المادة كاملة    
ما زال الكلام في هذا الدرس يتحدث عن الإسراء والمعراج، فقد سلّط الضوء على بعض الكتب المؤلفة في هذا الموضوع، مع بيان المزالق التي وقعوا فيها، والفلسفات التي جالت في خواطرهم أثناء الحديث عنه.
  1. نقد الكتب التي تحدثت عن الإسراء والمعراج

     المرفق    
    أشرنا فيما مضى إِلَى ملاحظات عَلَى كتاب الإسراء والمعراج لرياض العبد الله ولكن نظراً للشبهات التي تثار في هذا الموضوع وفي أمثاله، فسنزيد في ذلك، وقد وجدنا أن كثيراً ممن كتب في هذا الموضوع وقعوا في أخطاء ينبغي أن ننبه النَّاس عليها، فلهذا أحببنا أن نجعل من حديثنا هذا مراجعةً نراجع فيها معلوماتنا السابقة عن الإسراء والمعراج من خلال نقدنا لبعض ما كتبه هَؤُلاءِ الناس.
    ولكي نعرف أن أمور العقيدة وأمور الغيب ضرورية، لابد من معرفتها، ولابد أن يتكلم فيها بالعلم
    ، وأنه لا بد أن ترفع شبهات الملحدين والجاهلين والشاكين في العلم، فإنه لا يُصلِح الجدلَ والبدعة والانحرافَ إلا العلم الصحيح. فإذا كَانَ الأمر متروكاً لكل من شاء أن يتكلم كما يشاء، فهذا هو الذي دمر الأمة الإسلامية، وفرقها، وضيعها، فلم تستبن معالم دينها، وأصبحت تتخبط عَلَى غير هدى، حتى أصبح كل ناعق ينعق بما يشاء، ويمكنه أن يجتال عَلَى طائفة من هذه الأمة، ويذهب بها بعيداً عن الصراط المستقيم.
    فقد كتب مجموعة من النَّاس وتحدثوا عن الإسراء والمعراج ولا سيما الموضوعين المهمين وهما، الأول: موضوع رؤية الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وكثير من النَّاس لا يستطيع أن يفهم هذه الرؤية ولا يتبينها، لأنه لم يرجع إِلَى المصادر الصحيحة من كتب العقيدة الصحيحة، فيعرف حقيقة هذه الرؤيا كما قد سبق.
    والقضية الثانية: قضية العلو، وقد تقدم قول المصنف: إن في حديث المعراج دليل عَلَى ثبوت صفة العلو لله تَعَالَى من وجوه لمن تدبر، فهذان الموضوعان: موضوع الرؤية، وموضوع العلو كثيراً ما يلتبس عَلَى النَّاس فهمهما وفقههما، حتى أصبحنا نسمع ونجد من يزعم أنه يرى الله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - في هذه الحياة الدنيا كما يشاء أو يرى العرش، وأن ذلك نتيجة ولايته أو أنه كرامة له.
    1. كتاب الإسراء والمعراج لمحمد سعيد

      في هذا الكتاب وهو الإسراء والمعراج لمؤلفه مُحَمَّد سعيد زبير -الطبعة الثانية- 1405 هـ.
      جمع فيه أقوال بعض المشايخ الذين أخطأوا في هذه الأمور، كنموذج لنراجع معلوماتنا، ونعرف كيف نستطيع من خلال العلم الصحيح والمعرفة الصحيحة أن ننقد ما يخطئ فيه بعض الناس، نتيجة الجهل أو نتيجة الانتماء إِلَى منهج من مناهج أهل البدعة والضلال.
      وقد اقتصرنا في النقد عَلَى الأشياء الأساسية المتعلقة بالعقيدة، في صـ 10 يقول المؤلف مفخماً العنوان: "كيف تلقت قريش نبأ الإسراء والمعراج".
      فَيَقُولُ: "في صبيحة السابع والعشرين من شهر رجب الخير، وقبيل الهجرة تقريباً عَلَى أرجح الأقوال" ذكر المؤلف هذا التاريخ، ولم يثبت أن هناك تاريخاً معيناً للإسراء والمعراج لا يوماً ولا شهراً ولا سنة محددة؛ بل نَحْنُ مع الحافظ ابن حجر رَحِمَهُ اللَّهُ حيث يقول: إن هناك أكثر من عشرة أقوال مختلفة في تحديد هذا اليوم.
      وإذا قلنا: إنه في اليوم السابع والعشرين من رجب فمعنى ذلك أننا نفتح مجالاً للبدعة المعروفة وهي بدعة الرجبية، والاحتفال بهذه الليلة، ويسمونها: ذكرى الإسراء والمعراج، وهذه البدعة منتشرة في أكثر أنحاء العالم الإسلامي، فلماذا لا يكتب عنها ولا يتحدث عنها بالتفصيل؟!

      وسؤال آخر: لو ثبت أنها كانت في ليلة السابع والعشرين فهل يجوز أن نحتفل بها؟ فالقضية مركبة من أمرين:
      أولاً: لم تثبت.
      وثانياً: لو ثبتت لما جاز لنا أن نحتفل بها،
      وكذلك لا تجوز صلاة الرغائب التي تخصص في هذه الليلة.
      فالبدع إذا فتح بابها لا تنتهي عند حد، والطريق المستقيم واحد ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ))[الأنعام:153] فإذا خرج المرء أو الطائفة عن الصراط المستقيم، فمن الممكن أن يذهب ذات اليمين وذات الشمال، فلا يبالي به الله في أي وادٍ هلك.
      وفي صـ40 خطأ بسيط ولكن نذكره حتى يكْشف لنا عن مدى علم صاحبه يقول عن قضية الرؤية: "ويرد عَلَى ذلك شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ في زاد المعاد"، فإذا كَانَ لا يدري أن زاد المعاد لـابن القيم فهذا دليل عَلَى أنه لا يوثق بمثل هَؤُلاءِ الذين لا يعرفون أبسط وأسهل المراجع التي يعرفها كل طالب علم.
    2. وقفة مع الشيخ الشعراوي

      وفي صـ 42 يقول: "يقول الشيخ الشعراوي: "أنا شخصياً لست مع المفسرين الذين يفسرون بأن المدنو منه هو جبريل؛ والدنو منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن جبريل كَانَ مع الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما دام جبريل معه فكيف يدنو منه، فكان قاب قوسين أو أدنى؟ ذلك ملحظ آخر يعطينا أن الدنو في ((دَنَا فَتَدَلَّى)) شيء آخر من ربه أو ربه منه إيناساً بما يكون من رؤيته للحق أو من كلام الحق له" هذا الكلام موجود في صفحة 63 من كتاب الإسراء والمعراج اعداد وتقديم رياض العبد لله من كلام الشعراوي، ووجه الخطأ في هذا الموضوع هو أولاً: يقول أنا شخصياً لست مع المفسرين الذين يفسرون دنا بأن المدنو منه هو جبريل، يقول: لأن جبريل كَانَ مع الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فما دام أنه معه فكيف يدنو منه؟!
      والجواب أن الآية في دنو جبريل من مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غير الإسراء والمعراج.
      وقد سبق أن قلنا: إن المُصنِّف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: [وأما قوله تَعَالَى في سورة النجم ((ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى)) [النجم:8] فهو غير الدنو والتدلي المذكورين في قصة الإسراء -المذكور في حديث شريك الذي هو ضعيف مضطرب- فإن الذي في سورة النجم هو دنو جبريل وتدليه كما قالت عَائِِِشَةَ وابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- فإنه قال سبحانه: ((عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى)) [النجم:5-8] فالضمائر كلها راجعة إِلَى هذا المعلم الشديد القوى، وأما الدنو والتدلي الذي في حديث الإسراء؛ فذلك صريح بأنه دنو الرب تَعَالَى وتدليه] وجواب الإشكال الذي ذكره بعض المفسرين من أنه: كيف يدنو منه جبريل وهو معه عُرِجا معاً؟ بأن هذه الآية في قضية أخرى غير قضية الإسراء والمعراج.
      وهي المرة الأولى التي رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها جبريل في الأرض عَلَى خلقته التي خلقه الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عليها في الأرض، ولو استمرينا في الآيات لوجدنا أن هذا واضح وجلي يقول سبحانه: ((وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى)) [النجم:13] أي: نزلة ثانية كما في الصحيحين، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى جبريل عَلَى خلقته التي خلقها الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عليها له ستمائة جناح قد سد الأفق، ينزل من السماء فدنى من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذه هي النزلة الأولى، ثُمَّ رأى مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جبريل عَلَيْهِ السَّلام مرة أخرى عند سدرة المنتهى وليس هناك دنو ولا تدلي فزال هذا الإشكال.

      ثُمَّ يقول في صفحة 43: والقائلون بالرؤية يقولون: إن الرؤية ثابتة والكيفية مجهولة كما يرون أن رؤية الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لا تكون عَلَى حقيقته جل شأنه، بل تكون عَلَى صورة تتناسب مع قوة احتمال المشاهد وإيمانه.
      وفي ذلك يقول الدكتور عبد الحليم محمود: " أنا أقول برؤيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لربه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وبدنوه منه سبحانه عَلَى الوجه اللائق، ويقول: إن كلمة عَلَى الوجه اللائق تفض كل نزاع، والله أعلم" نقل المؤلف عن الدكتورعبد الحليم محمود وهو معروف بالتصوف وأكثر كتبه في ذلك، فَيَقُولُ: "أنا أقول برؤيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لربه سبحانه" وقبل هذا يقول المؤلف: إن رؤية الله -تعالى- لا تكون عَلَى حقيقته، فهي تقع ولكن تكون عَلَى كيفية أو عَلَى هيئة تتناسب مع قوة إدراك المشاهد، وهذا الكلام فيه إجمال، ما المقصود بهذه الرؤية؟ إن كانت الرؤية في الدنيا فلها كلام، وإن كانت في الآخرة فلها كلام، فإذا قلنا: إن المقصود هو رؤية الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- في الدنيا فإن الأولياء والأقطاب -كما هو في كثير من كتب الصوفية- يزعمون أنهم يرون الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- في هذه الدنيا فبماذا نجيب هَؤُلاءِ الناس؟
      نقول: إن أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ من عهد الصحابة -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم- إِلَى اليوم مجمعون عَلَى أنه لن يرى أحدٌ ربَّه -عَزَّ وَجَلَّ- في هذه الحياة الدنيا بالإطلاق، إلا أن الخلاف قد وقع في حق الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقط، ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه رأى ربه - عَزَّ وَجَلَّ - حتى في المنام، إذاً كلامهم هذا باطل، ولا شك في ضلال من زعم ذلك، وإنما قد يكون الشيطان لبسَّ عليه فأراه أشياء أو ظهرت له أنوار أو خيالات، فَقَالَ له: إني أنا الله أو أنا ربك أو زعم أن هذا هو ربه.
      بل حتى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يرَ ربه بعينه كما في حديث أبي ذر لما سأله {هل رأيت ربك يا رَسُول الله؟ فقَالَ: نور أنَّى أراه} وفي الحديث الآخر يقول: {حجابه النور} فهو محتجب بالنور -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فلم يره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعين، وإن من قَالَ: إنه رآه كـابن عباس -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما- مقصوده: أنه رآه بفؤاده أي: رآه بقلبه.
      ومن ذلك حديث: {رأيت ربي في أحسن صورة} فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم ير ربه - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - بعينه في الحقيقة، وإنما كَانَ يقول في ليلة الإسراء {رأيتُ نوراً}
      والمقصود أن ابن عباس-رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- يقول: "رؤيا عين" أي: ليست رؤيا منام في قوله تعالى: ((وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ))[الإسراء:60] أي: ما حصل ليلة الإسراء والمعراج كَانَ رؤيا عين بالحقيقة وليس مناماً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والكلام هنا ليس في رؤية الله، وإنما رؤية ما حدث في ليلة الإسراء والمعراج من المرائي التي رآها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدنيا، وفي كل سماء إِلَى أن وصل إِلَى سدرة المنتهى.
      وإن كَانَ المقصود رؤية الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- في الآخرة، فهذا أمر خارج عن موضوع السياق هنا والله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- إنما يتجلى لعباده، وينعم عليهم بلذة النظر إِلَى وجهه الكريم في الآخرة، وبلا شك أن حال الآخرة غير حال الدنيا، فأهل الجنة يعطون من القوة عَلَى الإدراك -والقوة عامة- غير هذا الضعف الذي يعيشونه في هذه الحياة الدنيا، ثُمَّ نقل أن الدكتور عبد الحليم يقول: "أنا أقول برؤيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لربه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وبدنوه منه سبحانه عَلَى الوجه اللائق" أيضاً يقول: إن الله تَعَالَى دنى من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذا الكلام أيضاً موافق لما سبق أن بينا خطأه، ثُمَّ يقول: " إن كلمة عَلَى الوجه اللائق تفض كل نزاع" والصحيح أننا نستخدم كلمة عَلَى "الوجه اللائق" في الشيء الثابت نقله، كصفة تثبت لله تعالى، نقول في ذلك عَلَى الوجه الذي يليق بجلاله بلا تكييف، لكن هذا لم يثبت، فإن ما ورد في تلك الرواية المضطربة لا يصلح به الاستدلال عَلَى مثل هذا القول
      .
      وأصل الخطأ في مثل هذه الأمور، هو الرجوع إِلَى غير هدي السلف الصالح الذين يأخذون كلامهم من كتاب الله وسنة رسوله وإجماع سلف الأمة.
      فهذا كلام أئمة التصوف ويدلنا عَلَى ذلك ما نقرأ في صفحة (78) يقول في فقرة عنوانها: "الوصول إِلَى الله" أي: أن من حِكَم الإسراء والمعراج موضوع الوصول إِلَى الله، يقول: عبد الحليم محمود: "بعد وصول الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ربه تعالى، أصبح هدف السالكين إِلَى الله الوصول إِلَى جنابه، والوصول إِلَى الله يعني زوال القلق والاضطراب النفسي، وزوال همَّ الرزق والخوف من الموت، وزوال كل ما يصرف الإِنسَان عن الله تعالى، وزوال كل ما يشغل بؤرة تفكيره عنه، كما يعني من جانب آخر الرقي الروحي الدائم، والفيوضات الإلهية المستمرة، والمعرفة اللدنية المتتالية، والرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصل إِلَى هذا المنتهى وأمر أن يقول: ((وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً))[طـه:114] وزيادة العلم في عرف أولياء الله إنما هو زيادة السعادة، من أجل ذلك قال أحد العارفين: نَحْنُ في سعادة لو عرفها الملوك لجالدونا عليها بسيوفهم".
      فهذه جملة من الأخطاء المركبة التي ينبغي أن توضح، وأمثال هذه العبارات الأدبية المجملة الموهمة تدخل تحتها منافذ البدع المؤدية إليها، فأول شيء يفهم من قوله: "بعد وصول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ربه أصبح هدف السالكين إِلَى الله الوصول إِلَى جنابه" معنى ذلك: أن الصحابة -رضوان الله تَعَالَى عليهم- قبل حادثة الإسراء والمعراج كَانَ هدفهم أن يعبدوا الله من أجل أن يدخلوا الجنة ويفوزوا برضوان الله، فلما جاءت هذه الحادثة وبلَّغهم إياها -النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -قالوا من الآن- يصبح هدفنا أننا نصل إِلَى جناب الله وهذا الكلام غير صحيح، لأن الصحابة -رضوان الله تَعَالَى عليهم- لم يكونوا يعتقدون ذلك.
      فالسالكون أناس غير الصحابة، فالصوفية في القرن الثالث وما بعده سموا أنفسهم "السالكين" ويقولون: إن أهم شيء هو الوصول، فأول ما يبتدأ الإِنسَان به في طريق التصوف يسمى مريداً ثُمَّ سالكاً ثُمَّ واصلاً، فيكون هدف السالكين الوصول، والوصول له معنى آخر لا علاقة له بقضية الإسراء والمعراج، ولا بما حصل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ بين الوصول بكلام آخر يقول: "والوصول إِلَى الله يعني زوال القلق والاضطراب النفسي وزوال هم الرزق والخوف من الموت، وزوال كل ما يصرف الإِنسَان عن الله تعالى، وزوال كل ما يشغل بؤرة تفكيره عنه".

      وهنا انتقل إِلَى موضوع آخر هو: زوال القلق والهم والاضطراب وكل ما يصرف الإِنسَان عن الله تَعَالَى -مع التجاوز عن العبارات التي تحتمل معانٍ مجملة- هذا الذي ذكره يمكن أن يقع لكل إنسان يعبد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ويؤمن به ويطمئن بقدره -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- راضياً بما كتبه الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كما قال تعالى: "((أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)) [الرعد:28] وهذا أمر يحصل لكل من آمن بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ بل يحصل ذلك للإنسان بقدر ما يزداد إيمانه، لكنه يريد أن يربط القضية بشيء آخر.
      يقول: "كما يعني من جانب آخر" أي: ليس هذا هو الجانب الذي كل المؤمنين يشعرون به، وإنما هناك جانب آخر للمسألة "الرقي الروحي الدائم، والفيوضات الإلهية المستمرة، والمعرفة اللدنية المتتالية" التي يسمونها أحياناً التجليات والفيوضات والمشاهدات والكشوفات، ألفاظ مترادفة، تعني ما يقع في قلوب هَؤُلاءِ العباد الزهاد، أو في خيالاتهم عندما يظنون أنهم في تلك الحالة يبلغون درجة عالية من الإيمان بالله سبحانه،ومن هذا المدخل تدخل قضايا خطيرة جداً، كما مر معنا في مسألة التوحيد أنهم يقسمون التوحيد إِلَى ثلاثة أنواع: توحيد العامة، وتوحيد الخاصة، وتوحيد خاصة الخاصة، وهذا هو الوصول.
      فالواصلون: هم الذين بلغوا توحيد خاصة الخاصة. يعني: أصبح الأمر عندهم كما يذكر هنا "أمر رقي روحي" فأصبحت هناك فيوضات، وكشوفات، وتجليات، ومشاهدات، ينقطعون بها عن الدنيا والخلق، حتى يصل الأمر من بعضهم - نسأل الله العفو والعافية - إِلَى أن يترك الجمعة والجماعة ويقول: "الذي قلبه مع الله دائماً: كيف يشتغل بهذه العبادات؟!" وهذا غاية الضلال.
      وجعلوا توحيد الأَنْبِيَاء من نوع توحيد العامة، وإن ترقَّوا: قالوا من توحيد الخاصة، أما خاصة الخاصة: فهم الذين يتلقون من الله مباشرة، ويبلغ بهم الكفر إِلَى أن يقول أحدهم: ذات الحق سبحانه تجلت فيه، أو أنه هو الله، تَعَالَى الله عما يقول المبطلون والظالمون علواً كبيراً.
      فأمثال هذه العبارات المجملة الموهمة: هي التي يدخل منها هَؤُلاءِ، ليقرروا عند النَّاس تلك الضلالات الخطيرة، التي لو اعتقدها الإِنسَان ووقرت في قلبه لكان خارجاً من دين الإسلام!!

      ثُمَّ يقول الكاتب: والرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصل إِلَى هذا المنتهى، ((عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى)) [النجم:14] فكأن المسألة فيها تأويل لقضية المعراج من أصلها فالمعراج رقي روحي، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ترقى في الوصول إِلَى الله بالفيوضات، وبالمعرفة اللدنية حتى وصل إِلَى المنتهى.
      ثُمَّ يقول: وأُمر أن يقول: ((وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً)) [طـه:114] والذي يدل عَلَى أن المسألة تأويل قوله: "وزيادة العلم في عرف أولياء الله إنما هو زيادة السعادة" أين العلم من السعادة؟ يعني: ((وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً)) أي: ربي زدني سعادة من فيوضاتك وتجلياتك ومعرفتي اللدنية بك والأمر ليس كذلك، فقوله تَعَالَى لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً)) كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين}.
      وليس الأمر مجرد السعادة أو النشوة الروحية التي تحصل للإنسان، إنما هو العلم الذي هو علم بالله وبأحكامه من الحلال والحرام، فلا شك أن معرفة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هي رأس العلم، كما أن الفقه في ذلك هو الفقه الأكبر، المتلقى عن طريق الوحي والأدلة، والإيمان به إيماناً صحيحاً كما أخبر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وليس مجرد تأملات ولا نشوات، يُقَالَ: إنها فيوضات وتجليات ترد عَلَى القلب، ولذلك يدعي كل قطب أو ولي أنه تجلى له مالم يتجلى للآخر، وكلامهم في هذا يختلف، فكل منهم يدعي أن ربه تجلى له وقال له شيئاً لم يقله لغيره، وهذا الاختلاف يدل عَلَى أنها تصورات ذاتية خيالية، بحسب ما يفكر الواحد منهم وما يهتم به، تأتيه هذه الأمور، أما العلم بالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- العلم الحقيقي، فإنه يأتي في القُرْآن وفي السنة، ويفهمه الصحابة والسلف الصالح فهماً صحيحاً فلا يختلف أبداً
      .
    3. كلمات نورانية لشيخ الإسلام ابن تيمية

      وأما قول الكاتب: من أجل ذلك قال أحد العارفين: نَحْنُ في سعادة لو عرفها الملوك لجالدونا عليها بسيوفهم، هذه العبارة منقولة عن بعض السلف الصالح.
      يوضح ذلك قول شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ كما نقل عنه ذلك ابن القيم -رَحِمَهُ اللَّهُ- في المدارج يقول: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة"، والمقصود أن السلف الصالح يذكرون الله ويناجونه بالمشروع من العبادات، كقيام الليل، وذكراً بما ورد، فتحصل لهم الطمأنينة التي ذكرها الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: ((أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)) [الرعد:28] وتحصل هذه السعادة لمن يتبع الذكر((فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى)) [طـه:123-124].
      تكفل الله تَعَالَى للمتقين أن لا يضلوا عن الطريق المستقيم ولا يشقوا لا في الدنيا ولا في الآخرة، كما قال شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: "ما يصنع أعدائي بي". ينتقمون مني بأي طريقة: ثُمَّ بين ذلك فقَالَ: "سجني خلوة" أي: إذا سجنه أعداؤه، فهذه خلوة يتمناها العلماء، ولا سيما العارفين العباد، الذين يعرفون حقيقة العلم وحقيقة العبادة وحقيقة التقوى، فهم يتمنون أن تحصل لهم الخلوة من مشاكل الدنيا، ومشاغلهم من هموم الأبناء والزوجة والناس، فيخلون في مكان يذكرون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
      "ونفيي سياحة" أي أنه لو نفي ربما يكون انتقلت أعماله وأعباؤه فلا يستطيع أن يرى ما هو خارج بيته، لأن النَّاس يفدون عليه ويأتون إِلَى بيته، وفي مسجده، فلا يرى شيئاً. فإذا نفي إِلَى جزيرة نائية، قد يرى من عجائب خلق الله -عَزَّ وَجَلَّ- ما يكون فيه راحة ومتعة وسعادة.
      قَالَ: "وقتلي شهادة" أي: وإذا قتل فالْحَمْدُ لِلَّهِ هذه الشهادة، وماذا يريد المؤمن أعظم من أن ينال الشهادة نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعلنا من أهلها.

      فهذه هي السعادة التي يتكلم عنها علماء السلف فيقولون: "لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نَحْنُ فيه من السعادة لجالدونا عليها بالسيوف" يعني: لو يعلم أصحاب الدنيا والمال والملك والجاه والسلطان لقاتلونا عليها، لأن السعادة في نظرهم هي التمتع بملاذ الدنيا من أكل وشرب ونساء، وهذه هي الغاية التي يريدونها من السعادة.

      وأكثر النَّاس يبحثون عن السعادة، لكن طريقهم ليس هو طريق السعادة؛ لأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- جعل الحياة الدنيا طريق الشقاوة، "شقاوة المعيشة والضنك" عَلَى أرجح التفسيرين: ومعايش: جمع معيشة وهي الحياة، وبعدها ((وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى)) [طـه:124].
      الحياة الدنيا معيشة ضنكا، وهذا أرجح من أن نقول: إنها في القبر، ثُمَّ يَوْمَ القِيَامَةِ يحشر أعمى، فأين السعادة وأين الطمأنينة!! يبحثون عنها فلا يجدونها ولو أن أحداً من هَؤُلاءِ النَّاس في أثناء بحثه عن السعادة قيل له: صلِّ في جوف الليل، واحضر مجالس الذكر والعلم، وحافظ عَلَى صلاتك في الجماعة، وغير ذلك من الطاعات، فإن الشيطان يخيل له أن هذا هو غاية الشقاوة.
      فهو فار من الشقاوة، ويريد الرفاهية والطمأنينة والسعادة، ووالله لو دخل في الطاعة لوجد ما يسعى إليه، ولو قيل لمن أقبل عَلَى الله يذكره ويطيعه: ما هي السعادة التي تشعر بها؟ لقَالَ: نَحْنُ في سعادة ولو علم الملوك وأبناء الملوك ما نَحْنُ فيه لجالدونا عليه بالسيوف.
      وهذه السعادة ليست مرئية واضحة، لكن إذا كَانَ عندك عمارة ثلاثين دوراً فإن كل النَّاس - التجار والأغنياء والملوك - يقولون: ليت عندنا مثله؛ لأنهم يرونها، لكن طمأنينة القلب لا يراها أحد، فيتصورون أنك تعيش في ضيق، وفي ألم، ولا يعلمون أنك تجد الراحة العظيمة في ترفعك عن هذه الشهوات التي لو عرضت عليك عرضاً لأبيتها، ولو عرضت عليك وأعطيت معها ملايين الدنيا لأبيت.
      ولو وجدتم مَنْ مَنَّ الله عليه بالهداية لتعجبتم منه، يخبركم: كيف كَانَ في حالة المعصية! وكيف كَانَ يبحث عن اللذة والشهوة في كل مكان! فلا يجد إلا الشقاء والخسارة والنكد والضيق في الحياة، والهم الذي لا يفارقه، فلما آمن واطمأن بالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أصبح يرى السعادة الحقيقية، ولو فقد هذا المؤمن التقي ابنه أو زوجه فإنه يطمئن إِلَى قول الله تعالى: ((الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)) [البقرة:156-157] ويفرح لأنه موعود بصلوات من الله، ورحمة، وهداية، ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، إن لله ما أخذ وله ما أعطى، فيجد الطمأنينة والراحة في موقف ألم وبكاء وحزن
      ، لكن الذي لا يؤمن بالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لا يشعر بهذه السعادة، فإذا غيرته المعشوقة وعشقت أو هويت غيره انتحر.
      وهذه الصفقة التجارية التي كَانَ يؤمل فيها حصلت فيها الخسارة فانتحر والعياذ بالله، فكل شخص غير مؤمن قابل أن يبيع نفسه بأرخص الأثمان؛ لأنه كما قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ)) [الحشر:19]، لما نسي الله أنساه نفسه، فيعيش في قلق واضطراب وتخبط، يعمل لكل شيء إلا لنفسه، فلما نسي ربه، أنساه الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نفسه، فهو يجمع المال للورثة {يقول ابن آدم: مالي مالي} -هكذا يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هكذا حال النَّاس والحقيقة: ليس لك يا ابن آدم إلا ما قدمت فأبقيت، أو أكلت فأفنيت، والباقي للورثة، لا يهنأ بلذة في ماله وملكه.
    4. كيف كانت رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه؟

      لم ير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- إلا مناماً بفؤاده، والرؤية بالفؤاد: هي التي تفسر لنا أنه رآه مرة في المنام في الدنيا، ومرة عند سدرة المنتهى وإذا قلنا: إن موسى -كليم الله- قد سأل ربه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن يراه، ومع ذلك قَالَ: ((لَنْ تَرَانِي))[الأعراف:143].
      ويقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن أحدكم لن يرى ربه -عَزَّ وَجَلَّ- حتى يموت} فهذا مما يدل عَلَى أنه لا يرى أحد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في الدنيا ولو كانت الرؤيا ممكنة فلماذا نقول: لم يره موسى عَلَيْهِ السَّلام؟ فهو لما منع من الرؤية، قال الله تَعَالَى له:((لَنْ تَرَانِي))
      وكان من الممكن أن يعوض عنها في المنام؛ لأن رؤيا الأَنْبِيَاء عليهم السلام حق ووحي.
      فإذا جَاءَ في آخر الزمان رجل وقَالَ: أنا أرى الله -عَزَّ وَجَلَّ- وصدقناه فقد قلنا: إنه يحصل له مالم يحصل للأنبياء، وكذلك نفهم من إطلاق حديث: {إن أحدكم لن يرى ربه عز وجل حتى يموت} أنه لن يراه في الدنيا أحد، ويدل عَلَى هذا أيضاً اختصاص المؤمنين برؤية الله في الجنة.
      وهناك كتاب اسمه الرؤى والأحلام تأليف الشيخ أحمد عز الدين يقول فيه: "اتفق العلماء عَلَى أن الصالحين يرون الله تَعَالَى في المنام" فقوله: "اتفق العلماء" هذه كلمة عظيمة وخطأ كبير فاحش، لا يجوز أن يقَالَ: وقع الاتفاق، وإنما وقع في كلام بعض العلماء ما قد يشعر بذلك، ولكن لو عرضنا ذلك عَلَى الأدلة الصحيحة -كما سبق- لما ثبت من ذلك شيء، ونقول: يكفينا أنه لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين أنه رأى ربه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في المنام، ولو أن أحداً حصلت له وكانت رؤيا حقيقة أي: مناماً حقيقياً وليست تلبسيات شيطانيه لشارك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك.
      فنقول: إنه لا يصح أن أحداً رأى ربه - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - في المنام، وما قاله بعض العلماء فإنه عَلَى سبيل التنزل مع أصحاب التصوف وأمثالهم، ولعله يأتي لها موضع آخر نبسط الكلام فيه -إن شاء الله-
      أما قوله تعالى: ((وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا)) [طـه:124] فالإعراض عن ذكر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يقع من الكفار: وهو الإعراض الكلي، ويقع من الْمُسْلِمِينَ: وهم العصاة، وهو إعراض جزئي، فبقدر الإعراض عن ذكر الله تكون الشقاوة، والإعراض الكلي يسبب الشقاوة الكلية، كما هو حال أهل الكفر اليوم، والإعراض الجزئي يسبب الشقاوة الجزئية كما قال بعض السلف: "إني لأرى أثر معصيتي في خُلق خادمي ودابتي".
      فالإعراض عن ذكر الله، والمعصية بصفة عامة يظهر أثرها عَلَى الإِنسَان في الدنيا بقدر ما يكون إعراضه، ولا ينافي ذلك أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يستدرج بعض النَّاس ويمدهم بأموال وبنين، ويظنون أنهم يسارع لهم في الخيرات، وليس هو بمسارعة في الخيرات وإنما هو استدراج.

      ثُمَّ يقول: "لعل النَّاس لم يختلفوا في شيء كما اختلفوا في شأن الإسراء والمعراج" وهذا كلام غير صحيح! أين الخلاف الذي وقع؟ فالذين خالفوا في الإسراء والمعراج -كما أوضحنا- هم أهل ضلال، وإذا قامت عليهم الحجة، وكذبوا بالإسراء والمعراج، فإنهم كفار مرتدون؛ لتكذيبهم لما ثبت في الكتاب والسنة وهذه العبارة ليست في محلها.
      ومن المهم في ذلك ما قال في صفحة (84، 85) ومعناه: "إن الأمر يشكل عَلَى بعض النَّاس فيقولون: وهل لله -عَزَّ وَجَلَّ- مكان يعرج إليه الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" انظروا إِلَى العقول القاصرة!!
      إذا أراد أن يتكلم عن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وكأنما يتكلم عن أي مخلوق، أو عن أي أحد منَّا، فَيَقُولُ: "هل لله مكان يعرج إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! ثُمَّ يجيب، فَيَقُولُ: إن الله تَعَالَى ليس بعيداً عن رسوله حتى يقطع للقاءه هذه الأبعاد الشاسعة في السماوات العلى، بل هو معه حيث ما كَانَ وهو أقرب إليه من حبل الوريد؛ بل قريب من عباده جميعاً" وإذا كَانَ قريباً منهم جميعاً فلماذا الإسراء والمعراج؟ وما فَضْل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما هو اختصاصه، انظروا إِلَى الاضطراب كيف يقع!!
      ثُمَّ جَاءَ بالآيات ((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ))[البقرة:186] ثُمَّ أخذ يبين المجموعة الشمسية والسماء وما إِلَى ذلك من كلام لا ضرورة له أصلاً.
      والمقصود أن هذا الكاتب خلط بين المعيتين: المعية العامة، والمعية الخاصة، وخلط في العلو، فلم يستطع عقله أن يوفق بين إثبات علو الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- كما أخبر وبين معيته، ولذلك فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما عرج به، بلغ تلك المنزلة التي لم يبلغها أحد أبداً فلو كَانَ الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قريب من جميع الخلق بذاته فما وجه الاختصاص للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعندما عُرج به إِلَى السماء كَانَ قريباً من ذات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
      والمعية الخاصة هي بمعنى: النصر والتأييد والتوفيق، وهذه ثابتة للمؤمنين، وأخصهم في ذلك الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم)) [الحديد:4] ((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيب)) [البقرة:186] هذه المقصود بها: قرب النصر والتأييد والإجابة -إجابة الداعي إذا دعاه- فهو قريب من المؤمنين بهذه الحال، وبعيد عن الكفار أي أنه لا يسمعهم ولا يستجيب لهم أبداً سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لأنه قَالَ: ((وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ)) [الرعد:14] هذا بالنسبة لمعيته ولقربه، أما ذاته -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فهو كما أخبر أنه فوق العرش -فوق المخلوقات- في السماء
      .