر رضي الله تعالى عنه إلى غيره، فإنه قد ارتكب نوعاً من أقبح أنواع القياس، وأفسد أنواع القياس في الدنيا، بأن جعل هؤلاء كهؤلاء، إذ إن هؤلاء قد خصهم الله تبارك وتعالى وميزهم بما لم يعط غيرهم من بعدهم.
  1. ما يتعلق بالمخبر عنه

    وأما المخبر عنه وهو الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: (فإن الله تبارك وتعالى تكفل لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يظهر دينه على الدين كله، وأن يحفظه حتى يبلغه الأول لمن بعده، فلا بد أن يحفظ الله سبحانه وتعالى حججه وبيناته على خلقه؛ لئلا تبطل حججه وبيناته، ولهذا فضح الله من كذب على رسوله في حياته وبعد وفاته). وهذا أمر يرجع إلى حكمة الله وحفظه تبارك وتعالى، فمحال في حكمة الله أن نتخيل أن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الكذب على غيره؛ لأن الله تبارك وتعالى تكفل بأن ينصر هذا الدين، وأن يظهره على الدين كله، وأن يبلغ حججه وبيناته إلى الخلق أجمعين، فكل ما أخبر به النبي صلوات الله وسلامه عليه عن الله من الوحيين: الكتاب والحكمة، لا بد أن يحفظ، وأن يضبط، وأن يهيء الله تبارك وتعالى، ويسخر له من يحفظه، ثم يبلغه كما وعاه حتى يؤديه إلى منتهاه، ولولا ذلك ما قامت لله تعالى حجة على العباد، ولما كان هذا الدين ظاهراً على الدين كله، فلو اختلط فيه الحق بالباطل، والضعاف والموضوعات والأكاذيب بالصدق لما كانت حجة الله تبارك وتعالى قائمة على خلقه ممن يبلغه، يقول: (ولهذا فضح الله تبارك وتعالى من كذب على رسوله في حياته وبعد وفاته، وبين حاله للناس) وهذا أمر من الله فوق طاقة البشر (قال سفيان بن عيينة : [ما ستر الله أحداً يكذب في الحديث]). أي: لا يمكن أن أحداً يكذب في الحديث ويستره الله، بل لا بد أن يفضحه الله، وأن يخزيه في الدنيا، وأن يعلم الناس أنه كذاب، وأن تتجنب روايته، وهذا حفظ من الله للدين، إذ سخر له هؤلاء الرجال.
    يقول رحمه الله: (وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله: [ لو هم رجل أن يكذب في الحديث لأصبح والناس يقولون: فلان كذاب ]) أي: لو هم رجل في الليل أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث، ويقول: أضع غداً حديثاً أقول فيه: فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا وكذا، لأصبح الناس يقولون: فلان كذاب؛ لأن الله تعالى تكفل بأن يفضح كل من كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يبين حاله، وهذه قصة وضاع مشهور مع هارون الرشيد عندما أمر بقتله فقال: قد وضعت أربعة آلاف حديث، فسخر منه هارون الرشيد رحمه الله وقال: مهما وضعت فإن عندنا عبد الله بن المبارك و سفيان بن عيينة وفلان وفلان يخرجونها وينقونها حديثاً حديثاً، ويبينون هذا الوضع والكذب والزيف الذي أدخلته، فلا يختلط أبداً بما صح وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: وقد عاقب الله الكاذبين عليه في حياته بما جعلهم به نكالاً وعبرةً، حفظاً لوحيه ودينه، وقد روى أبو القاسم البغوي قال: حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني ، قال: حدثنا علي بن مسهر عن صالح بن حيان عن بريدة عن أبيه قال: جاء رجل في جانب المدينة فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أحكم فيكم برأيي في أموالكم وفي كذا وكذا، وهذه القصة أحد الأسباب التي ورد فيها حديث: ( من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار )، فبعض العلماء يروون القصة مع الحديث، والبعض يروي الحديث فقط، وهذا حال الأكثرين، فلا يذكرون القصة كحال كثير من الأحاديث التي يكون لورودها سبب معين، لكن لا يروي كل أحد سبب ورود الحديث إلا من ألف واختص بالتأليف في أسباب ورود الحديث كما ألف في أسباب نزول القرآن. فهذا الرجل جاء إلى جانب من جوانب المدينة فقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاني عليكم، وأمرني أن أحكم فيكم بما أشاء. فأخذ يحكم في أموالهم، قال الراوي: وكان هذا الرجل قد خطب امرأة منهم في الجاهلية قبل مقدمه صلى الله عليه وسلم، فأبوا أن يزوجوه، ثم ذهب حتى نزل إلى أهل المرأة، وكان غرضه من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يظفر بتلك المرأة، فنزل عليهم وأخبرهم، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حكمني في أموالكم وفي كذا وكذا، وأنه قد أمركم أن تزوجوني فلانة! ولذا صدق الله إذ يقول: (( الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ))[التوبة:97]، فهم يكذبون عليه حتى في حياته صلى الله عليه وسلم، فبعث القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( كذب عدو الله، وبعث رجلاً وقال له: إن وجدته حياً فاقتله )، والنبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن الله لن يمهله فقال: ( وإن وجدته ميتاً فحرقه بالنار، فانطلق فوجده قد لدغته حية حتى مات -سلط الله تبارك وتعالى عليه حية، وصدق الله: (( وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ))[المدثر:31]-، فحرقه بالنار كما أمره صلى الله عليه وسلم )، فعند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار )، وهو الحديث الذي يعد من جملة الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    قال: وروى أبو بكر بن مردويه من حديث الأوازعي عن أبي سلمة عن أسامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من تقول عليَّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار )، وذلك أنه في رواية أخرى: ( أنه بعث رجلاً فكذب عليه، فوجده ميتاً قد انشق بطنه ولم تقبله الأرض )، ففي هذا دليل عظيم على ذلك، وأن الكذب عليه صلى الله عليه وسلم ليس كالكذب على غيره، وأن الله تبارك وتعالى حفظه، وحفظ دينه وبلاغه وبيانه من أن يدس عليه مفترٍ، أو يتقول فيه متقول، ولذلك عندما يقول المتكلمون أو الفلاسفة وغيرهم: إن أخبار الآحاد تحتمل، ويمكن لأي واحد أن يخبر، أو يقول عن النبي صلى الله عليه وسلم قولاً، نقول: لا؛ لأنكم بهذا جعلتم الكلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الكلام على أي حاكم أو ملك أو شيخ أو مفتي، وهذا غير صحيح؛ لأن كلامه صلى الله عليه وسلم كله حق، إذ إنه لا ينطق عن الهوى، وكل ما يبلغه أو يبلغ عنه فلا بد أن يكون شرعاً، وأن يكون ديناً، فإذا جوزنا تطرق الكذب إليه جوزنا تطرق الكذب إلى الشرع، وإلى الدين الذي أنزله الله، وتكفل بحفظه وبإظهاره على الدين كله، وجعله حجة قائمة على خلقه، فيكون هذا طعناً في حكمة الله، وفي اصطفاء الله، وفي اختيار الله تبارك وتعالى، وفي وعد الله الذي وعده، فالقياس إذاً مع الفارق الكبير، يقول: (فالله لم يقر من كذب عليه في حياته، وفضحه وكشف ستره للناس بعد مماته).
  2. ما يتعلق بالمخبر به

    قال: (وأما ما يرجع إلى المخبر به فإنه الحق المحض) والمخبر به هو الوحي أو الدين أو الشرع (وهو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كلامه وحي، فهو أصدق الصدق، وأحق الحق بعد كلام الله، فلا يشتبه بالكذب والباطل على ذي عقل صحيح، بل عليه من النور والجلالة والبرهان ما يشهد بصدقه، والحق عليه نور ساطع يبصره ذو البصيرة السليمة) ولهذا تقدم كلام معاذ رضي الله تعالى عنه في وصيته: [ اقبلوا الحق فإن على الحق نوراً ]. حتى لو جاء من منافق أو بلغه كذاب، فهو صدق في بلاغه هذا، فالحق عليه نور، وهذا أمر جعله الله لأهل الفطر السليمة، ولهذا فإن الكذوب أو الكاذب قد تحتف به قرائن تجعل كلامه محتملاً، أو أقرب أن يكون صدقاً، كما أن الصادق أو المتقن الضابط الحافظ قد تحتف به قرائن تجعلنا نقول: إن كلامه بخلاف الواقع، أي: ليس كل من يكذب يكذب في كل ما يقول، أو ليس كل كذاب أو متهم بالكذب يكذب في كل ما يقول، ولا نقول: إن المنافق لا يقول إلا باطلاً محضاً؛ لأنه قد يقول الحق، فإذا كان المنافق أو الكذاب قد يقول الحق، فإن هناك إمارات وعلامات تدل على أنه قال الحق في غير الدين والبلاغ، والمقصود أنه في خبر ما يخبر به إذا كان الأمر كذلك، فكيف إذا كان المخبر هو الأمين الصادق العدل الثقة ابتداءً بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهاءً بالعدول الثقات من هذه الأمة؟!
    يقول: (فبين المخبر الصادق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين المخبر الكاذب عنه من الفرق كما بين الليل والنهار، والضوء والظلام، وكلام النبوة متميز بنفسه عن غيره) وهذا حق، فهو متميز عن غيره من الكلام، أي أنه يقول: الكلام حتى لو كان صدقاً، حتى لو كان حقاً، فإن كلام النبوة متميز عن كلام غيره من الحق، فلو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كلاماً، وقال بعض الصحابة أو التابعين كلاماً، وقال بعض العلماء كلاماً؛ فإن هذا حق وذاك حق، وهذا صدق وذاك صدق، لكن كلام النبوة متميز عن الحق الذي يقوله غير النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يشتبه به عند الخبير الناقد، فكيف بالفرق بين كلام النبوة، وكلام الدجل والكذب؟ أي: إذا كان كلامه صلى الله عليه وسلم يتميز عن كلام الصحابة والتابعين وغيرهم، أو أي كلام من الحق، فكيف لا يتميز عن كلام الكذابين أو الدجالين؟ قد ذكرنا سابقاً عن الشعراء أو الكهنة أو غيرهم ممن قيل: إن هذا الوحي من كلامهم كما ادعى المشركون، فأبطل الله تبارك وتعالى ذلك -كما ذكرنا- بالفارق الواضح الجلي بين ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، ومن يلقي إليه الملك، وما يقوله الشاعر أو الكاهن ويلقي إليه الشيطان.
    يقول: ولكن هذا إنما يعرفه من له عناية بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخباره وسنته، أي: أن الذي يعرف هم الفرق العلماء بسنته صلى الله عليه وسلم، الذين لهم عناية ودراية واهتمام بكلامه، إذ إنهم يستطيعون أن يميزوا كلامه من كلام غيره، وهذا أمر معلوم، فلو أنك أكثرت من القراءة لعالم معين، ثم وجدت قطعة من كتاب أو ورقة لاستطعت أن تعرف أن هذه من كلام فلان من العلماء، مثل: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وكذلك من أكثر -مثلاً- من القراءة للحافظ ابن حجر ، ووجد ورقة من فتح الباري ليس لها عنوان؛ فإنه يقول: هذه من فتح الباري مثلاً؛ لأنه عرف أحواله، وعرف أسلوبه وطريقته في العرض مثلاً، وهكذا فحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يميزه ويستطيع أن يعرف أن هذا الكلام خرج من مشكاة النبوة، ولا يمكن أن يتقوله أحد، أو إن كان أحد وضعه وافتراه عليه، هذا من كان عالماً وخبيراً به، أما المتكلمون وأمثالهم فإنهم لا يدركون ذلك كما سيبين الشيخ رحمه الله، يقول: (فإذا قالوا) أي: أهل العلم بأحاديثه صلى الله عليه وسلم (أخباره وأحاديثه الصحيحة). هو يتكلم عند ضدهم، لكن الصحابة والتابعون لو قالوا: أخباره تفيد العلم، فهم يخبرون عن أنفسهم أنهم استفادوا منها علماً، أما الآخرون فيقول: (ومن سواهم) أي: ومن سوى هؤلاء (في عمى عن ذلك، فإذا قالوا) أي: من عدا هؤلاء (أخباره وأحاديثه الصحيحة لا تفيد العلم، فهم أيضاً مخبرون عن أنفسهم أنهم ما استفادوا علماً) لأن الحجاب الغليظ الذي بين قلوبهم وبين نوره من الشهوات والشبهات والجهل والبدعة -والعياذ بالله- والزيغ الذي في قلوبهم، يجعلهم لا يميزون هذا عن هذا، فيقولون: نعم هذا الحديث رواه البخاري ، لكن لا يفيد العلم، ما استفادوا علماً؛ لما في قلوبهم من المرض، وليس بأنه لا يفيد العلم في ذاته، فهم يقولون: صادقون فيما يخبرون به عن أنفسهم، كاذبون في إخبارهم: أنها لا تفيد العلم لأهل الحديث والسنة، فنقول: ما أخبرتم به عن أنفسكم فنصدقكم فيه؛ لوجود مانع ذاتي فيكم، وأما أن تقولوا: إن ذلك لا يفيد العلم لـأهل السنة فلا، فـأهل السنة والحمد لله يفيدهم كلامه صلى الله عليه وسلم إذا صح وثبت لديهم العلم اليقيني، وهذا ما يرجع إلى المخبر به.
  3. ما يتعلق بالمبلَّغ

    قال: (الأمر الرابع: وأما ما يرجع إلى المخبَر) أي: المبلَّغ، فعندنا مخبر وهم الرواة، ومخبَر عنه وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، ومخبَر به وهو الدين، ومخبَر مبلغ وهو الأمة، فكل من أمره الله أن يستمع أو أن يبلغ.
    يقول: (فالمخبر نوعان: نوع له علم ومعرفة بأحوال الصحابة وعدالتهم وتحريهم للصدق والضبط، وكونهم أبعد الخلق عن الكذب، وعن الغلط، وعن الخطأ فيما نقلوه عن الأمة، وتلقاه بعضهم عن بعض بالقبول، وتلقته الأمة عنهم كذلك، وقامت شواهد صدقهم فيه، فهذا المخبر يقطع بصدق المخبر -إذا كان هذا حاله- ويفيده خبر العلم واليقين لمعرفته بحاله وسيرته) وهؤلاء والحمد لله هم أهل السنة إلى قيام الساعة، إذ إن عندهم يقين بثقة الصحابة رضي الله تعالى عنهم وعدالتهم وحفظهم وضبطهم وإتقانهم، فهؤلاء إذا بلغهم شيء عن طريقهم أفادهم ذلك العلم واليقين.
    والنوع الآخر: أهل البدع وأهل الأهواء المتكلمين المجادلين في هذا الزمان، العصرانيون أصحاب الفكر المستنير -كما يسمون أنفسهم- أو الواقعيون، إلى آخر هذه المذاهب التي انتشرت في هذه الأمة نسأل الله سبحانه وتعالى أن يردها إليه رداً حميداً، يقول: (هؤلاء لا علم لهم بذلك، وليس عندهم من المعرفة بحال المخبرين ما عند أولئك) فهو يظن أن أبا هريرة رضي الله عنه مثل أي راو، وأن حفظهم وأمانتهم وعدالتهم مثل أي واحد من الخلق، يقول: (فهؤلاء قد لا يفيد خبرهم اليقين فإذا انضم عمل المخبر وعلمه بحال المخبر، وانضاف إلى ذلك معرفة المخبر عنه ونسبة ذلك الخبر إليه، أفاد ذلك علماً ضرورياً بصحة تلك النسبة) أي: إذا ضممت أن هذا المخبر حق، وأن المخبر هم هؤلاء الثقات، وأن المخبر به هو الدين الذي تكفل الله بحفظه، وأنت المخبر في نفسك من قبول الحق ومعرفته ما يجعله يصل إلى قلبك، فإذا حصل لك ذلك أفادك العلم اليقيني بإذن الله، يقول: (وهذا في إفادة العلم أقوى من خبر رجل مبرز في الصدق والتحفظ عن رجل معروف بغاية الإحسان والجود، أنه سأله رجل معدم فقير ما يغنيه فأعطاه ذلك، وظهرت شواهد تلك العطية على الفقير) مثل: الرجل المعروف بالكرم في بلدة ما، إذا أخبرك رجل ثقة صادق لا تشك في كلامه: أن رجلاً معدماً فقيراً ذهب إلى هذا الرجل الكريم المعطاء فأعطاه وأجزل له في العطاء، ثم رأيت شواهد ذلك، وهذا جارك المسكين الذين كنت تراه قبل الذهاب إلى هذا الرجل في حالة رثة، وبعد أيام طرأ عليه التغيير إلى الأحسن، من مسكن ومركب وملبس، فأنت انضمت إليك هذه القرائن وهو واحد، فإنك تجزم بأن هذا الرجل صادق، وأن الخبر حق؛ لأن المخبر صادق وثقة، عندك، والمخبر عنه موثوق والشواهد قامت لديك بالنسبة للمعطى، ثم أنت المخبر أو المتلقي للخبر تعرف حال هذا من الفقر، وتعرف حال هذا من العطاء، وتعرف حال المخبر من الصدق، وبالتالي تقول: هذا عندي يقين أنه فعلاً أعطاك، فيفيدك ذلك عملاً يقينياً، هذا وهو شخص واحد، فكيف إذا تعدد المخبرون وتعددت الشواهد والآثار، فإن ذلك يفيدك القطع بما لا يقبل الشك؟!
    يقول الشيخ رحمه الله: (فكيف إذا تعدد المخبرون عنه، وكثرت رواياتهم وأحاديثهم بطرق مختلفة، وعطايا متنوعة في أوقات متعددة) فهذا مثل هذا الدين الذي بعث به الله عبده وصفيه وخيرته من خلقه محمد صلى الله عليه وسلم، فالذين أخبروا عنه هم الثقات، وأخبروا عن أصدق الناس -الصادق الأمين- صلى الله عليه وسلم، ثم ما أخبروا به ظهرت آثاره وعطاياه، فكيف كان حال الناس قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إنه البغي والظلم والإفك والتشاحن والبغضاء والتدابر والتحاسد وقطيعة الرحم، بل كل رذيلة، فكيف أصبح حالهم بعد الرسول صلى الله عليه وسلم؟
    كالملائكة مطمئنين في الأرض، ظهرت شواهد ذلك، آثار دينه صلى الله عليه وسلم التي إذا رآها العاقل يقول: والله إن هذا الدين حق، ولهذا لما أسلم أهل الكتاب وغيرهم في البلاد التي فتحها الصحابة رضي الله عنهم، كـبلاد الشام و العراق و مصر وشمال أفريقيا وغيرها، أسلموا وبقيت بلاد الإسلام والحمد لله وإلى الآن أهلها مسلمون؛ لأنهم رأوا أخلاق النبوة، وليس لأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم جلسوا مع كل واحد منهم وناظروه وجادلوه حتى عرف الدين، وإلا لطالت الأعمار وانتهت ولم يسلم إلا عدد قليل، لكن لأن هؤلاء الناس بهرهم نور النبوة وأخلاقها في حياتهم، فكان كبار علماء دينهم يقولون: والله ما الذين صحبوا المسيح -الحواريين- بأصدق أو بأحسن خلقاً من هؤلاء. وذلك لما رأوا أخلاقهم وجدوا أن ما كانوا يقرءونه من أخلاق للحواريين الذين صحبوا المسيح عليه السلام، وجدوا أن هذه الأخلاق متمثلة في هؤلاء الرجال، في معاذ و سلمان في بلاد الشام ، وأبي الدرداء و حذيفة و عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وفي غيره ممن نزلوا العراق وهكذا، فعلموا أن هؤلاء حواريون للنبي كالحواريين الذين كانوا مع المسيح عليه السلام، ولا يمكن أن تكون أخلاقهم أخلاق كذابين، ولا أتباع كذاب، ولا أتباع طالب دنيا أو حاكم صاحب ملك، إذ إن المعروف أن القادة المستعمرون الفاتحون إذا دخلوا مدينة أو دمروا أمة أو احتلوا بلداً ما؛ فإن أخلاقهم هي الغطرسة والعجرفة والقوة والافتخار، والنهب والسفك للدماء، والتبجح والافتخار، لكن هؤلاء ليس فيهم من هذه الصفات، وإنما هؤلاء فتحوا القلوب بالإيمان، وبينوا للناس أن وراء هذه الدار داراً، وأن فوق هذا العالم رباً تبارك وتعالى يجازي ويحاسب، وأن لكل إنسان في هذه الدنيا ديناً وشريعة لا بد أن يتبعها وأن يسير عليها، وإلا كان من أهل النار، كما رأى الناس فيهم الإيثار، فكيف يكون حال أهل دمشق عندما يكون أميرهم سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه وهو يحمل الحطب على ظهره، وقد رأوا أمراء الروم وقواد الروم وهم يستخدمون خلق الله، ويستعبدونهم عبيداً لهم في كل شيء؟! لا يمكن أن يصدق ذلك، فإذا رأوهم وسمعوا عن سيرتهم وأحوالهم أيقنوا أن هذا الدين حق، حتى الذي لم يجادل أو يجلس أو يتعلم اللغة العربية أو يقرأ أحوالهم قراءةً، فإن هذا أمر تشعر به القلوب أكثر من أن يترجم لها باللسان، أو أن تقرأه، أو أن تجادل أهله حتى تقتنع أنه حق، فهذا التأثير العظيم الذي أحدثه هذا الجيل، ويقينهم بأن هذا النبي حق، وأن هذا الدين حق، وأن هؤلاء أصحاب نبي هم أيضاً صحابة وحواريون بحق، وهذا جاءهم نتيجة هذه القرائن المجتمعة، وليست لمجرد إخبار أو مناظرة أو جلسة، فبهذا يتضح ويظهر أن ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى من هذا الكلام النفيس، وأن علماء الحديث وأهل السنة والجماعة يقررون صحة ما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قد اجتمعت فيه هذه الأمور، ما يرجع منها إلى المخبر، وما يرجع منها إلى المخبر عنه، وما يرجع إلى المخبر به، وما يرجع إلى المخبر المبلغ وهو الأمة.
    والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
  4. ما يتعلق بالمخبر بحديث الآحاد

    ‏الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما نقله ابن القيم: لماذا أهل السنة والجماعة وعلماء الحديث يقولون: إن أخبار الآحاد تفيد العلم، فيقول: إن أهل الحديث لا يجعلون حصول العلم بمجرد هذه الأخبار الثابتة من جهة العادة المطردة، ليس لأن أي خبر آحاد عندهم يفيد العلم هكذا عادة مضطردة، في أي مخبر أو في حق سائر المخبرين؛ لأن هذا الأمر أو هذه القاعدة التي عندهم في إفادته العلم ترجع إلى أمور: منها: ما يرجع إلى المخبر، ومنها: ما يرجع إلى المخبر عنه ومنها: ما يرجع إلى المخبر به، ومنها: ما يرجع إلى المخبر المبلغ، فهذه الأربعة الأنواع.
    فأما ما يرجع إلى المخبر -اسم فاعل- فهم الذين أخبروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الصحابة والتابعون رضي الله تعالى عنهم ومن بعدهم، فهؤلاء -كما ذكر الشيخ رحمه الله- كانوا أصدق الخلق لهجةً، وأعظمهم أمانة، وأحفظهم لما يسمعون، وخصهم الله تبارك وتعالى من ذلك بما لم يخص به غيرهم، يقول: (فكانت طبيعتهم قبل الإسلام الصدق والأمانة) أي: هؤلاء الذين أسلموا رضي الله تعالى عنهم، حتى قبل إسلامهم كانوا أحفظ الناس، وأرعى الناس للحق والأمانة والصدق، فلما أسلموا زادهم ذلك صدقاً وأمانةً، فكانت عدالتهم وصدقهم وضبطهم وحفظهم هو عند الأمة أمر معلوم بالاضطرار، كما يعلمون إسلامهم وإيمانهم وجهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاضطرار أنهم ثقات عدول صادقون حافظون متقنون.
    يقول: (كل من له أدنى علم بحال القوم يعلم أن خبر الصديق وأصحابه رضي الله تعالى عنهم لا يقاس بخبر من عداهم، وأن حصول الثقة واليقين بخبرهم فوق الثقة واليقين بخبر من سواهم) إلى آخر كلامه، أي: أن المقصود ليس آحاد الناس في أي زمان ومكان أن يخبرنا آحاد من الناس فلان عن فلان أنهم رأوا أمراً معيناً وقع، أو أخبروا عن واقعه، أو عن مشاهدة رأوها، لا يكون ذلك بدرجة أو بقيمة ما يخبرنا به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمور الدين، فهذه الثلاثة الأمور: المخبر، والمخبر عنه، والمخبر به، فلا يمكن أن يقاس هذا على هذا، ومن سوى بين خبر آحاد الخلق في أي زمان ومكان، وبين أخبار الصحابة وروايتهم ابتداءً من أبي بكر رضي الله تعالى عنه إلى غيره، فإنه قد ارتكب نوعاً من أقبح أنواع القياس، وأفسد أنواع القياس في الدنيا، بأن جعل هؤلاء كهؤلاء، إذ إن هؤلاء قد خصهم الله تبارك وتعالى وميزهم بما لم يعط غيرهم من بعدهم.