المادة    
الوقفة الأولى: الرجوع إلى اللغة كمبدأ من حيث الأصل لا بأس به، ولكن شيخ الإسلام هنا يريد أن يقول: النظر إلى حقيقة الإيمان لغة لابد له من قواعد، فما القاعدة في الرجوع إلى اللغة؟ أي: متى نرجع إلى اللغة، ومتى لا نرجع إليها؟ وما الفرق بين رجوع أهل السنة والجماعة إلى اللغة، ورجوع أهل البدع إلى اللغة؟ بغض النظر عن كون الإمام أبي حنيفة من هؤلاء أو من هؤلاء؛ لأننا الآن لا نريد أن ندخل في كلامه هو، بل نريد أولاً تقرير قاعدة الرجوع إلى اللغة، فنقول: كل لفظ يرجع إلى أصله، فإن كان من كلام الشارع فيعرف بما جاء في الكتاب والسنة، وإن كان مجرد كلام لأهل اللغة فنرجع فيه إلى كلام اللغويين، وإن كان كلاماً عرفياً فنرجع فيه إلى العرف، والعرف يختلف.
فما ثبت تعريفه بالكتاب والسنة؛ فإننا لا نحتاج معه إلى الرجوع إلى لغة العرب؛ لأن الشارع إما أن يأتي بألفاظ جديدة، أو ينقل المعنى اللغوي إلى معنىً شرعي آخر، فنحن في مسائل العقيدة والدين التي أوضحها رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلاها أجلى بيان لا نحتاج فيها للرجوع إلى أهل اللغة، وهذا لا يعني أننا لا نستأنس بكلامهم، أو نبين أقوالهم، لكن لا نرجع إليهم لنعرف الحق أو الصواب، بل الأصل أن نرجع إلى الكتاب والسنة وفهم السلف؛ لأن السلف يجمعون بين كون اللغة لغتهم، فهم أفصح الناس، وبين أن القرآن والسنة علمهم وعقيدتهم ودينهم، فهم أعرف الناس بذلك.
  1. العلة في عدم الاعتماد في الحقائق الشرعية على معناها اللغوي

    لا تؤخذ الحقائق الشرعية إلا من كلام الوحي، ولا نحتاج في بيان الحقائق الشرعية لا إلى أهل اللغة ولا إلى غيرهم من المتكلمين، فهم أبعد في معرفة مدلول كلام الشرع لسببين:
    الأول: أن بعض الكلام الذي يأتي به الشارع لا يكون موجوداً في لغة العرب، فالمفهوم نفسه لا يوجد له مثل في اللغة كالجهاد، فالجهاد كلمة شرعية، ومعناها الشرعي ليس له وجود عند العرب في الجاهلية، وكذا الزكاة، ولكن قد يقال: إنها نقلت من المعنى اللغوي، لكنها في لغة العرب تعني: الطهارة والنماء، ولا علاقة بين الطهارة والنماء وبين أن يخرج الرجل قسماً من المال مخصوص بنية مخصوصة في وقت مخصوص لفئة مخصوصة، وكذلك لفظ التيمم في اللغة هو مجرد القصد، لكن الشارع نقله إلى معنى آخر، فهذا يمكن أن يكون جديداً، وكذلك لفظ النفاق والغيبة، فهذه كلمات لما تكن معروفة عند العرب بهذا المعنى، وإن قيل: هي ألفاظ عربية من لغة العرب، فإن الشارع قد جاء لها بمعنى جديد لم تعرفه العرب من قبل.
    وكذلك فإن هناك معانٍ مشتركة، مثل الصلاة، فإنها أقرب ما تكون في المعنى إلى الدعاء؛ لأن الصلاة في لغة العرب هي الدعاء، والدعاء معروف عند العرب، فقد كانوا يدعون عند الكعبة وغيرها، فالصلاة هي الدعاء، فهذا اللفظ منقول إلى معنى شرعي آخر.
    وهناك ألفاظ جاهلية أماتها الإسلام بالكلية، فلا وجود لها الآن في لغة العرب والمسلمين، وهي لا تذكر إلا كتاريخ مثل: ما أبطله الإسلام من العبادات الجاهلية، فهذا لا وجود له معنىً، بل قد نسي المعنى عند أهل اللغة، ومثل ذلك ما كان يجعله العرب في الغنائم من المرباع والصفايا وغير ذلك من أمور الجاهلية، وكذلك الاستقسام وإن كان -والله المستعان- يفعله بعض المسلمين، لكنه لم ينس بالكلية مثل المرباع، وهو أن رأس القبيلة يأخذ الربع من الغنيمة، فهذا المعنى قد نسي حقيقة ولفظاً.
    والخلاصة: أن الشارع إما أن يأتي بمعنى جديد لكلمة لفظها في لغة العرب، فيأتي لها بمعنى جديد لم يعهده العرب من قبل، أو ينقله إلى معنى آخر مع وجود الصلة بين المعنيين، فالإيمان إن قلنا: إنه لفظ جديد كالجهاد والنفاق لم يرجع في معرفة معناه إلى أصل اللغة فهذا جواب، والجواب الآخر أن نقول: إن الإيمان له علاقة بالإيمان اللغوي وهو التصديق، ولكن التصديق نفسه في عرف الشارع يختلف عما يعنيه هؤلاء، بل حتى في لغة العرب يختلف معناه عما يظنه المرجئة ؛ لأن التصديق في عرف الشارع وفي كلام العرب يطلق على القول والعمل، والمهم هنا بيان أن التصديق قد يطلق على العمل قال صلى الله عليه وسلم: ( والفرج يصدق ذلك أو يكذبه )، وقال تعالى: (( قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ))[الصافات:105].
    فإذاً: التصديق يطلق على العمل، ففي كلا الحالتين نستطيع أن نرد على هؤلاء المرجئة ونبين مخالفتهم للغة والشرع في بيان معنى الإيمان.
    والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
  2. أثر اللغة ومتى يكون الرجوع إليها

    وإلا فالذي لا يتعلم اللغة العربية لا يفهم ولا يفقه العلم، وهذا لا شك فيه، ولكن متى نرجع إلى اللغة كأساس في معرفة الحق والصواب؟ أما تعلم اللغة باعتبارها وسيلة فهذا لا شك أنه من العلم النافع.
    ونبين هذا بمثال: لو أن هناك عالماً كبيراً من علماء اللغة وقرأ قول الله تبارك وتعالى: (( لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ))[ص:75] وقوله: (( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ))[المائدة:64] فهل يؤمن بها كما جاءت، أو يقول: نرجع إلى اللغة، ونرى ما قالته اللغة في معنى اليد؟
    والصواب أن نرجع إلى ما قاله السلف الصالح، وكيف فهموا هذه الآية، وكيف علم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه معاني هذه الآيات؟ والقاعدة في هذا الإيمان بما صح في القرآن والسنة فلو قال شخص: نؤولها بالقدرة أو بالنعمة؛ لأن العرب تطلق اليد على القدرة والنعمة، ويأتي لك بشواهد وأشعار، نقول له: نعم، نحن لا نشك أن العرب تطلق اليد على القوة والقدرة والنعمة، لكنها تطلق أيضاً على اليد الحقيقية بالنسبة للإنسان، والتي هي صفة بالنسبة لله تبارك وتعالى حقيقةً، فنحن كيف نميز بين هذه المعاني الأربعة والخمسة والستة؟ هل نرجع إلى اللغة في هذا؟
    الجواب: لا. لأننا لا نحتاج إلى اللغة في مثل هذا الأمر، ولا يعني هذا أن لغة العرب لا تدل على تلك المعاني، والله تعالى يقول: (( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ))[المائدة:64]، ويقول: (( لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ))[ص:75] فهل يصح عندكم في اللغة تثنية المصدر؟ فتثنية كلمة القدرة لا تصح؛ لأن المصدر لا يثنى ولا يجمع، ولذا تجد في كتب الفقه أن العلماء اللغويون ينتقدون قول الفقهاء: كتاب البيوع؛ لأن الصحيح أن يقال: كتاب البيع؛ لأن كلمة البيع مصدر يشمل جميع البيوع، ولكن خرجها بعضهم بأن هذا باعتبار أنواعه لا المصدر في ذاته، فالفقيه يريد أن يقول: كتاب البيع الحلال، وبيع الغرر، وبيع الجهالة وبيع كذا، فهو باعتبار هذه الإضافة يجمع، فيجوز أن تقول: البيوع، وإلا فإن المصدر لا يثنى ولا يجمع، وصفة اليد في القرآن جاءت مثناة، إذاً: هي ليست مصدراً، فلا يصح أن يقال: معناها القدرة وغيرها.
    وكذلك في حديث النزول يقولون: ينزل الله، أي: رحمته وأمره، وفي الحديث: ( ينزل ربنا في الثلث الأخير من الليل ) وهو حديث صحيح متواتر، فنحن نقول: نحن لا نحتاج إلى هذا التأويل، وإن كان هذا التأويل قد يرد في لغة العرب، وقد يحل المضاف محل المضاف إليه أو ما أشبه ذلك.
    ثم نقول: ثانياً: لا يصح هذا؛ لأننا عقلاً نقول: إن رحمة الله تنزل كل حين، وأمر الله ينزل كل حين، لكن هو بذاته تبارك وتعالى لا ينزل في الثلث الأخير، ففرق بين هذا وبين هذا، فنحن نلزمهم حتى من جهة اللغة؛ لأنه -والحمد لله- لا تعارض بين الحق الذي جاء في الكتاب والسنة وبين اللغة، لكن نحن نقول: إننا نرجع في مسألة الإيمان إلى ما جاء جبريل به إلى النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: ( أخبرني عن الإيمان ) فأجاب صلى الله عليه وسلم: ( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره ) وهذا الجواب من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان هو عن السؤال بـ(ما)، فهو جواب عن الماهية في قواعد المنطق، والماهية مشتقة من (ما هي) أو من (ما هو)، فماهية الإيمان أو حقيقته هي المسئول عنها، وأجاب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الجواب، فيأتي القاضي أبو بكر بن الباقلاني ويقول: (والإيمان هو التصديق؛ لأن العرب لا تستعمله إلا كذلك، ويقول: فلان يؤمن بالبعث أي يصدق به) وذكر أمثلة ليست من كلام العرب، بل من كلام الناس، ونحن نقول له: يا شيخ الأشعرية لا نحتاج إلى اللغة، والنبي صلى الله عليه وسلم قد جاءه جبريل وسأله عن الإيمان، فحيثما أردت أن تعرف حقيقته في العقيدة فقل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، أي: مع اقترانه بالإسلام، ولا تقل: الإيمان: هو التصديق بدلالة اللغة؛ لأن العرب تقول كذا، والناس يقولون كذا، بل من العجب أن في فتح الباري في شرح هذا الحديث الذي في صحيح البخاري من رواية أبي هريرة رضي الله عنه تجد أنهم يقولون: لماذا عدل الرسول صلى الله عليه وسلم عن المعنى اللغوي إلى غيره؟
    وهذا التساؤل عجيب منهم، فمن الذي قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتصدر في المسجد للناس ويأتيه السائلون فيسألونه عن لغة العرب، وماذا قال امرؤ القيس ، وماذا قال فلان؟ وما معنى كذا في لغة العرب؟
    فالناس إنما يسألونه صلى الله عليه وسلم عن الدين الذي جاء به، ويجيبهم بالدين، ولهذا لما ذهب الرجل قال: ( هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ) فالكلام إنما هو عن الدين، فلماذا تذهبون إلى اللغة؟ لكن لو جاء رجل إلى أبي عبيدة أو إلى الأصمعي أو إلى الخليل بن أحمد وقال له ما الإيمان؟ فقال: التصديق، فنعم؛ لأنه يسأل عن المعنى في اللغة؟ لأن هؤلاء أئمة لغة، والذي يأتيهم إنما يسألهم عن اللغة؛ لأنه يرجع في كل فن إلى أهله، ولكن الكلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الكلام الموحى إليه من الله. ‏