المادة    
وأما شبهة التركيب فقد قالوا: إن المركب إذا زال جزؤه أو ذهب بعضه ذهب كله أو ذهب اسمه، كالرقم: عشرة، فإذا أخذنا منها واحداً لم تبق عشرة، وأصبح لها اسم آخر، وكذلك المرجئة يقولون: أنتم يا أهل السنة ! يا معشر الجمهور! يلزمكم أن تقولوا بمذهب الخوارج ، أو ترجعوا عن قولكم: بأن الإيمان يتركب ويتجزأ ويتبعض. ومذهب الخوارج : أنه إذا ذهب جزء من الإيمان ذهب كله، فإذا زنى العبد أو سرق أو ارتكب كبيرة فهو عندهم كافر! بينما أهل السنة لا يرون أن مرتكب الكبيرة يزول عنه اسم الإيمان، مع أن الإيمان يتركب ويتجزأ ويتبعض، والرد على شبهة المرجئة : نقول: إن المركبات على نوعين: مركب يزول عنه الاسم بزوال جزئه، أي: جزء التركيب، ونوع لا يزول، والإيمان عند أهل السنة والجماعة من النوع الثاني، والأول مثل: المركبات التي فيها التركيب شرط في الهيئة الاجتماعية، فإذا زال جزء التركيب ذهبت، وعموماً المركبات التي نستطيع نحن أن نقول: إنها مركبات، مثل: المركبات الكيمائية العضوية، وكالملح أو الماء، فهاتان المادتان مركبتان من جزئين أو عنصرين، إذا ذهب أحدهما ذهب التركيب، ولم يعد ماء أو ملحاً، وإنما يطلق عليه اسم آخر، وهذا هو الذي لو كان الإيمان كذلك -كما تزعمون- لكان أن يزول بزوال الجزء الواحد منه، لكن نقول: إن الإيمان ليس كذلك، وإنما هو مركب تركيباً آخر، وأما النوع الثاني من أنواع التركيب الذي لا ينتفي الاسم بزوال جزئه، وهو أكثر الأشياء في الدنيا، مثل: الأرض والبحر، فالجزء منه بحر والباقي بحر، والماء قليل منه أيضاً.
  1. المثال الأول للرد على شبهة التركيب عند المرجئة

    ومن أوضح الأمور: القرآن، فهو يطلق على الآية، وكذلك على السورة، والمصحف كله قرآن، فإذا أمرنا الله تعالى بقوله: (( فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ))[النحل:98]، فالمقصود إذا أردت قراءة آية أو سورة أو نحو ذلك، ولا يشترط قراءة القرآن كله، وكذلك قوله: (( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا ))[الأعراف:204]، فليس بمعنى: إذا قرئ كله من أوله إلى آخره، ولكن أي قرآن يسمع، وقوله: (( وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ))[الأحقاف:29]، فلا ريب أنهم لم يتمكنوا من سماع القرآن كله، وإنما المقدار الذي سمعوه هو القرآن وهكذا، والأحاديث في هذا كثيرة، ومن ذلك: أسباب النزول، فإذا قيل: أنزل الله في ذلك قرآناً، فالمقصود أنه ما أنزل القرآن الكريم كله، وإنما يكون قد أنزل -مثلاً- آية أو آيتين كما في أول سورة المجادلة، أو أنزل بضع آيات، أو بضع عشرة آية كما في سورة النور في حادثة الإفك، أو آيات الحجاب أو ما أشبه ذلك، وهذا كثير جداً، أي: إطلاق القرآن على القليل منه والكثير، فإذا أخذت آية من القرآن أو سورة أو جزءاً، فإن الباقي يسمى قرآناً ولا يزول الاسم.
  2. المثال الثاني للرد على شبهة التركيب عند المرجئة

    المثال الآخر: الإنسان، وهو مثال حي أو واضح للإيمان، فالمؤمن الحقيقي هو الذي يجعل إيمانه في أحسن تقويم، كما أن الله تعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم، وأحسن الناس إيماناً وديناً هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد اجتمع فيهم اكتمال أعضاء الإيمان مثل الإنسان المكتمل الأعضاء الذي لم يفقد يداً ولا رجلاً ولا عيناً، واجتمع فيهم تناسق الأعضاء، فالصحابة رضي الله تعالى عنهم كان إيمانهم متناسقاً متناسباً، والذي فقد في هذه الأمة في العصور الأخيرة أمران: الاكتمال، فإنك تجد من لديه ثلث، ثلاثة أرباع، نصف.. إلى آخر، فلا تجد الخلقة الكاملة، ثم لا تجدها متناسقة، بمعنى: أن المتأخرين يقع فيهم الغلو في جانب، والظهور في جانب، فلو كبر الرأس -مثلاً- أو ضمر الجسد، فهذه ليست خلقة متناسقة، أو كبرت إحدى الأيدي والأخرى ضامرة، وبالتالي ابتلى المسمون بهذين: إما فقد هذا العضو بالكلية، أي: عضو من أعضاء الإيمان، فمنهم من ضيع الجهاد بالكلية، فأمة بأكملها تنسى الجهاد، فلا جهاد لديها، وأمة تترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأعظم من ذلك أن يهمل التوحيد، وأمة ليس فيها توحيد، وإنما فيها القباب والقبور والقوانين والمناهج العلمانية، فهي جثة وليست حية، إذاً تجد العجب في فقد هذين الأمرين، ثم من أهل الدين المتمسكين به تجد أن البعض لم يكتمل دينه وإيمانه في أحسن تقويم، كمثال على ذلك: حديث الشعب، إذ إن ديننا أركان وواجبات ومندوبات، فأعمالنا يجب أن لا تخرج عن هذا إلا إلى دائرة المباح، لكن هذه الأعمال أو هذه الدرجات الثلاث والمباح بالنية الحسنة تصبح مثاباً عليه مأجوراً به، فإذا جعل الإنسان عملاً من الأعمال الواجبة ركناً فقد أخطأ وأخل بهذه الخلقة، وبهذا التركيب الصحيح، ومن المحتمل -وهو الغالب- أنه لا بد أن يخل ببعض الأركان؛ لأن الأركان وضعها الطبيعي محدود، فإذا أتيت بواجب وجعلته ركناً فلا بد أن تخل بأحد الأركان الذي وضعت هذا الواجب محله، وأسوأ من هذا لو أنك أخذت مستحباً وجعلته ركناً، وضيعت الركن والواجب، وهذه مشكلة وقع فيها كثير من الناس الذين ربما كانوا صادقين ومخلصين في تعبدهم وتدينهم. لكن حقيقة الإيمان وبناؤه وشجرته التي ضرب الله تعالى بها مثلاً، وشعبه، لم تكن في قلوبهم وأذهانهم، كما كانت عند الصحابة الكرام رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، ولهذا الصحابة رضوان الله تعالى عليهم لما رتبوا هذه الأمور ترتيباً حقيقياً ظهر ذلك في أعمالهم، فتاركو الأركان يقاتلهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قاتلوا المرتدين من بني حنيفة وأتباع الأسود العنسي و سجاح مثلاً، أو من تركوا الزكاة؛ لأنهم تركوا أركاناً، والمختلف الذي يختلفون معه في بعض الواجبات هل هو واجب أو غير واجب؟ هذا سائغ؛ لأنه أقل من الركنية، لكن ينكر على من أخل بواجب من الواجبات، فيؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وقد يكون الاختلاف في أصل مشروعيته، وفي أصل كونه واجباً وسائغاً وجائزاً، لكن ينكر على من خالفه فيه، وأما من ترك المندوب أو المستحب فإنه ينبه إليه ويحث عليه، وهكذا لم يكن في دعوتهم تضخيم جانب وإهمال جانب آخر، أو وضع شيء في غير موضعه، وبهذا المثال كان دينهم أحسن الدين وأكمل الدين.
  3. الكلمة الطيبة كمثال للرد على تركيب المرجئة

    ويتضح هذا بالمثال الآخر: وهو ما ضربه الله تبارك وتعالى للكلمة الطيبة: كلمة: لا إله إلا الله، كلمة الإيمان والتقوى، فقال تعالى: (( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ))[إبراهيم:24-25]، فالإيمان باطن وظاهر، وكذلك الشجرة جذور تمتد في باطن الأرض، ولا تظهر ولا ترى، لكن ارتواء الجذور يظهر بامتداد الفروع والأغصان ونمو الجذع، فكيف نرد على من يقول: التقوى هاهنا؟ نقول: التقوى في القلب كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لا يظهر على جوارحه أي عمل من أعمال الخير، ولا يحق له أن يحتج بهذا، وهو مثل إنسان قلت له: أنا أرى أرضك مقفرة ليس فيها شجرة، فقال: لا، إذ إن فيها جذوراً مدفونة، فنقول له: ماذا نريد بجذور مدفونة في الأرض ليس لها غصن ولا ساق ولا ثمرة؟ إن هذا دعوى، ومثله من يقول: الإيمان ههنا، وأعماله الظاهرة مخالفة لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك لا ينفعه أبداً، وهكذا ضرب الله تعالى هذه الكلمة الطيبة، فإذا قطع من الشجرة غصن فإنها تبقى شجرة، ولهذا يقول أهل السنة : مرتكب الكبيرة يظل يطلق عليه اسم الإيمان، ولا يقال: شجرة كاملة، بينما المرجئة يقولون: مرتكب الكبيرة كامل الإيمان، فنقول: كيف وقد قطع منها هذا الغصن؟ لكن لو تساقط منها أوراق من أعلاها فلا يؤثر ذلك، ولهذا نؤثر كلمة المستحب حتى لا يلتبس؛ لأن السنة هي الهدي والطريقة، ومنها ما هو ركن، ومنها ما هو واجب، ومنها ما هو أيضاً مستحب، لكن نتكلم عنها بمعنى المندوب، فإذا بتر جذع الشجرة فقد ذهبت الشجرة -وهي شهادة أن لا إله إلا الله- وهو الإيمان الذي هو ملتقى ومجمع الأركان الباقية التي تتفرع منه، إذا قطع لم تبق الشجرة، فلذلك يكون لا إيمان له أعمق، ومن ذلك: لو اجتثت جذور الشجرة من تحت الأرض، فلا تسمى شجرة أصلاً، ولذلك لا يسمى إيمان المنافق إيماناً إلا شكلياً، فلو أوتي -مثلاً- بشجر من البلاستيك، ووضع في حديقة مليئة بالأشجار اليانعة، ووضعت بينها عشرون أو ثلاثون شجرة، ثم دخل إنسان فإنه لا يفرق بين هذا وهذا، ويظن أن هذا كله شجر؛ لأن الشكل والمظهر واحد، والجذور لا يراها إلا لو قلع واحدة بيده، وهكذا حال المنافقين بين المسلمين، فتراهم يمشون مع المسلمين في أسواقهم وفي مساجدهم وتظنهم منهم، ولا تميزهم إلا إذا علمت عن فلان بعينه فإذا لا ماء ولا حياة فيه، ولا جذور له في الخير، وإنما هو شكل ظاهر فقط يدخل به بين المؤمنين، وهكذا تكون بلاغة القرآن في الذروة عندما يضرب مثل هذه الأمثلة، ويريد منا أن نتدبرها وأن نتفطن فيها وأن نتفقهها، فمن أراد زيادة الإيمان وثمراته وفروعه ليعلو ويسمو في السماء، فليرو هذه الشجرة، وإرواء هذه الشجرة بقراءة القرآن، وبذكر الله، وبالتفكر في ملكوت السموات والأرض، وفي زيارة المقابر، وتذكر أحوال الغابرين ومصارعهم، بل وفي كل ما جعله الله تبارك وتعالى -وهذا ما قلناه إلا جزءاً منه- في كتابه مما يزيد الإنسان إيماناً، وكذلك دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم مما تزيد الإنسان إيماناً.
    والخلاصة: أن الإيمان عند أهل السنة والجماعة مركب ويزيد وينقص، لكن من هذا النوع الثاني من المركبات، فلذلك الماء يطلق على ما في الكوب، ويطلق على ماء البحر، فهذا ماء وذاك ماء، لكن أين هذا من ذاك؟ إذاً بعض الناس عنده إيمان، ولكن ذاك إيمانه مثل البحر، وهذا إيمانه مثل القطرة، ففرق بين هذا وذاك، ويوم القيامة يكون التفاوت كذلك، فلذلك يكون منهم من يكون في أعلى درجات الجنة، أهل الجنة الذين في الدرجات الدنى كما يترآى من على الأرض الكوكب الدري في السماء، ومنهم من يكون في أسفل دركات النار والعياذ بالله، وآخر أهل الجنة دخولاً لها: الذين هم آخر أهل النار خروجاً منها من أهل التوحيد، الذين ليس في قلب أحدهم إلا أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان كما ثبت ذلك في الحديث، ثم من كان أفضل فهو أسرع وأحرى أن يخرج، ثم من كان أكثر إلى حد أنه لا يدخل النار، ولكن يكون في الدرجة الدنيا من الجنة، ثم من كان أعلى يكون أعلى في الجنة وهكذا، ولذلك يظهر أن مذهب أهل السنة والجماعة يتفق فيه النقل الصحيح الصريح مع العقل السليم الصريح أيضاً.