المادة    
يقول المصنف رحمه الله [وهنا سؤال مشهور، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فكيف طلب له من الصلاة مثل ما لإبراهيم، مع أن المشبه به أصله أن يكون فوق المشبه؟] وتوضيح ذلك: أن في لغة العرب مشبهاً ومشبهاً به، مثاله: زيد كالأسد في الشجاعة، فالمشبه زيد، والمشبه به هو الأسد، فتكون الشجاعة في الأسد أظهر في الأسد منها في زيد، كذلك إذا قلنا: فلان كالبحر في الجود، فالبحر ظاهر السعة.
وهذا يدل على أن الصفة في المشبه به أظهر منها في المشبه.
فيورد المصنف هذا الإشكال، وهو أن قولنا: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) يقتضي أن إبراهيم عليه السلام -وهو المشبه به- أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم -وهو المشبه- وقد مرَّ أن أفضل خلق الله على الإطلاق محمد صلى الله عليه وسلم؛ فكيف يجاب عن هذا الإشكال؟ والإجابة على ذلك من أوجه عديدة ذكرها الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري ونحن نذكر بعضها باختصار:
القول الأول: أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل أن يعلم أنه أفضل من إبراهيم، إذ كان يظن أن إبراهيم أفضل منه.
والقول الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك على سبيل التواضع، فإنه قد سئل من عدة من الصحابة: يا رسول الله! قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ فأجاب بهذا الجواب.
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "وقد وقفت في تعيين من باشر السؤال -يعني السؤال عن كيفية الصلاة- على جماعة، وهم: كعب بن عجرة، وبشير بن سعد -وهو والد النعمان بن بشير رضي الله عنهما- وزيد بن خارجة الأنصاري، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن بشير ".
القول الثالث: أن التشبيه لأصل الصلاة، أي أن التشبيه للأصل بالأصل، لا للمقدار بالمقدار، وعلى ذلك قد يكون المقدار في المشبه به أقل، لكن المهم وقوع الأصل كما في قوله تعالى: ((وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ))[القصص:77] ومعلوم أن العبد مهما أحسن، حتى وإن عبد الله سبحانه وتعالى بدرجة الإحسان، فإن ذلك لا يكافئ نعم الله وإحسانه إليه؛ فالتشبيه في الآية لا يتعلق بمقدار الإحسان؛ بل بأصله؛ فكأن معنى الآية: كما وقع الإحسان من الله إليك أيها العبد الفقير إلى الله سبحانه وتعالى، فأحسن بالصدقة وبالعبادة وغيرها من الطاعات.
القول الرابع: أن الكاف للتعليل؛ فالكاف في لغة العرب تأتي لمعان عدة، وقد سبق بعضها عند شرح قوله تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ))[الشورى:11] وقول الشاعر:
ليس كمثل الفتى زهير
والأصل في الكاف أنها للتشبيه، وقد تأتي لغير ذلك، ومن ذلك أنها تأتي للتعليل؛ كما في قوله تعالى: ((وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ))[البقرة:198] أي لما هداكم، فالكاف هنا للتعليل، فيكون المعنى: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد لما صليت -أي لأنك صليت- على إبراهيم وعلى آل إبراهيم.
فلا تكون الكاف للتشبيه كما هو مورد الإشكال أصلاً، فيكون على هذا الوجه: (اللهم صلِّ على محمد كما صليت على إبراهيم) ليس معناه: مثلما صليت على إبراهيم، لأن الكاف إذا كانت للتشبيه فهي بمعنى مثل.
والقول الخامس: أن التشبيه هو بالنسبة إلى ما بعد العبارة الأولى، (آل محمد) كأننا قلنا: اللهم صل على محمد. ثم قلنا: وعلى آل محمد -أي وصل على آل محمد- كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، فيكون المشبه هنا الصلاة على آل محمد صلى الله عليه وسلم، والمشبه به: الصلاة على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وقد أشكل هذا على بعض العلماء، وقيل: إن هذا الوجه فيه خلل وركاكة في التركيب اللغوي، مع أن هذا القول اختاره الإمام الشافعي رحمه الله ورضي عنه.
وكلام الشافعي رحمه الله حجة في لغة العرب، والعربي المحتج بكلامه لا يفكر كيف يقول، ولا يحتاج إلى أن يعرب، إنما يقول ما يقول، فيؤخذ من كلامه أن ذلك يصح في كلام العرب، فإذا قال الشافعي رحمه الله تعالى ذلك، دل ذلك على الجواز، ولو نظرنا نظرة لغوية بحتة، لوجدنا أنه يصح على أساس إعادة العامل بعد واو العطف، فيكون التقدير: (اللهم صل على محمد، وصل على آل محمد كما صليت على إبراهيم).
وهذه الأقوال كلها في فتح الباري الجزء الحادي عشر من (ص:150) إلى ما يقارب (ص:170).
  1. ذكر ما أجاب به شارح الطحاوية

    قال ابن أبي العز رحمه الله: [وأحسنها -يعني في نظره رحمه الله- أن آل إبراهيم فيهم الأنبياء الذين ليس في آل محمد صلى الله عليه وسلم مثلهم، فإذا طلب للنبي صلى الله عليه وسلم ولآله من الصلاة مثل ما لإبراهيم عليه السلام وآله -وفيهم الأنبياء- حصل لآل محمد ما يليق بهم؛ فإنهم لا يبلغون مراتب الأنبياء، وتبقى الزيادة التي للأنبياء -وفيهم إبراهيم- لمحمد صلى الله عليه وسلم] فالمطلوب أن يلحق الله تبارك وتعالى محمداً صلى الله عليه وسلم وآله، بإبراهيم صلى الله عليه وسلم وآله، فيكونون سواء؛ فالمشبه: محمد صلى الله عليه وسلم وآله، وهو -دون جميع آله- الرسول الوحيد؛ فآله ليسوا بأنبياء، والمشبه به: إبراهيم عليه السلام وآله، ومن آله أنبياء كثير: إسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وداود وسليمان وغيرهم، ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم، فيكون هنا مجموع ما لإبراهيم وللأنبياء مساوياً ما لمحمد صلى الله عليه وسلم وآل بيته، ولا يحصل لآل محمد صلى الله عليه وسلم مثل ما للأنبياء بطبيعة الحال، لكن الحافظ ابن حجر رحمه الله يقول: "ويعكر على هذا الجواب أنه ورد في حديث أبي سعيد -والرواية صحيحة- مقابلة الاسم بالاسم فقط" وما ذكرنا سابقاً إنما هو على أساس التوازن بين محمد وآل محمد في كفة المشبه، وبين إبراهيم وآل إبراهيم -وفيهم الأنبياء- في كفة المشبه به، وهذه الرواية الصحيحة ليس فيها ذكر الآل، لا في المشبه ولا في المشبه به، ومع ذلك بقي التشبيه؛ اللهم صلِّ على محمد كما صليت على إبراهيم؛ وعليه فلم يذهب الإشكال بعد.
    يقول المصنف رحمه الله: "وأحسن من هذا: أن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم، بل هو أفضل آل إبراهيم، فيكون قولنا: (كما صليت على آل إبراهيم) متناولاً للصلاة عليه وعلى سائر النبيين من ذرية إبراهيم"، وعليه: فكما أنه صلى الله عليه وسلم في مقام المشبه، فهو أيضاً موجود في مقام المشبه به، فيكون قد تكرر فضله.
    قال رحمه الله فيكون قولنا: "كما صليت على آل إبراهيم) متناولاً للصلاة عليه وعلى سائر النبيين من ذرية إبراهيم، وهو متناول لإبراهيم أيضاً؛ كما في قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ))[آل عمران:33] فإبراهيم و عمران دخلا في آل إبراهيم وآل عمران، وكما في قوله تعالى: ((إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ))[القمر:34] ]؛ فإن لوطاً داخل في آل لوط" فحين أهلك الله تبارك وتعالى قوم لوط أنجى آل لوط، ولا شك أن لوطاً داخل في زمرة الناجين، "وكما في قوله تعالى: ((وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ))[البقرة:49]" فالمقصود أنه نجاهم من فرعون وآله!! "وقوله تعالى: (( أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ))[غافر:46] فإن فرعون داخل في آل فرعون".
    إذاً: آل إبراهيم يدخل فيهم إبراهيم ويدخل فيهم محمد صلى الله عليه وسلم.
    يقول: "ولهذا -والله أعلم- أكثر روايات حديث الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إنما فيها: (كما صليت على آل إبراهيم)، وفي كثير منها: (كما صليت على إبراهيم)، ولم يرد (كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) إلا في قليل من الروايات، وما ذلك إلا لأن في قوله: (كما صليت على إبراهيم) يدخل آله تبعاً، وفي قوله: (كما صليت على آل إبراهيم) هو داخل في آل إبراهيم".
    ولا ريب أن مؤدى الكلام صحيح، وقد وقع خلاف كبير في روايات كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر هذه الروايات الحافظ ابن حجر في الفتح وابن القيم في جلاء الأفهام والحافظ ابن كثير في تفسيره لآية الأحزاب: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ..))[الأحزاب:56] والشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله أفرد ذلك في كتاب.
    وكل تلك الروايات صحيحة؛ فالرواية التي يقصدها المصنف ابن أبي العز رحمه الله قد وردت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وفي المسند عن كعب بن عجرة رضي الله عنه؛ لا حرج من الإتيان بأي كيفية من كيفيات الصلاة التي وردت وصحت.
    أما مسألة التشبيه في الصلاة لمحمد بإبراهيم، فالذي يظهر لي -والله أعلم- أن التشبيه ليس على أصله، ويعجبني قول من قال: إن الصلاة على إبراهيم وعلى آله (المشبه به) وقعت وتقررت واشتهرت قبل أن يولد النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل أن يبعث، وهذا من باب إلحاق غير المشتهر بما اشتهر، ولا يستلزم ذلك أن يكون هذا الملحق أقل، بل ربما كان أفضل وأكثر وأعظم، لكن الملحق به ميزته أنه قد وقع واشتهر، فمعلوم عند اليهود والنصارى وجميع أهل الملل تفضيل الله تبارك وتعالى لإبراهيم، واصطفاؤه واختياره و ثناؤه عليه والله أعلم.