المادة    
  1. النوع الدائم من عذاب القبر

    وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب الروح كلاماً قليلاً، ولكنه مفيد يؤيد ما سبق أن قلناه في هذا، فقد قال رحمه الله في المسألة الرابعة عشرة جواباً على سؤال: (هل عذاب القبر دائم أم منقطع)؟
    (جوابها أنه نوعان: نوع دائم، سوى ما ورد في بعض الأحاديث أنه يخفف عنهم ما بين النفختين، فإذا قاموا من قبورهم قالوا: (( يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا ))[يس:52]، ويدل على دوامه قوله تعالى: (( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا))[غافر:46]) أي: النار التي ذكرها الله تبارك وتعالى في حق آل فرعون، وقد تقدم في ذكر الأدلة على إثبات عذاب القبر، ودلالة الآية أن الله سبحانه وتعالى لم يستثن، وإنما قال: (( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ))[غافر:46]، ففي هذا دليل على استمرار عذاب القبر إلى أن تقوم الساعة، فينتقلون من هذا العذاب الأدنى إلى عذاب أكبر منه وأغلظ وأعظم، وهو العذاب الدائم في الدرك الأسفل من النار.
    قال: (ويدل عليه أيضاً ما تقدم في حديث سمرة الذي رواه البخاري في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: ( فهو يفعل به ذلك إلى يوم القيامة ) وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما في قصة الجريدتين: ( لعله يخفف عنهما ما لم تيبسا ) فجعل التخفيف مقيداً برطوبتهما فقط).
    يعني حديث اللذين يعذبان وما يعذبان في كبير، أي أنه كان في إمكانهما أن يحترزا على أقرب الأقوال في ذلك؛ لقوله في الأول: ( كان لا يستتر -وفي رواية: لا يتنزه- من البول ) فبإمكان الإنسان أن يتحرز من ذلك، وما الذي يمنعك من أن تستتر؟! فإذا كان الرجل -كما يفعل بعض الناس- يقضي حاجته أمام الناس فلماذا لا يستتر كما يفعل كل من رزقه الله الحياء من المسلمين؟! أو يتنزه بأن يتطهر بالماء أو بالحجارة كما شرع لنا ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا ليس بأمر كبير، ففي إمكان الناس أن يتحرزوا منه، ولكنهم لا يرونه مثل الزنا أو شرب الخمر أو أكل مال اليتيم أو أكل الربا، بل يرونه هيناً، لكن عامة عذاب أهل القبر منه، نسال الله العفو والعافية.
    و(أما الثاني: فكان يمشي بالنميمة)، وترك النميمة يسير، فما الذي يشغلك بالناس؟ وما الذي يجعلك تصرف وقتك وجهدك في أن تنقل لهذا عن هذا، وتنقل لهذا عن ذاك؟! أما كان لك غنى في أن تذكر الله أو تسبح الله أو تتأمل في ملكوت الله، أو تكف لسانك عن ذلك ليكون صدقة؟! إذا لم تستطع فعل ذلك فكف عن الناس شرك.
    فالحاصل أن جعل النبي صلى الله عليه وسلم الجريدتين على قبريهما.
    وقوله: ( لعله يخفف عنهما ما لم تيبسا ) فيه دلالة على أن عذاب القبر دائم، ووجه الدلالة: أنه لم يقل: لعل الله أن يقطع عنهما العذاب، وإنما يخفف عنهما تخفيفاً ما دامتا رطبتين، فإذا جفتا ويبستا عاد عليهما العذاب كما كان -نسأل الله العفو والعافية-.
    قال: (وفي حديث الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: ( ثم أتى على قوم ترضخ رءوسهم بالصخر، كلما رضخت عادت، لا يفتر عنهم من ذلك شيء ) ).
    قال: (وفي الصحيح في قصة الذي (لبس بردين وجعل يمشي يتبختر فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة)، وهذا أيضاً مذكور في أبواب ذم الكبر والخيلاء، نسأل الله العفو والعافية، فهذا الرجل ما تكبر وتبختر من أجل قصور عالية ومناصب كبيرة وأموال طائلة وألقاب عريضة، بل لأنه لبس حلة مكونة من بردين، وكان يرى أنها جميلة، فتبختر بها في مشيته استكباراً وخيلاء، فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، نسأل الله العفو والعافية، فعذاب القبر في حقه مستمر إلى قيام الساعة.
    قال: (وفي حديث البراء بن عازب في قصة الكافر: (ثم يفتح له باب إلى النار فينظر إلى مقعده فيها حتى تقوم الساعة) وصاحب النعيم كذلك يفتح له باب إلى الجنة فيراها حتى تقوم الساعة.
    ولا إشكال في أن من فتح له باب النعيم يتبقى على ذلك إن شاء الله، وقد نجا وجاز القنطرة، كما أن هذا الكافر الذي يفتح له باب العذاب أيضاً يظل على ذلك إلى قيام الساعة، والحديث ليس في الكافر فقط كما ذكر هنا، بل يشمل الفاجر والمنافق، وربما شمل من عظمت ذنوبهم وكانوا في هذا يعاملون قريباً من معاملة الكفار، وإن كان لا بد من أن يتمايز الفريقان، ففي آخر الأمر يخرج الله سبحانه وتعالى من النار من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، أما الكفار الذين هم أهلها فإنهم لا يحيون فيها ولا يموتون فيها، ومخلدون فيها نسأل الله العفو والعافية.
    قال: (رواه الإمام أحمد ، وفي بعض طرقه: ثم يخرق له خرق إلى النار فيأتيه من غمها ودخانها إلى يوم القيامة).
    فهذا النوع الأول، ولا إشكال فيه، فالأدلة عليه كثيرة، ويأتي تفصيلها إن شاء الله في المبحث الخاص بذلك.
  2. النوع المنقطع من عذاب القبر

    قال: (النوع الثاني: إلى مدة ثم ينقطع).
    إذاً: هذا النوع الثاني لا يستمر عذابهم إلى النفخ في الصور وقيام الساعة، قال: (إلى مدة، ثم ينقطع فهو عذاب بعض العصاة الذين خفت جرائمهم، فيعذب بحسب جرمه ثم يخفف عنه، كما يعذب في النار مدة ثم يزول عنه العذاب).
    ولم يورد على هذا نصاً، وإنما ذلك مقتضى الحكمة ومقتضى القياس، أي: كما أن من يدخل النار يدخلها بحسب ذنوبه ومقدار عمله ثم يخرج منها ما دام من أهل التوحيد، وهذا هو الشرط الأساسي، فالمهم أن يكون من أهل التوحيد وأن يلقى الله تعالى غير مشرك به، قال تعالى: (( إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ))[المائدة:72]، فهذا في حق أهل التوحيد.
    فكما أن أهل التوحيد يخرجون من النار ولا يخلدون فيها أبد الآبدين؛ فكذلك من يعذب في القبر منهم لا يخلد فيه، وإنما بقدر جرمه يعذب ثم يخفف أو ينقطع عنه العذاب.
    وقد وصل الحديث بـابن القيم رحمه الله إلى المسألة التي سبق أن عرضنا لها، وهي مسألة إهداء القربات، فيقال: (وقد ينقطع عنه العذاب بدعاء أو صدقة أو استغفار أو ثواب حج ...) إلى آخره، يريد أن يؤكد ما سبق من أن مقتضى الحكمة ومقتضى القياس على من يدخل النار يستدل عليه أيضاً بهذا، فإنه قد يكون لديه من الذنوب ما يعذب بقدرها، فيعذب في قبره ما شاء الله أن يعذب، وربما يكون ممن يستحق بعمله وذنوبه أن يعذب في القبر عذاباً دائماً، بل ربما يستحق ما هو أكثر، ولكن الله سبحانه وتعالى ييسر له من غير عمله، فينقطع عنه العذاب بذلك، كما لو دعا له أحد واستجاب الله تبارك وتعالى له دعوته فيه، أو شفع له وقبل الله تبارك وتعالى شفاعته، أو تصدق عنه وقبل الله صدقته، أو حج عنه، ولا سيما إن كان العمل مما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث... )، فالصدقة الجارية ربما لا تكفي الإنسان في أن يتطهر قبل أن يموت، وربما لم يبدأ في استثمارها والعمل بها إلا بعد أن مات، فتكون في حياته ملكاً له ثم تصدق بها قبيل وفاته أو قبيل مرض موته فلا يزال أجرها يستمر وهو لا يزال في حاجة إلى الخير وإلى الحسنات، والله سبحانه وتعالى لا يظلم أحداً (( إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ))[النساء:40]، وهذا مقتضى حكمته سبحانه وتعالى وعدله، (( وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ))[النساء:40]، يعني أنه يبارك ويزيد في الحسنات، بل ويؤتي من عنده من غير أن يعمل العبد، فيتكرم ويتفضل على من يشاء من عباده الصالحين، فإذا كافأ هذا الأجر ذلك الذنب انقطع العقاب وانتهى، ولا يزيد الله تعالى عليه ولا يظلمه، فيتحول صاحبه من العذاب إلى النعيم فينجو بإذن الله سبحانه وتعالى.
    وكذلك إذا كان له ولد صالح يدعو له، وهذا أيضاً يتصور، كأن يكون للرجل ولد فاسق ضال، أو صغير لا يعقل، وبعد حين من الزمن والأب المذنب يعذب في قبره أراد الله تبارك وتعالى توبة ذلك الشاب الضال فاهتدى واستقام وعرف الله وأخذ يصلي ويصوم ويدعو لأبيه ويتصدق عنه ويفعل الخير، ولا سيما الدعاء المنصوص عليه، فببركة استقامته وتقواه ونشأته في طاعة الله تبارك وتعالى ودعائه لأبيه يخفف الله تعالى العذاب أو يقطعه عن أبيه.
    وهذا من الأمور التي يجب أن يتنبه لها المسلمون، فمن الناس من لا يبالي بأبنائه من بعده، فغاية ما يهمه أن يكون لديهم الأموال والأراضي والعقارات والوظائف، ويهمه -كما يعبرون بعبارة موجزة- تأمين المستقبل، والله تعالى يقول: (( اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ))[الأنبياء:1]، هذا حال أكثر الناس، حتى من يقرأ منهم كتاب الله ويعيش في بلاد الإسلام بين المسلمين، معرضون وفي غفلة عن هذه الأمور، فلم تهتم بمستقبله؟! إن مستقبلك أنت ومستقبله في الآخرة، عندما يقول: (( يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ))[الفجر:24]، فهذه هي الحياة وهذا هو المستقبل، فلو أن الأب اهتم أولاً بالعمل الصالح، ومع ذلك اهتم بتربية أبنائه تربية صالحة تكون صدقة جارية من بعده، واهتم بعلم نافع من بعده وأثر حسن في العالمين وهدى يدعو إليه فيكون له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة؛ لكان له في ذلك الأجر العظيم، ولا يعني هذا أن يترك الدنيا، فنحن لا نقول: دعوا الدنيا أي اتركوها بالكلية كما قد يفهم بعض الناس، إنما نريد أن يتركوا التعلق بها، وإلا فقد قال صلى الله عليه وسلم -كما في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في الصحيح-: ( فإنك إن تذر ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى ما تجعل في فيَّ امرأتك ).
    فلا بد للإنسان أن يعلم أجر ما ينفقه على أهله، وأن يهتم بالجانب الآخر وبالأمر الأعظم والأهم، وهو ما يقدمه لهم عند الله، فإن ذلك ينفعه وينفعهم وينفع المجتمع والأمة بلا ريب.