المادة    
أما الحقوق الثابتة في الذمة فهل ينتفع الميت بإسقاطها؟
  1. انتفاع الميت من إسقاط حقوق العباد الثابتة في ذمته

    أما حقوق العباد، فهل يجوز للإنسان أن يقضي ديناً عن غيره من المسلمين وينتفع الميت وتبرأ ذمته به؟!
    نقول: دل على ذلك ما رواه الإمام البخاري عن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم ( أتي بجنازة ليصلي عليها ) وكان من شأنه صلى الله عليه وسلم قبل أن يوسع الله تعالى عليه ويفتح عليه إذا أتي بجنازة أن يسأل: هل على صاحبها دين أم لا؟ فإن كان عليه دين قال: صلوا على صاحبكم، وإلا صلّى عليه، فلما وسع الله تبارك عليه قال: ( أنا ولي كل مسلم )، فأصبح صلى الله عليه وسلم يقضي الدين عن المسلمين، فهل تتصور رحمة أعظم وأشمل من هذه الرحمة؟! وقد قال الله تعالى عنه صلوات الله وسلامه عليه: (( بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ))[التوبة:128]، فكان يقضي ديون المسلمين من بيت المال، فهذه غاية الإحسان، أن يقوم إمام المسلمين ووالي الأمة -إذا وسع الله تعالى عليه في بيت المال- بقضاء دين من مات من المسلمين وعليه دين، ولا يعني هذا أن يتوسع الناس، فيستدين كل امرئ كما يشاء ويقول: إذا مت فإن الإمام سيقضي الدين عني. فلا ينبغي أن يستدين الإنسان إلا وهو عازم على الوفاء؛ لأن الشهيد -وهو شهيد- يغفر له كل شيء إلا الدين.
    فمن فعل من المسلمين ذلك وكانت نيته الوفاء، ولم يستدن إلا لحاجة؛ فإن إمام المسلمين يقضي دينه ما دام الله تعالى قد وسع عليه في بيت المال.
    وهكذا التوازن، فلا الرعية تفرط في حقوق الله وحقوق العباد، ولا الوالي يعدم الرحمة والإحسان إلى الرعية، وهذا غاية العدل الذي جاء به الإسلام ولم تأت به شريعة أخرى مهما زعم الزاعمون.
    ففي حديث سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بجنازة ليصلي عليها، فقال: هل عليه من دين؟! قالوا: لا. فصلى عليه، ثم أتي بجنازة أخرى، فقال: هل عليه من دين؟ قالوا: نعم. قال صلى الله عليه وسلم: صلوا على صاحبكم )؛ لأنه مات وعليه دين، ( فقال أبو قتادة رضي الله تعالى عنه: علي دينه يا رسول الله )، فانظر إلى رحمة الصحابة رضي الله تعالى عنهم وتكافلهم وتعاونهم فيما بينهم كما أمر صلى الله عليه وسلم، قال: ( فصلى عليه ) فحصل بإذن الله براءة الذمة للميت وحصل الأجر إن شاء الله تعالى للحي وهو أبو قتادة رضي الله تعالى عنه، فدل ذلك على أن أداء الحقوق التي في ذمة للمسلم الميت المتوفى جائز وصحيح من أي مسلم، وأن فاعل ذلك مأجور، وأن المتوفى الميت يسقط عنه ما في ذمته من هذا.
    ولهذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: (أجمع المسلمون على أن قضاء الدين يسقطه من ذمته ولو كان من غير تركته ولو كان من أجنبي) بعيد عنه، وليس شرطاً أن يكون وليه، قال: (وأجمعوا على أن الحي إذا كان له في ذمة الميت حق من الحقوق فأحله منه أنه ينفعه ويبرأ منه كما يسقط من ذمة الحي)، فلو تصورنا في حادثة أبي قتادة رضي الله تعالى عنه أن الرجل صاحب الدين قال: يا رسول الله! أنا صاحب الدين، وقد عفوت عنه.
    فسيصلي عليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ المقصود هو إبراء الذمة، وإبراء الذمة من صاحب الحق بإحلاله وتنازله إن لم يكن أولى فهو مثل أن يأتي غيره فيتحمله عنه، وهذا من عموم فضل الله سبحانه وتعالى.
  2. انتفاع الميت من إسقاط حقوق الله الثابت في ذمته

    نقول: هذه الحقوق إما أن تكون لله، وإما أن تكون للآدميين، فالتي لله هي التي تكلمنا عنها، وقد يكون في بعضها خلاف، ولكن بعضها ثابت كما سنعرض إن شاء الله تعالى، ومنها حديث المرأة الجهنية الصحيح الذي فيه: ( أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته بأن أباها لم يحج، فهل تحج عنه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء )، ومعنى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل لنا قاعدة؛ وهي: (الله أحق بالوفاء).
    وقال في الحديث الآخر: ( فدين الله أحق أن يقضى ) للتي سألت عن صيام أمها، ومعناه: أن الإنسان له أن يؤدي وللميت أن ينتفع بما أدي عنه من حقوق الله عز وجل، كما إذا مات وعليه نذر أو صيام أو حج أو ما أشبه ذلك.
    وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله تعليقاً على حديث المرأة الجهنية أنه (يلتحق بالحج كل حق ثبت في ذمته من كفارة أو نذر أو زكاة أو غير ذلك).
    وعليه فإن قيل: هل هذا خاص بالحج؟ نقول: لا، والدليل (الله أحق بالوفاء)، فيوفى ما في ذمة العبد بأن يفعل ذلك وليه، وكون الولي يفعل ذلك وجوباً أو ندباً مسألة أخرى، والمقصود أنه لو فعل فإن ذلك ينفع الميت.
    ومن ذلك الكفارات، فلو أن رجلاً كانت عليه كفارة يمين أو غير ذلك من الكفارات؛ فلوليه أو من أراد من المسلمين أن يتطوع فيؤدي الكفارة عنه، وكذلك النذر يدخل في هذا الباب؛ لأن الله سبحانه وتعالى أحق بالوفاء، ولأن دين الله أحق أن يقضى.
    والأدلة التفصيلية على هذه القاعدة كثيرة:
    منها: الحديث الذي رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من مات وعليه صيام صام عنه وليه )، وكذلك الحديث الذي رواه مسلم قال: ( استفتى سعد بن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم في نذر كان على أمه توفيت قبل أن تقضيه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فاقضه عنها ).
    ويمكن أن يقال: إن سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه من جهة تصدق عن أمه ومن جهة أخرى وفّى بنذرها، فيكون هذا دليلاً على الحالتين وعلى الأمرين.
    ومن ذلك ما رواه الإمام مسلم عن بريدة رضي الله تعالى عنه قال: ( بينا أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتته امرأة فقالت: إني تصدقت على أمي بجارية وإنها ماتت. قال: فقال: وجب أجرك، وردها عليك الميراث )، فانظر إلى فضل الله سبحانه وتعالى، فهذه تصدقت على أمها بجارية، فتوفيت الأم فورثت البنت الجارية، فقال: ( وجب أجرك، وردها عليك الميراث ) قال بريدة : ( قالت: يا رسول الله! إنه كان عليها صوم شهر، أفأصوم عنها؟ قال: صومي عنها، قالت: إنها لم تحج قط، أفأحج عنها؟ قال: حجي عنها ).
    فدل هذا على أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب بإسقاط الحقوق التي لله سبحانه وتعالى عن الغير، وهذا ما يدل على ثبوت هذا العمل الذي هو أصل المسألة، وهو الإهداء، خلافاً لمن أنكر ذلك من المتكلمين أو غيرهم.