المادة    
ثم قال: (وقال الفضيل: أصل الإيمان عندنا -أي: عند أهل السنة والجماعة - وفرعه بعد الشهادة والتوحيد والشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالبلاغ، وبعد أداء الفرائض).
فذكر الأصول، وهي الشهادة لله تبارك وتعالى بالتوحيد، والشهادة لنبي الله صلى الله عليه وسلم بالبلاغ، وهذا أصل عظيم من أصول الدين، وبعده أداء الفرائض التي هي أركان الإسلام وما كان مؤكداً عليه من الفرائض.
ثم بعد ذلك هناك أمور أخرى، قال: (صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وترك الخيانة، والوفاء بالعهد، وصلة الرحم، والنصيحة لجميع المسلمين، والرحمة للناس عامة).
فهذه كلها من فروع الإيمان، فبعد أداء الشهادتين وبعد أداء الفرائض والأركان هناك واجبات أخرى، فديننا هو أركان وواجبات وكمالات أو مستحبات على اصطلاح المتأخرين، وأما الأئمة الأولون فما كانوا يقسمون هذا التقسيم، لكن المراد هو هذا.
فأصل الدين الذي لا يمكن لأحد أن يدخل الدين إلا به هو أصل واحد مكون من شعبتين: الأولى: ألا يعبد إلا الله، والثانية: ألا يعبد الله إلا بما شرع.
فقولنا: ألا يعبد إلا الله فهذا معنى (لا إله إلا الله)، وقولنا: ألا يعبد الله إلا بما شرع فهذا مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله، أي: أن نعبد الله كما علمنا عبادته رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا طريق إلى الله وإلى رضا الله وإلى عبادة الله إلا طريق النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أصل الدين.
ويلي ذلك في الأهمية بقية الأركان الأربعة، فهي أعظم الفرائض وأوجب الواجبات، وهي أحب ما يتقرب العبد به إلى الله، كما قال تعالى في الحديث القدسي: ( وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه )، فلو أن الله تعالى يحب أن يتقرب إليه بشيء غير الفرائض أو أولى منها لجعله هو الفرض، فمن حكمة الله أن جعلها هي الفرائض، فهي أولى وأفضل ما يتقرب العبد به إلى الله.
فإذا أدى العبد الفرائض فهل يكتفي بذلك؟!
يقول الإمام الفضيل : إن هناك أيضاً واجبات أخرى، ووجود هذه الواجبات دليل على أن الإيمان لا يتم إلا بها، وكذلك العمل لا يتمم إلا بها، فإذا أدى الفرائض والأركان وجاء بالتوحيد، ولكن أخل بهذه الواجبات فلا يكون مستكمل الإيمان، فإن أتى بالإيمان الواجب وترك الكمالات والمستحبات فإنه يكون قد أخل بالإيمان المستحب لكمال الإيمان، فلا بد من هذه المرتبة، فوجود هذه المرتبة دليل على ما عند أهل السنة والجماعة من أن الإيمان قول وعمل.
وذكر أمثلة على هذه الواجبات، وهي: الصدق في الحديث، فهذا واجب، إذ الكذب من علامات المنافق كما قال صلى الله عليه وسلم، فلا يمكن أن يكذب -وإن كان قد أتى بالتوحيد وأتى بالأركان- ويكون مع ذلك كامل الإيمان.
وكذلك حفظ الأمانة وترك الخيانة، ولا يمكن أن تكون هذه الخلة موجودة في مؤمن -وإن كان قد أتى بالفرائض والأركان- ويكون مع ذلك مستكملاً للإيمان.
وكذلك الوفاء بالعهد الذي أمر الله تبارك وتعالى به فقال: (( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ))[الإسراء:34]، فهو واجب لا بد أن يفي به الإنسان، والله تعالى قد حرم أيضاً نقض الميثاق والأيمان بعد توكيدها فقال: (( وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ))[النحل:91]، وقال في صفات المؤمنين: (( وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ ))[الرعد:20]، فالعهد بين العبد وبين ربه، والعهد بين العبد وبين الناس عام يدخل فيه كل عهد، فكل عهد يجب أن يفي به إلا ما كان مخالفاً لكتاب الله.
ومن ذلك: صلة الرحم، وهي من أعظم الواجبات، وذكرها الله تعالى في صفات المؤمنين فقال: (( وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ))[الرعد:21]، فلا يمكن للذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل أن يكونوا مستكملي الإيمان وقد افترض الله عليهم ذلك.
  1. مزية الإسلام في تشريعاته العظيمة

    وهذه الأمور من أظهر ومن أعظم مزايا الإسلام، حتى إن الرجل عندما كان يسأل عما يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم يذكر من جملة ما يأمر به صلة الرحم والصدق والعفاف ونحو ذلك، كما سأل أبو ذر رضي الله تعالى عنه أخاه، وكذلك سؤال النجاشي رضي الله عنه جعفراً ، وكذلك سؤال هرقل أبا سفيان .
    فمن أعظم مزايا هذا الدين أنه يدعو إلى توحيد الله وإلى صلة الرحم والعفاف والصدق والأمانة، فهذه المزايا الأخلاقية تتفق العقول كلها عليها، ولا يمكن لأي أمة من الأمم أن تتغاضى عنها أو أن تتجاهلها، ولا يمكن لحكيم أو عاقل في هذا الوجود إلا أن يجعلها من مقومات الحياة، فلا بد من صلة الرحم ومن الصدق ومن العفاف.
    فهذه الأمور -كما ذكر الفضيل رحمه الله تعالى- داخلة في حقيقة الإيمان، وهي من أعظم وأظهر ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم الذي بعث ليتمم مكارم الأخلاق، وهي أساسيات أخلاقية لا تقوم المجتمعات إلا بها.
    وكذلك: النصيحة لجميع المسلمين، لحديث: ( الدين النصيحة. قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ).
    فهي للمسلمين عامة، ويتعين ذلك في حق الولاة وكبار القوم، كما في حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله تعالى عنه؛ لأن جريراً كان سيداً في قومه، فلما بايع النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم )، وفي حقه تأكد في ذاته؛ لأن العلماء والأمراء والمسئولين في قبائلهم أو في مجتمعاتهم لابد من أن ينصحوا لكل من ولاهم الله تعالى أمرهم، فإن كانوا غاشين فقد تحقق فيهم الوعيد، نسأل الله العفو والعافية.
    وكذلك الرحمة للناس عامة، وهذا هو الفرق بين الرحمة والنصيحة، فالرحمة للناس عامة، نرحمهم جميعاً، حتى قتال الكفار الذي هو أشد أنواع الإيلام فهو لهم رحمة، فالمسلمون لو قاتلوا أمة من الأمم فإنما يقاتلونهم رحمة بهم في الحقيقة؛ لأنه لا يمكن أن يخرجوا وأن يتحرروا من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن عبودية العباد إلى عبادة رب العباد الله وحده إلا بهذا الجهاد، فيقضى على ذوي الشوكة وعلى ذوي الطغيان الذين يقفون حائلاً وحاجزاً أمام هداية هؤلاء، فإذا قضي عليهم دخل الناس بعد ذلك في دين الله أفواجاً.
    ولذا كان الجهاد من أعظم ما رحم الله به البلاد والعباد، فإن الله تعالى لما أخرج وابتعث هذه الجيوش التي خرجت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في الفتوحات فوصلت أطراف الدنيا شرقاً وغرباً حرر الله بهم العباد، وصحيح أنه ما من أمة إلا وفقدت من أبنائها، ولا شك في ذلك، لكن ما نسبة هذه الخسارة إلى ما تحقق لها من الخير والهدى والإيمان والنور والحق؟!
    وإن كانت القضية مجرد دماء؛ فإنه ما من أمة إلا وهي تحارب أو تحارب وتراق منها دماء، لكن شتان بين أن تراق أقل نسبة من الدماء لتحقيق أعظم غاية في هذا الوجود، وبين أن تراق دماء الملايين من البشر من أجل أهداف وغايات حقيرة، كما حدث في الحربين العالميتين من نزوات شخصية وعنصرية وكان بسببها ما كان.
    فهذا الدين رحمة للعالمين، وهذه كلمة عظيمة جداً من الفضيل رحمه الله، كما قال الله تبارك وتعالى: (( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ))[الأنبياء:107].
    بل إن هذا الدين لا تقتصر رحمته على البشر، وإنما تشمل الحيوان، ففي كل ذات كبد رطبةٍ أجر كما بين النبي صلى الله عليه وسلم، وما حديث البغي التي غفر الله تعالى لها حين سقت كلباً بموقها عنا ببعيد.
    فهذا الدين دين الرحمة قبل أن يأتي الغرب الذي يتبجح الآن بالرحمة وحقوق الإنسان، وقبل أن يعرفوا حق الإنسان في بلادهم، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم الناس حق الحيوان، بل في أشد أنواع إيلام الحيوان ما شرع لنا الإسلام إلا الرحمة، فقال: ( وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته )، فهو سيذبحها، لكن هذا الذبح فيه رحمة.
    وأما من قال: إذا كان الإسلام دين الرحمة فلا جهاد فيه ولا قوة، فهذا إن كان قاصداً فهو ضال مضل مفترٍ على الله الكذب، وإن كان مخدوعاً مغروراً -وما أكثر أمثاله في هذه الأيام- فيجب أن يعلم حقيقة الرحمة، فإن بعض الناس يظنون أن الرحمة أنك لا تقاتل، ولا تجاهد، ولا تؤلم عدواً أو حيواناً أو كائناً من كان!
    بل كل ذلك رحمة، حتى الحدود عندما تقام في المجتمع فهي رحمة بالمجتمع كله، وربما كانت رحمة بذلك المقتول أو المرجوم؛ لأنه إذا عوقب بهذا فهو كفارة له في الدنيا، فهي رحمة عظيمة وإن كانت في الظاهر مؤلمة.
  2. افتراء المضللين على جوانب التشريع الرادعة

    هذا جانب عظيم يجب أن يتحدث عنه الناس، لا سيما في هذه الأيام مع انتشار الدعاوى المضللة التي تسمى حقوق الإنسان، ومع الدراسات الخبيثة التي يسمونها دراسات علم العقوبة وعلم الإجرام، حيث يقررون في الجامعات عندنا في قسم القانون أن العقوبات في الماضي كان الغرض منها هو الإيلام، وأما الآن فإن المجتمعات الحديثة بدأت تفكر في إلغاء العقوبات بالكلية، فهناك اتجاهات اجتماعية وأخلاقية -كما يسمونها- تفكر في إلغاء العقوبات بالكلية، وبعضهم يقولون: هناك عقوبات، ولكن الغرض منها ليس هو إيلام الجاني، بل التهذيب، ولذلك يأتون به ويضعونه في السجن وهو عبارة عن منتزه، فيرى كل شيء، ويعيش وكأنه في بحبوحة لا يحس بأي شيء، ثم تقوم جمعيات حقوق الإنسان وتتفقد السجناء بحيث لا يتعرضون لأي ألم أو إزعاج، وتفرض الضرائب على الناس من أجل ترفيه السجناء بشكل أفضل.
    وهذا معاندة لحكمة الله تبارك وتعالى، وهو أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين الذي شرع هذه العقوبات وجعلها إيلاماً، ألم يقل الله تعالى: (( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ))[النور:2]؟! فقد سماه عذاباً وإيلاماً، فالإيلام مقصود، بدليل أنه أمر أن يشهد العذاب طائفة، فالعذاب والإيلام مقصود هنا، وشهادة الطائفة مقصودة، فيأتي هؤلاء ويقررون على أبنائنا في بلاد المسلمين هذه القوانين والنظم على أن النظريات القديمة تقول: إن الإيلام هو المقصود، وأما الآن فلا مكان لهذه النظريات القديمة، وربما يصرحون، وأحياناً تكون العبارات المكتوبة مهذبة، فيأتي المدرس ويقول: العقوبات الوحشية! يعني أن قطع اليد شيء وحشي، وكذلك الرجم والعياذ بالله، فترسخ الكلمة في أذهان الطلاب، حتى إن الطالب يستوحش حين يرى أحداً يرجم، وينسى ما في هذا من الحكم العظيمة.
    وكذلك الزنا، ينشر في وسائل الإعلام بكل طريقة حتى يستسيغه الناس، ثم يقال لهم: ما رأيكم فيمن يفعل هذا، أيليق به أن يرجم؟! وحينئذٍ لن يقولوا: نعم؛ لأنهم قد هان عليهم وسهل.
    أما عندما يكون الناس قد تربوا على الفطرة النقية والأخلاق الفضيلة فإنهم يرون ذلك من أوجب وأولى ما يكون، ولو لم يشرعه الله، فالعقوبة التي تليق بمن يفعل الزنا أو الفاحشة الأخرى هي هذه.
    ولهذا حكى عمرو بن ميمون الأودي رحمه الله -كما في البخاري - أنه رأى في اليمن القردة وهي ترجم قردة اكتشفت أنها فعلت مع قرد ما صورته الزنا! وكأنه مركوز في الطباع أنه لا بد من أن يرجم الزاني، وهذا في الجاهلية، وكان الرجم معروفاً قبل الإسلام في التوراة، وجاء الإسلام ليؤكده.
    فالمقصود أن هؤلاء الذين يستبشعون الحقيقة هم مخالفون للفطرة، ولكل الشرائع حتى الشرائع القديمة، فكل الشرائع القديمة نستطيع أن نقول: إن لها أصلاً شرعياً، فشرائع الفراعنة القدماء وشرائع الفينيقيين وغيرها لو تأملناها فلن نستطيع أن نقول: إن هذه الشرائع وضعية، بل هناك احتمال أن تكون هذه الشرائع موروثة عن نبوات وعن كتب سابقة، لكن دخلها التحريف، كما غير اليهود الرجم إلى الجلد والتحميم.
    فيمكن أن تكون لشريعة حمورابي أو لشرائع المصريين القدماء وغيرهم أصول من كتب أنزلها الله، وشرائع نبوية لرسل أرسلهم الله تبارك وتعالى، لكن حرفت أو بدلت، وربما تكون هي الشريعة، ولكن نسخت؛ لأن الشرائع تتغير، أما الذي لا يتغير فهو المعتقد والأصل.
    فالمهم أن هذه الشرائع تقول بهذه العقوبات في أشكال وصور أخرى، وما عهد في تاريخ الإنسانية أن شريعة عامة ملزمة لها شأن واعتبار أقرت الزنا مثلاً، إلا عندما ظهرت الثورة الفرنسية وتمرد الغرب على الدين وظهرت قوانين نابليون ، ومن قبل كانت الشرائع تدخلها نواح عنصرية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا سرق فيهم الشريف تركوه )، لكن الأصل كقانون نظري موجود في جميع الشعوب والأمم التي يمكن أن نسميها أمماً متحضرة، أما الأمم التي تتعاطى الفواحش فما كانت في التاريخ كله إلا أمماً منحطة، ولذا انحط الغرب إلى دركات الأمم المنحطة، فنجد أن الشكل والمظهر لحياة الأمريكيين والفرنسيين والإنجليز هو نفسه ما تعيشه القبائل الهمجية التي تعيش في أدغال أفريقيا أو في حوض الأمازون في أمريكا الجنوبية أو في غابات أستراليا أو بعض جزر أندونيسيا النائية، فالحالة الاجتماعية واحدة، لكن الفرق أن هذا يسكن في عمارة ويركب الطائرة ويقرأ الجرائد ويشاهد التلفزيون، وذلك لا يجد شيئاً، لكن الحياة الاجتماعية والعلاقات الزوجية الأسرية والإباحية والانحلال شيء واحد.
    إذاً: أين الحضارة؟! إنها مجرد جانب مادي فقط، فلو جئنا بهؤلاء العراة وأسكناهم في نيويورك وعاشوا مثل الأمريكان بشكل عادي جداً فلن يتغير فيهم إلا المسكن والمركب، وهذه الأمور ليست من جوهر وحقيقة الإنسان.