ثم لو أن هذا الرجل ادعى الربوبية أو الألوهية، فيكون أكثر كفراً كما فعل فرعون، وهكذا فالإيمان شعب والكفر شعب، والإيمان يزيد بالأعمال، وكذلك الكفر يزيد صاحبه كفراً بأعمال معينة، فلا يصح أن يقال: إن الكفر أو الإيمان شيء واحد كما يقول ذلك
المرجئة ، ويضرب لذلك مثلاً فيقول:
[فالحكم بما أنزل الله -مثلاً- من شعب الإيمان]. قال تعالى: ((
فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ))[النساء:65]، تحكيم أو الحكم: ((
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ))[المائدة:44]، وفي الثانية: ((
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ))[المائدة:45] وفي الثالثة: ((
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ))[آل عمران:82] يقول:
[والحكم بغير ما أنزل الله كفر] أي: فإما أن يكون الإنسان على شعبة من شعب الإيمان بأن يحكم بما أنزل الله، وإما أن يكون على شعبة من شعب الكفر بأن يحكم بغير ما أنزل الله، وما يتعلق بالحكم قد سبق الكلام فيه بالتفصيل والحمد لله، وبيان متى يكون كفراً أكبر يخرج من الملة، ومتى يكون كفراً دون كفر كما جاء ذكره عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم.وقوله:
[وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ) رواه مسلم -قال-: وفي لفظ: ( وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل )] هذا يدل على أن إنكار المنكر من الإيمان، وهو شاهد آخر لتسمية الأعمال إيماناً، ولكون أعمال الطاعات شعب وأجزاء من الإيمان، ولكون الإيمان ينقص أو يزيد بحسب الشعبة، فالإنسان إذا أنكر المنكر بيده، فهذا أعلى درجات الإنكار، وإن كان يستطيع الإنكار بيده ولم ينكر إلا باللسان؛ فإنه قد أنقص الدرجة العليا، لكنه أتى بدرجة أدنى، وأما إن كان يستطيع أن ينكر بيده أو بلسانه ولم ينكر إلا بقلبه؛ فإنه لا شك أقل إيماناً، أما إن لم ينكر لا بيده ولا بلسانه ولا بقلبه فليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل؛ لأنه إذا كان الإنكار بالقلب هو أضعف الإيمان فمعنى ذلك أن من لم ينكر بقلبه ليس وراء ذلك من الإيمان شيء، وقد تقدم القول في الحديث بالتفصيل، لكن الموجز هو أن نعلم أنه لا يؤمن بهذا المنكر، ومعنى: ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل، أي: من الإيمان بأن هذا منكر، فمثلاً: يقول إنسان أنا أعتقد أن الربا حرام؛ فنقول له: هل أنكرت بيدك أو بلسانك أو بقلبك إن كنت تستطيع ذلك؟ أما لو أن أحداً لا ينكر حتى بقلبه، فهذا دليل على أنه غير مؤمن بأن الربا حرام؛ لأنه لو آمن أنه حرام لأنكر ولو بقلبه، فما في قلب العبد من ترك الإنكار لا يعذر فيه أبداً؛ لأنه لا يطلع عليه أحد، ولا يستطيع أي أحد كائناً من كان أن يرغمه على أن يتخلى عنه، فإنما الإرغام والإكراه على البدن؛ ولهذا يقول الله تبارك وتعالى: ((
إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ))[النحل:106].إذاً يمكن أن يكره بدن العبد، ويتلفظ بكلام الكفر، ويقر للكفار والمرتدين بما يريدون، ومع ذلك يكون قلبه مطمئناً بالإيمان، فهذا يدل أيضاً على أن هذا الإنكار بمراتبه الثلاث داخل في حقيقة الإيمان وجزء منه، فكيف تقولون -وهذا خطاب
للمرجئة -: إن العمل ليس من الإيمان؟ إن هذا يبطل كلامهم.