يقول: (ولهذا تجد
المعتزلة و
المرجئة و
الرافضة وغيرهم من أهل البدع يفسرون القرآن برأيهم ومعقولهم) وصدق رحمه الله، والكلام هنا في استدلال
المرجئة باللغة، لكن القاعدة العامة أن كل أهل البدع كذلك، خذ مثلاً أي كتاب من كتب
المعتزلة كـ
المغني للقاضي
عبد الجبار أو
شرح الأصول الخمسة للقاضي
عبد الجبار وهو أهم كتبهم، خذ كذلك الأهم من كتب
الرافضة كـ
منهاج الكرامة ، وخذ أي كتاب من كتب أهل التصوف أو أهل البدع ستجد أنهم يفسرون النصوص على رأيهم ومعقولهم، ويدرسون المصطلحات الشرعية برأيهم ومعقولهم كما يزعمون.فـ
المعتزلة في آيات القدر في
تفسير الكشاف يؤولونها، وعند تفسير قوله تعالى: ((
مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ))[النساء:79] وغيرها من الآيات التي ضلوا وتخبطوا فيها، يقول صاحب
الكشاف: (تفسير الآية بما يوافق
أهل السنة والجماعة يخالف أصلاً عظيماً من أصولنا وهو العدل والتوحيد)، وكذلك في مسألة الصفات تعارض
المعتزلة كلام الله بالأصل الذي وضعته، ويفسرونه بمعقولهم، ويقولون: لا بد أن تفهم النصوص من خلال الأصول التي وضعوها هم، فهم يضعون الأصل ثم يحاكمون كتاب الله إلى أصلهم، ويفسرون كلام الله بمقتضاه، ولهذا لا يجد طالب العلم إشكالاً بمعرفة كتب البدعة من السنة أصلاً.فلو فتحت أي كتاب من كتب التفسير ووجدته يأتي بالآية فيفسرها بما ثبت في
صحيح البخاري ، وبما روى الإمام
أحمد في
المسند مثلاً، وبما قال
ابن عباس رضي الله عنه، وبما قاله العلماء المشهود لهم بالعلم بالتفسير تعلم أن هذا هو التفسير بالمأثور، كما هو الحال في تفاسير
أهل السنة ، فتطمئن إليها وترتاح لها، لكن إذا وجدته يتكلم في المقدمات المنطقية والعقلانية ويتفلسف بأصول
المعتزلة وغيرهم تعلم أنه من تفسير أهل البدع، نعوذ بالله في ذلك؛ لأنه يقول إما برأي معقول أو ما تؤله من اللغة. ومن ذلك القول بأن الإيمان في اللغة هو التصديق، واليد في اللغة هي: النعمة، والنزول في لغة العرب كما يعلمه الناس هو التحرك بجسم والانتقال من حيز إلى حيز آخر، وهذا لا يليق بالله، وجوابه: من قال لك: إن نزول الله سبحانه وتعالى يستلزم هذه اللوازم؟ فينفي أو يؤول أو يعطل بناءً على ما افترضه هؤلاء. يقول رحمه الله: (ولهذا تجدهم لا يعتمدون على أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين كما ذكرنا، فلا يعتمدون على السنة ولا يوجد في كلامهم وفي كتبهم شيء من السنة) ومن العجيب أنك لو ذهبت إلى الشروح الكبيرة في علم الكلام كشرح المقاصد أو غيره ووجدت حديثاً على قلة ما تجد فيه من الأحاديث ستجد أنه غالباً يفهم فهماً خاطئاً إن كان الحديث صحيحاً، وأحياناً يكون الحديث غير صحيح واستدلالهم به غير صحيح أيضاً، وهذا من جهلهم بالسنة، لكن انظر لكلامهم في المعقولات، فستجد صفحات طويلة ونقولات عن فلان وفلان، وينقلون الافتراضات والاحتجاجات، فتبحروا وتوسعوا وأتعبوا العقول فيما لا ينفع، وأعرضوا عن مصدر الخير والهدى، وهو الوحي المعصوم، ولهذا يقول قائلهم في النهاية:
نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا هذه هي الثمرة والخلاصة (قيل وقال)، ويقول بعضهم سائلاً لآخر: ألك يقين؟ أتجد اليقين؟ قال: نعم، فأخذ يبكي ويقول: والله إني أبحث عنه إلى أن أجده -يغبطه لأن لديه يقيناً- إني لأعرف المسألة في الليل فيطلع علي الفجر وأنا أقول: قال هذا، ورد هذا، وهذا احتمال ولكنه مردود من وجه، ولم يستفد شيئاً، والله تعالى ما ألجأهم إلى هذا، بل أنزل إليهم النور المبين والصراط المستقيم الذي يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، كما قالت الجن لما سمعوه، قال تعالى: ((
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا ))[الأحقاف:29] سمعوا القرآن فولوا إلى قومهم منذرين، وبينوا أنه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، فلا يضطر متبعه إلى تعب العقل في أمور مثل هذه، لكن المبتدعة لما شغلوا بما كفوا مئونته عما ينبغي أن يعملوا فيه عقولهم حصل لهم ما حصل. إن الحضارة العربية قامت على العكس مما كان عند المسلمين؛ لأن دينها باطل، فرفضت دينها، ورفضت علم الكلام الذي قامت عليه الكنيسة
الكاثوليكية، اشتغلت عقول الناس بالماديات وكفروا بالدين، ولم يطمئنوا إلى عالم الغيب الذي جاء في دينهم؛ لأنه كله باطل، فانصرفوا عن الدين إلى الدنيا والماديات، فلما اشتغلوا بالماديات أبدعوا وأنتجوا؛ لأن فيها مجالاً للعقل ومجالاً للنظر والتجربة، وهكذا حتى وصلوا إلى ما هم عليه في النواحي المادية، لكن بعض المسلمين أتعبوا العقول أكثر منهم، فالعقول الكبيرة منهم اجتهدت في موضوع الصفات والوحي والغيب وتركوا العلم التجريبي، وإن كان موجوداً غيرهم، بل هم الذين علموا الغرب المنهج التجريبي، لكن الأغلب انصرفوا إلى العلم؛ وهذا ناشئ من تعظيم المسلمين لعلم الغيب، ويعظمون المعرفة لله التي هي أسمى ما عند البشر، هذا من حيث الأصل، ولكنهم لما ضلوا الطريق الصحيح في هذه المعرفة تاهت عقولهم وضاعت جهودهم، أما الغرب فلأنه انقطع بالكلية عن الدين، وحاربت الكنيسة العلم، فوجدت الفجوة بين العلم وبين الدين، فانصرف العلماء عندهم إلى الدنيا المحضة، وهكذا بدأت حركة النهضة، وكمثال فـ
جاليلو صنع المنظار المقرب، وبدأ يرى الكواكب بشكل أكبر، والمسلمون كان عندهم مراصد؛ لكن أكبر مرصد في العالم الإسلامي كان يقوم عليه نصير الكفر
الطوسي الذي لم يستفد من هذا المرصد شيء؛ لأنه كان يرصد بناءً على عقيدة وثنية فلسفية منافية للإسلام، أما
جاليلو فكان يرصد للغربيين وهو مجرد عن أي شيء عن عالم الغيب، وينظر إلى المادة في ذاتها، ويأتي من بعده ويزيد عليه، حتى أصبحت الحضارة الغربية بالقوة التي استطاعوا أن يكونوا بها أقوى الأمم تحكماً في العالم، فالمقصود أن المبتدعة أعملوا العقول في غير ما خلقت له؛ لأنهم لا يعتمدون على الكتاب ولا على السنة ولا على إجماع السلف وآثارهم، وإنما يعتمدون على العقل واللغة، ولا يعتمدون على كتب التفسير المأثورة والحديثة وآثار السلف، وخذ أي كتاب من كتب
المعتزلة أو
الروافض فلن تجده يقول: قال
الطبري ، أو قال
مالك ، مع أنهم يقولون: نحن مالكية أو شافعية، فأين كلام أئمتهم من المالكية أو الشافعية؟!