المادة    
قال المصنف رحمه الله:
[ولكن محبة الله وخلته كما يليق به تعالى، كسائر صفاته، ويشهد لما دلت عليه الآية الكريمة ما ثبت في الصحيح عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله} يعني نفسه. وفي رواية: {إني أبرأ إلى كل خليل من خلته، ولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً} . وفي رواية: {إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً}.
فبين صلى الله عليه وسلم أنه لا يصلح له أن يتخذ من المخلوقين خليلاً، وأنه لو أمكن ذلك لكان أحق الناس به أبو بكر الصديق، مع أنه صلى الله عليه وسلم قد وصف نفسه بأنه يحب أشخاصاً، كقوله لـمعاذ: {والله إني لأحبك} وكذلك قوله للأنصار، وكان زيد بن حارثة حِبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابنه أسامة حِبَّه، وأمثال ذلك، وقال له عمرو بن العاص: {أي الناس أحبُّ إليك؟ قال: عائشة، قال: فمن الرجال؟ قال: أبوها}.
فعلم أن الخلة أخصُّ من مطلق المحبة، والمحبوب بها لكمالها يكون محبوباً لذاته لا لشيء آخر، إذ المحبوب لغيره هو مؤخر في الحب عن ذلك الغير، ومن كمالها لا تقبل الشركة ولا المزاحمة لتخللها المحب، ففيها كمال التوحيد وكمال الحب، ولذلك لما اتخذ الله إبراهيم خليلاً، وكان إبراهيم قد سأل ربه أن يهب له ولداً صالحاً، فوهب له إسماعيل، فأخذ هذا الولد شعبة من قلبه، فغار الخليل على قلب خليله أن يكون فيه مكان لغيره، فامتحنه بذبحه، ليظهر سر الخلة في تقديمه محبة خليله على محبة ولده، فلما استسلم لأمر ربه وعزم على فعله، وظهر سلطان الخلة في الإقدام على ذبح الولد إيثاراً لمحبة خليله على محبته، نسخ الله ذلك عنه، وفداه بالذبح العظيم؛ لأن المصلحة في الذبح كانت ناشئة من العزم، وتوطين النفس على ما أمر، فلما حصلت هذه المصلحة عاد الذبح نفسه مفسدة، فنسخ في حقه، وصارت الذبائح والقرابين من الهدايا والضحايا سنة في أتباعه إلى يوم القيامة]
.
  1. محبة الله وخلته ثابتة له كما يليق به

    الشرح:
    الخلة: هي كمال المحبة، كما ذكر الشارح رحمه الله -والكلام في الأصل منقول عن ابن القيم رحمه الله- واستشهد بقول الشاعر:
    قد تخللت مسلك الروح مني            ولذا سمي الخليل خليلا
    فالخلة في لغة العرب: هي غاية المحبة وكمالها، وجاء الشرع والدين شاهداً لذلك، ولهذا نجد الأحاديث التي سنذكرها إن شاء الله تعالى تدل على اختصاص الرسول صلى الله عليه وسلم والخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام بصفة الخلة دون غيرهما.
    يقول المصنف رحمه الله: [ولكن محبته وخلته كما يليق به تعالى] عندما نرد على الذين يقولون: إنه لا يُحِبُّ ولا يُحَبُّ، وأنه لا مناسبة بين الخالق والمخلوق، حتى يكون بينهما محبة، أو كما يقول الذين يؤولون صفات الله: إن الله تعالى لا يُحِبُّ لأن المحبة انفعال وعاطفة، قلنا لهم: نعم، هذه هي المحبة البشرية، ولكن محبة الله تبارك وتعالى وخلته -كما يليق بجلاله- لا تستلزم ولا تستدعي ما ترونه نقصاً بالنسبة لمحبة المخلوقين، فالله تبارك وتعالى كما أن ذاته لا تشبه الذوات، فكذلك صفاته لا تشبه الصفات، فاستواؤه وكلامه ونزوله، وجميع صفاته لا تشبه ما ينطبق على المخلوقين إذا وصفوا بذلك.
  2. لا يوصف الله تعالى ولا رسوله بالعشق

    المحبة والخلة صفتان ثابتتان لله تعالى ولكن زاد أهل الضلال والتصوف صفةً ينسبونها إلى الله أو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي العشق يقولون: (العشق الإلهي) كما كتب الدكتور عبد الرحمن البدوي كتاب رابعة العدوية شهيدة العشق الإلهي مثلاً.
    فهل يوصف الله سبحانه وتعالى بهذه الصفة؟ لا يجوز أن يوصف الله بهذا الوصف، ولا يجوز أن يقال: عشق الله فلاناً، وكذلك لا يجوز أن يقال: إن فلاناً عشق الله، بل ذلك لا يليق بالنبي صلى الله عليه وسلم أيضاً، فهذا الوصف لم يثبت أولاً لا في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من السلف، وإنما نقله الصوفية من كلام مجانين العرب (مجانين العشاق) والسبب: أن هذه الصفة صفة نقص لا صفة كمال -وقد علمنا أن القاعدة العامة في صفات الله سبحانه وتعالى تنص على أن أي صفة كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه تطلق على الله سبحانه وتعالى، لأن باب الوصف أعم من باب التسمية- حتى أن العشق في حق المخلوقين من صفات النقص، وإن كتب من كتب، وألف من ألف في العشق وقال: إن العشق كمالات وفضائل، فكل هذا الكلام لا قيمة له في ميزان أهل الكمال الحقيقي، أو في ميزان أهل الحكمة وأهل الأخلاق الحقيقية، فالعشق صفة نقص، فلا يوصف به الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما ما يقوله الصوفية وأشباههم، وما يردده العامة وخاصة في حق الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا من المنكر الذي يجب أن يحمى جنابه صلى الله عليه وسلم منه، كما يكتبون على اللوحات من العبارات: (عاشق النبي يصلي عليه) اللهم صلِّ وسلم عليه!! ولو قالوا: محب النبي صلى الله عليه وسلم، لكان خيراً لهم من قولهم: عاشق النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الصوفية عندما رأوا أن العرب يتعلقون ويتولهون بمحبة مخلوقة من البشر قد لا تساوي شيئاً، ورأوا أن هذا واقع في حق الناس، قالوا: الأولى أن ينصرف هذا إلى الله وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم بإطلاق، دون أن ينظروا هل في ذلك نقص، وهل ذلك يليق بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم أو لا يليق؛ ومن هنا امتلأت دواوين وكتب التصوف بما في دواوين الغزل عند العرب، وأكثر من ذلك ابن الجوزي رحمه الله في مواعظه، فكان يأتي بأبيات مهيار و يستعير معناها، وكذلك ابن القيم رحمه الله ينقل بعض الأبيات لكنه يأتي بها على سبيل الاستعارة، كأبيات المجنون عندما يتحدث عن محبوبته وعن ديارها، فيستعيرها ابن القيم رحمه الله إلى مكة وإلى الكعبة وإلى المشاعر وما أشبه ذلك، لكن الصوفية خرجوا عن ذلك حتى أصبحوا يخاطبون الله سبحانه وتعالى، فخرجوا عن المألوف في كون ذلك استعارة إلى أن صاروا يخاطبون الله سبحانه وتعالى ويتعبدونه، ويبتهلون إليه بأبيات غزلية كما كان الشبلي يقول:
    إن بيتاً أنت ساكنه            غير محتاج إلى السرج
    وجهك المأمول حجتنا            يوم يأتي الناس بالحجج
    فـالشبلي سمع رجلاً يتغزل في جارية أعجبته، فقال هذا الكلام فيها:
    فأعجبت الشبلي هذه الأبيات فأصبح يناجي الله تعالى بها.
    ولا يصح مثل هذا، ولو أنها بقيت على سبيل الاستشهاد أو الاستعارة أو النقل لقبلت، أما إذا خرج الشيء عن حده فإنه لا يجوز، والمقصود أن وصف العشق لا يطلق على الله تبارك وتعالى، ولا على الرسول صلى الله عليه وسلم، بخلاف المحبة والخلة فإنهما ثابتتان في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكذلك الغيرة وسنذكر أدلتها لاحقاً إن شاء الله.