المادة    
قال: [وروى الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان )].
وهذا دليل على أن الإيمان يزيد وينقص، وأنه بهذه الأعمال يستكمل العبد إيمانه، وقوله: (من أحب لله) لا يوجد أحد من بني آدم إلا وفي قلبه الحب والبغض الطبيعي، فليكن حبك كله لله، وبغضك كله لله، وهذه درجة عالية عظيمة جداً، وكذلك العطاء والمنع، فإذا أعطيت أو منعت، فليكن لله، ولهذا يقول الشيخ: [ومعناه -والله أعلم- أن الحب والبغض أصل حركة القلب] وهذا طبيعي، وكما تحدثنا في موضوع أعمال القلوب عن المحبة وقلنا: إن الحب والبغض في داخل كل قلب لا يدفعك لأن تعمل عملاً ما إلا أنك تحب هذا العمل، أو ما ينتج عن العمل، أو تبغض أيضاً فتعمل عملاً لتدفع هذا البغض الذي في قلبك، أي: يكون عملك تعبيراً عن البغض، فإذا أنكرت المنكر -مثلاً- فلأنك تبغض المنكر وأهله، وإذا أمرت بالمعروف، أو أحببت أهلك، فلأنك أصلاً تحب هذا، وتحب ما أمر الله به وهكذا.
فإذاً: الحب والبغض هما أصل حركة القلب في كل شيء، وهما خطان متوازيان لا يخلوا منهما أحد.
قال رحمه الله: [وبذل المال ومنعه هو كمال ذلك] أي: كمال المحبة أن تعطي، وكمال البغض أن تمنع قال: [فإن المال آخر المتعلقات بالنفس، والبدن متوسط بين القلب والمال] وهل البدن مقدم على المال أم المال مقدم على البدن؟ الكلام هذا ليس بالنظر إلى أن الإنسان أغلى من المال في الحقيقة، لكن بالنظر إلى طبيعة النفس البشرية، وذلك أن من طبيعة النفس الإنسانية أن البدن بين المال وبين القلب، أي: المال أغلى، بمعنى: أن الإنسان يقدم بدنه ليحفظ ماله، وهذا طبيعي، ومن الناس من يقاتل عند دراهم معدودات، فتتعجب كيف يفعل هذا؟! لكن هذه طبيعة موجودة في الإنسان: (( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ))[العاديات:8]، ولا يمكن أن يتخلص منها الإنسان، فالفرد حتى الدول والأمم مستعدة لأن تضحي بأبنائها من أجل أن تحفظ شيئاً من التراب، أو شيئاً من الثروة أو ما أشبه ذلك؛ ولهذا جاء الجهاد أكثر ما جاء في القرآن مقدم فيه المال على النفس.
يقول: (فإن المال آخر المتعلقات بالنفس، والبدن متوسط بين القلب والمال) ثم يقول: [فمن كان أول أمره وآخره كله لله] أي: أول أمره الذي هو الحب، وآخر أمره الذي هو البذل والعطاء قال: [كان الله إلهه في كل شيء].
إذاً هو مخلص في كل أعماله، فيتحقق فيه قول الله تبارك وتعالى: (( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ))[الأنعام:162] ابتداءً من أول حركة القلب وهي الحب، وانتهاءً بآخر ما يمكن أن يفعله الإنسان وهو التضحية بالمال، حتى والإنسان في سكرات الموت يكون حديثه عن المال، والحديث في المال، وماذا يؤخر؟ وكم يعطي؟ وماذا يفعل؟ وهذا ليس خاصاً بأهل الغفلة، بل حتى من المؤمنين من يهتم بذلك، ولكن يوصي وصية عادلة، ويعطي ويتصدق أو يوقف، والمقصود أن المال مهم في حياة الإنسان بلا ريب.
إذا ً: من كان هذا حاله يقول: [فلم يكن فيه شيء من الشرك، وهو إرادة غير الله وقصده ورجاؤه، فيكون مستكمل الإيمان]، فمثل هذا لم يجعل لغير الله تبارك وتعالى في نفسه شيئاً، وإنما مراده هو الله تبارك وتعالى، ورغبته هي ما عند الله ، فهو يمشي في خط واحد في حياته، وكل ما يعمل فهو يصب في هذا المصب، ولا يذهب يمنة ولا يسرة، وإنما يريد وجه الله في كل ما يأتي وفي كل ما يذر، فهو أحب لله، وأبغض له، وأعطى لله، ومنع الله، وبذلك يكون مستكمل الإيمان.
يقول الشيخ: [إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على قوة الإيمان وضعفه بحسب العمل]. وقد ذكرنا طائفة من هذه الأحاديث من قبل، وقلنا: إنه يكفينا -والأحاديث كثيرة- حديثان، الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: ( عندما سئل أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله وبرسوله )، فجعل الإيمان بالله ورسوله من العمل، وفي المقابل جعل العمل من الإيمان، كما رأينا في هذه الأحاديث وغيرها.
إذاً: نستطيع أن نقول بكل وضوح: إن الأحاديث دلت على أن العمل إيمان، وأن الإيمان عمل، وعليه فلا يكون هناك انفصال ولا انفصام بينهما، فإذا ذكر الإيمان منفرداً دخلت فيه الأعمال، وإذا ذكرت الأعمال منفردة فلابد فيها من الإيمان، وإذا ذكر الإيمان والعمل الصالح فللتنبيه على أن الأمرين معاً لا بد منهما، وبهما معاً يتحقق الإيمان، وعلى هذا لا يكون هناك تعارض بين النصوص -والحمد لله- وبين الأحاديث التي جاءت في هذا أو في هذا.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.