المادة    
وأوضح من ذلك يقول الشارح: (والإسلام اشرحن بالعمل) أي: والإسلام اشرحنّ حقيقته بالعمل الصالح، أعني: امتثال المأمورات، واجتناب المنهيات، والمراد: الإذعان لتلك الأحكام، وعدم ردها؛ سواءً عملها أو لم يعملها.
فعندهم أنه رضي فقط ولم يرد هذا الحكم، فعلى هذا إذا كفر الكافر فإنهم يقولون: نتأكد منه ونسأله: هل هو مقر أو غير مقر؟ فإذا فعل مثلاً فعلة كفرية فلا يقولون كما يقول أهل السنة والجماعة: ننظر إلى عوارض الأهلية من انتفاء الموانع وثبوت الشروط، وإنما يقولون: لا بد من أن يسأل، أو أن يطلع على حاله؛ فإن كان مقراً بالوجوب فلا يكفر؛ لأن عنده الإيمان، وأما إن كان مكذباً، أو قال: ما أقر؛ فيكفر؛ لأن الكفر عندهم هو التكذيب، أو ترك الإقرار.
وإذا سجد للصنم فإنهم يسألونه: عندما سجدت للصنم هل أنت تقر بأن السجود لا يكون إلا لله أو لا؟ فإن قال: أنا أقر أنه لله، قالوا: هذا مؤمن، وإن قال: لا، قالوا: هذا كافر؛ لأننا عرفنا هذا بعدما اطلعنا على حاله، وهذا خلاف مذهب أهل السنة والجماعة ، بل لفعل أي عاقل من العقلاء.
وأضرب لكم مثالاً آخر واضحاً: لما ترك المرتدون الزكاة قالوا: لا نؤديها، بل نقاتل عليها، وقالوا:
أطعنا رسول الله ما كان بيننا             فيا ليت شعري ما لدين أبي بكر
أي: ما لنا ولدين أبي بكر ، فنحن لا ندفعها، والصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا أفقه وأعلم بدين الله من أن يقولوا: اسألوهم هل أنتم مقرون بالوجوب، أم غير مقرين بالوجوب؟ فلم يسألهم الصحابة عن ذلك؛ لأن السؤال عن ذلك لا معنى له، وهو من كلام المرجئة.
وكذلك الصلاة فإن ترك ذلك وكان غير مقر فقد كفر كفر تكذيب، وإن كان مقراً فقد كفر كفر عناد وإباء، فالذي يقول: أنا لا أقر، فقد كذب بما أنزل الله، وما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا كذب بالقرآن، وكذب السنة، فهو كافر بتكذيبه، وأما الذي يقول: أنا أعلم وأقر أن الله افترض الصلاة، وأنزلها، وأنها واجبة؛ ومع ذلك لن أصلي والعياذ بالله، فهذا كفره أسوأ، وهذا واضح في واقع البشر؛ فإن أميراً أو ملكاً أو مطاعاً من المطاعين إذا قال لعبدٍ من عبيده، أو لمولى من مواليه: افعل كذا فلم يفعل، فجاء الملك إليه وقال له: لماذا لم تفعل؟ ألا تقر بأمري؟ فإن قال له: لا؛ فهو أخف عنده من أن يقول له: بلغني أمرك، وأنا أقر به، ولكني لم أنفذه، ولن أطيعك، فهذا لا يمكن، وما بعده إلا العقوبة مباشرة، فمن علم أن الأمر حق ولا يقبله ولا يعمل به؛ فهذا لا جواب له إلا العقوبة.
وأما الآخر فيمكن أن تقول له: لماذا تعمل به؟ ألم يبلغك؟ ألم تفهمه؟ وكلاهما كفر؛ لكن كفر الآبي المستكبر أشنع وأشد؛ ولذلك كان كفر إبليس أشد وأغلظ أنواع الكفر، وهو من كفر الإباء والاستكبار، (( أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ))[البقرة:34] فإبليس لم ينكر أمر الله؛ لأنه قد سمعه من الله، ولم يقل: لا أقر بأمرك، فهو مقر به ولكنه مع إقراره به أبى أن يطيع، (( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ))[الأعراف:12]، (( أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ))[الإسراء:61] أي: أنت أمرتني بذلك ولكني لن أفعل: (أأسجد له وأنا خير منه)، وهذه الشبهة الشيطانية الإبليسية هي شبهة أكثر الكفار، في أكثر العصور والأزمان، أي: الإباء والامتناع عن أمر الله مع إقرارهم بأنه من عند الله.
وقد يقترن الكفران، فنجد أن أمماً أو أفراداً يكذبون، وفي الوقت نفسه يأبون.
والمقصود: أن هذين نوعان مختلفان، وأنه قد يوجد أحدهما ولا يوجد الآخر، وأن كفر الإباء والاستكبار والعناد أغلظ من كفر التكذيب المجرد.