المادة    
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
قال رحمه الله تعالى: [كما علما -أي: من القرآن والسنة والشرع- أنه رتب الفوز والفلاح على التكلم بالشهادتين مع الإخلاص والعمل بمقتضاهما].
ولم يجعله خاصاً أو مقتصراً على مجرد النطق؛ فلو كان الإيمان كما تقول المرجئة لما رتب الشارع النجاة والفلاح والفوز إلا على النطق؛ لأن التصديق القلبي في الباطن لا يعلم، لكن إذا أقر الإنسان بلسانه فالأصل أن ما في قلبه هو موافق له، وبالتالي لو أن أحداً جاء بالإقرار الباطن والإقرار الظاهر من غير عمل، لكان ذلك كافياً في نجاته وفوزه وفلاحه ونجاحه، ولما وجدنا أن النصوص في الشرع قد رتبت الفلاح والنجاة على العمل مع الإقرار علمنا بذلك بطلان شبهة المرجئة وصحة ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة ، ولا سيما وأن ما جاء عن الشارع من تسمية الأعمال إيماناً كثير، فالأعمال تسمى إيماناً كما يسمى ما في القلب إيمانا، وكما تسمى كلمة الشهادة والإقرار بها إيماناً.
  1. حديث: (الإيمان بضع وسبعون...)

    قال رحمه الله: [فقد قال صلى الله عليه وسلم: ( الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان )]، فهو حديث واحد على رواية مسلم.
    [وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: ( الحياء شعبة من الإيمان )] فهو حديث واحد، وهذا الحديث المعروف للجميع المتفق عليه حديث ثابت صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يشك في ذلك أحد، وهو من أعظم الأحاديث في بيان حقيقة الإيمان، وعلاقة الإيمان بالعمل؛ وذلك أنه جعل الإيمان شعباً، وفي رواية: ( بضع وستون )، وفي الأخرى: ( بضع وسبعون )، ولا يهم العدد، وقد اجتهد بعض العلماء في تخريج هذا الحديث على الأعمال بتفصيله، فذكروا الأعمال بحيث تصبح بعد التفصيل بضعاً وستين أو بضعاً وسبعين، مثل أن يقال: الأركان الخمسة، وبر الوالدين، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والرفق باليتيم، وغيرها من الشعب حتى يكتمل العدد، ولا يهم العدد أو اكتماله، لكن كيف نوزع الأعمال المطلوبة منا شرعاً أو المشروعة ما كان منها واجباً، وما كان مندوباً على الشعب، المهم أن نعلم أن كل شعبة من شعب الإيمان ركن أو واجب أو مستحب أو مندوب، فكلها أجزاء من الإيمان؛ ولذلك من حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي آتاه الله الحكمة، وفضله بها على العالمين، وعلمنا إياها، ومن بلاغته صلى الله عليه وسلم، وهو أفصح وأبلغ العرب، أنه اختار هذه الشعب الثلاث أمثلة، وكل الشعب الباقية إنما هي فيما بينها.
    فالشعبة الأولى هي: شهادة أن لا إله إلا الله، وهذا مثال للأركان، إذ إن أعظم أركان الدين وأصوله التي لا يصح ولا يستقر إلا عليها هي كملة الشهادة، أي: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك الذي لا يأتي بها لا يكون مؤمناً لا ظاهراً ولا باطناً، بل يكون كافراً بإجماع المسلمين، إذاً الركن الأعظم في هذا الدين، والذي مثل به النبي صلى الله عليه وسلم للأركان وقال: (فأعلاها)، أي: أعلى الشعب، هو أعظم الأركان؛ لأن الأركان هي أفضل وأعلى الشعب، فجاء المثال لأعلى الشعب والأركان، وهي شهادة أن لا إله إلا الله، وما بعدها فهو تابع لها.
    ثم مثل بالأدنى: ( وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق )، وهذا مثال للمستحب المندوب الذي يسميه الفقهاء أحياناً: السنة، بمعنى: المندوب والمستحب لا بمعنى الطريقة والهدي، فيكون هذا المثال يدل على أن أعمالاً إنما هي كمال مستحب في الإيمان، أي: يكمل بها الإيمان، فهي من الكمال المستحب لا من الكمال الواجب.
  2. حديث: (والحياء شعبة من الإيمان)

    ومثل للواجب بالحياء، وهذا أيضاً فيه حكمة عظيمة، فقال: ( والحياء شعبة من الإيمان )، فاختيار هذا المثال دون غيره من الأمثلة لحكمة عظيمة، وهي: (الحياء كله خير، ولا يأتي إلا بخير)، ورأسه هو الحياء من الله تبارك وتعالى، ثم إن الحياء عمل قلبي، لكن لابد أن يظهر أثره على الجوارح، فلا يصح أن تقول: استحييت من كذا، وأنت لم تظهر أي أثر عليك للحياء، إذ الحياء بطبعه لا بد أن يظهر أثره على الجوارح، مثل: حديث الثلاثة الذين دخلوا الحلقة، (فأما الأول فآوى فآواه الله، وأما الثاني فاستحى فاستحيا الله منه)، أي: استحى أن يخرج واستحى أن يزاحم الصف، ولم يجد مأوى فجلس؛ ولذلك الحياء خلق يحمل صاحبه على فعل ما يليق وما ينبغي وما يحمد في الدنيا والآخرة، فهو صفة دائمة، أي: خلق يتفرع عنه أخلاق كثيرة جداً، فعفيف اللسان حيي، والذي لا يغتاب الناس حيي، والذي لا يأكل أموال الناس بالباطل حيي، والذي لا ينظر إلى ما حرم الله حيي، وهكذا لو لم يكن الحياء إلا أن يترك الإنسان فضول الكلام وفضول النظر إلا فيما ينفعه لكان خيراً، وكذلك مع هذين يترك فضول الفكر؛ لأن فضول الفكر يستولي على أذهان الناس، لكن فضول النظر معلوم، فينظر الإنسان أحياناً أو يتأمل في بيت أو في سيارة أو في أشياء تأخذ عليه لبه ووقته وجهده، وفضول الكلام يضيع أكثر مجالس المسلمين، فيظفر الشيطان من هذه المجالس بما يريد، وربما كانوا خارجين من المسجد فلا يقومون من ذلك المجلس إلا وقد ارتكبوا من القبائح والسيئات ما يزيد على ما كسبوا من حسنات في صلاتهم، أو في عمل الطاعة التي كانوا فيها، وربما قال أحدهم (كلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً) كما جاء في الحديث -نسأل الله العفو والعافية- وقد يخرج المرء من الإسلام بكلمة والعياذ بالله، بل لو لم يكن إلا كلاماً في العباد فإنه يكون حراماً؛ ولذلك الإنسان إذا اجتنب فضول الكلام فيما لا يعنيه، كان ذلك أدعى إلى أن يجتنب ما حرم منه، على أساس أن فضول الكلام هو في المكروه وفيما لا ينبغي، أما إذا قلنا: إنه يشمل الحرام، فهذا داخل فيه كله، وهذا لا يمنعه منه إلا الحياء، ويجب أن يكون المؤمن كذلك دائماً، أو أن يكون من صفات المؤمن الأساسية الثابتة فيه أنه حيي، فلا يشتغل بفضول النظر، فينظر إلى هذا وإلى ذاك وإلى تلك، وما أكثر ما يشتغل الإنسان بفضول النظر، فيتشتت همه وذهنه وفكره، وقد عمد في هذا الزمان وسائل الدعاية والإثارة والإعلان، وهذه لا يهمها الحياء أبداً، بل أكثر وأول ما تحارب الحياء في نفوس الناس باستقطاب الأنظار واستلفاف الأنظار بأي شكل من الأشكال؛ ولذلك ربما يخرج الإنسان من المسجد وهو في خشوع وفي صمت وفي وقار وسكينة، فيجد أمامه ما يشد نظره إلى هذا وإلى ذاك، فيشتت ذهنه فيرجع إلى بيته وقد ذهب كل ما كان في قلبه، حتى النظر في الأمور التي ربما تكون مباحة وليس فيها حرام، ينبغي للعاقل أن يتحرز منها؛ لأنها دائماً تشغل بال الإنسان، مع أنه في إمكان العبد أن يقول عوضاً عن هذا الضياع: سبحان الله وبحمده مائة مرة، فتغفر له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر، فكم يفوت على الإنسان خير كثير نتيجة هذه الانشغالات؟ وكذلك الذي يستحي من الله لا يشغل فكره وباله بأمور لا تهمه، فيجلس في أحلام وخيالات، وكيف لو كان كذا؟ وكيف لو جاء كذا؟ وكيف لو أصبحت كذا؟ أمور لا يترتب عليها خير بحيث إذا أفاق منها وتركها يعلم أنها كلها باطلة، ولو أنه شغل قلبه وفكره بالتفكر في خلق السموات والأرض، والتفكر في حياته وفي مصيره وفي ذنوبه وفي وقوفه بين يدي الله تبارك وتعالى، وفيما يهمه من أمر دنياه إن لم يكن من أمر آخرته، لكان خيراً له، فهذا هو الواجب على المؤمن، أي: أن يتحرز وأن يتحرى دائماً أن يكون حيياً في كل موضع وفي كل مكان، وعليه فالحياء عمل قلبي، وعمل القلب أهم من عمل الجوارح، ولهذا كان التمثيل به؛ لأنه عمل قلبي، وهو أصل وأساس في صلاح الأعمال الأخرى الواجبة، فناسب أن يمثل به، فهذه هي الحكمة التي تظهر لنا، والله تعالى أعلم.
  3. حديث: (أكمل المؤمنين إيماناً...)

    يقول رحمه الله: وقال أيضاً: [( أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً )].
    هذا يدخل فيه الكمال الواجب والكمال المستحب بحسب الخلق، فإن كان الخلق واجباً فهو كمال واجب، وإن كان الخلق مستحباً فهو كمال مستحب، فلا يكمل الإيمان الواجب إلا بأن يستكمل العبد حسن الخلق الواجب، كحسن الخلق مع الوالدين، مع الزوجة، مع الجار، مع القرابة، مع الرحم، والمستحب هو ما كان مستحباً مع هؤلاء، أي: زيادة على القدر الواجب، أو مع عامة الخلق مما ليس بواجب؛ لأن حسن الخلق هو النعمة والميزة والخير العظيم الذي لو أن إنساناً أوتيه، واكتمل لديه وتخلق به، فقد أوتي خير الدنيا والآخرة؛ ولذلك (ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة) كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم، وحسن الخلق درجته عظيمة، وفضله كبير، وهو الذي فضل الله تبارك وتعالى به أساساً بالدرجة الأولى الأنبياء قبل أن يوحى إليهم، وقبل أن يبعثوا، وقبل أن تنزل عليهم الكتب، أو يؤمروا بالرسالة، قال تعالى: (( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ))[القلم:4]، فكل الرسل صلوات الله وسلامه عليهم تشهد لهم أممهم وأقوامهم بحسن الخلق، بالأمانة، بالصدق في الحديث، بالبر، بالوفاء بالعهد، بالكرم، بالشجاعة، بكل ما تجمع العقول السليمة على أنه حسن، ومن حكمة الله أن هذه الأخلاق تجمع عليها الفطر والعقول السليمة في جميع الملل، بل حتى من يعبد الأبقار أو الأحجار أو النيران أو غير ذلك، حتى الأمم الكافرة مجمعة على الإشادة بهذه الفضائل والأخلاق، وأن من أوتيها فإنه يستحق الثناء والإعجاب والتقدير، وكل من يراه ويعلم حاله فإنه يثني عليه بذلك ويعجب به؛ ولهذا أوتي الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أكبر الحظ من هذا، ثم الدعاة إلى الله أتباع الأنبياء كما ذكر الله تعالى: (( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ))[يوسف:108]، فهم أكثر الناس حظاً في ذلك، ويجب أن يكون من يريد أن يكون داعيةً أكبر حظٍ لديه هو أن يكون على قدر من حسن الخلق، والتعامل مع الناس، والعلم لا بد منه، ولا يشك في ذلك أحد، وهو من البصيرة التي ذكرها الله، لكن العلم بلا أخلاق لا يجدي، بل ربما كان العلم بلا أخلاق سبب في رد العلم والفتوى وقول الحق، فلا بد من حسن الخلق؛ ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أوصى في حديث أبي ذر و معاذ رضي الله عنهما قال: ( اتق الله حيثما كنت )، فهذه هي الوصية الأولى، وهي كلمة وجيزة وجامعة مانعة، وقوله: (حيثما كنت)، لا تقل: في المسجد فقط، بل اعلم أن الله تعالى رقيب مطلع عليك، فاتق الله حيثما كنت، وهذه مع الله تعالى، وأما الثانية فهي مع نفسك، فقال عليه الصلاة والسلام: ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها )، كيف أتعامل مع هذه النفس الأمارة بالسوء؟ كلما أسأت فأتبع السيئة الحسنة تمحها، واجعل هذا همك وشغلك.
    وأما الثالثة فهي قوله عليه الصلاة والسلام: ( وخالق الناس بخلق حسن ) وليعلم أن الذي دخل به الناس في دين الله أفواجاً هو حسن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده، ومن نظر إلى بلاد الشام و العراق و مصر وشمال إفريقيا وغيرها -البلاد التي هي الآن أهم وأكثر بلاد العالم بنسبة الإسلام- يجد أنها كانت مستعمرة محتلة من قبل الإمبراطورية الرومانية، وكان جيش الروم هو الذي يواجه جيش المسلمين، وليس جيش أهل البلاد، فيهزمهم المسلمون -بإذن الله- ويدخلون تلك البلاد، وبعضها يدخلونها صلحاً وتدفع الجزية، وكلهم كانوا على الدين الأول الذي هو النصرانية ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن المسلمين لما دخلوا دمشق ما كان لهم في دمشق إلا مسجداً واحداً يجتمعون فيه، ويصلون فيه، والجيوش تتقدم وتزحف، فيبقون فقط الوالي أو الأمير الذي يختار لفتح المدينة ومعه بعض الأعوان، فيجمعهم كلهم مسجد واحد، والبقية على دين النصرانية ، وقس على ذلك بقية المدن، فكيف دخل هؤلاء؟ لما رأوا أخلاق الصحابة قالوا: والله ما الحواريون الذين صحبوا المسيح بأفضل خلقاً من هؤلاء، فتعجبوا من أين جاءت هذه الأخلاق؟ عندما يكون الوالي عليهم مثل سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه، فينظرون إلى معاملتهم في الحرب وفي السلم، إلى رفقهم باليتيم، إلى شفقتهم وعطفهم بالكبير، إلى عدلهم ورحمتهم، فلا ضرائب ولا مكوس ولا تجنيد إجباري، وحتى الجزية التي تؤخذ منهم لا تؤخذ من كل أحد، فالذي لا يستطيعها لا يؤخذ منه أي شيء، وهم مقابل هذه الجزية في أمنٍ وأمان وطمأنينة على دينهم وأعراضهم وأموالهم، إنه شيء لا يتخيل أن يوجد الآن في هذا الزمان مع ما قيل من مواثيق وحقوق الإنسان وإعلانات.. إلخ ذلك؛ ولذلك يدخلون في الإسلام طواعية، ويتدفقون على الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- وأئمة الدعوة والعلم من التابعين وغيرهم، وما تمضي إلا سنوات وإذا بكل تلك البلاد قد أصبحوا مسلمين إلا القليل، لا نتيجة قتال، وإنما لما رأوا هذه الأخلاق وهذه المعاملة الحسنة، ولا زال هذا حتى في عصرنا الحاضر، فتجد أن تأثير الخلق عظيم، وكثير من أبناء المسلمين ما تركوا دينهم وانحرفوا وانجرفوا إلا لما قيل لهم تمويهاً ورأوا أيضاً في الواقع مظهرياً أن الكفار عندهم وفاء وصدق في المعاملة، فلا يغشون في البيع والشراء وما أشبه ذلك، فترسبت هذه خطأً أن الكفار لا يكذبون ولا يغشون، وليس الأمر هكذا، بل هم أكذب الناس وأغدرهم، لكنهم في الجانب العملي النفعي، كجانب التجارة، أو جانب المعاملة التي لو كذبوا فيها لخسروا، يتعاملون بما ظاهره أنه صدق، وهو في الحقيقة التزام بمبدأ تجاري ثابت، وليس مما يريدون به وجه الله، ولا مما يطلبون أجره عند الله، فإنسان يقول: يا أخي! تبايعنا وتشارينا مع المسلمين، فوجدنا الغش والكذب والخلف وكذا، لكن هؤلاء الكفار لا، ليسوا كذلك؛ ولذلك يعجب بأخلاقهم، فإذا جاء أحد في مجلس وذكر الناس بالجنة والنار، وحدثهم عن الآخرة وعن مصير الكفار، وكيف أن هؤلاء المؤمنين هم أولياء الله؟ وكيف أن هؤلاء المجرمين هم أولياء الشيطان وما أشبه ذلك، قام المعترض واعترض فقال: والله إن تعاملهم طيب، وقد جربناهم، فوجدنا الصدق والوفاء والأخلاق الطيبة، مع ما سمع من آيات وأحاديث تدل على أن مصيرهم إلى النار، ومع كل هذا يعترض أو يتساءل بالأخلاق؛ لأن الخلق مهم جداً، وفي المقابل إذا أحسن الدعاة أخلاقهم مع الناس، ورأوا منهم الرحمة والشفقة والحرص والاهتمام، وأنه ما يريد إلا الخير لهم، ستجد أيضاً من يقف مثل هذا الموقف عند من يطعن في الدين وأهل الدين والدعوة والقائمين بها؛ لأن هذا -كما ذكر شيخ الإسلام - العدل مما فطرت عليه الأمم جميعاً، فمحبة العدل مطلوب ومحبوب لدى الخلق كافة، مؤمنهم وكافرهم، فهم يريدون العدل، ويظنون أنهم بهذا يحققون هذه السمة المشتركة عند الناس، فإذا صدق المؤمنون وصبروا وتحملوا؛ فإن العدل الذي فطر الله القلوب عليه وأودعه في نفوسهم، لا بد أن يظهر أثره، فتجد من ينصف أهل الإيمان وأهل الدعوة وأهل الحق ولو لم يؤمن، وهذا العدل ظهر في كلام هرقل -مثلاً- لما قيل له: إن من صفات النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، وذلك لما سأل أبا سفيان كما في الحديث العظيم، فما ملك إلا أن قال: هذا نبي، أو بعد أن انتهى من هذا الاستعراض قضية قضية، وصفة صفة، ودليلاً دليلاً، إلا أن قال: هذه حقاً دلائل النبوة، وليملكن ما تحت قدمي هاتين. وهذا من العدل، وكذلك كل من كان لديه إنصاف، بل إن الذي يعادي الدين ويعادي أهل الدين وهو يعلم أن فيهم الخير والصلاح؛ فإنه وإن عاداهم بقوله فهو يعلم بقلبه أنه كاذب ومفتري عليهم، وهذا خير من أن يفعل ذلك وهو متأكد من أن أخلاقهم وفضاضتهم وغلظتهم قد أساءت إليه، فجعلته لا يقبل الحق؛ ولذلك لا نضرب مثلاً فقط بالأنبياء، بل نضرب مثلاً آخر بغير الأنبياء، لرجل يقال أن اسمه: حبيب النجار -والله أعلم باسمه- صاحب آل ياسين الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في سورة يس، فقد أعرض عنه قومه، وأبو أن يقبلوا دعوته، فتوفاه الله سبحانه وتعالى، وأول ما لقي الله تعالى قال له: (( قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ))[يس:26]، أي: توفاه الله عز وجل فأدخله الجنة على توحيده وإيمانه ودعوته ونصحه لقومه: (( قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ ))[يس:20-21]، فهل هناك أحد يرفض هذه الدعوة؟ إنها دعوة لا تطلب منك مالاً ولا أجراً، وإنما هي دعوة هدى وحق وتقى: (( قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ))[يس:26]، أي: تمنى أن قومه يعلمون بما هو فيه من النعيم، وما أكرمه الله تبارك وتعالى به؛ لأنهم لو علموا لآمنوا، رغم ما ناله منهم من الأذى الكثير، وهكذا الذي يدعو إلى الله سبحانه وتعالى، فيوطن نفسه على تحمل ما يأتيه من الخلق: (( وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا ))[إبراهيم:12]، أي: مهما فعلتم بنا فنحن سوف نصبر على ما آذيتمونا، وهذا من حسن خلق الدعاة والأنبياء والمصلحين، وبه ينالون الدرجات العليا بإذن الله تبارك وتعالى، فيعاديهم من يعاديهم وهو يعلم في قرارة نفسه أنه مخطئ وظالم، لكن إن وجد من أخلاقهم الغلظة والفظاظة فإنه يجعل من يعاديهم يرى أنه محق؛ لأنه رأى هذا الخلق الذي لا يليق، أو الظلم، أو تحميل الخطأ أكثر مما ينبغي وهكذا.
  4. حديث: (البذاذة من الإيمان)

    قال رحمه الله: [وقال أيضاً: ( البذاذة من الإيمان )].
    وهذا حديث صحيح، والبذاذة تواضع خاص في شيء واحد وهو المظهر أو اللباس، بأن يكون الإنسان غير مبالٍ، أولا يعطي الأهمية التي يعطيها كثير من الناس لمظهرهم أو لملبسهم، وليس المقصود النظافة فقط، وإنما المقصود أن بعض الناس يزيدون على الحد الذي هو مما يتعارف عليه الناس، يزيدون على ذلك اهتماماً أكثر بالمظهر وبما يسمى (الأناقة) وغير ذلك، وله الآن في هذا الزمان أسماء واصطلاحات شيء عجيب جداً، حتى جعلوا لكل زيارة لباساً، ولكل نوع من الناس استقبالاً، فرتبوا أموراً أضاعوا فيها الأوقات والأموال والأعمار، وكل ذلك لأنهم يهتمون بالمظهر ويتركون المخبر، أما كون البذاذة من الإيمان؛ فإن هذا يدل على تواضع الإنسان مع أنه نظيف، والمؤمن دائماً نظيف في مخبره ومظهره بحسب الطاقة والإمكان، ومع ذلك فإنه يتسم بالتواضع، ولا شك أن بعض اللباس دليل على الكبر والعياذ بالله، مثل من يسبل إزاره، فهذا من طبع المتكبرين، حتى لو قال أحد: أنا لا أنوي الكبر، لكن هو طبعهم وشأنهم وحالهم، وقد جاء في الحديث الصحيح: ( يحشر المتكبرون يوم القيامة كأمثال الذر ) فيكون جزاؤه من جنس عمله، فإنه كان في الدنيا يتطاول على عباد الله، يشمخ فوقهم بأنفه، ويرى أنه فوق هؤلاء جميعاً، وفي الحقيقة ليس شيئاً من ذلك، فيوم القيامة يحشرون على أمثال الذر يطؤهم الناس نكاية بهم، وعقوبة لهم، وزجراً لمثل هذا العمل، وفي المقابل المؤمن لا يكون كذلك، وإنما يكون متواضعاً مع النظافة، وهذا من فضل الله ورحمته تبارك وتعالى، فإن هذا الدين وسط في كل أموره، لكن اليهود صفتهم الكبر، وإلى الآن في كل الأزمان اليهود طبعهم الكبر، فهم أذل وأحط الشعوب، ومع ذلك يتكبرون كبراً عجيباً، ويرون أنهم شعب الله المختار، وأن بقية العالم إنما هم كالحمير خلقهم الله ليخدموا اليهود، فهذه عقيدة اليهود، قال تعالى مبيناً ذلك: (( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ))[المائدة:18]، وقال: (( ذَلَكِ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ))[آل عمران:75]، أي: أن أموال وأعراض العرب حلال لهم، فشدد الله تبارك وتعالى عليهم العقوبات، بل وبعضها شددوا بها على أنفسهم، ويظنون أنها من النظافة، وليست من النظافة وإنما هي عقوبة الله أو من تشديدهم على أنفسهم، فإذا وقعت النجاسة في ثوب أحدهم فإنه يقرضه بالمقراض، أي: يقصه ولا يغسله، والحائض لا يجلسون معها في البيت ولا يؤاكلونها ولا يشاربونها حتى تطهر، ويظنون أن هذا من النظافة.
    وفي المقابل النصارى لا يحترزون من النجاسات ولا يتنظفون، فيدخلون كنائسهم يتعبدون وهم بمنتهى النجاسة أو القذارة أياً كانت وإن تطيبوا وتنظفوا فهذا للمظهر فقط ليس تديناً، ويفتخر الرهبان النصارى بتاريخ النصرانية عندما يذكرون أعمالهم وسيرهم، ومما يفتخرون به أن الراهب فلان بقي أربعين سنة لم يمس الماء جلده! إنها قذارة وأي قذارة! فجاء الله تعالى لهذه الأمة بالدين الوسط كما بين ذلك صلى الله عليه وسلم، فهو يجمع بين النظافة وبين التواضع، وليس فيه الأصرار والأغلال التي كانت على من قبلنا، فالمؤمن يتطهر ويتنظف، يغتسل لكل جمعة -يتطهر لكل صلاة- ثم يلبس اللباس الحسن، حتى إذا مات فإنه يكفن بملابس حسنة، والمقصود أن الله سبحانه وتعالى شرع لنا هذا الدين الوسط ولله الحمد، فالبذاذة لا تعني ما عليه الرهبان من القذارة والوساخة وسوء المظهر، وما عليه المتكبرون وأهل الدنيا وأهل الترف الذين يلبس الواحد منهم الثوب أو العمامة مرة واحدة ثم يرميها، فهؤلاء أشبه ما يكونون باليهود الذين إذا وقع في ثوب أحدهم النجاسة قصوه أو رموه، وهذا غلو، والمؤمن ليس من هؤلاء ولا من هؤلاء، وإنما يجمع بين النظافة وبين التواضع وترك التكبر والتفاخر بالمظهر، والمقصود من ذكر الحديث هنا: أن هذا العمل من الإيمان، وقد أرشدنا كتاب الإيمان من صحيح البخاري إلى مثل هذا، فيوجد فيه مثل هذا وأكثر، فتجده مثلاً يقول: اتباع الجنائز من الإيمان، إكرام الضيف من الإيمان، صلة الرحم من الإيمان، قيام رمضان من الإيمان، وأعمال كثيرة من الإيمان في تراجمه، ثم يأتي بأحاديث دالة على أن هذه الأعمال من الإيمان، فما ذكره الشيخ هنا هو جزء وامتثال فقط لهذا.