المادة    
  1. تعقيب ابن القيم رحمه الله على مذهب الحنفية في خبر الآحاد

    يقول ابن القيم رحمه الله تعقيباً على هذا الكلام: (ومن المعلوم لكل ذي حس سليم، وعقل مستقيم، استفاضة أحاديث الرؤية والنداء والنزول والتكليم وغيرها من الصفات، وتلقي الأمة لها بالقبول أعظم بكثير من استفاضة حديث اختلاف المتبايعين، وحديث: ( لا وصية لوارث )، وحديث: ( فرض الجدة.. ) وغيرها -أي: هذه أهم من تلك ولا شك- بل لا نسبة بين استفاضة أحاديث الصفات واستفاضة هذه الأحاديث، فهل يسوغ لعاقل يقول: إن هذه توجب العلم وتلك لا توجبه إلا أن يكون مباهتاً. وأصحاب البهتان لا جدال معهم: (( وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا ))[الأنعام:25]، وقال تعالى: (( وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ))[الحجر:14-15]، فأصحاب البهتان والهوى لا يقبلون الحق ولا يريدونه، ويصرون على ما يريدون أن يعتقدوا أنه الحق، وهؤلاء لا جدال معهم، لكن من كانت لديه بصيرة، ومحبة للحق، ومعرفة له، وطلب له، وجد أن هذه الأحاديث في الصفات أكثر استفاضة، وأولى بأن تتلقى بالقبول من تلك التي هي في الأحكام العملية).
  2. خبر الآحاد عند الإمام الشافعي

    ونوجز ما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى بعد ذلك، إذ لا حاجة للإطالة فيه، وهي: أن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قد ينقل أو يقال: إن كلامه مختلف في قبول خبر الآحاد، ففي كتابه اختلاف مالك صرح بأن خبر الآحاد يفيد العلم، وفي الرسالة قال ما يشعر بخلاف ذلك، ولو نظرنا إلى كلامه في الرسالة لاتضح لنا كما قال ابن القيم رحمه الله: إنه يرى أنه يفيد العلم؛ لأن الذي قال في الرسالة هو: فأما ما كان من سنة من خبر الخاصة الذي قد يختلف الخبر فيه، فيكون الخبر محتملاً للتأويل. أي: ليس نصاً صريحاً، أو ليست دلالته قطعية، إذ تحتمل ألفاظه أكثر من دلالة وكما هو معلوم كثير من الأحاديث تحتمل أكثر من دلالة، بل حتى في الآيات، فهل الباء في قوله تعالى: (( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ ))[المائدة:6]للعموم أم ماذا؟
    وهل اللمس في قوله تعالى: (( أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ ))[النساء:43] يراد به اللمس المعروف أم الوطء؟
    إن لفظ الآية ولفظ الحديث قد يحتمل، يقول: وجاء الخبر فيه من طريق الانفراد، فالحجة فيه عندي أن يلزم العالمين حتى لا يكون لهم رد ما كان منصوصاً منه، كما يلزمهم أن يقبلوا شهادة العدول، لا أن ذلك إحاطة كما يكون نص الكتاب وخبر العامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو شك في هذا شاك لم نقل له تب، وقلنا: ليس لك إن كنت عالماً أن تشك، كما ليس لك إلا أن تقضي بشهادة العدول، وإن أمكن فيهم الغلط، ولكن تقضي بذلك على الظاهر من صدقهم، والله ولي ما غاب عنا من ذلك.
    إذاً لو لو دققنا النظر لوجدنا أن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى لا يقول إنه لا يفيد العلم، لكن يقول: حديث الآحاد الذي دلالته محتملة ليس مثل نص الكتاب، وليس مثل الحديث المتواتر أو قطعي الدلالة، وهذا حق، إذ إن غاية ما يقوله الشافعي رحمه الله تعالى: أن العلم متفاوت، ونحن نقول ذلك كما قرر الشيخ رحمه الله تعالى، يقول: إن يكون العلم المستفاد من خبر الآحاد، نفى الشافعي رحمه الله تعالى أن يكون هذا العلم مساوياً للعلم المستفاد من نص الكتاب وخبر المتواتر، وهذا حق، فإن العلم بتفاوت في القوة والضعف، فالعلم الذي نأخذه من خبر الآحاد ليس كالعلم الذي نأخذه من خبر متواتر، وليس المتواتر من الأحاديث كالعلم المأخوذ من نص الكتاب، لكن يقول: ولو شك في هذا شاك لم نقل له: تب، فماذا يقصد الإمام الشافعي بذلك؟ إنما نكفر أو نضلل من رد ما كان صريحاً من الأخبار، أما ما كانت دلالته محتملة فإنا لا نقول له: تب من بدعتك أو ضلالتك أو كفرك؛ لأن بعض العلماء يكفر رد من خبر الآحاد، والكلام فيه تفصيل وكلام طويل، لكن المقصود أن من رد خبر الآحاد فإنه أقل ما يقال فيه: إنه مبتدع؛ لأنه رد الحديث برأيه أو هواه أو بما يراه معقولاً في نظره، فنقول: يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: نحن لا نقول له: تب إذا كانت الدلالة محتملة، ولكن نقول له: يجب عليك أن تعمل به، كما يجب عليك لو كنت قاضياً أن تقضي بشهادة الشاهدين، مع احتمال أن يكون الشاهدان كاذبين، فكذلك بهذا الحديث مجرد احتمال أن يكون الراوي غلط أو نسي، أو أن الدلالة غير صريحة نقول: هذا الاحتمال يجعلنا لا نقول لك: تب، ولكن نقول لك: يجب أن تعمل، ويجب أن تحكم به.
  3. أخبار الآحاد عند الحنابلة

    وأما مذهب الحنابلة كما هو منقول عن القاضي أبي يعلى نقله ابن القيم رحمه الله تعالى أنه ذكر عن الإمام أحمد أنه قال: (أحاديث الرؤية نؤمن بها، ونعلم أنها حق، قال القاضي: فقطع على العلم بها، وهذا هو اللائق بمذهب الإمام أحمد رحمه الله كما ذكر الشيخ من قبل).
    ثم ذكر في نهاية كلام القاضي أبي يعلى كلاماً لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في استدراكه عليه، وهو: (أن الطرق غير منحصرة، متى يفيد خبر الآحاد العلم؟ فنقول: لا حصر لذلك؛ لأن القرائن كثيرة، فما يحتف به من القرائن والأحوال في ذلك كثيرة، وقد ذكرنا بعضاً منها، فالواحد إن كان خبراً عن الله في القرآن، أو كان خبراً عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إن كان من آحاد الصحابة، وكثير من القرائن تجعل خبر الواحد قطعياً، فشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول: إن هذه لا تنحصر، وابن القيم يفصل ذلك فيقول: أخبار الآحاد الموجبة للعلم لا تنحصر، بل يجد المخبر علماً لا يشك فيه بكثير منها.
    ففي حياتنا اليومية تأتينا أخبار آحاد، ومع ذلك تعطينا وتفيدنا القطع واليقين، فكيف بما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما هو منقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن النقلة الأثبات؟!).
    قال: (كما إذا أخبر من لم يجرب عليه كذباً قط بخبر أنه شاهده؛ فإنه يجزم به جزماً ضرورياً، أو يقارب الضرورة.
    أي: أن أي واحد من الناس إذا أخبره من لا يشك في صدقه: أنني اليوم -مثلاً- رأيت كذا وكذا؛ فإنه يجد ذلك علماً ضرورياً لا يحتاج معه إلى استدلال، فهو ثقة مأمون مطمأن إليه، لم يجرب عليه كذباً، وبالتالي فإنك تقطع به، وتنقله من غير شك، وهذا واقع في حياتنا، يقول: وكما إذا أخبر بخبر عليه فيه ضرر من الأخبار فأخبر به تديناً وخشية لله تبارك وتعالى، كما إذا أتى بنفسه اختياراً، وأخبر عن حد ارتكبه ويطلب التطهير منه. كالذي حدث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مع قصة ماعز ، ومثله لو جاء إليك شخص آحاد وأخبرك وقال فعلت كذا وكذا على سبيل الخشية والتدين، ويريد منك أن تفتح له باباً للتوبة، أي: كيف يتوب ويتطهر من ذلك؟ فما الذي يجعلك تشك في خبره؟ وما الذي يحمله على أن يكذب حتى يرجم أو يجلد أو يغرم أو يعزر؟ إن هذا يفيد عندك يقيناً أنه صادق، وأن ذلك الأمر قد وقع، فيقول: لا بينة ولا يمين لا مخافة.. إلى آخره، فماذا يلحقه؟ أو أخبر المفتي بأمر فعله ليحصل له المخرج منه -هذا واضح مثله- أو أخبر الطبيب بألمٍ يجده ليرجو من ذلك أنه يعالجه. فهل نقول: هذا خبر واحد ويمكن أن يكون كذاباً، بل نطمئن لكلامه؛ لأنه يخبر عن أمر له في نفسه، ثم ما الذي يحمله أن يذهب ويدعي المرض ويأخذ الدواء وهو غير مريض؟ المقصود أن الناس في الأصل يتعاملون على أن هذا يفيدهم علماً، فيقطعون به ويجزمون به، يقول: إلى أضعاف أضعاف ذلك من الأخبار التي يقطع السامع بصدق المخبر بها، فكيف ينشرح صدراً وينطلق لساناً بأن خبر الصديق ، و عمر بن الخطاب ، و عثمان بن عفان ، و علي بن أبي طالب ، و عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم إذا قالوا: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا، أنها لا تفيد علماً البتة؟! سبحانك هذا بهتان عظيم!).
    أي: إذا كنا نسلم بمثل هذه الأخبار في هذه الأمور العادية ونقطع بها، فالأولى والأحرى أن نقطع بما يقوله هؤلاء الأئمة الأعلام الأجلاء الثقات، الذين هم أعلى الأمة درجةً في الإيمان واليقين والتثبت والأمانة والصدق والإخلاص، وأن نجزم به، ولا يحل لنا بحال من الأحوال أن نقول: إن أخبارهم لا تفيد اليقين أو العلم. ثم يقول: (ونحن نشهد بالله أن هؤلاء كانوا إذا خبروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبر جزم بصدقهم) أي: الرسول صلى الله عليه وسلم (بل نشهد بالله أن سالماً ، و نافعاً ، و سعيد بن المسيب وأمثالهم بهذه المنزلة) انتقل إلى التابعين (بل مالك ، و الأوزاعي و الليث ونحوهم كذلك، فلا يقع عندنا ولا عند من عرف القوم والاحتمال فيما يقول فيه مالك : سمعت نافعاً يقول: سمعت ابن عمر يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول) لا يقع في هذا احتمال أبداً (ونحن قاطعون بخطأ منازعينا في ذلك) فـابن القيم رحمه الله تعالى يجزم بأننا نقطع بالخطأ، إذ إن المسألة ليست اجتهادية، أي: لا نقول: كلامنا صواب يحتمل الخطأ، وكلام غيرنا خطأ يحتمل الصواب، بل نقول: كلامنا حق، وكلام غيرنا باطل لا يحتمل الصواب لوضوحها عندنا.
  4. أخبار الآحاد عند الحنفية

    ‏الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    فنواصل النقل عن ابن القيم في مسألة خبر الآحاد، قال رحمه الله: (وصرحت الحنفية بأن الخبر المستفيض يوجب العلم، ومثلوا له بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث )، فقالوا: مع أنه إنما روي من طريق الآحاد) والوصية جاءت في القرآن، لكن جاء بعد ذلك آيات الميراث، فقال العلماء: إنها ناسخة لها، وقال البعض: إن الوصية تظل في حدود ما يجوز للإنسان أن يوصي به وهو الثلث، والثلث كثير كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم لـسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وهذا لغير الورثة، أما الورثة فلا وصية لهم عملاً بحديث: ( إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث )، وأيضاً حديث ابن مسعود رضي الله عنه في المتبايعين إذا اختلفا، فالقول قول البائع أو يترادان، وهو أيضاً في الأحكام العملية الفرعية، وكذلك حديث عبد الرحمن بن عوف في أخذ الجزية من المجوس، وقوله: ( سنوا بهم سنة أهل الكتاب )، فهو حكم عملي فرعي، وليس من العلميات أو الاعتقاديات الخبرية، وكذلك حديث المغيرة بن شعبة و محمد بن مسلمة في إعطاء الجدة السدس كما سبق.
    يقول الحنفية: قد اتفق الخلف والسلف على استعمال حكم هذه الأخبار حين سمعوها، فدل ذلك من أمرها على صحة مخرجها وسلامتها، وإن كان قد خالف فيها قوم فإنها عندنا شذوذ ولا يعتد بهم في الإجماع. أي: أن هناك كثيراً من الأحاديث التي تترتب عليها أحكام عملية، ولكن الأمة تكاد تكون مجمعة عليها مع أنها آحاد، ولا يخالف فيها إلا من شذ، ومنها: حديث: ( إنما الأعمال بالنيات )، فالأمة مجمعة على أن كل عمل لا بد فيه من النية، وكل قربة لا بد فيها من النية.
    ومنها: حديث: ( نهى النبي عن بيع الولاء وهبته ) كما مثل بهذا شيخ الإسلام رحمه الله.
    ومنها: ( أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعلى رأسه المغفر )، أي: لم يدخلها عام الفتح محرماً، وهذا أيضاً آحاد، لكنه مقطوع به عند الأمة، أي: لم تختلف الأمة بأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة غير محرم.
    ومنها: الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها. فقد اتفقت عليه الأمة.
    ومنها أيضاً: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. فقد اتفقت عليه الأمة مع أنه آحاد.
    وكذلك ما اتفقت عليه الأمة، وقد كان الخلاف فيه في أول الأمر، مثل: أن الغسل يجب بالجماع وإن لم ينزل، فقد اتفقت عليه الأمة، وإن كان بين الصحابة في أول الأمر شيء من الخلاف.
    ومنها: أن المطلقة ثلاثاً لا تحل للزوج الأول حتى تنكح زوجاً آخر، وليس فقط مجرد العقد.
    ومنها: حديث الطهارة أو الوضوء: ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )، فهو آحاد، ومع ذلك فالأمة مجمعة على ذلك.
    ومنها أيضاً: الولاء لمن أعتق، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: ( إنما الولاء لمن أعتق )، فكل فقهاء الإسلام على هذا، مع أنه أيضاً آحاد.
    ومنها: زكاة الفطر، فهي ثابتة أيضاً بالآحاد، ومع ذلك فالأمة مجمعة عليها.
    إذاً كثير من الأحاديث قد أجمعت الأمة عليها، وهي أحاديث آحاد، ولم يخالف فيها أحد، وما مثل به القاضي أبو بكر الرازي الحنفي هو جزء أمثلة وغيره كثير، فيقول: (إنما قلنا: ما كان هذا سبيله من الأخبار فإنه يوجب العلم بصحة مخبريه من قبل أنا إذا وجدنا السلف الصالح قد اتفقوا على قبول خبر هذا وصفه من غير تثبت فيه ولا معارضة بالأصول) أي: إذا كان الخبر هذا شأنه وحاله، فإنا قد وجدنا السلف الصالح قبلوه من غير تثبت وتردد فيه، بل وأجمع عليه السلف، وأما قوله: أو معارضة بأصول، أي: لم يقولوا: هذا الخبر تعارضه الأصول، وهذا عند الحنفية مشهور، إذ إن بعض الأخبار تعارضها الأصول، فيردون الخبر، أو بخبر مثله، أي: إذا تعارضت الأحاديث، وهذه مسألة أخرى خارجة عن موضوع كلامنا؛ لأننا نتكلم في رد الحديث لمجرد أنه آحاد، أما إذا قال: أنا لا أعمل بهذا الحديث؛ لأن عندي حديثاً يعارضه هو أقوى منه أو ناسخ له، فهذه مسألة أخرى من باب الترجيح، والجمع إن أمكن وإلا فالترجيح، يقول: مع علمنا بمذاهبهم في قبول الأخبار -إذا كان هذا حالهم رضي الله تعالى عنهم- والنظر فيها وعرضها على الأصول، دلنا ذلك من أمورهم على أنهم لم يصيروا إلى حكمة إلا من حيث ثبت عندهم صحته واستقامته، فأوجب لنا العلم بصحته. وبالتالي فهو يفيد العلم.
    قال ابن القيم رحمه الله تعالى: هذا لفظ أبي بكر الرازي في كتابه: أصول الفقه ، وهو من أئمة الحنفية.
    وعليه فالحنفية كالشافعية يرون أن أحاديث الآحاد تفيد اليقين أو العلم.