المادة    
بقي أن ننظر إلى المسألة -ولو بإلمام على عجل- من جهة وصول ثواب الأعمال، فما صحة وصول ثواب الأعمال وإهدائها للموتى؟
المسألة فيها نزاع بين أهل السنة والجماعة وبين غيرهم، فبعض المعتزلة والمتكلمين لا يرون أن العمل يصل إلى الميت مطلقاً، فيقولون: لا يصل إلى الإنسان إلا ما عمله هو، وأما ما عمله غيره فإنه لا ينتفع به مطلقاً ولا يصل إليه.
وأما أهل السنة والجماعة فهم متفقون على أصل الإهداء، وإن كان هذا الاتفاق لا يمنع وجود خلاف قوي في بعض التفصيلات، كمسألة القراءة مثلاً، وسنفصل خلافهم إن شاء الله.
فالمقصود أن القائلين بامتناع وصول الأجر مطلقاً هم فئة من المتكلمين من المعتزلة وغيرهم، يقولون: إن الله سبحانه وتعالى يقول: (( وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ))[النجم:39]، وهذا من أقوى أدلتهم، فعمدتهم هذه الآية وما شابهها، فيقولون: ليس للإنسان إلا سعيه، وأما سعي غيره فلا.
  1. توجيه الخلاف بين أهل السنة والجماعة وبين المعتزلة في مسألة وصول ثواب الأعمال للموتى

    ونقول: إن الأصل في هذا الباب أن الإنسان لا يستحق ذلك استحقاقاً، وهذا يذكرنا بحديث معاذ في حق الله على العباد وحق العباد على الله، وفرق بين الحقين؛ إذ ما للعباد عليه تعالى حق واجب، لكن الله تعالى جعل حقاً لعباده عليه إن هم أطاعوه أن يجازيهم على طاعته، فهذا حق يسأله العبد ربه، ومن حقه أن يسأله وأن يطلبه، لأنه سبحانه وتعالى كتبه على نفسه وأوجبه على نفسه، كما أنه من جهة السيئات لا يستحق الإنسان أن يعاقب إلا على ما جنى واكتسبت يداه، لا على ما فعل غيره، كما قال تعالى: (( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ))[الأنعام:164].
    فهذا هو الفرق في منهج أهل السنة والجماعة ، فنحن نستدل بهذا فنقول لهم: إن الاستحقاق شيء، والانتفاع شيء آخر، فالله سبحانه وتعالى جعل ثواب العبد على الطاعة حقاً له، لكن ذلك لا يعني أنه لا ينفعه بعمل غيره، بل له عز وجل أن ينفع العبد بما يشاء وأن يثيبه بما يشاء ولو كان من عمل غيره، وهذا فضل منه سبحانه وتعالى، وأما امتناع العقاب بعمل غيره فعدل منه سبحانه، فالفضل ألا يمنع الإحسان إلى العبد وإن كان جاء هذا الإحسان من قبل غيره، وأما العدل فهو ألا يؤاخذه إلا بما عمل أو بما كان من آثاره، كما قال تعالى: (( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ))[يس:12]، أي: آثار ما قدموا وما عملوا في حياتهم، وهذه الآثار يمكن أن نفسرها بما جاء في الحديث الصحيح: ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له )، وليس ذلك محصوراً في هذه الثلاث، بل هناك كثير مثلها، لكن هذه أهمها وأوضحها، فهذه وأمثالها تدل على أن الإنسان ينتفع بأثر عمله، فالولد الصالح من آثار عمله، والصدقة من آثار عمله، والعلم من آثار عمله، فينتفع بعمله وينتفع بأثره بإذن الله.
    ولو لحق الإنسان عقوبة أو شر لم يكن إلا بما عمل أو بآثار ما عمل، كما لو كان مبتدعاً غير داع إلى البدعة في حياته ثم مات، فإنه ينقطع حسابه وتنقطع مؤاخذته وتنقطع عقوبته، فلا يكتب عليه إلا ما فعله في حياته، أما إذا خلف علماً يضل به الناس فإنه يحمل وزر ذلك، فكما أن العلم الذي ينتفع به لصاحبه أجر؛ كذلك الذي يضل به الناس ولا ينتفعون به يكون على صاحبه وزر نسأل الله العفو والعافية، وهذا كما جاء في الحديث: ( من سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده ...)، ولا يشترط أن يدعو إليها وهو حي، بل ما دامت آثاره أو كتبه تدعو إلى الضلالة فهو مأزور غير مأجور، وهو مؤاخذ.
    فالمرء لا يستحق العقوبة إلا بما عمل أو بآثار عمله، وكل ذلك داخل في عموم عمله، وهذا بالنسبة للسيئات أما الحسنات فإنه يستحقها استحقاقاً، ولا ينفي هذا أن ينفعه الله عز وجل بعمل عمله غيره من الناس، والنصوص في ذلك كثيرة والحمد لله.