المادة    
‏الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
قال المصنف رحمه الله: (وإذا كان النزاع في هذه المسألة بين أهل السنة نزاعاً لفظياً، فلا محذور فيه سوى ما يحصل من عدوان إحدى الطائفتين على الأخرى والافتراق بسبب ذلك، وأن يصير ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام المذموم من أهل الإرجاء ونحوهم، وإلى ظهور الفسق والمعاصي بأن يقول: أنا مؤمن مسلم حقاً كامل الإيمان والإسلام ولي من أولياء الله!).
ثم يقول: [فلا يبالي بما يكون منه من المعاصي، وبهذا المعنى قالت المرجئة : لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله! وهذا باطل قطعاً].
  1. مرجئة الفقهاء

    قال: [الإمام أبو حنفية رضي الله تعالى عنه نظر إلى حقيقة الإيمان لغة مع أدلة من كلام الشارع، وبقية الأئمة رحمهم الله نظروا إلى حقيقته في عرف الشارع؛ فإن الشارع ضم إلى التصديق أوصافاً وشرائط كما في الصلاة والصوم والحج ونحو ذلك، فمن أدلة أصحاب أبي حنيفة رحمه الله: أن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق، قال تعالى مخبراً عن أخوة يوسف: (( وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا ))[يوسف:17] أي بمصدق لنا، ومنهم من ادعى إجماع أهل اللغة على ذلك، ثم هذا المعنى اللغوي -وهو التصديق بالقلب- هو الواجب على العبد حقاً لله، وهو أن يصدق الرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند الله، فمن صدق الرسول فيما جاء به من عند الله فهو مؤمن فيما بينه وبين الله تعالى، والإقرار شرط إجراء أحكام الإسلام في الدنيا، هذا على أحد القولين كما تقدم؛ ولأنه ضد الكفر هو التكذيب والجحود، وهما يكونان بالقلب، فكذا ما يضادهما.
    وقوله: (( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ))[النحل:106] يدل على أن القلب هو موضع الإيمان لا اللسان، ولأنه لو كان مركباً من قول وعمل لزال كله بزوال جزئه، ولأن العمل قد عطف على الإيمان، والعطف يقتضي المغايرة، قال تعالى: ((آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)) في مواضع من القرآن]
    اهـ.
    ما ذكره رحمه الله من أنه لا يجوز أن يقع البغي والعدوان والافتراق قد سبق شرحه، ولذلك ننتقل إلى الجملة التي تليها من المحذورات التي ذكرها رحمه الله وهي قوله: (وأن يصير ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام المذموم من أهل الإرجاء ونحوهم) أي: أنه لا يجوز أن يصبح خلاف المرجئة الفقهاء -الذي هو خلاف لفظي في هذه المسألة- ذريعة إلى الخلاف الحقيقي الذي هو خلاف المتكلمين الذين خالفوا أهل السنة والجماعة في هذا الأمر، ووقعوا في الإرجاء المذموم، وقد كتب المعلق على الطبعة التي حققها الدكتور عبد الله التركي و شعيب الأرناؤوط -ولا أتردد أن هذا من تعليق شعيب الأرناؤوط وليس من تعليق الدكتور عبد الله التركي -يقول: (الإرجاء المذموم الذي يعد بدعة هو قول من يقول: لا يضر مع الإيمان معصية، وأما من يقول بإرجاء أمر المؤمنين العصاة إلى الله ولا ينزلهم جنة ولا ناراً ولا يتبرأ منهم فهذا لا بدعة، ولا يذم قائله).
    وهذه القضية واضحة جداً، وهذا الرجل غفر الله لنا وله يبدو أنه حنفي المذهب، فيريد أن يدافع عن الحنفية بأي طريقة، لكن الحق أحق أن يتبع، ونحن نحب الإمام أبا حنيفة رحمه الله وندافع عنه وعن أي إنسان، ونحمل كلامه على أحسن المحامل، أما إذا كان الكلام خطأ فكل يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يضيره ذلك إذا كان الرد بالدليل العلمي وبالأسلوب المقنع، فلا يضر أحداً أن يرد عليه، وإنما يكون الإثم والبغي والعدوان في الغلو والتجاوز والسباب والتهم وسوء الظن، وتحميل الكلام ما لا يحتمل ونحو ذلك مما هو خارج عن حد العدل الذي أمر الله تبارك وتعالى به، ونحن أولاً نناقش: هل فعلاً صار هذا الكلام ذريعة ًإلى بدع أهل الكلام المذموم؟ نقول: نعم أصبح كذلك؛ لأن المرجئة في الحقيقة هم جزء من الفرقة الكلامية كـالأشعرية الذين شيخهم في الكلام هو أبو الحسن الأشعري ، ويعتبرون علم الكلام هو علم التوحيد، لذلك يقولون: إنه أول من كتب في العقيدة، مع أن العقيدة التي أنزلها الله سبحانه وتعالى على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم أول ما دعا إليه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يأمر رسله إلى الأمم وإلى القبائل والبلدان أن يكون أول ما يدعون إليه هو العقيدة، فيأتي رجل في أول القرن الرابع ويكون هو أول من كتب في العقيدة! والقرون الثلاثة ماتت على ماذا؟ وهذا دليل واضح على أنهم يقصدون بالعقيدة غير ما نعتقده نحن، فعلم الكلام عندهم هو العقيدة، وجعلوا ما كانت عليه الثلاثة القرون المفضلة من الاعتقاد مجرد أخذ بالظواهر دون تمحيص ونقد عقلي، فالنقد العقلي المتميز الذي يأتي بالحجج والبراهين الجدلية عندهم هو ما وضع وأصل على يد أبي الحسن ومن جاء بعده.
  2. كيفية ظهور علم الكلام وأثره في الإرجاء

    وعلى هذا فأهل الكلام في نظر الأشاعرة هم أهل العقيدة، وقد قدر أهل الكلام الأشعرية في كتبهم مسألة الإرجاء، ووقعوا فيها، وكان ذلك نتيجة لجدل من تقدمهم من المرجئة من أهل الكوفة أو الفقهاء في إنكارهم أن الإيمان يزيد وينقص، أو يركب ويتبعض أو ما أشبه ذلك، ففتحوا الباب للمتكلمين الذين أتوا بأدلة جديدة وكان المرجئة الفقهاء يذكرون أدلة نقلية أو لغوية، أنه لو كان كذا لكان كذا، ولعطف الإيمان على العمل، ولأن الكفر هو التكذيب والإيمان هو التصديق وما أشبه ذلك ولا يتعدون.
    ولما دخل علم الكلام ونقل عن الفلسفة اليونانية جاء وأصل وقرر هذه المسألة تقريراً مختلفاً تماماً وذلك عن طريق ما يسمونه بعلم المنطق اليوناني، وهو لا يستحق أن يسمى علماً إلا تجوزاً ومجاراة وتنزلاً.
    وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن هذا العلم لا يحتاج إليه الذكي، ولا يستفيد منه البليد، وهذا العلم نشأ في بلاد اليونان بسبب ظرفي ذاتي في تلك البلاد ولا تحتاجه الإنسانية جميعاً، وإنما لوجود طائفة ممن ينكرون حقائق الأشياء ويشكون في كل شيء، أو يوردون احتمال الشك على كل شيء، ويسمون السفسطائين أو أهل السفسطة، أي: الجدل والشك في أي شيء وإنكار الحقائق، فجاء أرسطو ومن معه كـفرفويوس وغيره فرتبوا وقعَّدوا هذه القواعد البدهية جداً ليردوا على هؤلاء ويثبتوا حقائق الأشياء، فقسموا التقسيمات المنطقية المعروفة: الجنس والنوع والفصل والخاصة، وجعلوها قواعد يستطيع الإنسان أن يصنع بها الحد الذي هو التعريف أو المميز، فهو علم أو قواعد وضعت في بيئة خاصة إن نفعت فإنها تنفع أولئك القوم، أو تنفع في الرد على من وضعت للرد عليه لا أكثر من ذلك، والمسلمون أخذوه مع أن هذا الأخذ لا يجوز؛ لأنه مخالف لأصول العقيدة، ولكنهم فعلوا ذلك في زمن المأمون الذي ظن أنه بإنشاء دار الحكمة قد بنى صرحاً حضارياً علمياً وثقافياً -كما يقال اليوم أيضاً-، فيأخذ عن اليونان هذه العلوم، ونشأ عنها ضلال كبير، ولم يقف الأمر عندما نشأ عن المنطق من إفساد للذوق العربي، ورحم الله الإمام الشافعي حيث قال فيما نقله عنه ابن رجب في كتابه: فضل علم السلف على علم الخلف: (ما فسد الناس أو ما فسدت عقولهم إلا عندما تركوا منطق العرب وأخذوا منطق أرسطو طاليس ) فمنطق العرب هو الفطرة السهلة الواضحة التي لا تحتاج إلى تعقيد ولا إلى تكلف، وتوصل المعلومة والرد عليها بأيسر طريق وأوجز بيان، فلما ترك المسلمون ذلك وانصرفوا عنه إلى ما قرره اليونان ظلوا وانحرفوا وفسدت عقولهم وفطرهم، فلم يتوقف الفساد عند هذا الحد وإنما ظهر من يقرر أنه أساس جميع العلوم، فـأبو حامد الغزالي في مقدمة كتابه المشهور: أصول الفقه وهو المستصفى يقول: إن من لم يتقن المنطق ويتعلمه فلا ثقة في علمه مهما تكلم، وقد رد عليه الإمام ابن الصلاح رحمه الله والنووي وغيرهما من العلماء الذين أنكروا ذلك، ولهذا جاء في منظومة المنطق السلم المنورق :
    ابن الصلاح والنووي حرما                        وقال قوم ينبغي أن يعلما
    ولكن الذي صار عليه أكثر الأمة اعتماد هذا العلم حتى أصبح مقدمة لأصول الفقه، فيرغمون طالب الأصول أن يتعلم المنطق ثم يتبعه بأصول الفقه، وحينها أصبح مفتاحاً لمفتاح الفقه، وهذا المنطق لا حاجة لدراسته، وقد كان سبباً في نقل الخلاف والجدل من شبهات نقلية أو عقلية كما يلاحظ في مسألة الإيمان إلى جدل منطقي يتكلم عن ماهية الإيمان، وكيف نعرف حقيقته، وكيف ننفيه من الأمور العرضية التي ليست من حقائقه وتتدرجت بهم الأمور حتى اعتبروا أن العمل هو عرض من الأعراض، أما ذات الإيمان فهو التصديق، فوصلوا إلى ما يريدون الوصول إليه من قول المرجئة الفقهاء لكن بطريقة أخرى وبأسلوب منطقي طويل ومعقد، وأصبحوا لا يستدلون بالنصوص، بل يستدلون بالقواعد المنطقية، فلا ريب أن ما قاله المرجئة الفقهاء أصبح فعلاً ذريعة لأهل الكلام المذموم.
    فتحقق أن الاستدلال في هذا المذهب انتقل من الاستدلال باللغة أو ببعض الأدلة النقلية الشرعية إلى استدلال منطقي بحت، والنتيجة واحدة، والذي أوصل هؤلاء إلى هذه النتيجة هم المرجئة الفقهاء ؛ لأنهم يظنون أنهم بهذا الترتيب العقلي يؤصلون منطقياً ما قرره أولئك نظرياً أو استدلالاً ببعض النقول.
  3. تحذير السلف من الإرجاء

    وعندما رد ابن تيمية على أهل الإرجاء ونحوهم وعلق الأرناؤوط بأن الإرجاء المذموم هو إرجاء آخر، وكأن هناك إرجاء غير مذموم.
    والرد عليه أن أعلم الناس وأفقههم وأعرفهم بالدين هم علماء القرون الثلاثة المفضلة وهم يمثلون حقيقة الأمة، بل ورد ذم الإرجاء عن بعض متأخري الصحابة رضوان الله تعالى عنهم، وليس فقط عن التابعين الذين ورد عنهم الكثير، وقد نقل ذلك عن الأئمة ومنهم الإمام أحمد رحمه الله، وقد نقل ذلك عنه ابنه عبد الله في كتابه السنة ونقل بالأسانيد الصحيحة المتصلة عن كبار التابعين وبعضها عن الصحابة. ثم عن تابعي التابعين، ثم عمن بعدهم في ذم الإرجاء، وكذلك اللالكائي وغيره من الأئمة.
    فهؤلاء المرجئة المذمومون هم الذين نقرأ عنهم في كتب الجرح والتعديل عند قول: فلان كان يرجئ، أو كان فيه إرجاء، أو كان يرى الإرجاء وما أشبه ذلك، وهذا إرجاء مذموم بلا ريب؛ لأن من ذمه هؤلاء القوم فلاشك أنه مذموم؛ لأنهم أعلم الناس وأعرفهم بالدين والعقيدة، وبما يذم وما لا يذم، وبما يضل وما لا يضل ومن يعد مبتدعاً ومن لا يعد كذلك، وهؤلاء هم الحجة في هذه الأمة على من بعدهم من الأجيال، وقد جعلوا هذا الإرجاء بدعة مذمومة وكلامهم هو المعتبر.
  4. الرواية عن أهل البدع

    أما أن هؤلاء المرجئة تقبل روايتهم فهذا شيء آخر؛ لأننا لو تأملنا حقيقة ما يهدف إليه علم الرجال، وما أراده السلف الصالح من هذا العلم بالنسبة للأحاديث فإننا نجد أن الشرط الأساس الذي يجب أن يتوفر في الإنسان وعليه يقبل حديثه هو الصدق، أما ما يتعلق بغير ذلك كأن يكون مخطئاً أو متلبساً بشيء من البدع ولكنه يصدق فإنهم يأخذون حديثه ويردون بدعته، ولذلك فإن عمر بن حطان الخارجي الشاعر المشهور الذي رثى وأثنى على عبد الرحمن بن ملجم قد روى له البخاري رحمه الله، وغيره كثير من الأئمة الثقات كـمسلم وأحمد وأبو داود الذين يروون لمن تلبس بمثل هذه البدع.
    ومن تأمل الخوارج يعرف من حالهم أنهم لا يكذبون لأنهم يرون من يكذب كافراً، ولأن أحاديثهم محصت فوجدت صحيحة، فيؤخذ حديثهم وترد بدعتهم، هذا هو الأصل. أما البدع التي يكذب أهلها كـالرافضة فقد نص العلماء على أن الروافض أكذب الناس فلا تقبل روايتهم، ولذلك إذا قيل: فلان رافضي فإنه لا تقبل روايته، لكن إذا قيل: فلان كان يتهم بالإرجاء أو كان يميل إلى الخوارج ، فهذا يقبل إذا علم صدقه وضبطه وإتقانه، فالغرض هو التأكد من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا، وهذا يعلم بصدق الراوي وضبطه وإتقانه، وأما ما فيه من البدعة ولم يكن داعياً إليها وإنما وقع فيها فهذا لا يكاد يسلم منه أحد، بل ربما كان بعض مرجئة الفقهاء دعاة إلى بدعتهم، ومع ذلك يقبل بعض حديثهم، ولكن بشروط أخرى غير مسألة صحة عقيدته أو التلبس ببدعة.
    فإذاً: أهل الإرجاء عموماً مذمومون وإن قبل حديثهم فليس ذلك تزكية لعقيدتهم، فالبدعة بدعة ولا تقبل من أي أحد كان، ولكن استيفاء شروط قبول الرواية لا يقدح فيها ألا يكون متلبساً بهذه البدعة، وهذا هو الذي عليه عمل أئمة هذا الشأن.
    وهذا من باب العدل الإنصاف، فإننا لو تركنا رواية الصادق الثقة؛ لأنه أخطأ في مسألة فوافق فيها بعض أهل البدع، ولا يرى أنها من البدع، وما قامت عليه الحجة، ويرى أنه على الحق وعلى السنة لكان ذلك خطأ منا وظلماً وتعدياً، ولخسرنا شيئاً من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ثبت وصح النقل به، فالعدل أن نأخذ ما ثبت، ولكن لا نأخذ من المبتدع بدعته؛ لأن البدع كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( كل بدعة ضلالة )، ولكن ربما كان المبتدع معذوراً في خطئه، فنحن نأخذ صدقه، وأما خطؤه فأمره إلى الله إن كان معذوراً عند الله عز وجل عفا عنه، وإن كان غير ذلك فيجازيه الله بما أخطأ، ونحن علينا أن نبين ما أخطأ فيه من الوقوع في البدعة من جهة، ولا نرد الحق الذي جاء به إذا تأكدنا من صدقه وضبطه وإتقانه.
    ولهذا نجد علماء السنة كما في كتب الرجال لا تناقض لديهم بين أن يقولوا: إن فلاناً ثقة ويصححون حديثه، وبين أن ينسبوه إلى التلبس بشيء من هذه البدع، لكن بشرط لا تكون بدعته مغلظة، وألا يكون رأساً في الضلالة، وهذا من حسن ظنهم، لا سيما إذا كان المبتدع ذا علم وعبادة واجتهاد، أو قلد واتبع، وكل إنسان يمكن أن يقلد فإذا قلد يمكن أن يخطئ وأن يقع فيما لا يجوز أن يقع فيه مثله، لكن من علم الحق وبلغه نور الوحي واستضاء به لا يجوز له أن يقره على ذلك ولا أن يقلده، وأما هو في ذاته فربما كان معذوراً، إذ قد يخفى بعض الحق على بعض الناس وإن اجتهد في طلبه وتحراه، فكيف بمن لم يبلغه من الحق إلا ذلك وتربى ونشأ عليه.
  5. تسبب الإرجاء في انتشار المعاصي

    وقول المؤلف: (وإلى ظهور الفسق والمعاصي بأن يقول: أنا مؤمن مسلم حقاً كامل الإيمان والإسلام ولي من أولياء الله، فلا يبالي بما يكون منه من المعاصي…) أي: ومما يؤدي إليه مذهب المرجئة الفقهاء أيضاً أن تكثر المعاصي والفجور والتحلل من الأوامر والنواهي، فيقول الرجل: إنه مؤمن كامل الإيمان؛ لأنه مصدق كما قرر العلماء مثلاً، والعمل ليس من الإيمان، وهذا قد وقع ولا يزال يقع، وهو من أسوأ ما تقع فيه الأمة اليوم، فتجد من الناس من يقول هذا وإن لم يتعلم كلام المرجئة ، ولا يعلم من هم المرجئة ، لكن الشيطان يعلمه ويلقنه، وإذا قلت له: اتق الله يا أخي! لماذا لا تلتزم بطاعة الله في صلاتك وأدبك ومظهرك وفي كل شيء؟ قال: يا أخي! الإيمان في القلب، وهذا هو كلام المرجئة ، يعني: أن العمل ليس من الإيمان، فهذا لسان حاله وإن لم يقله، فيقول: أنت ما اطلعت على قلبي فلا تناقشني في هذا، مع أنك عندما وعظته أو ذكرته ما اعترضت على ما في قلبه؛ لأنه لا يعلم ما في القلوب إلا الله عز وجل، والذين يتكلمون عما في القلوب والنيات بغير علم ولا برهان، هم من أكبر المغترين والكاذبين، فالنيات غيب لا يعلمها إلا الله، فأنت اعترضت عليه ظاهر حاله، فرد عليك بإحالتك إلى أمر باطن لا يمكن أن تطلع عليه أنت، فيلزمك أن تصدقه فيما يقول فتكون دعواه: أنا مؤمن والحمد لله، وأحب الله، وأحب النبي، وأنا كامل الإيمان، فلا خيار لك إلا أن تقبلها ولو كنت تعتقد أن الإيمان فقط هو ما في القلب، فلا بد أن تسمع منه وأن تصدقه.
    لكن عندما تقول له: يا أخي! الإيمان قول وعمل، فأين العمل؟ أنا أطالبك بالجزء المفقود، أما الذي في قلبك فإننا نرجو أن يكون كذلك، نحن نسألك عن الذي ظهر من الفجور والفسق وما أشبه ذلك مما قد يستند فيه صاحب الزيغ إلى مذهب المرجئة ، فتراه يقول: بعض العلماء يقولون كذا، أو أنا من الحنفية الفقهاء الذين يقولون: الإيمان في القلب، والعمل ليس شرطاً، وعليه فلو أن أحداً كان فعلاً من أهل الفجور والمعاصي ثم حضر إلى حلقة علمية أو درس في أكثر الكليات في العالم الإسلامي التي تقرر مذهب الإرجاء، فدرس هناك أن الإيمان هو ما في القلب، وأن العمل شرط كمال، فسيجد نفسه مطمئناً إلى ما يعمل، وإذا جاءه أحد وقال له: يا أخي لم لا تصلي؟ وذكره بآيات الله وأحاديث الوعيد، إذا به يتذكر ما قرأ ويقول: يا أخي! الإيمان في القلب وأنا مصدق في قلبي، والناس يبحثون دائماً عن مبرر، وقد لا يكون طالب علم، بل عامياً.
    فلو جاء خطيب يخطب أو يلقي محاضرات يكون فيها الرد على حسب أصول أهل السنة والجماعة فيقول: لا تسمعوا لهؤلاء المتطرفين الأصوليين الخوارج الذين يجعلون الدين قولاً وعملاً، والدين فقط هو الإيمان والإيمان، هو التصديق، فالرجل العامي وإن كان يعلم إهماله للصلاة وتقصيره في حق الله وأنه غير متمسك عندما يسمع هذا الكلام تهون عليه معاصيه، ويرى أن الذي يعفي لحيته أو يقصر ثوبه أو يلتزم بصلاة الجماعة ويؤدي النوافل متطرفاً، ويرى أنه هو المعتدل وغيره هم المتطرفون، وهكذا فإن تقرير هذه البدع لا بد أن يؤدي إلى ظهور الفسق ويعين عليه ويبرره ويفلسفه، حتى عند من لا يعتقده اعتقاداً، وهذا ليس في هذا العصر فقط، بل حدث ووقع في العصور الماضية.