المادة    
‏الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد تناولنا فيما مضى المذاهب والأقوال في الإيمان، كما كان التفصيل في مذهب الحنفية، وما حدث فيه من تطور، وكذلك الأشعرية الذين أصبح مذهبهما مذهباً واحداً في الإيمان.
والآن نكمل إن شاء الله تعالى ما ألزم به الشارح رحمه الله هؤلاء الذين تبنوا مذهب جهم أو قريباً منه، وما بعد ذلك أيضاً. وقد سبق أن تحدثنا عن هذا، لكن لما قال الإخوة: يحتاج إلى تفصيل وضبط أكثر، سنعيد من الجهم فصاعداً، نعم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وذهب الجهم بن صفوان و أبو الحسين الصالحي أحد رؤساء القدرية إلى أن الإيمان: هو المعرفة بالقلب! وهذا القول أظهر فساداً مما قبله؛ فإن لازمه أن فرعون وقومه كانوا مؤمنين، فإنهم عرفوا صدق موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام ولم يؤمنوا بهما، ولهذا قال موسى لفرعون: (( قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ ))[الإسراء:102]، وقال تعالى: (( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ))[النمل:14]، وأهل الكتاب كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبنائهم، ولم يكونوا مؤمنين به، بل كافرين به، معادين له، وكذلك أبو طالب عنده يكون مؤمناً فإنه قال:
ولقد علمت بأن دين محمد            من خير أديان البرية ديناً
لولا الملامة أو حذار مسبة            لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً
بل إبليس يكون عند الجهم مؤمناً كامل الإيمان! فإنه لم يجهل ربه، بل هو عارف به، (( قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ))[الحجر:36]، (( قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي ))[الحجر:39]، (( قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ))[ص:82]. والكفر عند الجهم : هو الجهل بالرب تعالى، ولا أحد أجهل منه بربه! فإنه جعله الوجود المطلق، وسلب عنه جميع صفاته، ولا جهل أكبر من هذا، فيكون كافراً بشهادته على نفسه.
وبين هذه المذاهب مذاهب أخر، بتفاصيل وقيود أعرضت عن ذكرها اختصاراً، ذكر هذه المذاهب أبو المعين النسفي في تبصرة الأدلة وغيره). ‏
  1. كفر فرعون وقومه بنبوة موسى وأخيه رغم معرفتهما بصدقهما

    هذه اللوازم التي ذكرها المصنف رحمه الله يلزم بها الجهم بن صفوان و الصالحي -في الأصل- ومن معهم من الذين قالوا: إن الإيمان هو المعرفة، ويلحقهم في ذلك الأشعرية والماتريدية الذين قالوا: إن الإيمان هو مجرد التصديق القلبي! وفي الحقيقة لا فرق واضح بين مجرد المعرفة ومجرد التصديق القلبي لدى العقلاء، وإنما يتبين الفرق بأعمال القلوب وبأعمال الجوارح، ولهذا احترز بعضهم فقال: إن الأمر ليس مجرد التصديق القلبي، أي: اعتقاد نسبة الصدق إلى المخبر، وأن المخبر صادق، بل زادوا على ذلك الإذعان حتى لا يلزموا بما ألزم به جهم ، فيقولون: نحن نشترط الإذعان، لكنهم جعلوا الإيمان والإسلام محلهما القلب، وكل ذلك في حدود التصديق القلبي، وزادوا عليه نسبة من الإذعان والانقياد القلبي، وليس العمل وفعل ما أمر الله تبارك وتعالى به من الأوامر، إذ إن العمل الذي عندهم قال فيه صاحب الجوهرة:
    والإسلام اشرحن بالعمل. أي: الإذعان والانقياد لعمل ما أمر الله -هكذا فسروه- وبالتالي فهذا الإلزام وارد للجميع، فهم يلزمون بما ذكر الله تبارك وتعالى في كتابه من أن هذه الطوائف تعتقد وتعرف الصدق، فهي تصدق النبي صلى الله عليه وسلم، وما جاء في شعر أبي طالب أكبر دليل على ذلك.
    فالطائفة الأولى: ذكر رأس الكفر في الدنيا، وأكبر طاغوت أفاض القرآن والسنة في الحديث عنه، بل أكثر من تحدث وأخبر عنه الله تبارك وتعالى في كتابه عن كفره وعناده فرعون عليه لعنة الله تعالى، فقد كان يعلم أن ما جاء به موسى عليه السلام حق، ولهذا خاطبه موسى عليه السلام بذلك فقال: (( قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ ))[الإسراء:102]، أي: الآيات التي أتيتك بها، والأقوال والعقائد التي أدعوك إليها: (( إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ))[الإسراء:102]، أي: مخذولاً، وإلا فهو يعلم في قرارة نفسه أن ما جاء به موسى وهارون عيهما السلام حق، وهذه قاعدة ليست فقط مع موسى عليه السلام ومع فرعون، بل مع كل من دعا إلى الله تعالى، إذ إن سبب كفر الكفار هو الاستكبار والعناد والبغي والحسد وما أشبه ذلك، وإلا فالجميع يعلم في قرارة نفسه أن الرسل صادقون، وأنهم غير كاذبين، وما بعث الله تبارك وتعالى عبداً إلى قوم من الأقوام إلا وهو من خيرتهم وأفضلهم وأكثرهم أمانة، وممن يجمع كل العقلاء في هذه الأمة على أنه غير كاذب، وأن ما يأتي به وما يقوله هو الحق من عند الله، لكن الذي يمنعهم هو الكبر، ولهذا أكثر من يتبع الأنبياء والرسل هم الضعفاء وما يسمون أراذل القوم، وأكثر من يرفض دعوة الرسل الملأ المستكبرون، وبالتالي ليست المسألة خفاء الحق أو عدم وضوحه، إنما المسألة أن هؤلاء الملأ المستكبرين يفقدون مناصبهم، ويفقدون أبهتهم، ويفقدون ترفهم، ويفقدون قيمة مكانتهم في نظرهم -وهذا حق إلى حد ما بالنسبة للحياة الدنيا- إذا اتبعوا دعوة الله وآمنوا بدين الله، لأن هذا الترف وهذا الهيلمان قائم على باطل، ودعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم تذيب هذا الباطل وتكشف زيغه وتوضح بطلانه فإذا انهار هذا الباطل بقوا بشراً كسائر البشر ليس لهم أي ميزة، لكن إذا ردوا دعوة الرسل -كما يبدوا لهم- وأظهروا للناس أنهم فعلاً جديرون بأن يظلوا محتفظين بهذه المكانة، فهذا في نظرهم هو الموقف الذي يجب أن يتخذوه، ولهذا تكررت مواقفهم: (( أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ))[الذاريات:53] وفي الحقيقة ما تواصوا، وما أوصت أمة أمة تأتي بعدها: إن جاءكم رسول فكذبوه، (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ)، أي: الطغيان هو القاسم المشترك بينهم، وهذا شأنه وحاله في أي عصر وفي أي زمان وفي أي مكان من أنه لا يقبل الحق، بل يرده ويرفضه وهو يعلم أنه حق، وكذلك كان فرعون، وكذلك كما قال الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (( مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ ))[فصلت:43]، أي: كل ما يقال لك من تكذيب أو رد أو جحود أو اتهام أو طعن فقد قيل للرسل من قبلك، إذ إنه لا جديد فيه، وهكذا تتكرر الدعوى.
    إذاً هؤلاء المستكبرون الذين يردون الحق في كل زمان ومكان، ويكفرون بآيات الله، يعلمون في قرارة أنفسهم أنه حق، قال تعالى: (( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ))[النمل:14]، أي: استيقنت أنفسهم بهذه الآيات، وعلموا أنها من عند الله، ومع ذلك كابروا وماطلوا، ولهذا في كل مرة يعاهدون الله سبحانه وتعالى لئن كشف عنهم العذاب ليؤمنن، وبعد أن يكشف الله سبحانه وتعالى عنهم العذاب يرجعون، وهذا ليس فقط في عذاب الدنيا، وما سلطه الله تبارك وتعالى عليهم من الجراد والقمل والدم والضفادع وغير ذلك مما عذبهم به الله تبارك وتعالى، بل حتى لو رأوا العذاب الأخروي -الذي هو حقيقة العذاب ومنتهاه- لعادوا لما نهوا عنه، قال الله تبارك وتعالى: (( وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ))[الأنعام:28] سبحان الله! فانظروا كيف تأصل الكفر والكبر في قلوبهم، بل حتى لو أنهم دخلوا النار وذاقوا العذاب وبقوا فيه ما شاء الله لهم، ثم تضرعوا إلى الله، وعاهدوه: إن أرجعتنا ورددتنا إلى الدنيا فلا نكفر ولا نكذب ولا نجحد، بل نؤمن ونكون من الصالحين، كما ذكر الله تبارك وتعالى عنهم في غير ما آية، ومع ذلك يقول الله تبارك وتعالى: (( وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ))[الأنعام:28]، بل يجحدون آيات الله سبحانه وتعالى، وربما قالوا: إن ما كنا فيه ليس هو عذاب جهنم، وليس هو عذاب الآخرة! بل ربما قالوا: سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون، وعادوا إلى ما كانوا عليه من التكذيب والترف واللهو حتى يأتيهم العذاب مرة أخرى، فهذا شأن الكفار جميعاً، ففرعون هو النموذج الطاغوتي البارز، وكل من حذا حذوه.
  2. كفر أهل الكتاب بالنبي عليه الصلاة والسلام مع معرفتهم بصدقه

    ثم ذكر أهل الكتاب؛ لأنه إذا كان الغالب والأظهر في تكذيب فرعون وأمثاله من الكبراء هو الكبر والاستكبار وحب المنصب، وأن يتعالى على خلق الله، ويدعي الألوهية، ويخر له الناس ساجدين، ويعتقدون فيه الباطل، فإن أهل الكتاب لهم شأن آخر، وكفر أهل الكتاب له سبب آخر وإن كانا يلتقيان، ألا وهو: الحسد، قال تعالى: (( حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ ))[البقرة:109]، فأهل الكتاب حسدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسدوا هذه الأمة، ولا يودون أن ينزل الله تبارك وتعالى عليها من خير، وما كانوا يريدون ولا يحلمون ولا يتوقعون أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم نبي آخر الزمان من غيرهم، فقد كانوا يطمعون أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم منهم، والقضية ليست أنه لو كان منهم لآمنوا به، أوليس المسيح عليه السلام منهم وكفروا به! بل وكفروا بغيره؟! لكن يريدون عذراً ومبرراً ومسوغاً، فعندهم نوع من الفرعونية من جهة أنهم أصبحوا أصحاب ملك وإن كان ليس ملكاً دنيوياً ظاهراً لكنه عظمة وملك، واستكبار من جهة الدين والعلم، فالناس يجلونهم ويعظمونهم ويقدرونهم؛ لأنهم أئمة الكتاب ولديهم العلم به، وهم الذين استحوذوا عليه، ففي أوروبا مثلاً لم يكن هنالك من يتعلم القراءة والكتابة مطلقاً إلا من يريد أو يراد له أن يصبح قسيساً فقط، أما علم غير ذلك فلا يمكن، فاحتكروا الكتاب، واحتكروا التعليم، واحتكروا تفسير كلام الله تبارك وتعالى، فهم يريدون أن يظل ذلك محصوراً فيهم، والناس ابتداءً من الإمبراطور في الدولة إلى عامة الناس يعظمونهم من أجل هذا الكتاب، ومع ذلك فإن الكفر والطغيان والحسد والبغي يغلب عليهم، فيقولون: (( مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ))[الأنعام:91]! وهذا الرسول باطل، وليس هو الذي أخبرنا الله تبارك وتعالى عنه، أو وعدنا به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى سجل عليهم هذا بقوله: (( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ))[البقرة:146]، أي: يعلمون أنه الحق، وما كان أحد من اليهود يشك في هذا أبداً، بل كان اليهود -كما ذكر الله تبارك وتعالى في الآية الأخرى- يستفتحون على الذين كفروا، والاستفتاح: هو طلب النصر أو التوعد بالنصر، فيقولون: سوف يأتي نبي آخر الزمان وينصرنا الله به عليكم، ونقاتلكم ونفعل بكم كذا وكذا، فهم كانوا يتوقعون ظهوره، وأنه إذا ظهر فإنهم سيسبقون إليه وينتصرون به على العرب الذين كانوا وثنيين، ولهذا يقول الله تبارك وتعالى: (( وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ))[البقرة:41]، وهم أصبحوا أول كافر به، بل أعظم كافر كفر به، ونشر هذا الكفر وألب العرب الوثنيين، وتعاون مع من يعبدون الأصنام والحجارة لوأد هذا الدين كما في قصة الأحزاب وفي غيرها، بل فضلوا هذا الدين الباطل الوثني على ما جاء من عند الله تعالى، فقالوا: (( هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا ))[النساء:51]، فبلغ بهم الحسد إلى حد أنهم يفضلون دين الأوثان ودين الشرك على ما جاء من عند الله تبارك وتعالى! مع أنهم يعلمون قطعاً أنه من عند الله تعالى ولا مرية ولا شك عندهم في ذلك، وهذه أخبارهم مستفيضة في السير وفي غيرها بأنهم كانوا يعلمون صفة النبي صلى الله عليه وسلم ويبشرون به، وحتى هذه اللحظة لا يزال أهل الكتاب يكتمون الحق وهم يعلمون، بل ويلبسون الحق بالباطل كما ذكر الله تبارك وتعالى في غير ما آية، ومنها: ما ذكره في سورة آل عمران في معرض مجادلة وفد نجران ، واليوم في الفاتيكان وفي دولة فلسطين المحتلة وكذلك في الحبشة وفي غيرها لديهم المخطوطات والكتب القديمة المصرحة باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال الله تبارك وتعالى عن عيسى عليه السلام: (( وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ))[الصف:6]، فمذكور في هذه الكتب اسم النبي صلى الله عليه وسلم صراحة، وبعضها مذكور مترجماً، أي: أحمد أو محمد، وبعضها مذكور بالنص القديم: (الفريقليط) أي: الكثير الحمد المحمود كثيراً، مع أننا نجد أن ما في كتبنا عن أهل الكتاب من اليهود و النصارى منشور مقروء يستطيع أي إنسان أن يطلع عليه، وليس لدينا أسرار -لأن ديننا هو الحق- نخشى أن لو خرجت لفضح ديننا وكذب ما ندعو إليه، وتبين أن علماءنا من أولهم إلى آخرهم -مثلاً- متواطئون على الكذب والعياذ بالله، لا، فليس لدينا هذا والحمد لله، أما هم فلديهم كتب خاصة لا يطلع عليها إلا خاصتهم في أكثر الأماكن التي ذكرنا، ولذلك خاصة في الفاتيكان يحرصون أشد الحرص على أن لا يخرج شيء من هذه الكتب، ولا يقع في أيدي المسلمين، ولنفرض أن المسلمين ما قرءوه ولا رأوه ولا احتجوا به، فماذا تقولون أنتم لأنفسكم؟ وما تقولون لربكم؟ ثم ألستم أنتم عندما تقرءون هذا الكلام تعلمون أن دينكم باطل، وأن دين محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق؟
    إذاً لو كان لديهم ضمير وإحساس بأن الله سبحانه وتعالى سيسألهم عما رأوا من البنيان لما سكتوا هم في أنفسهم، ولذلك نجد أن بعضاً منهم يسلم سراً ولا يريد أن يظهر إسلامه، وسيظهره الله عز وجل، لكن لكل أجل كتاب، فلا بد أن تظهر هذه الحقائق بإذن الله مهما كتموها وأخفوها وتواطئوا على إخفائها، فهذا من أكبر الباطل أن يتواطأ علماء دين من الأديان على إخفاء الحق المكتوب في هذه الكتب، وفي الأناجيل المنشورة التي تتداول بين الناس وتترجم إلى آلاف اللغات، ومع كل ما قاموا به من طمس وحذف فإن فيها إشارات إلى هذا، وما قد سمعتموه أو رأيتموه من كلام الداعية أحمد ديدات رحمه الله أو جمال بدوي أو غيرهما مما يلزمون به الغربيين إلا شيء من ذلك، ففي نفس الأناجيل الموجودة الآن المتداولة ما يدل على أنهم فعلاً يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم، ولو فكروا وعقلوا لعلموا أن هذا الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق، وأن دينه هو الحق، ومن ذلك قولهم عندما أتى رسل المسيح عليه السلام أو تلاميذه إليهم فقالوا له: هل أنت الذي ذكر في الكتب القديمة؟ فقال المسيح: لست هو، ثم -مع أنه موجود في الأناجيل- ولو أنني أدركته لحللت سيور نعليه وغسلت قدميه. على اختلاف في العبارات، أي: أن المسيح عليه السلام يقول: لست أنا الذي بشر به الأنبياء: أشعياء وحزقيال وغيرهم ممن له نبوءات قديمة، ولو أني أدركته لحللت سيور حذائه أو سيور نعليه وغسلت قدميه، إذاً فعيسى عليه السلام يقول: أنا أتشرف أن أدرك الذي بشر به الأنبياء السابقون، ولو أدركته لخدمته، فهل جاء أحد بعد عيسى عليه السلام بدين، أو بقرآن، أو بنور مبين، أو بوحي غير رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا أحد، ثم من الذي جاء وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولم يطلع على شيء، ولم يكن يتلوا قبله من كتاب ولا يخطه بيمينه لئلا يرتاب المبطلون كما بين الله سبحانه وتعالى؟ مع ذلك جاء أهل الكتاب بأخبارهم هم: (( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ))[النمل:76]، حتى الذي كان بنو إسرائيل يختلفون فيه من أحكام وأمور وأخبار -قد قص الله تبارك وتعالى في القرآن الحق، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالحق فيها، مع أن فرقهم كانت تتقاتل عليها قتالاً عنيفاً مريراً شديداً، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر بها.
    إذاً كيف يمكن لأمي أن يأتي بهذا إلا وهو رسول من عند الله تبارك وتعالى؟! ولذلك قصة سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه وأرضاه وغيرها فيها شواهد كثيرة، إذ إنه كان يوصي منهم السابق باللاحق حتى انتهى الأمر إلى آخرهم، فأوصاه برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يصدق الحديث الذي هو صحيح ثابت لا شك فيه: ( إن الله نظر إلى أهل الأرض عربهم وعجمهم فمقتهم إلا بقايا من أهل الكتاب )، أي: بقايا أفراد في الصوامع مترهبون معزولون عن الناس، ومن هؤلاء البقايا من أدركهم سلمان رضي الله تعالى عنه، فقال له آخرهم: قد آن أوان نبي آخر الزمان، وسوف يخرج في أرض ذات نخل بين حرتين، وبين كتفيه خاتم النبوة، وذكر العلامات الأخرى والتي منها: أنه يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة، ويسبق حلمه غضبه، ويقابل الجهل بالحلم، وكثير من صفات النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت من الوضوح إلى حد أنه جاء في أخبار السير: أنه لما قدم المدينة صلوات الله وسلامه عليه، وكان لا يزال هو والصديق رضي الله عنه يحول بينهما السراب، فخرج أحد أحبار اليهود وصعد على الربوة في قباء، والراكبان لا يكاد يراهما إلا من كان قوي البصر، فقال اليهودي قبل أن يعرفهما أحد: يا بني قيلة يا بني قيلة -وبنو قيلة هم الأوس والخزرج- هذا صاحبكم. فهم ما كانوا قد عرفوه ولا رأوا من هو النبي صلى الله عليه وسلم ولا يزال بعيداً، ولذلك فهم يعرفون أنه سيهاجر، وأنه سيأتي من هذا المكان، وأنه سينزل في مكان كذا، فلديهم خبره صلى الله عليه وسلم تفصيلاً، ومع ذلك ما عادى هذا الدين في تاريخه الطويل كله أحد أشد عداوة منهم، وفي كتاب الله سبحانه وتعالى الحديث الطويل عنهم الذي لا يستأثر غيرهم بمثله، ففي سورة البقرة تبتدئ الآيات من أول السورة بعد أن قسم الله سبحانه وتعالى الناس ثم ذكر قصة آدم عليه السلام، بـ: (يا بني إسرائيل …)، ويتحدث عنهم وعن كفرهم وعن تكذيبهم إلى ما شاء الله، وآل عمرن إنما أنزلت فيهم، فصدرها كله فيهم، ثم في سورة النساء، ثم في غير ما آية في غير ما سورة من الطوال ومن غيرها تتحدث عن أهل الكتاب وعن كفرهم وعنادهم وكذبهم.
  3. كفر أبي طالب رغم اعتقاده صدق النبي عليه الصلاة والسلام

    وكذلك أبو طالب نموذج آخر مما يكذب عقيدة المرجئة ويبين ويظهر حكمة لله تبارك وتعالى بينها الله عز وجل في قوله: (( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ))[القصص:56]، إنها حكمة عظيمة، إذ إن الداعية مهما حرص فليس الأمر راجعاً إلى حرصه، وأن القرابات لا تنفع، وإنما المسألة هي تقدير وهبة وإنعام وإكرام من الله سبحانه وتعالى، يكرم من يشاء بهذا الدين، ويحرم من يشاء من الخير وقد عاش فيه، كما قال ابن القيم رحمه الله: هبت عواصف الأقدار في بيداء الأكوان، فإذا أبو طالب غريق في اللجة، وإذا سلمان منا أهل البيت، أو كما قال رضي الله تعالى عنه، فهذه أقدار الله عز وجل، فسبحان الله! سلمان يأتي من أقصى بلاد فارس ويشتاق أن يرى خاتم النبوة، وأن يؤمن وأن يسلم، ويمكن الله تبارك وتعالى وييسر له ذلك فيصبح في عداد المؤمنين، وأبو طالب يحمي الدعوة، ومستحيل أن الإنسان يحمي الباطل، ومستحيل أن أحداً يحمي ما يعتقد أنه باطل، وهو كما كان حاله لم يؤمن به وليس من أهله، فأهل الباطل قد يحمون الباطل لأنهم أهله، لكن رجلاً يتطوع بحماية الباطل وهو باطل فمستحيل، لكن يعلم أنه الحق، فيتحمل الحصار في الشعب، ويتحمل أذى قريش، ويتحمل كل هذا البلاء والعناء، ومع ذلك ما كتب الله لـأبي طالب أن يسلم، إنها حكمة الله تبارك وتعالى، ولما طلب منه ذلك النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا عم! قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله ) وأخذ يكررها عليه، لكن رفقاء السوء في كل زمان ومكان مزلة ومدحضة للإنسان يزلقونه عن الخير إلى الشر، فقال أبو جهل : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فكان الخيار حينئذٍ بين ملة إبراهيم عليه السلام، ملة محمد صلى الله عليه وسلم، دين محمد صلى الله عليه وسلم الذي جاء به، والحق الذي يعلم أنه حق، وبين ما عليه الآباء والأجداد، فأخذته النخوة القبلية والاعتزاز بما كان عليه الآباء، واعتقاد أن هذا المجد المتوارث لا يمكن أن يكون باطلاً -هكذا أخلاق الجاهلية- فغلبت عليه إرادة الله، وحكمة من الله تبارك وتعالى كان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب ، فهل نفعه اعتقاده بأن النبي صلى الله عليه وسلم حق؟ ثم هو القائل:
    ولقد علمت بأن دين محمد            من خير أديان البرية دينا
    أي: أنه يقول: أنا أعلم هذا.
    لولا الملامة أو حذار مسبة            لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً
    أي: أنا لم أسمح ولم أقل حتى لا ألام وأسب، وحتى لا يقال: إنه ترك دين آبائه وأجداده، وإلا فأنا أعلم أنه حق، لكن هل نفعه ذلك في شيء؟ إذاً ما دام هذا لم ينفعه علمه بأن الرسول صلى الله عليه وسلم حق، ودفاعه عنه ونصرته له، فهل ينفع غيره ذلك ويقال: إن من عرف الحق وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ثم مات ولم ينطق بالشهادة فإنه يكون عاصياً أو يكون ناجياً أو يكون كما في كلام المرجئة فيما مضى؟ إن هذا الكلام باطل، وهو مما يرد به عليهم.
  4. كفر إبليس رغم عدم إنكاره وجود الله تعالى

    هناك نموذج آخر أوضح وأبين من فرعون ومن أهل الكتاب ومن أبي طالب ، ألا وهو إبليس أعاذنا الله من شره، فهو لم ينكر وجود الله، ولم يكن منكراً لله أصلاً، وإنما قال: (( رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي ))[الحجر:39]، بل يثبت بعض الصفات لله عز وجل فقال: (( قَالَ فَبِعِزَّتِكَ ))[ص:82].
    إذاً العزة لله سبحانه وتعالى، فهو يقسم بعزة الله ويثبت الصفة لله سبحانه وتعالى، وهو أيضاً مؤمن بالآخرة؛ لأنه قال: (( أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ))[الأعراف:14]، فهو مؤمن بوجود الله، مؤمن ببعض صفات الله، مؤمن بالآخرة، أي: بيوم البعث، فلو كان وجود هذه الأمور عند أحد كافية أن يعد مسلماً أو مؤمناً لكان إبليس أكبر المؤمنين، ثم إن إبليس لعنه الله عالم، والدليل على أنه عالم يعرف الحلال والحرام: أنه لا يعلم شيئاً حراماً إلا ويحث الناس أن يرتكبوه، ما يعلم أنه حق أو خير أو طاعة يحض الناس و يغريهم على أن يجتنبوه، إذاً هو عالم بالحلال وعالم بالطاعة، وعالم بالمعصية وعالم بالحرام، ومع ذلك لم تنفعه هذه المعرفة ولا هذا العلم من ذلك شيئاً مطلقاً؛ لأن الغرض المقصود من الإيمان ليس هذه المعرفة مع الاستكبار والإباء والعناد والمحادة لله ولرسوله، وإنما لا بد من الانقياد والإذعان والإيمان والإخلاص واليقين، نعم قد لا يستطيع الإنسان أن يقوم بهذا الدين وأن يحيطه من جميع جوانبه، لكن يجب عليه أن يلتزم به، وأن يعتقد وأن يعمل ما استطاع مما أمر الله تبارك وتعالى به، فالناس يتفاوتون، لكن لا بد من قدر ما من هذا الإيمان ومن هذا الدين، وإلا كان كل ذلك دعاوى لا حقيقة لها ولا تنفع صاحبها، إذاً كل ما عند فرعون من علم وتصديق في قرارة نفسه بما أنزل الله، أو عند أهل الكتاب من معرفة بحق هذا الدين، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم حق، وما جاء به حق، وكذلك عند أبي طالب ، وكذلك عند إبليس، كل هذا لم ينفعهم عند الله، ولم يكف في أن يكون الواحد منهم مؤمناً، أو يعد من أهل الجنة مطلقاً، والأمة كلها -والحمد لله- مجمعة على ذلك، فتبين بهذا بطلان كلام المرجئة ، ولهذا لم يستطع المرجئة أن يلتزموا هذا اللازم، ونحن لا نقول: إن هؤلاء مؤمنون، وإنما نقول: إنهم كافرون، فهذا الإجماع حجة لنا عليهم، ومهما تمحلوا في رد الإلزام فهو لازم لهم إلا أن يعتقدوا ما قاله أهل السنة والجماعة بهذا الخصوص.