المادة    
فهل يدل هذا على أن الإيمان لا يوجد إلا في القلب كما تقول المرجئة ، ولا علاقة له باللسان والجوارح؟ لا، إنما يدل على أن القلب هو موضع الإيمان الأصل والأهم، وما عداه فرع، أما أنه لا يوجد إيمان إلا ما كان في القلب فهذا لا يدل عليه ذلك، ولا يوجد شيء في اللفظ يقتضي ذلك، فهنا يرد على هذه الشبهة بهذا الدليل، أي: الدليل الذي واقع دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ينطق به ويصرح به، وهو لو أن رجلاً قال لأي نبي -ولنفرض أنه قال لنبينا صلى الله عليه وسلم-: أنا أعلم أنك صادق، وأعلم أنك نبي، ولكني لا أتبعك، وقد يقول: بل أعاديك وأبغضك، وقد لا يقولها، فماذا يكون حكمه؟ يكون كافراً، إذاً الكفر ليس مقابل التصديق كما يظنون، وإنما هو مقابل للإيمان، وقد حدث هذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من أحبار اليهود ، ومن بعض كفار قريش، فإنهم ما كذبوه، قال تعالى: (( فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ))[الأنعام:33] فالكفر له أسباب غير التكذيب، فمن الناس من يكفر حسداً وبغياً، قال أبو جهل : كنا وبنو عبد مناف كفرسي رهان، سقوا فسقينا -التنافس الجاهلي- وأطعموا فأطعمنا، حتى قالوا: منا نبي، فأنى لنا بنبي؟! فكفروا به حسداً وبغياً.
وكذلك هرقل ما منعه من الإيمان إلا حب الدنيا، فقد جمع البطارقة وكبار رجال الدين وقال: إن نبي آخر الزمان قد بعث، وهذا كتابه، فما رأيكم لو أسلمنا وآمنا به؟ فحاصوا حيصة إلى الأبواب يريدون أن يهربوا، أي: خافوا أن يؤمن ومن كفر منهم يقتله، فلما رأى ذلك منهم قال: إنما فعلت ذلك لأختبركم، وأعادهم وبقي على كفره والعياذ بالله، فهذا نوع آخر وهو إيثار الدنيا، وكثير من الخلق ما يمنعهم من قبول الحق إلا إيثار الدنيا -والعياذ بالله- ويخشى لو آمن لفقد دنياه، وهذا حال كثير من الكبراء، بل لهذا كان الذين يصدون عن دعوات الإيمان من الأنبياء أو من المصلحين والمجددين هم الكبراء وأصحاب الشأن، كما في القرآن: (( قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ))[الأعراف:60]، أي: كبار القوم في كل زمان ومكان، وكذلك كبار الروافض و الخوارج أكثر من يعادي أهل السنة ، وأيضاً أحبار اليهود ، لكن قد تجد من عوام اليهود أو النصارى من يؤمن ويدخل في هذا الدين من أن يدخل فيه أحد كبارهم إلا من تجرد لله، لكنه قليل كما فعل عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه، والناس يعظمونه؛ لأنه حبر من أحبار يهود، أو أنه كما يسميه الروافض : آية الله فلان، ولو صار من أهل السنة لعد من الأتباع.
وكذلك الحسد، إذ إن أهل الكتاب عموماً كما ذكر الله تبارك وتعالى عنهم أنهم يحسدون هذه الأمة على الدين، ويعترضون لم اختص الله تعالى هذه الأمة بهذه الفضائل والميزات؟ فرد الله تبارك وتعالى عليهم في غير موضع من القرآن من أن الله سبحانه وتعالى يختص برحمته من يشاء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وكان في ذلك رد على اليهود الذين يرون أنهم شعب الله المختار، وأنهم أولى بأن تكون النبوة فيهم، وبالتالي فالكفر قد يجتمع مع التصديق -وهذا هو الشاهد- بأن يقر ويصدق، ولكنه ينازع ويعارض ويحارب ويرفض الانقياد التام.
يقول رحمه الله: (بل إذا كان الكفر يكون تكذيباً، ويكون مخالفة ومعاداة بلا تكذيب أيضاً، فكذلك الإيمان يكون تصديقاً وموافقة وموالاة وانقياداً) ولو أن أحداً قال: آمنت بمحمد صلى الله عليه وسلم، لكنه ظل موالياً لليهود أو للنصارى ، فهل يكون مؤمناً حقاً؟ لا يكون كذلك، ولذلك ما الذي فعله عبد الله بن أبي وعلم به نفاقه؟ الآيات التي أنزلها الله تبارك وتعالى في سورة المائدة: (( نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ))[المائدة:52]، فـعبد الله بن أبي إلى الآن لم يفكر ولم يستوعب أن الله سينصر هذا الدين، فيقول: أربعمائة دارع، وثلاثمائة حاسر، تحصدهم في غداة واحدة يا محمد! إني امرؤ أخشى الدوائر، أي: أخشى أن نتعرض لأزمة أو نكبة في المستقبل، فمن أين لي من أقاتل به من الحلفاء؟ ما عندي إلا هؤلاء اليهود، إذاً هو في نفسه يتوقع أن هذا الدين ربما ينتهي، أو ربما أن قريشاً ستقتل محمداً، فأرجع إلى ما كنت عليه، وعند ذلك أحتاج الحلفاء فلا أجدهم؛ لأنك قد قتلتهم، فهذا الظن السيئ بالله تبارك وتعالى، وبمستقبل هذا الدين، كشف الله تعالى به موالاة المنافقين لهؤلاء اليهود الكافرين، وبذلك علم أنهم وإن أظهروا الإيمان بألسنتهم فإنهم غير مؤمنين بقلوبهم، ولهذا يقول الله تعالى: (( فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ ))[المائدة:52]، فهذا ما حدث والحمد لله، فقد جاء الفتح، وجاءت الانتصارات في بدر والأحزاب، ثم أظهر الله تبارك وتعالى هذا الدين، ومات المنافقون بالخزي والندامة، وكذلك من والاهم من الكفار -من نجى من سيف المؤمنين- فإنه مات بالندامة والذل والخزي والصغار والجزية، كما حدث لآخر اليهود وهم يهود خيبر .
إذاً لا بد -هذا جانب عظيم من جوانب الإيمان يراد أن يهدم- في الإيمان من موالاة المؤمنين، والانقياد والإذعان والتسليم لله تبارك وتعالى في حكمه الشرعي ما يحل وما يحرم، وفي حكمه القدري، فكل ما يقضي ويقدره الله تبارك وتعالى فنحن نؤمن به ونسلم ولا نعترض عليه أبداً، ولا يكفي مجرد التصديق، فيكون الإسلام جزءاً من مسمى الإيمان، وهذا قد تقدم بيانه أكثر من مرة.