المادة    
  1. خبر الآحاد عند شيخ الإسلام ابن تيمية

    وهناك كلام نفيس جداً لـشيخ الإسلام رحمه الله ينقله الشيخ بعد هذا الكلام، يقول: (قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقد قسم الأخبار إلى: تواتر وآحاد، فقال بعد ذكر التواتر: وأما القسم الثاني من الأخبار) يعني الآحاد فهو ما لا يرويه إلا الواحد العدل، ونحوه ولم يتواتر لفظه ولا معناه، ولكن تلقته الأمة بالقبول عملاً به أو تصديقاً له. كخبر عمر رضي الله تعالى عنه: ( إنما الأعمال بالنيات... ) وبقية الأخبار التي ذكرنا.
    يقول: (فهذا يفيد العلم اليقيني عند جماهير أمة محمد صلى الله عليه وسلم، سواء الجماهير من الأولين والآخرين، أما السلف فلم يكن بينهم في ذلك نزاع)، ولم يقل أحد من الصحابة والتابعين من السلف: إن خبر الآحاد لا يؤخذ -والحمد لله- فهو إجماع على ذلك، (وأما الخلف، فهذا مذهب الفقهاء الكبار من أصحاب الأئمة الأربعة، والمسألة منقولة في كتب: الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية، مثل: السرخسي و أبي بكر الرازي من الحنفية، والشيخ و أبي حامد الإسفراييني ، والشيخ أبي إسحاق الشيرازي من الشافعية، وابن خويز منداد من المالكية، والقاضي أبي يعلى و ابن أبي موسى و ابن الخطاب وغيرهم من الحنبلية، وأبي إسحاق السراييني و ابن فورك و أبي إسحاق النظام من المتكلمين) حتى من المتكلمين من هو على مذهب الجمهور وعلى مذهب السلف، وإنما نازع في ذلك طائفة كـابن الباقلاني ومن تبعه مثل أبي المعالي و الغزالي ،وهؤلاء أشاعرة .
    إذاً فالذي خالف في ذلك المتكلمون الأشاعرة ، و ابن عقيل ، ثم تعرض لكلام أبي عمرو بن الصلاح الإمام الحافظ في مقدمته : علوم الحديث، وأنه رحمه الله تعالى ذكر القائلين بهذا القول، لكن لم يستوفهم ولم يبينهم، فيظن الظان الرآي لكلامه أنه لم يقله إلا هؤلاء، وبين ابن القيم رحمه الله السبب في ذلك، وهو أن الذين يبحثون في هذه المسألة ينقبون في كتب المتأخرين ولا يتقدمون، فإنه يكون غاية ما يرجعون إليه كلام ابن الحاجب ، فإن ارتفعوا في السند أخذوا كلام الآمدي صاحب الأحكام و أبكار الأفهام وغيرهما من الكتب، فإن ارتفعوا عن الآمدي ارتفعوا إلى ابن الخطيب وهو ابن الفخر الرازي ، وإن ارتفعوا أكثر فإلى الغزالي و الجويني و الباقلاني ، فهم لا ينقلون كلام الأئمة من القرون الثلاثة وغيرهم، إلى أن قال: (والحجة على قول الجمهور أن تلقي الأمة للخبر تصديقاً وعملاً يعد إجماعاً منهم) لا بد أن نضيف كلمة: (يعد) أو (يكون) إجماعاً منهم (والأمة لا تجتمع على ضلالة، كما لو اجتمعت على موجب عموم أو مطلق أو اسم حقيقة أو على موجب قياس، فإنها لا تجتمع على خطأ، وإن كان الواحد منهم لو جرد النظر إليه لم يؤمن عليه الخطأ) أي: أن الواحد من الصحابة أو التابعين يمكن أن يخطئ في الحفظ وفي النقل، لكن الأمة بمجموعها لا تجتمع على خطأ، والحمد لله.
    يقول: (الأمة معصومة عن الخطأ في روايتها ورأيها ورؤياها) وهذه عبارة عظيمة، والرواية المراد بها: نقل الحديث -بمعناه العام- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي معصومة في النقل والرواية، والرأي هو اجتهاد، فإذا اجتهد علماء الأمة وفقهاؤها، ثم أجمعوا على أمر واتفقوا عليه؛ فإنه يكون معصوماً بإذن الله تعالى، إذ لا يمكن أن يجتمعوا على الباطل أو يخرج الحق عنهم، والرؤيا: ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في رؤيا أصحابه؟ قال: ( أرى رؤياكم قد تواطأت أنها في العشر الأواخر، فالتمسوها في العشر الأواخر )، فصحح النبي صلى الله عليه وسلم تواطؤ الرؤيا، فكيف بتواطئ روايتهم، والذي يشاهدونه وينقلونه على الحقيقة؟ وهذا استدلال قيم منه رحمه الله فيقول: ( أرى رؤياكم قد تواطأت على أنها في العشر الأواخر، فمن كان منكم متحريها فليتحرها في السبع الأواخر ).
    ثم قال رحمه الله: (واعلم أن جمهور أحاديث البخاري و مسلم من هذا الباب) أي: من باب ما تلقته الأمة بالقبول؛ لأن المنتقد عليهم أحاديث معدودة، والمنتقد لهم منازع في انتقاده أيضاً، كالإمام الدارقطني رحمه الله تعالى، فإما أن يجاب عنه إجابة كلية، وإما إجابة تفصيلية، فنجمل الإجابة فنقول: إن ما تلقته الأمة بالقبول فهو مقبول وثابت، وإن كان قد ينازعك فيقول: أنا من الأمة وقد خالفت، ونقول: ما انتقد عليهما منه ما كان النقد في غير محله، بمعنى: أن الخطأ من الناقد والحق معهما، وهذا أكثر ما انتقد على البخاري ، مع أن الحق معه رحمه الله، وليس مع الدارقطني ولا غيره، وهذا أحد الأجوبة.
    والأمر الثاني: أن يكون الناقد نظر إلى الشرط، بمعنى: أن هذا الحديث ليس على شرط البخاري ، لكنه يصح على غير شرطهما، لكن فقط الانتقاد موجه إلى أنه ليس على ما اشترطاه.
    وأمر آخر: أن يكون ما انتقد عليهما حق، لكنه في الشواهد والمتابعات وليس في الأصل، وهذا كثير عند مسلم .
    وأمر آخر أن يقال: إن ما ضعفته أيه المنتقد قد صححاه، وليس قبولنا لتضعيفك بأولى من قبولنا لتصحيحهما، إذ هما أئمة ثقات أثبات بهذه الدرجة من العلم، والواحد منهما إن لم نقل: إنه أوثق منك فهو مثلك، فليس أخذنا لكلامك بأولى من أخذنا لكلامهم، فأقل ما في الأمر أنهما تساويا، لكن الأمة أجمعت على تلقي هذين الكتابين بالقبول، فيكون تلقي الأمة لهما بالقبول مرجحاً لهما، ورد على انتقادك لهما، والشيخ رحمه الله تعالى عبارته دقيقة، إذ قال: (واعلم أن جمهور أحاديث البخاري و مسلم). فقال: جمهور الأحاديث وليس كل لفظ فيها.
    إذاً ما كان من المتابعات والشواهد، ما كان من الألفاظ في الصحيحين غيره ثابت معترض عليه باعتراض صحيح لا يدخل في هذا؛ لأنه ليس كل لفظ في الصحيحين ثابت، أما الحديث فصحيح، ففرق بين هذا وهذا، فلو جزمنا أن كل حديث في الصحيحين صحيح قطعاً فلا يلزم من ذلك أن كل لفظ فيهما صحيح قطعاً، بل هناك أربعة أحاديث يمكن أن يجزم بأنها غير صحيحة بجميع ألفاظها، وهي في صحيح مسلم بينها ابن تيمية رحمه الله تعالى.
    إذاً يقول الشيخ ابن تيمية رحمه الله: (إن الأمة معصومة في تلقيها لأحاديث الصحيحين بالقبول، والأمر ليس كما قال الفخر الرازي : إنهما ما كانا عالمين بالغيوب، وأن الزنادقة وضعوا أحاديث، وكان الذي في قلوبهما يقبلان أحاديثهما، فأدخلوا في الصحيحين أحاديث مكذوبة وموضوعة، وليس الأمر كذلك، إذ إن الطعن في الصحيحين طعن في عدالة وتواطؤ وتلقي الأمة لهما بالقبول).
    لكن قد يرد سؤالاً وهو: إذاً فالاعتبار بكلام من؟
    قال الشيخ ابن تيمية رحمه الله: (ما تلقاه أهل الحديث وعلماؤه بالقبول والتصديق فهو محصل للعلم مفيد لليقين، ولا عبرة بمن عداه من المتكلمين والأصوليين، فإن الاعتبار في الإجماع على كل أمر من الأمور الدينية بأهل العلم به دون غيرهم -من العلوم- كما لم يعتبر في الإجماع على الأحكام الشرعية إلا العلماء بها دون المتكلمين والنحاة والأطباء). هل يقبل كلام الأطباء أو المتكلمين في الأحكام الفقهية؟ لا، فإذاً الاعتبار في الإجماع في كل فن هو باعتبار أهل ذلك العلم، وحملة ذلك الفن، وكذلك يقول: (لا يعتبر في الإجماع على صدق الحديث أو عدم صدقه إلا أهل العلم بالحديث وطرقه وعلله، وهم علماء أهل الحديث العالمون بأحوال نبيهم صلى الله عليه وسلم، الضابطون لأقواله وأفعاله، المعتنون بها أشد من عناية المقلدين لأقوال متبوعيهم) أي: إذا جاءك الشافعي أو الحنفي أو الحنبلي أو المالكي وقال: أنا متأكد أن هذا الكلام قاله إمامي، وهو مروي براوية فلان ابن فلان عنه، فنقول: عناية واهتمام المحدثين لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد من عنايتكم بكلام إمامكم المقلد المتبوع.
    إذاً لا بد أن يكون كلامهم حقاً، فلذلك إذا قال أحد: هذا ليس من مذهب مالك ، أو هذا من مذهب مالك ، لأني أعرف طرقه وأصوله، قلنا: فكذلك علماء الحديث يجزمون ويعلمون أن هذا الحديث من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ليس من كلامه؛ لمعرفتهم لكلامه صلى الله عليه وسلم.
  2. تعقيب ابن تيمية على كلام الإمام أحمد في خبر الآحاد

    يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الاستشهاد على هذا بعد أن بين أن الإمام أحمد يقول: (إن أحاديث الآحاد تفيد العلم كما تفيد العمل) فقد استشهد رحمه الله على ذلك بأن الإمام أحمد يشهد للعشرة المبشرين بأعيانهم بأنهم في الجنة، وهذا يدل على أنه يفيد العلم؛ لأنه حكم على معين، يقول: (قال الذين يقولون: أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم تفيد العلم لهم أدلة، منها: قول الله تعالى: (( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ))[النجم:3-5]، فالذي لا ينطق عن الهوى هو النبي صلى الله عليه وسلم، فكل ما يقوله حق) ثم يقول: (وقال تعالى آمراً لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: ((إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ ))[الأنعام:50]، وهذا مثل قوله في الآية الأخرى: (( قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ ))[الأنبياء:45]، وبالتالي فالكلام كله وحي، ولا مجال فيه لغير ذلك) يقول: (وقال تعالى: (( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ))[الحجر:9]، فقد تكفل الله تبارك وتعالى بحفظ هذا الدين، وقال تعالى: (( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ))[النحل:44]، فوجه الشاهد من الآية: أن السنة مبينة الوحي، ومبين الوحي وحي، فالله تبارك وتعالى أنزل إليه الذكر، وأوكل إليه بيان هذا الذكر، وبيان الحق حق، وإذا كان البيان معصوماً فإن مبينه أيضاً معصوم).
    قال: (قالوا: فعلم أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين كله وحي من عند الله، وكل وحي من عند الله فهو ذكر أنزله الله، فقد قال تعالى: (( وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ))[النساء:113]، فالكتاب القرآن، والحكمة السنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( وإني أوتيت الكتاب ومثله معه ) ) -والمثل هو السنة- فأخبر أنه أوتي السنة كما أوتي الكتاب، والله تعالى قد ضمن حفظ ما أوحاه إليه وأنزله عليه؛ ليقيم به حجته على العباد إلى آخر الدهر) أي: إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، إلى أن تأتي الريح الطيبة فتقبض أرواح المؤمنيين، ويرفع القرآن من الدنيا، وحجة الله على عباده قائمة، وما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم واجب الاتباع من كل أحد، ولا بد أن يجد الحجة عليه قائمة، ولا اعتراض عليه لوجه من الوجوه، يقول: (وقالوا: فلو جاز على هذه الأخبار أن تكون كذباً لم تكن من عند الله، ولا كانت مما أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وآتاه إياه تفصيلاً لكتابه وتبييناً له، وكيف تقوم حجته على خلقه بما يجوز أن يكون كذباً في نفس الأمر). كما تزعمون أنتم في أحاديث الآحاد؟! يقول: فإن السنة تجري مجرى تفسير الكتاب وبيان المراد، فهي التي تعرفنا مراد الله من كتابه، فلو جاز أن تكون كذباً وغلطاً لبطلت حجة الله على العباد. ومثل ما بينته السنة من الكتاب: الصلوات الخمس، بينما هؤلاء القرآنيون -كما يزعمون- يقولون: إن الصلاة صلاتان؛ لأن القرآن ليس فيه إلا: (( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ))[الإسراء:78]، فهما صلاتان في الصباح وفي المساء، فانظر إلى هذا الكفر والعياذ بالله، بينما المسلمون جميعاً: المبتدع والضال والمهتدي وأهل السنة و الروافض و الصوفية وغيرهم مجمعون على أنها خمس صلوات، لكن هل هذه الخمس موجودة في القرآن بركعاتها؟ لا، فقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم، في السنة، وعليه فلا غنى بالكتاب عن السنة، بالوحي المحفوظ لفظه ومعناه عن الوحي المبين له، والذي هو اللوح المحفوظ بحفظ النقلة الأثبات، فإذا كانت حجة الله لا تقوم على العباد إلا به، فلا بد أن يكون داخلاً في المحفوظ، فلو أن أحداً يتعبد الله بصلاتين في اليوم فهل يقبل ذلك منه؟ وكيف تكون الحجة قائمة عليه بأن الصلوات خمس؟ وبماذا تكون قائمة عليه؟ بالسنة، إذاً السنة داخلة في الوحي وفي البيان وفي الشرع فيما يجب على كل أحد أن يعتقده، وأن يعمل به، فهي من جملة حجة الله على الخلق؛ فإذا فرق أحد فجعل السنة غير مقبولة، أو لا تفيد العلم، أو شكك فيها؛ لأنها آحاد -وأكثر السنة آحاد- فقد فرق بينهما، وعلى هذا يقول: إن حجة الله على العباد لم تقم. فلو صلى الرجل صلاتين في اليوم لكان ذلك كافياً، وهذا لا يقوله إلا هذه الشرذمة الخبيثة التي هي الباطنية أقرب وليست من فرق الإسلام، فهي خارجة عن الإسلام بإجماع المسلمين، ثم يقول: (ولقال كل من احتج عليه بسنة تبين القرآن وتفسيره، قال: هذا في خبر واحد لا يفيد العلم، فلا تقوم عليّ حجة بما لا يفيد العلم، وهذا طرد هذا المذهب الفاسد).
    أي: يطرد هذا المذهب الفاسد كمابينا في كلام الرازي وأمثاله، فكل من قلت له: هذا حلال وهذا حرام يقول لك: هذا خبر آحاد، فلا تقوم الحجة على أحد والعياذ بالله، يقول: واطراد الناس له من يطردهم -أي: أبعدهم عن العلم والإيمان- والذي يقتضي منهم العجب أنهم لا يرجعون إلى أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجة أنها لا تفيد العلم، ويرجعون إلى الخيالات الذهنية، والشبهات الباطلة التي تلقوها عن أهل الفلسفة والتجهم والاعتزال، ويزعمون أنها براهين عقلية، يقول الشيخ رحمه الله: العجيب من أمر هؤلاء القوم أنهم لا يرجعون إلى أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقولون: هذه أحاديث آحاد، وهذه ظنية لا تفيد العلم ونحو ذلك، وبالتالي إلى أي شيء ترجعون في الكلام فيما تريدون الكلام فيه من أمور الدين، وأعظم ذلك وأجله معرفة الله وما يليق به مما لا يليق به تبارك وتعالى؟ قالوا: نرجع إلى الأصول العقلية! ولكن ما هي الأصول العقلية أو هذه القواعد العقلية أو البراهين الجدلية؟ قالوا: كلام منقول عن أهل التفلسف، أو كلام المعتزلة كـالنظام والعلاف وأشباههم من الملاحدة ، وكل هذا مرجعه في الحقيقة إلى اليونانيين إلى الإغريق، ونحن نقول: عجباً لكم يا من تقولون: إن ما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر خبر آحاد يحتمل الحق والباطل، يحتمل وقوعه ويحتمل عدم وقوعه، ويحتمل بأنه قد قيل ويحتمل عدم ذلك، وتأخذون كلام أرسطو و أفلاطون وغيرهما الذين بينكم وبينهم مئات أو ألوف السنين، وهنالك شيء آخر غير الانقطاع وهي اللغة، إذ إن كلام أرسطو و أفلاطون باللغة اليونانية القديمة، وأنتم تأخذون الكلام بالكلام العربي، فمن الذي قال لكم: إن هذا كلام أرسطو و أفلاطون وهو بلغة أخرى، وبينك وبينهم هذه القرون الطويلة، ولا سند متصل بينك وبينهم، ثم تجعلون كلامهم حجة قطعية لا تقبل النقاش وتقولون: قال المعلم الأول، وقال: أفلاطون ، والمعلم الأول عندهم أرسطو ، فسبحان الله! فأين عقولكم؟ ولو ثبت عندنا -فرضاً- أن أرسطو قال هذا الكلام بالسند الصحيح المتصل الذي يشبه: مالك عن نافع عن ابن عمر ، لقلنا لكم: وهل أرسطو نبي حتى يؤخذ عنه؟ وعلى فرض أنه لو صح عندنا أسانيد صحيحة إلى عبد الله بن أبي أنه قال كذا وكذا، وعندنا أسانيد صحيحة إلى أبي جهل أنه قال كذا وكذا، فهل كلام هؤلاء مع ثبوت الكلام وصحة السند إليهم حق؟ إنه باطل، وأرسطو و أفلاطون أكفر منهم، وأجهل بالله من هؤلاء، ومع ذلك فلا سند ولا متصل بينكم وبينهم، واللغة مختلفة وهم بهذه المثابة.
    إذاً فكيف تعارضون ما جاء في الكتاب وما جاء في السنة لا سيما ما جاء فيها صحيح ثابت، وتقولون: هذا خبر آحاد، بتلك الأقوال التي هي من كلام الجهمية و الفلاسفة ، وكلها ترجع في النهاية إلى كلام اليونان، وربما يرجع شيء منها إلى كلام البراهمة ، فهم أكفر وأكفر؟! فهذا دليل على بطلان هذا المذهب.
  3. أقسام العلم بالتواتر عن ابن تيمية

    يقول: (فكما أن العلم بالتواتر ينقسم إلى عام وخاص فيتواتر عند الخاصة ما لا يكون معلوماً لغيرهم، فضلاً عن أن يتواتر عندهم) وهذا معلوم، فقد يتواتر عند الأطباء ما لا نعلمه نحن، فضلاً أن نتواتر عليه، إذ إنه ليس شرطاً؛ لأننا قد لا نعلم به أصلاً؛ لأنا لسنا من أهل الطب والهندسة أو غير ذلك.
    يقول: إذاً فأهل الحديث لشدة عنايتهم بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وضبطهم لأقواله وأفعاله وأحواله يعلمون من ذلك علماً لا يشكون به مما لا شعور لغيرهم به البتة، فخبر أبي بكر وعمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وابن مسعود رضي الله عنهم ونحوهم يفيد العلم الجازم الذي يلتحق عندهم بقسم الضروريات عند أهل الحديث، وعند الجهمية والمعتزلة وغيرهم من أهل الكلام لا يفيد علماً؛ لأنهم ليسوا من أهل هذا العلم والعياذ بالله، فقد أعمى الله بصائرهم عنه. يقول: (وكذلك يعلمون بالضرورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة، وعند الجهمية رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل ذلك). بل إلى الآن الإباضية في عُمان توزع كتاب الحق الدامغ وينكرون فيه الرؤية، فيقولون: لا يمكن؛ لجهلهم بالحديث، لكن المعتبر هو أهل هذا الفن، يقول: (وكذلك يعلمون) أهل الحديث (بالضرورة أن نبيهم صلى الله عليه وسلم أخبر عن خروج قوم من النار بالشفاعة، وعند المعتزلة والخوارج لم يقل ذلك). بل إلى الآن المعتزلة والخوارج ينكرون الشفاعة، وأهل السنة والجماعة يثبتون شفاعته صلى الله عليه وسلم، وشفاعة الملائكة، وشفاعة الصالحين في قوم من أهل النار دخلوها أن يخرجوا منها بفضل الله تبارك وتعالى، ثم بشفاعة هؤلاء الشافعين الذين يشفعهم الله تعالى فيهم، ثم قال: (وبالجملة فهم جازمون بأكثر الأحاديث الصحيحة، قاطعون بصحتها عنه وغيرهم لا علم عنده بذلك). والمقصود أن هذا القسم من الأخبار يوجب العلم عند أكثر العقلاء.
    والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.