المادة    
وشيخ الإسلام رحمه الله يبطل المقدمة القائلة بأن الإيمان في اللغة هو التصديق، والمقدمة القائلة بالاستدلال باللغة، وبعد ذلك يتساءل على سبيل التنزل معهم: هبوا أن الإيمان هو التصديق، فهل هذا التصديق لا يزال كما هو في كلام العرب؟ أم أن الشارع قد نقله وغير معناه، أو جاء بتصديق خاص غير التصديق العام الذي يعرفه العرب، أو يتحدثون عنه، فلنبدأ بالمقدمتين:
المقدمة الأولى: قولهم: إن الإيمان في اللغة هو التصديق، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما خاطب الناس بلغتهم، قال تعالى: (( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ))[إبراهيم:4] وهو لم يغيرها، فيكون مراده بالإيمان التصديق، والتلبيس هنا أنهم جعلوا كل ما يتكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ما يأتي في القرآن من معاني الإيمان فالمراد بها المعنى اللغوي وهو التصديق، ولم يزد عليه الشارح شيئاً.
المقدمة الثانية: أن التصديق إنما يكون بالقلب واللسان، ولا يكون بالعمل بالجوارح، هاتان المقدمتان لا بد أن يرد عليهما؛ لأنهما وعمدتهما أقوى دليل عندهم.
  1. إبطال الترادف بين الإيمان والتصديق لفظاً

    إن صحة المعنى لا توجب الترادف بين الألفاظ، وذلك من وجوه: أحدها: أن ننفي الترادف بينها لفظاً، يقول الشيخ رحمه الله: (أحدهما: أنه يقال للمخبر إذا صدقته: صدقه ولا يقال:آمنه أو آمن به) هذا من ناحية اللفظ، وإذا أريد أن يعبر عنه بالإيمان يقال: آمن له، ولا يقال آمنه كما في قوله تعالى: (( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ))[العنكبوت:26]، وقوله تعالى: (( فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ ))[يونس:83] وقال حكاية عن فرعون: (( آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ))[طه:71] وقالوا لنوح: (( أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ ))[الشعراء:111] وقال تعالى في حق النبي صلى الله عليه وسلم: (( قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ))[التوبة:61].
    إذاً: الإيمان يأتي متعدياً باللام بمعنى: التصديق، وأما التصديق فإن اللفظ يكون متعدياً بنفسه، فيقال: صدقه مع أن المعنى واحد، لكن الترادف في اللفظ غير موجود.
    قال المؤلف رحمه الله: (فإن قيل فقد يقال: ما أنت بمصدق لنا) فجاز في لغة العرب أن يقال: ما أنت بمصدق لي والمرجئة تقول: هذا جائز، وهذا من جنسه، فكيف نرد عليهم في الفرق بين أن يكونا مترادفين فيتعديان ويعملان عملاً واحداً، وبين أن لا يكونا أحياناً يمكن ذلك؟ والتفصيل أن نقول: إذا قلنا: وما أنت بمصدق لنا، فهذه اللام غير اللام التي في آمن له؛ لأن اللام في آمن له، هي لام التعدية، فالفعل لا يتعدى بنفسه بل يتعدى باللام، أما هنا فنستطيع أن نقول: ما أنت بمصدق، أو ما أنت بمصدق لنا، فهذه اللام ليست كالأولى؛ لأن هذه اللام إنما هي لتقوية العامل؛ فالعامل الذي يتعدى بنفسه كما في صدق، لكن إذا ضعف عمله لسبب من الأسباب كأن يكون اسم فاعل أو مصدراً أو تأخر عن المعمول، فإنه يضعف، بخلاف قول: لا أصدقك فيتعدى بنفسه؛ لأنك هنا استخدمت الفعل والفعل قوي، لكن اسم الفاعل ضعيف، ويكون عاملاً عمل الفعل؛ لأنه يشبه المضاف من حيث أنه اسم أضيف إلى اسم، فيمكن أن تقول: ما أنا بمصدق علياً، فيكون مضافاً ومضافاً إليه.
    إذاً: فهو هنا يشبه الاسم فهو ضعيف، إذ الفعل ليس واضحاً كما في استخدام الفعل نفسه، فحتى يزول هذا الضعف يقوى باللام، فيبقى فيه التنوين، كما في قوله: بمصدق لنا، فاللام تقوي عمل اسم الفاعل، فكأن اسم الفاعل مع اللام صارا في قوة الفعل.
    وقد يكون التعدي بنفسه في حال تقديمه.
    قال المؤلف رحمه الله: (فيقال: فلان يعبد الله ويخافه ويتقيه) فهذه متعدية بنفسها من غير لام.
    ثم قال: (إذا ذكر باسم الفاعل قيل: هو عابد لربه .. متقٍ لربه .. خائف لربه فتعدى باللام لضعفه).
    ثم قال: (وكذلك تقول: فلان يرهب الله، ثم تقول: هو راهب لربه، وإذا ذكرت الفعل وأخرته تقويه باللام، كقوله تعالى: (( وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ))[الأعراف:154]).
    وإذا قيل في غير القرآن والذين هم ربهم يرهبون فإنه صحيح، وكل ما في الأمر أنك قدمت المفعول وأخرت الفعل والفاعل، وهذا صحيح في لغة العرب، بل قد جاء حتى في القرآن، لكن تأخير العامل يضعف علاقته وأثره في المعمول المتقدم؛ ولذلك يجاء باللام كما في قوله تعالى: (( لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ))[الأعراف:154]، ثم قال رحمه الله: (قال: (( فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ))[النحل:51] فعداه بنفسه، وهناك ذكر اللام، فإن قوله: (فإياي) أتم من قوله: (فلي) وقوله: (لربهم) أتم من قوله: (ربهم) فإن الضمير المنفصل المنصوب أكمل من ضمير الجر بالياء وهناك اسم ظاهر، فتقويته باللام أولى وأتم من تجريده، ومن هذا قوله تعالى: (( إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ))[يوسف:43]) مع أن الأصل أن يقال: عبرتُ الرؤيا، فيتعدى بدون اللام، والرؤيا مفعول به.
    قال المؤلف: (وكذلك قوله: (( وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ))[الشعراء:55] وإنما يقال: غظته، ولا يقال: غظت له).
    فهو متعد أيضاً بنفسه ومثله كثير، وعلى هذا فمثله هذه الآية، فإذا قيل: إن معنى (( وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا ))[يوسف:17] معناها: وما أنت بمصدق لنا (فيقول القائل: ما أنت بمصدق لنا أدخل فيه اللام لكونه اسم فاعل، وإلا فإنما يقال: صدقته ولا يقال: صدقت له، ولو ذكروا الفعل لقالوا: ما صدقتنا) فلا يحتاج إلى أن يقال: ما صدقت لنا، على اعتبار أن معنى مؤمن: مصدق، نحن الآن لا نزال معهم في هذا الافتراض.
    يقول المؤلف رحمه الله: (وهذا بخلاف لفظ الإيمان فإنه يتعدى إلى الضمير باللام دائماً، ولا يقال آمنته قط) فالإيمان إذا كان مرادفاً للتصديق فلا يتعدى بنفسه، فلا يقال: آمنته قط في كلام العرب، وإنما يقال: آمنت له، فعلى هذا تكون الآية: (( وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا ))[يوسف:17] على أقرب تفسير لها لغوياً أن يقال: ما أنت بمصدق لنا، أو نأتي بفعل يتعدى باللام؛ لأن آمن لا تأتي إلا متعدية باللام كآمن التي بهذا المعنى، وليس آمن التي هي الإيمان كما يظنون، ونحن نقول: هذا معنى التصدق، وهذا معنى الإيمان الذي هو الإيمان بالغيب، وقد مر عندما شرحنا معنى الإيمان أن قلنا: معناه: قد يكون التصديق وقد يكون الإقرار، ثم قلنا: الإقرار في كلام الشارع يستلزم العمل، واستدللنا على ذلك بآية: ((قَالُوا أَقْرَرْنَا))[آل عمران:81] فيكون أقرب معنى أن نقول: وما أنت بمقر لنا ولو كنا صادقين، وهذا من الناحية اللغوية أفضل، حتى يقابل اللفظ اللفظ، وتظل اللام تتعدى هنا كما تتعدى هناك.
    إذاً: أولاً: نفينا الترادف لفظاً، وإن اعترضوا علينا بأن اللام تدخل قلنا: إن اللامين مختلفتان، فهذه لام لا يتعدى الفعل إلا بها، أما تلك فإنها لام تقوي الفعل أو العامل الذي يتعدى بنفسه حين يضعف عمله بسبب من الأسباب.
  2. إبطال الترادف بين الإيمان والتصديق في المعنى

    والآن نريد أن نرد على المرجئة بإبطال الترادف بين التصديق والإيمان في المعنى، وواضح أننا جميعاً نشكوا ونعاني مشكلة في الرسائل الجامعية وفي الكتابات وخطب الجمعة، فلا نسمع خطبة أو محاضرة إلا ونلاحظ الضعف في الإلقاء الذي قل من يتقنه، ونجد كذلك كثرة الأخطاء اللغوية التي لا تليق بمن هم في مثل هذه المنزلة، وهذا من أوجه الخلل في شباب الصحوة المعاصرة، وإذا ضعفنا في اللغة فإننا نضعف بطبيعة الحال في فهم القرآن وفي السنة وفي الاستنباط، ويتبع ذلك أمور كثيرة؛ ولذلك تجد أن الشباب يحرصون في كتبهم أو في خطبهم أو في رسائلهم على النقل؛ لأنهم لا يستطيعون أن يفهموا ويستنبطوا ويقارنوا، خصوصاً عندما يحققون مخطوطة تجدهم يفرحون بها؛ لأنها ترجعهم إلى الأصل كالتقريب والتهذيب، فكلها إحالات إلى الغير، مع أننا بحاجة إلى أن نأخذ موضوعاً ونستنبط ونناقش ونعطي فكرة جديدة، وإن كنا لا نثق في الكل للأسف، فليس كل أحد يجيد ذلك، وبالتالي تكون الصحوة هشة، وتكون الدفعات التي تتخرج من حلقات العلم أشبه ما تكون بنسخ عن الشيخ، وليس لديها تجديد ولا يوجد عندها إبداع، وليس عندها استنباط؛ لأنها تعودت أن تسمع فقط.
    وفي نفي الترادف من حيث المعنى يقول الشيخ رحمه الله: (الثاني: أنه ليس مرادفاً -يعني الإيمان- للفظ التصديق في المعنى، فإن كل مخبر عن مشاهدة أو غيب يقال له في اللغة: صدقت) وكلمة صدقت في لغة تقال لكل مخبر مصدق سواء أخبر عن مشاهدة أو عن أمر غيبي لا يعلم إلا من طريق المخبر (كما يقال: كذبت، فمن قال: السماء فوقنا قيل له صدق، كما يقال: كذب، وأما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر عن غائب، ولم يوجد في الكلام أن من أخبر عن مشاهدة كقوله طلعت الشمس وغربت أنه يقال: آمناه) وإنما يقال: آمنا له؛ لأنه من ناحية اللغة خطأ في المعنى؛ لأنه أخبرك عن شيء مشاهد كما أن الشهود هم من شهدوا في محكمة أو في مكان ما، والقاضي كل من حكم بين اثنين وإن لم يكن في محكمة، والبعض ربما يقول الحمد لله الذي لم يبتلى بالقضاء، وهو كل يوم في المسجد يقضي في مشاكل الناس، بين العلماء أحياناً في مسائل علمية خلافية، فهذا قاضٍ؛ لأنه حكم بين اثنين، فاتقوا الله في القضاء.
    فكل من الشهود والقضاة يقال: صدقناهم لا آمنا لهم كما قال المؤلف رحمه الله: (الشهود والمحدثون يقال: صدقناهم ولا يقال آمنا له) فضلاً عن آمناهم، فإذا شهد الشهود إما أن تقول: صدقناهم أو تقول: كذبناهم، يقول: (ولا يقال آمنا لهم، فإن الإيمان مشتق من الأمن، فإنما يستعمل في خبر يؤتمن عليه المخبر كالأمر الغائب الذي يؤتمن عليه المخبر؛ ولهذا لم يوجد قط في القرآن وغيره لفظ (من آمن له) إلا من هذا النوع) وهو الإخبار عن شيء يؤتمن عليه، فلما قالوا: (( وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا ))[يوسف:17] كأن المعنى ليس فقط تشك في كلامنا؛ بل تشك في أمانتنا، ففيها جانب غيب وائتمان.
    ثم قال: (والاثنان إذا اشتركا في معرفة الشيء يقال: صدق أحدهما صاحبه، ولا يقال: آمن له؛ لأنه لم يكن غائباً عنه ائتمنه عليه؛ ولهذا قال: (( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ))[العنكبوت:26]) لأن لوطاً عليه السلام اتبع وانقاد والمناسب لغة أن نقول: (آمن له لوط) أي: انقاد له من الناحية اللغوية، وإلا فلفظ اتبعه أصح من جهة المعنى؛ لأنه يعني: (آمن له) أي: سلم له وانقاد له في إخبار عن غيب، وقال قوم فرعون: (( أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا ))[المؤمنون:47] وقال: (( آمَنْتُمْ لَهُ ))[طه:71] وقال: (( يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ))[التوبة:61] كما في آية التوبة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أي: يصدقهم فيما أخبروا به، وائتمنهم عليه، فإذا جاء المؤمنون وقالوا وخاصة فيما يتعلق بالمنافقين: يا رسول الله! إن المنافقين فعلوا كذا وكذا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يأتمنهم ويصدقهم، فهم أصدق الناس وأعدل الناس وأتقى الناس، فالمنافقون يقولون: (هو أذن) أي: كل من جاءه وقال: فعل المنافقون كذا صدقه، فهو صلى الله عليه وسلم (أذن خير) ليس أذن شر، فهو يؤمن للمؤمنين؛ لأنه ائتمنهم على هذا، فهو صلى الله عليه وسلم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين، فقد ائتمنه الله على هذا الإيمان، وآمن بما جاءه من عند الله، وصدق ما قاله جبريل وما أخبره به عن رب العالمين وائتمنه على ذلك، ثم هو يؤمن للمؤمنين ويأتمنهم ويصدقهم ويقرهم على ما يخبرون وما يقولون، فاللفظ مما غاب عنه هو مأمون عنده على ذلك وهو متضمن التصديق والائتمان والأمانة، أو متضمن معنى التصديق ومعنى الائتمان كما يدل عليه الاستعمال والاشتقاق؛ ولهذا قالوا: (( وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا ))[يوسف:17] أي: لا تقر بخبرنا، ولا تثق به، ولا تطمئن إليه ولو كنا صادقين، فالإنسان إذا لم يؤتمن على شيء لم يصدق، وإن كان في الواقع صادقاً؛ لأن يعقوب عليه السلام أول ما خرجوا كان خائفاً، ولذا حذرهم، بل أراد الله تبارك وتعالى أن يلقنهم الحجة أو العذر؛ لأنه قال: (( وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ))[يوسف:13] في حين أنهم ربما يريدون البحث عن الحجة، فإذا بها تكون الذي خاف منه الأب، وهو أكل الذئب ليوسف، فما خاف منه هو الذي وقع؛ ولذلك لا يأمنهم حتى لو كانوا صادقين، فهو لمن يأتمنهم عليه، بل هو في شك منهم، فهم بعدما أخبروه قالوا: (( وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ))[يوسف:17].
    وكذلك قول إخوته: (( وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا ))[يوسف:81] وهذا الكلام يقوله أحد رجلين: إما رجل قال قولاً أو عمل عملاً وعلم أن الآخر لا يصدقه فيه ولا يأتمنه عليه وقد يكون صادقاً، وقد يكون كاذباً، فقبل أن يأتي بما عنده من عذر، يقول لك: أنا أعرف أنك لا تصدقني، ولا تقبل مني لكن الأمر هو كذا وكذا.
    وقول إخوته: (( وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا ))[يوسف:81] يقولها دائماً الشاهد الذي يخشى أن ترد شهادته وإن كان محقاً، حتى قال الشعبي : إذا رأيت رجلين خرجا من المحكمة، فقالا: نحن ما شهدنا إلا بالذي علمنا فاعلم أن شهادتهما لم تقبل بل ردت؛ ولذلك تكون حجتهم كحجة إخوة يوسف مع أن إخوة يوسف عليه السلام إنما شهدوا بما علموا؛ لأنهم في الحقيقة لم يصدقوا ما رأوه؛ لأنه استخرج الصواع من رحل أخيه، وهم لم يصدقوا أن يكون الأمر كما ظهر، وأنه سرق، فلما لم يعلموا السر أحالوا إلى أن النقص إنما هو في معلوماتهم.
    والمراد من هذا: أن معنى الإيمان يتضمن معنى التصديق والائتمان، فهو لا يكون إلا عن غيب، وعليه فقد عرفنا أن الترادف لغة بين الإيمان والتصديق غير صحيح، وأنهما غير مترادفين لغة ولا معنى؛ لأن الإيمان يكون بالأمر الغائب، وأما التصديق فيكون في الشاهد ويكون في الغائب، والسبب أن الإيمان يتضمن معنى التصديق والائتمان؛ ولذلك نجد من بيان وكمال الشرع أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بألفاظ شرعية يصدق بعضها عموماً، والنبي صلى الله عليه وسلم لما عرف المؤمن قال: ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس ) وهنا تظهر علاقة الأمن بالإيمان، فالمجتمع الآمن هو المجتمع المؤمن، ولا يمكن أن يوجد مجتمع غير مؤمن ويكون مجتمعاً آمناً أبداً، مهما كان، فلا بد أن يوجد في أمنه ما يكدره من الداخل أو الخارج، حتى من داخل القلوب والنفوس، أما المجتمع الذي يتحقق له كمال الأمن فهو المجتمع الذي يتحقق له كمال الإيمان، وحقيقة الإيمان هي تحقيق التوحيد والطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الذي ذكره الله تبارك وتعالى بعد مناظرة إبراهيم عليه السلام لقومه حيث قال لهم: (( فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ))[الأنعام:81-82] فهم قوم آمنوا، وزيادة على ذلك أنه لم يشب إيمانهم شائبة من الشرك، والظلم هنا هو الشرك، فهؤلاء لهم الأمن في الدنيا، والطمأنينة من عذاب الله وانتقامه ومقته وغضبه، ولهم كذلك الأمن في الآخرة من النار، وهم مهتدون في الدنيا باتباعهم ما أمر الله، ومهتدون في الآخرة إلى الصراط المستقيم، فلا تزل أقدامهم، بل يصلون بإذن الله إلى الجنة.
  3. اختلاف اللفظ في المقابل لمعنى الإيمان عن معنى التصديق

    وهناك استدلال ثالث على أن الإيمان في لغة العرب يختلف عن معنى التصديق قال المؤلف رحمه الله: (أن لفظ الإيمان في اللغة لم يقابل بالتكذيب كلفظ التصديق، فإنه من المعلوم في اللغة أن كل مخبر يقال له: صدقت أو كذبت ويقال: صدقناه أو كذبناه، ولا يقال لكل مخبر: آمنا له أو كذبناه -بالتقابل- ولا يقال: أنت مؤمن له أو مكذب له، بل المعروف في مقابلة الإيمان لفظ الكفر).
    أي: فيقال: آمنت أو كفرت، أو آمنا أو كفرنا ويقال: هو مؤمن أو هو كافر، والكفر لا يختص بالتكذيب من جهة اللغة كما أن الإيمان لا يختص بالتصديق، فالإيمان ليس مرادفاً للتصديق، وليس الكفر مرادفاً للتكذيب، بل هذا له زيادة في معناه، وهذا له زيادة، فالتكذيب جزء من الكفر وأحد أنواعه، وله أنواع أخرى ككفر الجحود، وكفر الإباء والاستكبار، وكفر العناد، وكفر الشك، والشك هو أقرب إلى التكذيب, لكن المكذب مصرح، وذاك إنما هو شاك، والشاك كافر ولو لم يتصف بالتكذيب.
    ولذلك شيخ الإسلام يبين أن التكذيب غير الكفر بقوله: (بل لو قال: أنا أعلم أنك صادق -أي: لا أكذبك- ولكن لا أتبعك، بل أعاديك وأبغضك وأخالفك، ولا أوافقك لكان كفره أعظم)، ولهذا فالذين يفسرون الكفر فقط بأنه التكذيب أو بأنه الجحود يخالفون هذه الحقيقة، وقد سبق أن قررنا ذلك في موضوع الحكم بغير ما أنزل الله، فلو قال رجل: أنا أعلم أن شريعة الله أفضل وأحكم وأحسن، ولكن لن أطبقها، ولن أعمل بها، ولن أتحاكم إليها فهذا من جنس من يقول: أنا أؤمن بك ولا أكذبك، لكن لن أوافقك ولن أطيعك، وهذا هو معنى لن أحكم بشريعتك، ولن أتبعها، وهذا كفره نوع آخر من الكفر غير كفر الجحود؛ لأنه لم ما يجحدها.
    بل يقول: الشريعة أفضل، ويشبه هذا لو لقيت مستشرقاً فقلت له: لِم لم تسلم؟ أو دعوته إلى الدين فقال: الإسلام أفضل الأديان وأعظمها وهو بهذا لا يعد مؤمناً ولا مسلماً، وكونه يقول: الإسلام أفضل دين لا يدل على أنه مسلم، إذ لا بد من الانقياد والإذعان والاتباع، من قال: شريعة الله هي الأفضل، والإسلام هو الدين الخالد الذي أتى بمصالح الدنيا والآخرة، وهو صالح لكل زمان ومكان، ويثني على الإسلام، يقال له: هل آمنت بهذا وانقدت؟ وهنا هو محك التجربة، فإن حكم بما أنزل الله فقد صدق هذا القول، وإن خالف ذلك وأعرض عنه فهو كالذي يقول كما عبر شيخ الإسلام: (أنا أعلم أنك صادق، وأنك رسول، وأنك حقاً بعثت من عند الله، لكن لن اتبعك، ولن أنقاد لك، فهو كالحبرين اليهوديين اللذين قالا: ( نشهد أنك نبي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما يمنعكما أن تتبعاني ) ) فهذان الحبران لم يتبعا كما فعل عبد الله بن سلام رضي الله عنه عندما قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، على سبيل الانقياد والإذعان والقبول؛ ولهذا بهته اليهود، فبعد أن قالوا: حبرنا وابن حبرنا، وعالمنا وابن عالمنا، قالوا: شرنا وابن شرنا…إلخ.
    وهذان الحبران لم يريدا أن يشهدا كما شهد عبد الله بن سلام رضي الله عنه، إنما قالوا: نشهد أنك صادق في دعوى النبوة، لكن أين هؤلاء من الاتباع؟ ولذلك سألهم النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يمنعكما أن تتبعاني) أي: إذ قد شهدتما فآمنا واتبعا، وكونا من المسلمين، فاعتذرا أعذاراً لا تنفع عند الله، كما أن عذر هرقل في حب الملك لا ينفعه، وكذلك أبو طالب كان عذره الخوف من ترك ملة عبد المطلب ، وترك عادات قبيلته، وهكذا كل يبحث عن عذر، فالمراد أن هؤلاء جميعاً كفار؛ لأنهم لم ينقادوا للرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يسلموا وجوههم لله.
    يقول المؤلف رحمه الله: (فلما كان الكفر المقابل للإيمان ليس هو التكذيب فقط علم أن الإيمان ليس هو التصديق فقط، بل إذا كان الكفر يكون تكذيباً ويكون مخالفة ومعاداة وامتناعاً بلا تكذيب فلا بد أن يكون الإيمان تصديقاً مع موافقة وموالاة وانقياد، ولا يكفي مجرد التصديق، فيكون الإسلام جزء مسمى الإيمان، كما كان الامتناع من الانقياد مع التصديق جزء مسمى الكفر، فيجب أن يكون كل مؤمن مسلماً منقاداً للأمر وهذا هو العمل)، أي: أننا قد رددنا عليكم أيها المرجئة عندما تخرجون العمل عن الإيمان، مع أن حقيقة الإيمان هي الانقياد بالجوارح وامتثال الأوامر.
    قال المؤلف رحمه الله: (فإن قيل: فالرسول صلى الله عليه وسلم قد فسر الإيمان بما يؤمن به، قيل: الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر ما يؤمن به، ولم يذكر ما يؤمن له، وهو نفسه يجب أن يؤمن به ويؤمن له، فالإيمان به من حيث ثبوته غيب عنا أخبرنا به، وليس كل غيب آمنا به فعلينا أن نطيع، وأما ما يجب من الإيمان له فهو الذي يوجب طاعته، والرسول يجب الإيمان به وله، فينبغي أن يعرف هذا، وأيضاً: فإن طاعته طاعة لله، وطاعة الله من تمام الإيمان) أي: بالله تبارك وتعالى، وهذه مسألة جزئية، ولا إشكال في كون النبي صلى الله عليه وسلم فسر الإيمان بما يؤمن به لا بما يؤمن له، ولكننا نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يجتمع فيه الأمرين، فنحن نؤمن به صلى الله عليه وسلم وبما أمرنا أن نؤمن به، وهو في ذاته نحن نؤمن له أي: نصدق له، ونقر له وننقاد.
    والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
  4. الرد على استدلال المرجئة بالآيات في معنى الإيمان

    قول الله تعالى: في قصة أخوة يوسف لأبيهم: (( وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ))[يوسف:17] فقالوا: (بِمُؤْمِنٍ لَنَا) أي: بمصدق لنا، وهذا تفسيرها في كلام العرب، في كلام المفسرين، وعلى هذا فالإيمان في اللغة هو التصديق، وفي كل موضع نجد كلمة الإيمان فمعناها: التصديق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغير من المعنى العربي شيئاً، ولم يخصصه أو يقيده.. إلخ.
    وقد رد عليهم الشيخ رحمه الله بقوله:
    (أن اسم الإيمان قد تكرر ذكره في القرآن والحديث أكثر من ذكر سائر الألفاظ) أي: أعظم وأشهر الألفاظ الدينية (وهو أصل الدين، وبه يخرج الناس من الظلمات إلى النور، ويفرق بين السعداء وبين الأشقياء ومن يوالي) أي المؤمن (ومن يعادي، والدين كله تابع لهذا) أي: تابع لمفهوم الإيمان (وكل مسلم محتاج إلى معرفة ذلك) أي: محتاج إلى أن يعرف الإيمان (أفيجوز أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد أهمل بيان هذا كله، ووكله إلى هاتين المقدمتين) فهل يعقل أنه صلى الله عليه وسلم لا يبين هذا المصطلح الذي هو مهم جداً، ويكله إلى مقدمتين تخفى على كثير من الناس؟ لا يمكن ذلك أبداً.
    يقول رحمه الله: (ومعلوم أن الشاهد الذي استشهدوا به على أن الإيمان هو التصديق أنه من القرآن) وهو أقوى ما عندهم، ولكن يقول الشيخ رحمه الله: (نقل معنى الإيمان متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من تواتر لفظ الكلمة) أي: معنى الإيمان وما هو، ويعرفه كل مسلم بلغه ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وسمع عن دعوته، وعلم أنه دعى إلى الإيمان بالله وملائكته و كتبه ورسله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وهو أمر معروف بداهة، ثم يقول: (فإن الإيمان يحتاج إلى معرفته جميع الأمة فينقلونه) يعني: كل فرد في الأمة يحتاج إلى معرفة الإيمان، بخلاف كلمة واحدة من سورة، فأكثر المؤمنين لم يكونوا يحفظون هذه السورة، وإلى الآن أكثر المسلمين لا يحفظون هذه السورة، ومن يعلم هذه الآية بالنسبة إلى مجموع المؤمنين لا شك أنهم قلة، ولكن كل مؤمن يعرف ولا بد ما هو الإيمان.
    يقول المؤلف رحمه الله: (فلا يجوز أن يجعل بيان أصل الدين مبنياً على مثل هذه المقدمات؛ ولهذا كثر النزاع والاضطراب بين الذين عدلوا عن صراط الله المستقيم وسلكوا السبل، وصاروا من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، ومن الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات، فهذا كلام عام مطلق، ثم يقال: هاتان المقدمتان كلاهما ممنوعة) والآن نريد أن نبطل كلاً من هاتين المقدمتين، ونبين أنهما باطلتان.
    قال رحمه الله: (فمن الذي قال: إن لفظ الإيمان مرادف للفظ التصديق) فـالمرجئة يستدلون بأنه يستوي قول: ما أنت بمؤمن لنا وما أنت بمصدق لنا، ويستوي كما قال أبو بكر بن الباقلاني قول: فلان يؤمن بالبعث بعد الموت وفلان يصدق بالبعث بعد الموت، فما دام المعنى يصح فالكلمتان مترادفتان.
    فرد رحمه الله بقوله: (وهب أن المعنى يصح إذا استعمل في هذا الموضع، فلم قلت إنه يوجب الترادف؟) وهل صحة المعنى تستلزم أو توجب الترادف؟ الجواب: لا، بل بعض اللغويين ينكرون أن يكون في لغة العرب ترادف أصلاً، قال: وكل كلمة قالتها العرب فلها معنى خاص لا يشترك فيه غيرها كقعد وجلس، فليس المعنى واحد، بل هنالك فرق، إذ القعود لا يكون إلا عن قيام.
    ويقال أيضاً: العرب تجعل للسيف ثلاثمائة اسم كما يقال، وللشمس ثلاثمائة أو أربعمائة اسم، مع أن كل اسم منها له دلالة معينة، فإن كنت لا تعرفها أنت فهذا شأنك، لكن العرب تعرف ذلك، وكذلك الجمل والبعير لكل اسم منهما معنى بحسب الحالة المعينة وبحسب النوع، وعليه فهذا رد كلي، بأننا لا نسلم أن في كلام العرب ترادفاً، فكل معنى يختلف عن الآخر ومجرد أن المعنى يصح لو وضعت كلمة مكان كلمة لا يوجب الترادف، فلو قلت: ما أنت بمسلم لنا، أو ما أنت بمؤمن، أو ما أنت بمصدق فيمكن أن يصح المعنى لكن لم قلت: إن هذا هو المراد بلفظ المؤمن؟ قال المؤلف رحمه الله: (وإذا قال الله تعالى: (( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ))[البقرة:43] وقال القائل -يغلط الناس- أتموا الصلاة، ولازموا الصلاة، والتزموا الصلاة، افعلوا الصلاة كان المعنى صحيحاً، أي: لكن هل معنى أقيموا هو معنى افعلوا كما ذكر هو؟ الجواب: لا). ‏