المادة    
ثم أخذ رحمه الله تعالى في الشروع في القياس، ومعلوم أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى وتليمذه ابن القيم رحمه الله ممن جمع غاية المنقول مع غاية المعقول، فبعض العلماء يبلغ الغاية في المعقول، ولكنه ينقصه جانب المنقول، وهذا لا يصح أن يسمى عالماً في الحقيقة، وإن كان قد يسمى بذلك.
وقد كان بعض علماء الكلام بلغ بهم الحال في الضعف في الحديث ومعرفة طرقه وعلله -وكذلك التفسير- إلى حدٍ لا يكاد يصدقه الإنسان إذا علم مقامهم ومنزلتهم، وقد ذكرنا هذا فيما سبق عند الحديث عن الغزالي و أبي المعالي الجويني وأمثالهما ممن يعدون أئمة علماء في الأمة، ولكن بضاعتهم في الحديث مزجاة.
أما الشيخان رضي الله تعالى عنهما فقد بلغا الغاية في هذا الباب، فهما في المنقول حجة، وفي المعقول لا يستطيع أحد من أهل الكلام والمنطق والجدل أن ينازلهما، فتجد ابن القيم في إغاثة اللهفان وفي مدارج السالكين وفي سائر كتبه يأتي بهذا وهذا متسقين كأفضل ما يكون الاتساق، وهكذا ينبغي لطالب العلم أن ينمي نفسه بإذن الله، فينميها على تعلم النصوص النقلية من قرآن وسنة، وعلى فهمها والتفقه فيها ومعرفة معانيها ومراميها.
يقول رحمه الله: (وهذا كما يشفع الشافع في المعذب في الدنيا فيخلص من العذاب بشفاعته، لكن هذه شفاعة قد لا تكون بإذن المشفوع عنده، والله سبحانه وتعالى لا يتقدم أحد بالشفاعة بين يديه إلا من بعد إذنه).
يعني أن هذا هو الفرق بين من يشفع عند سلاطين الدنيا وملوكها وبين من يشفع عند الملك العزيز الجبار سبحانه وتعالى؛ فإن الله سبحانه وتعالى قد جعل في كتابه لهذه الشفاعة شرطين لا بد من أن يتحققا:
أحدهما: الرضا عن المشفوع له، كما في قوله تعالى: (( وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى ))[الأنبياء:28].
فمن لا يقبل الله تعالى الشفاعة فيه، ولا يشفع عنده فيه لا يتجرأ ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا عبد صالح ولا ولي من الأولياء على أن يشفع فيه، فلا يشفعون إلا لمن ارتضى.
ثانيهما: إذن الله تعالى للشافع: (( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ))[البقرة:255]، فلا يستطيع أحد أن يتجرأ على أن يشفع عنده إلا بإذنه، وهذا -إن شاء الله تعالى- سنفصله في موضعه، أعني موضوع الشفاعة.
لكن المقصود هنا أن أكثر ما يتعلق به الناس ممن لم يستقيموا ويجدوا في طاعة الله عز وجل، وضل به الكثير في الجاهلية والإسلام هو موضوع الشفاعة، حيث يظنون أنه سيشفع لهم الرسول صلى الله عليه وسلم أو أقرباؤهم أو آل البيت أو الصالحون، فيتكلون على هذا، مع أن هذين الشرطين العظيمين يجب على كل مؤمن ألا يغيبا عن باله، وأن ينتبه لهما، فربما كان ممن لا يأذن الله تعالى في أن يشفع له، نسأل الله العفو والعافية، وهذا في أهل الشرك خاصة.
يقول: (فهو الذي يأذن للشافع أن يشفع إذا أراد أن يرحم المشفوع له، ولا تغتر بغير هذا؛ فإنه شرك وباطل يتعالى الله عنه) يعني: ما يزعمه عباد القبور وأصحاب الشركيات والتوسلات الشركية.
يقول: (لأن الله تعالى يقول: (( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ))[البقرة:255]، (( وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى ))[الأنبياء:28]، (( مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ))[يونس:3]، (( وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ))[سبأ:23]، (( قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ))[الزمر:44]).