المادة    
فـالمرجئة يجعلون العمل خارجاً عن حقيقة الإيمان، فهو إما علامة وإما شرط لإجراء تلك العلامة وتلك الأحكام، وأما القول بأنه شرط فقد استبعدوه بالكلية، ولم يرتبوا عليه أحكاماً عملية؛ ولا سيما عند المتأخرين منهم، فهم يحصرون الإيمان في التصديق القلبي، كما يحصرون الكفر في التكذيب أيضاً بالقلب، فيخرجون بقية أعمال الجوارح، وبقية أعمال القلب من الإيمان.
وكذلك لا يدخلون بقية أنواع المكفرات في الكفر، وهي: كفر الإباء، والعناد، والإعراض، والشك وغير ذلك؛ ولهذا فالمسألة كلها عندهم هي في الإقرار، وضده الجحود أو التكذيب، فهو إما كفر الجحود أو كفر التكذيب.
وقد تكلم شيخ الإسلام رحمه الله في الإيمان الأوسط عن هذه المسألة بكلام نفيس، وبين أنه حتى في الاختلاف في حكم تارك الصلاة لما قال بعضهم: إنه إن كان جاحداً لوجوبها وإن كان غير جاحد؛ مبني على هذا، ولا شك أن من كان جاحداً لوجوب الصلاة فإنه يكفر، لكننا لا نجعل هذا لازماً لهذا، ولا نجعل أي نوع من أنواع الكفر شرطاً في وجود النوع الآخر، فلا نقول مثلاً: لا يكفر إلا إذا كان جاحداً؛ فإن لم يجحد لكنه أبى ورفض الأمر فكفره هنا مستقل.
وكذلك السجود للصنم كفر بذاته، وكذلك لو أهان رجل كتاب الله وألقاه وهو يعلم أنه القرآن، فلا نسأله: هل أنت مقر أنه كلام الله أم غير مقر؟ فما دام يعلم أنه قرآن وفعل به ذلك فعمله هذا كفر، فالعمل يكون كفراً كما أن العمل يكون إيماناً.
إذاً: مذهب أهل السنة والجماعة أن العمل إيمان، وأن الإيمان عمل، ( ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله )، والحديث صحيح، فأفضل الأعمال الإيمان، فالإيمان من الأعمال، والأعمال من الإيمان، والأدلة على هذا كثيرة جداً، قد مر بعضها وفيه: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليفعل كذا أو كذا) مثل: ( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه )، وحديث: ( من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً...) إلخ، وقد ذكر الأعمال الإمام البخاري رحمه الله كثيراً جداً من التراجم التي تدل على أن الأعمال من الإيمان، فـ (الأعمال إيمان، والإيمان عمل)، ولا ينفصل العمل الظاهر عن الباطن.
وأما المرجئة فقد خالفوا في ذلك، وأما الكرامية فاستبعدناهم، وبقي الحنفية والأشعرية ، وقد ذكرنا ما يدل على مذهبهم الباطل من كلامهم أنهم يعتقدون ذلك، وأنهم يخرجون الأعمال من الإيمان، وألزمهم الشارح رحمه الله في آخر كلامه قال: (وذهب الجهم بن صفوان و أبو الحسين الصالحي -أحد رؤساء القدرية - إلى أن الإيمان هو المعرفة، وهذا القول أظهر فساداً مما قبله؛ فإن لازمه أن فرعون وقومه كانوا مؤمنين؛ فإنهم عرفوا صدق موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام ولم يؤمنوا بهما؛ ولهذا قال موسى لفرعون: (( قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ ))[الإسراء:102]، وقال تعالى: (( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ))[النمل:14]، وأهل الكتاب كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم ولم يكونوا مؤمنين به، بل كافرين به، معادين له، وكذلك أبو طالب عنده يكون مؤمناً -أي عند الجهم - فإنه قال:
ولقد علمت بأن دين محمد            من خير أديان البرية ديناً
لولا الملامة أو حذار مسبة             لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً
بل إن إبليس يكون عند الجهم مؤمناً كامل الإيمان؛ فإنه لم يجهل ربه، بل هو عارف به، (( قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ))[الحجر:36]، (( قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي ))[الحجر:39]، (( قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ))[ص:82]، والكفر عند الجهم : هو الجهل بالرب تعالى، ولا أحد أجهل منه بربه! فإنه جعله الوجود المطلق، وسلب عنه جميع صفاته، ولا جهل أكبر من هذا.
فلما ناظره السمنية -وهم طائفة من الزنادقة- ترك الصلاة أربعين يوماً، ثم خرج إليهم وقال: هو مثل هذا، وأي: مثل الهواء في كل مكان، وليس له صفة، وهذا غاية الجهل بالله.
فهو -على كلامه- كافر عند نفسه، ونحن نقول: إن هذه اللوازم لا تلزم الجهم وحده، وإنما تلزم كل من قال: إن الإيمان هو مجرد ما في القلب؛ سواءً سمي معرفة كما سماه الجهم ، أو سمي تصديقاً مجرداً كما سماه غيره، أو قيل: هو التصديق الذي يستلزم الإذعان.
قال: والمقصود أنهم تركوا سائر أعمال القلب، وتركوا كل أعمال الجوارح، قال: فيكون كافراً بشهادته على نفسه، وبين هذه المذاهب مذاهب آخر بتفاصيل وقيود أعرضت عن ذكرها اختصاراً، ذكر هذه المذاهب أبو المعين النسفي في تبصرة الأدلة وغيره. اهـ.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.