يقول المؤلف رحمه الله: (وإن كان الأمر غير ذلك -أي: ما حصلت تلك الأمور- فيظل الخلاف لفظياً).ينتقل المؤلف بعد ذلك إلى كلام الإمام
أبي حنيفة رحمه الله ورضي الله عنه عن حقيقة الإيمان، وهنا يظهر في الإمام
ابن أبي العز التالي:أولاً: اتباعه للحق وتجرده عن التعصب، وهذا أمر يشكر عليه؛ لأنه حنفي المذهب، وكان رئيساً للقضاة على المذهب الحنفي، ومع ذلك فإن هذا لم يجعل منه مقلداً متعصباً، وهو يشكر على هذا، ولا سيما في العصور المتأخرة التي ظهر فيها التعصب، ووصل الأمر إلى التقاتل وليس مجرد النقاش والردود.ثانياً: هو العدل والإنصاف، فإنه أنصف الإمام
أبي حنيفة بعرض ما يرى أنه أدلة له، ثم أنصف
أهل السنة ولو إلى حد ما في حدود ما يرى هو من عرض جوابهم عن هذه الشبهات، فقضية مثل هذه ليست قضية هينة، فقد كثر فيها الكلام من القرن الأول، بل جاء عن بعض الصحابة كلام فيها، فهي منذ القرن الأول منتشرة، وافترقت الأمة فيها، ورد بعضهم على بعض، ووصل الأمر إلى أن يكفر بعضهم بعضاً، ثم يأتي رجل ينتمي إلى المذهب الذين يتبنى العقيدة المخالفة ويدافع عنها، ويرى أنها من أهم أسس المذاهب، كما يرى المقلدون والمتعصبون للمذهب، ويأتي هذا الرجل الذي هذبته عقيدة السلف وهذبه اتباعه للسلف الصالح، فقد كان تلميذاً للحافظ
ابن كثير رحمه الله، و
ابن كثير كان تلميذاً لـ
ابن تيمية و
ابن القيم .إذاً: فلا غرابة في هذه المدرسة السلفية التي نشأت في ذلك القرن المظلم، وهذا من فضل الله تبارك وتعالى، وذلك في أوائل القرن الثامن بعد تدمير التتار لـ
بغداد ودخولهم البلاد، واندثار الكثير من العلم. ومن فضل الله تعالى أنه لا يمر بالأمة حقبة مظلمة إلا وينبلج النور بعدها، وتلك الفترة المظلمة قد انبلج فيها نور عظيم، وظهرت فيها مدرسة سلفية عظيمة كان فيها شيخ الإسلام
ابن تيمية و
المزي رحمهما الله، وخرج الحافظ
ابن كثير و
ابن القيم و
الذهبي ، ثم
ابن أبي العز ، ثم جمع كبير جددوا مذهب السلف ومنهجهم وعلمهم بعد أن كان يوجد في القرن الرابع والخامس العجب العجاب، حتى أن هناك من العلماء الذين هم حنابلة ويتبعون الإمام
أحمد ، بل يتعصبون له، ومن وجد في كلامهم في العقيدة قليلاً من الانحراف، مثل القاضي
أبي يعلى ، فالمقصود أنه قل أن يخلوا كلامهم في الجملة من كلام
المعتزلة أو
الرافضة الذين انتهجوا منهج
المعتزلة رغم شدة عداوة الحنابلة
للرافضة في كل العصور، فسبحان الله كيف خرجت هذه المدرسة الأصلية بميزان العدل، فظهر هذا الرجل الذي هو الإمام
ابن أبي العز تلميذاً لتلك المدرسة الخيرة، وكان شيخ الإسلام
ابن تيمية رحمه الله النموذج والقدوة في هذا العدل.و
الذهبي رحمه الله كان كذلك من أكثر الناس تحرياً للعدل كما هو معلوم في
سير أعلام النبلاء وغيره، وإذا خالف
الذهبي بعض أئمة السلف أو خالف
ابن تيمية رحمه الله في شيء فهو في ظنه أن من العدل أن يقال هذا وقد يكون مخطئاً، فقد يحسن الظن ببعض أهل البدع كما في كلامه في
بشر المريسي مثلاً، ولكنه ما أراد بكلامه هذا إلا العدل والإنصاف، ولا حرج على الإنسان إذا أراد أن ينصف فأخطأ، إنما الحرج أن يبغي وأن يعتدي وأن يتحامل ولو أصاب؛ لأنه لا بد أن يكون الكلام بالعدل.والمقصود أن
شيخ الإسلام رحمه الله قعد وأصل هذا المنهج في الإنصاف في كتابه:
رفع الملام عن الأئمة الأعلام ، وذلك في عصور الظلام حيث كانت تتقاتل الأمة في
خراسان وغيرها، ويذكرون في كتب الفقه أن الطعام إذا وقعت فيه نجاسة مثلاً فليطعمه لكلب أو لشافعي، وكذلك يقال عن لحنفي، ويقررون هذا الكلام من شدة عداوة البعض للبعض، في حين أن
الرافضة وأهل الكلام وأهل الفلسفة وأمثالهم يتطاولون على الأمة ويهدمون دينها، كـ
الطوسي الذي تسميه الخوارج اليوم
نصير الدين وهو نصير الكفر
الطوسي وأمثاله ممن يسيطرون على عقول الأمة، وهؤلاء المقلدون يتعصب بعضهم على بعض، ويحارب بعضهم بعضاً، ويثيرون العوام بعضهم على بعض، وكانوا قد اقتتلوا في
اليمن في مسألة فرعية بين
الزيدية والشافعية، فالتعصب يورث الافتراق ويورث الاقتتال، فأتى
شيخ الإسلام رحمه الله وكتب كتابه:
رفع الملام عن الأئمة الأعلام ليبين أن الأئمة الأربعة معذورون حين اختلفوا، وهم في كل أحوالهم بين الأجر والأجرين، ويبين الأصول التي بسببها يقع الاختلاف، وأن بعضها الخلاف فيه سائغ وجائز إلى آخر ذلك فرحمه الله، فقد وضع أصولاً تربوية، واستنبط أحكاماً ومسائل علمية. ولذلك من الأمور المهمة جداً أن يجمع طالب العلم، وكذلك كل من أراد الحكم في أي مسألة بين أمرين: أما الأول: فهو العدل، وأما الثاني: فهو أن يقرأ ويجمع أطراف المسألة والأقوال فيها؛ لأن من كان لا يعرف إلا قولاً واحداً في هذا الأمر فخالفه أحد قال: هذا خطأ ومخالف وهذا لا يجوز، وهذا من الخطأ؛ لأنه لا بد أن يسمع الطرف الآخر وأن يقرأ في المسألة، فربما وجد أن الطرف الآخر أصح دليلاً، وأقوى حجة، وأقرب إلى موافقة الكتاب والسنة، وهذا الكلام فيما يجوز الخلاف فيه من الأمور الاجتهادية لا الأمور العقدية؛ لأنها واضحة وهي إجماعية، ولكن هناك مسائل فرعية قد تندرج تحت أبواب العقيدة، وفي أمور الأحكام والفروع عامة. فإذا كنت لم تسمع إلا قولاً واحداً كما هو الآن من حال أكثر الذين يتطاولون على المخالف ويتهجمون؛ لأنهم لا يعلمون في المسالة إلا قولاً واحداً تعودوا عليه، ولا يريدون مخالفته، مع أن مثل هذا ينبغي أن يراجع المسألة ويعرض الأدلة من هاهنا وهاهنا، وأقل شيء أن يخرج بنتيجة أنها مسألة خلافية إن لم يجزم بأن الآخر على صواب، فإن تبين لك بعد هذا أن ما تقوله هو الحق فتكون قد ازددت علماً ومعرفةً ويقيناً أنك على الحق، وهذا أقوى لك. وهناك أمر آخر: وهو أنه إذا كان الطرف الآخر المخالف قد رآك عرضت أدلته من أقوى مصدر ذكرها، ثم رددت عليها واحداً واحداً بدون أي تحامل ولا تهجم فإنه سيميل إلى منهجك، وربما رجع عن رأيه إلى رأيك، لكن لو جئت وتهجمت عليه وأتيت بالكلام من غير مصادره الصحيحة، وقطعت منه مثلاً أو حرفت في كلامه وحملته ما لا يحتمل، فكيف تريد أن يقبل منك؟ فبمجرد أن يراك فسيقول: هذا محرف متطاول ومتحامل وباغ ومعتد، فيركل كلامك مع أنك قد تكون على القول الراجح، لكنك ما أحسنت عرض الأدلة.