المادة    
الاحتمال الثاني: لو قال قائل: هل يجوز أن تتكافأ أدلة الحق وأدلة الباطل فيشتبه الأمر ويلتبس على الإنسان؟ لا يجوز، فكيف بأن يكون الحق باطلاً والباطل حقاً؟!
يقول: (ولا يجوز أن تتكافأ أدلة الحق والباطل، ولا يجوز أن يكون الكذب على الله وشرعه ودينه مشتبهاً للوحي الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وتعبد به خلقه، بحيث لا يتميز هذا من هذا، فإن الفرق بين الحق والباطل، والصدق والكذب، ووحي الشيطان ووحي الملك عن الله، أظهر من أن يشتبه أحدهما بالآخر). وبالتالي فالفرق عظيم جداً في المعرفة، وهو فرق جلي، وليس كمثل شهادة الشهود على أمر من الأمور، إذ إنه هنا إما حق ووحي ونور أوحاه الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم أخبر به أصحابه، وحدثوا به، ونقله إلينا الثقات العدول عنهم، وإما إفك باطل مفترىً اختلقه أحد الوضاعين، ونسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمسألة في هذا عظيمة جداً، وليست مثل: أن يشهد شاهدان على أن هذا المال لفلان، فيعارضهما شاهدان في ذلك، فتشتبه المسألة على القاضي لمن يحكم؟ لا، فهذا حق نور، وهذا باطل صريح لا خفاء فيه، لكن على من يقع الاشتباه؟ إن وقع اشتباه فهو دليل على ضعف فيمن اشتبه عليه ذلك، ولهذا تروج البدع والأحاديث المكذوبة، وتنتشر الأحاديث الموضوعة المختلقة على الجهلة، إما جهلاً مطلقاً، وإما جهلاً خاصاً، أي: الجهل بالحديث وطرقه وصحته وأسانيده ورجاله، ولو كان عالماً في النحو أو عالماً بالفقه، لكن ليس لديه علم بالحديث، ومعرفة صحيحه من سقيمه، فقد يشتبه عليه الأمر، لكن نحن نتكلم في أهل الفن وفي حملته، وهم أهل الحديث المتقنون، ولذلك لما رد الله تعالى على القائلين: بأن القرآن قول كاهن أو قول شاعر وما أشبه ذلك مما افتراه المشركون، بين سبحانه وتعالى كذبهم بنوع الواسطة التي بين النبي والكاهن أو الشاعر، وهذا أمر.
والأمر الآخر: نوعية القول الذي يقوله الشاعر أو الكاهن أو النبي، فلا الواسطة كالواسطة، ولا الكلام كالكلام، فكيف يشتبه هذا بهذا: (( هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ))[الشعراء:221-222]، (( يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ))[الشعراء:223]، وهذا نفي أو تأكيد لما قال: (( وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ))[الشعراء:210-212]، أي: لا يمكن أن يصلوا إليه أبداً، ثم الشياطين تنزل على هؤلاء، فالكهان واسطتهم ووحيهم يأتي من الشياطين، حالهم: أفاكون دجالون كاذبون، وبالتالي لا يمكن أن يكون ذلك شبيهاً بهذا الحق، ولم يجعل الله تبارك وتعالى الشعراء كما يقول بعض الأدباء في كتب الأدب وغيرها: إن كل شاعر له جني، إذ إن الله تعالى لم يجعل ذلك إلى الواسطة، لكن جعله إلى حال الشعراء، أي: هل يشتبه حال الشاعر بحال النبي؟ قال: (( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ))[الشعراء:224]، فإذا كان اتباعهم غاوين فهم أغوى الغاوين، ورأس الغواية إلا من استثناهم الله، والكلام في شعراء الجاهلية وأشباههم، فهل يختلط هذا بهذا؟! أو هل يختلط من يتبعه الصديقون الأطهار الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر الأمناء البررة الأتقياء، بمن يتبعه الرعاع والأراذل أينما ذهب؟ أو هل يقارن هؤلاء صحبة الشعراء بصحبة الأنبياء؟ لا يمكن، قال تعالى: (( أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ))[الشعراء:225] هل يكون هذا كالقرآن؟ إن القرآن فصل عدل في الأحكام، صدق في الأخبار، حق فيما يخبر به عن كل شيء، وعن كل ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم -حتى من غير القرآن- فهو حق وعدل، فهل يشتبه بكلام الشعراء الذين هم في كل واد يهيمون، فلا يتركون حقاً ولا باطلاً، يقولون الحق والباطل، يمدحون النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يمدحون الطواغيت والكهان الدجالين وغيرهم، وهذا في المدح، وأما في الهجاء فيهجون الأفاضل الأبرياء، ويقذفون المحصنات الغافلات المؤمنات، ويهجون أيضاً المجرمين، فهم في كل واد يهيمون، وما يمدحه اليوم يذمه غداً، وحياتهم هكذا، فليس لهم مبدأ، وأكبر شاعر وأشهر شاعر عند العرب هو المتنبي ، ونصف ديوانه في مدح كافور ، إذ جعله أسطورة تاريخية، وفي النهاية هجا كافوراً :
عيد بأية حال عدت يا عيد             بما مضى أم لأمرٍ فيك تجديد
فليس لهم ثبات مبدأ، وهكذا إذا أراد الشاعر أن يتحدث عن مدينة من المدن يقول: هذه جنة الدنيا، هذه أجمل ما فوق الأرض، ثم إذا انتقل لبلد آخر قال: هذه أجمل وأفضل شيء، وكلما ذهب إلى ثالث ورابع قال ذلك، وكذلك إذا مدح كريماً قال: هذا أكرم الناس، هذا أكرم الخلق، وكلما مدح واحداً يصبغ عليه من الصفات ما قالها في الأول والثاني والثالث والعاشر، إذاً هم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون، والنبي صلى الله عليه وسلم بخلاف ذلك كله، فهو يفعل ما يقول صلوات الله وسلامه عليه من العبادة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والخير والفضيلة وهكذا، والمقصود: لا يشتبه هذا بهذا أبداً من جهة موضوع كل من القولين أو من الأمرين، فلذلك الخبراء بهذا العلم إذا جيء له بحديث أول ما ينظر إليه يقول: هذا الحديث لا يمكن أن يصح بدون أن يتأكد، أو يبحث عن سنده؛ لأنه أصبح لديه خبره، فهو يعلم أن هذا كذب.
وعليه فالمقصود أنه لا يلتبس نور الشمس بظلام الليل أبداً، والوحي الحق الذي ثبت أنه وحي مثل نور الشمس، والمختلق الموضوع على كلام الرازي يمكن بعض الناس يختلق أحاديث أو يضعها، فهو مثل ظلام الليل ليس بينهما اشتباه إلا عند ضعيف البصر أو الأعمى.
  1. إمكانية تمييز الحق من الباطل في أحاديث الآحاد