المادة    
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
قال المصنف رحمه الله تعالى: [السبب السابع: ما يهدى إليه بعد الموت من ثواب صدقة أو قراءة أو حج ونحو ذلك، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى].
السبب السابع: ما يهدى إلى الميت من أعمال البر وأعمال الخير، وهذا الموضوع له أهميته من الناحية الإيمانية التربوية، وكذلك من الناحية العلمية والفقهية؛ إذ كثير من الناس يجهلون ما يتعلق بهذا الأمر من أحكام، بل إن هذا الأمر صار من أكثر البدع انتشاراً في بلاد المسلمين نتيجة جهلهم ومخالفتهم للحق في باب إهداء القربات والثواب إلى الموتى، وسبب ذلك هو البدعة من جهة والجهل من جهة أخرى، ولذلك فإن الموضوع مهم، وسوف نتحدث عنه -إن شاء الله تعالى- بالتفصيل في بابه من هذه العقيدة.
وإنما نتحدث هنا عنه من جهة كونه مانعاً من إنفاذ الوعيد، والفرق بينه وبين المانع السابق، والاستدلال على تأثيره، إلى آخر هذه الموضوعات، وسننبه -إن شاء الله تعالى- على بعض ما يجب التنبيه عليه من النواحي التربوية المتعلقة بهذا الموضوع في مبحثه الخاص، وسنفصل القول في هذا الأمر ليتبين لطالب الحق ما يجوز إهداؤه من القربات والطاعات أو إهداء أجره وما لا يجوز، وما يترتب على مخالفة السنة في ذلك عند كثير من الناس، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدي ضال المسلمين، وأن يمن علينا وعلى إخواننا المسلمين جميعاً بالاستقامة والهداية واتباع السنة؛ إنه سميع مجيب.
  1. الفروق بين الدعاء والإهداء للميت

    أول ما ينبغي أن نتحدث عنه في هذا الموضوع هو الفرق بين مانع الدعاء ومانع الإهداء، والمقصود إهداء ثواب الطاعات أو القربات إلى الميت، سواء أكان قريباً أم كان رجلاً صالحاً يرى المهدي أن له عليه حقاً لأي سبب فما هي الفروق بين مانع الدعاء ومانع الإهداء؟ ولماذا جعلنا هذا مانعاً وهذا مانعاً آخر؟ إذ بالتفريق بين الأمرين يتضح الأمران ويتميز كل منهما تميزاً واضحاً. ‏
  2. الفرق من جهة نفس الدعاء والإهداء

    الفرق الأول: من جهة نفس الدعاء والإهداء، ففيهما من هذه الجهة فروق:
    أولاً: في الكيفية، فالدعاء يكون بالقول، وأما الإهداء فإنه يكون فعلاً.
    ثانياً: أن الإهداء فيه خلاف في مشروعيته، أما الدعاء فإنه ثابت بنص القرآن في قوله تعالى: (( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ ))[الحشر:10].
    ثالثاً: أن الإهداء أن يتصدق الحي بثواب العمل وبأجر العمل، أما الدعاء فإنه يكون بذات العمل، فالدعاء ينفع بذاته إذا استكمل شروطه هو وآدابه.
    فمن جهة الانتفاع يكون الانتفاع بالدعاء نفسه، حيث يدعو العبد لأخيه فينفعه الله تبارك وتعالى بذلك الدعاء، كما تقدم في الشفاعة من المصلين على الجنازة، فكل من يدعو لغيره من المسلمين ويتقبل الله تعالى دعاءه ينتفع المدعو له بدعائه، أما القربات في حالة الإهداء فالانتفاع إنما يكون بأثرها، وهو الأجر والثواب.
  3. الفرق من جهة فاعل الانتفاع

    الفرق الثاني: من جهة فاعل الانتفاع، فالإهداء خاص بالآدمي المكلف المتعبد بالطاعات؛ لأنه يهدي ثواب أجر أو عمل صالح، فالذي يعمل العمل الصالح وينفع به وينتفع به هو الآدمي المكلف، أما الدعاء فهو أعم؛ إذ الدعاء يدخل فيه الإنسان المكلف -كمن يدعو لقريبه أو لأخيه المسلم كائناً من كان وهو من الآدميين المكلفين- ويدخل فيه غير المكلفين، مثل الملائكة يدعون ويستغفرون للذين آمنوا، كما في قوله تعالى عنهم: (( رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ ))[غافر:7]، والملائكة ليسوا من المكلفين إنما المكلفون هم الثقلان: الجن والإنس، أما الملائكة فلا يتصور منهم الإهداء وإنما يكون منهم الاستغفار، وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى، حيث جعل هؤلاء العباد المكرمين الذين اختارهم واصطفاهم وأخبر عنهم بقوله تعالى: (( لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ))[التحريم:6] جعلهم يدعون ويستغفرون ويترحمون للمؤمنين، بل إن الحيتان في جوف الماء تستغفر للعالم ومعلم الناس الخير، وكذلك النملة في جحرها، وهذا من عظيم فضل الله سبحانه وتعالى على دعاة الخير والهدى الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر الذين يعلمون الناس كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وحدود ما أنزل الله على رسوله، فيحصل لهم الأجر والدعاء من دعاء المؤمنين المكلفين ومن دعاء الملائكة، وكذلك دعاء هذه العجماوات، والتمثيل بالحيتان والنمل دال على ما وراءهما، فيستغفر له كل شيء بإذن الله تعالى حتى هذه التي قد لا يتصور الناس أنها تستغفر.
  4. الفرق من جهة الشخص المراد نفعه

    الفرق الثالث: أن الإهداء إنما يكون لمن مات، فهو غير الوكالة، فلا يصح أن تعمل عملاً من أعمال الخير ثم تقول: أهدي هذا الأجر لفلان وهو حي، وفيه خلاف بين العلماء، إلا أن الصحيح أنه لا يصح، وإن صح فإنما يكون في حالات معينة مخصوصة فصلها بعض العلماء، أما أن يفتح الباب للإهداء فهذا يكون من دواعي وذرائع التواكل، فإن الحي مأمور بأن يجتهد في طاعة الله، ولا يتكل على غيره، فلو أن كل عامل للقربات قال: أهدي أجرها لفلان؛ لأدى ذلك إلى التواكل، وأما الميت فإنه قد مات ولا يستطيع أن يعمل شيئاً، ولا يستطيع أن يزيد حسنة ولا أن ينقص سيئة، فهو محتاج إلى ذلك، فالأمر مفهوم المعنى في حقه، أما الحي فالواجب عليه أن يعبد الله تعالى وأن يجتهد في ذلك، فإذا أراد الإنسان أن يحسن إليه فليدع له، وهذا سائغ، أو يعطيه ما يتصدق به مثلاً، أو يستنيبه في أمر من الأمور، فإذا استنابه فقال له -مثلاً-: ادفع عني كذا، أو: جزاك الله خيراً إن أحسنت عني بكذا أو تصدقت عني بكذا وفعلت عني كذا؛ فإنه يحصل له الأجر؛ لأنه أنابه، وذلك قد وافق على هذه الإنابة.
  5. الفرق من جهة الثبوت بالنص

    الفرق الرابع: أن الدعاء ثابت بنص القرآن، ولا خلاف فيه بين العلماء، وينتفع المسلمون الأحياء منهم والأموات بدعاء بعضهم لبعض، وأما الإهداء فإن فيه مسائل تتوزع فيها، وبعضها الخلاف فيه قوي، وعمل الإنسان بما أجمع عليه أهل السنة والجماعة أولى من عمله بما لم يجمعوا عليه، ولا سيما إذا كان المراد والغاية والنتيجة واحدة، وهي حصول الرضوان والأجر والثواب.
    فالذي لا شك فيه هو الدعاء، فجدير بالمسلمين أن يتحروه وأن يجتهدوا فيه وأن يتواصوا به جميعاً، فيدعو بعضهم لبعض في ساعات الإجابة وفي كل المواطن التي ترجى فيها الإجابة بإذن الله تعالى، وهذا مما يجلب الخير والبركة للجميع، فيعم الله تعالى جميع المسلمين بنفع هذا الدعاء إذا صدر من بعضهم لبعض.
    أما الإهداء فإنه فتح معه باب عظيم من أبواب البدعة، فزاد الناس فيه على المشروع وتوسعت فيه شقة الخلاف حتى ابتدع في الدين، وأصبحت أحوال المسلمين اليوم يرثى لها في كثير من البلاد بسبب ما يصنع من الإهداء، فأصبحنا نرى الآن العجب العجاب، فإذا مات ميت جمع القراء ليقرءوا القرآن، ويقولون: نهدي ثواب هذه القراءة للميت، وأصبحنا نرى من يحج أو يعتمر ويقول: هذه العمرة أو الحج لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يهدي بثوابهما له، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي دلنا على الخير كله، وما من عمل يعمله أحد منا إلا وله صلوات الله وسلامه عليه من الأجر مثل ما لذلك العامل، كما نص على ذلك الحديث، وليس هذا خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل كل من يدعو إلى الخير له من الأجر مثل أجر فاعله، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً )، فالنبي صلى الله عليه وسلم ليس محتاجاً إلى أن يحج عنه أو يعتمر عنه أو يتصدق عنه، أو يضحى عنه -مثلاً- كما يفعل بعض المسلمين، وربما كان ذلك عن حسن نية، ونحن لا نتهم النيات، لكن نقول: هل ذلك مشروع؟! ولو كان خيراً لسبقنا إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم أعظم منا حباً له وأشد تعلقاً به وحرصاً إلى إيصال الخير إليه بأي طريق من الطرق، وهم الذين حموه صلوات الله وسلامه عليه بأنفسهم وأموالهم وبذلوا مهجهم وأرواحهم وكل ما يملكون فلم يستغلوا غالياً، بل استرخصوا كل شيء في سبيل المحافظة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيصال الخير بأي طريقة من الطرق إليه صلى الله عليه وسلم وإلى من أوصى أن يوصل الخير إليه.
    وكذلك سائر البدع التي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدي المسلمين وأن يبصرهم في الدين ليتخلصوا منها بإذن الله والتي سوف نأتي فيما بعد إلى الحديث عنها بإذن الله تعالى.