المادة    
  1. حديث فهم الصحابة للمراد بالخيط الأبيض والخيط الأسود

    إن النبي صلى الله عليه وسلم ورد عنه في مواضع كثيرة نصوص تدل من تتبعها أنه لا يجب القضاء على من لم يبلغه الحكم، ومن ذلك ما روي بشأن قول الله تعالى في آية الصيام: (( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ))[البقرة:187]، ففي صحيح البخاري حديثان: الأول حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه، وقد أسلم في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فمؤكد أن الآية قد نزلت والصيام قد وجب، ومع ذلك فهم الأمر على أنه يأتي بحبل أبيض وحبل أسود.
    والحديث الآخر حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، حيث روى أنه عندما أنزل قول الله تعالى: (( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ ))[البقرة:187] ولم ينزل قوله تعالى: (مِنَ الْفَجْرِ)، كان رجال من الصحابة إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله خيطاً أبيض وخيطاً أسود، وأخذ ينظر حتى يتبين له هذا من هذا، فأنزل الله تعالى بعدها (مِنَ الْفَجْرِ) فعلموا أن المقصود بالخيطين خيط الضوء وخيط الظلام.
    يقول الحافظ رحمه الله تعالى: (ولا يحسن أن يفسر بعضهم) أي: هؤلاء الذين ذكروا في حديث سهل بن سعد (بحديث عدي )؛ لأن إسلام عدي كان متأخراً، وهؤلاء كان الأمر منهم متقدماً)، أي: تكرر من عدد من الصحابة أنهم فهموا الخيطين بمعنى الحبلين، وما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقضوا، بل بين لهم الحكم.
  2. خبر عمر وعمار فيما فعلاه حين أجنبا

    الدليل الثاني: أن عمر رضي الله عنه وعماراً لما أجنبا اجتهد كل منهما، فلم يصل عمر ، بل قال: لا أصلي حتى أدرك الماء، أما عمار فقال: (فتمرغت كما تتمرغ الدابة). ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أحدهما بالقضاء.
  3. خبر المستحاضة التي امتنعت باستحاضتها عن الصلاة

    الدليل الثالث: المستحاضة؛ فإنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (إني أستحاض حيضة شديدة تمنعني من الصلاة). فهي كانت لا تصلي؛ لأن الدم كان ينزف بشكل كبير، فلما ذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وعلمها كيف تفعل؛ لم يقل لها: واقضي ما كنت تركت من الصلاة، فتبين أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يأمر بالقضاء.
  4. خبر تكلم معاوية بن الحكم في الصلاة

    الدليل الرابع: حديث معاوية بن الحكم السلمي لما تكلم في الصلاة، والكلام في الصلاة عمداً لغير مصلحة لها يبطلها على التفصيل المعروف، فهو تكلم عامداً متعمداً، لكنَّه كان جاهلاً بالحكم، فلم يدرِ أن الله قد أنزل الأمر بالصمت فيها، فلما سلم بين له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ) ولم يأمره بأن يقضي الصلاة مع أنه ما يزال في الوقت، فلو كان الأمر أنه لا بد من القضاء لقال: قم فصل؛ فإنك تكلمت في أثناء الصلاة، لكن لعلمه صلى الله عليه وسلم أنه ما بلغه ذلك لم يأمره بإعادتها.
  5. الفرائض التي لم تبلغ البعيدين عن المدينة

    الدليل الخامس: أنه لما زيد في صلاة الحضر -كما في حديث عائشة رضي الله عنها: ( فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فزيد في الحضر وأقرت في السفر ).
    لما زيد فيها وأوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الزيادة؛ كان بعض المؤمنين بعيداً عنه، مثل من كان في مكة ومن كانوا في أرض الحبشة مهاجرين، فما بلغتهم الزيادة إلا بعد أمد طويل، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة، وكذلك لما فرض شهر رمضان لم يبلغ المسلمين الذين كانوا في أرض الحبشة حتى فات ذلك الشهر.
    ولم يوجب عليهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقضوا رمضان الذي فات؛ لأنه لم يكن قد بلغهم أمر الله تعالى في ذلك.
    وكذلك في تحويل القبلة، فإن الله لما أنزل تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة كان بعض المسلمين في مناطق بعيدة، ولم يعلموا أن الله أنزل ذلك الأمر، وإنما علموا بعد ذلك، ولم يأمرهم النبي بإعادة صلاتهم التي كانت إلى بيت المقدس .
  6. خبر المتضمخ بالخلوق في إحرام عمرته

    قال رحمه الله تعالى: (وثبت عنه في الصحيحين أنه سئل وهو بـالجعرانة عن رجل أحرم بالعمرة وعليه جبة وهو متضمخ بالخلوق، فلما نزل عليه الوحي قال له: ( انزع عنك جبتك واغسل عنك أثر الخلوق، واصنع في عمرتك ما كنت صانعاً في حجك )، وهذا قد فعل محظوراً في الحج وهو لبس الجبة، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك بدم، ولو فعل ذلك مع العلم للزمه الدم)، أي: إنما فعله قبل أن يبلغه الخطاب بالتكليف.
  7. خبر المسيء صلاته

    والدليل التاسع: هو أنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال للأعرابي المسيء في صلاته: ( ارجع فصل فإنك لم تصل ) ثلاثاً؛ لأن ما صلاه ليس في الحقيقة صلاة مشروعة، فقال الأعرابي بعد الثالثة: (والذي بعثك بالحق ما أحسن غير هذا فعلمني) فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة المجزئة ولم يأمره بإعادة ما كان قد صلى قبل ذلك، وربما مضت سنون من الدهر على هذا الأعرابي وهو على تلك الحالة؛ فلقوله: (والذي بعثك بالحق ما أحسن غير هذا) لم يأمره؛ لأن هذا قد فعل غاية علمه وقدر استطاعته، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
    قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (وإنما أمره أن يعيد تلك الصلاة لأن وقتها باق، فهو مخاطب بها)، فهذه الصلاة بعينها قد بلغه فيها الخطاب، ومن بلغه الخطاب وجب عليه الامتثال، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمره بإعادة تلك الصلاة؛ لأنها كانت ما تزال في وقتها، فهو مخاطب بها، لكن الصلاة التي قبلها إلى أول صلاة صلاها لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة شيء منها، أما إذا كان الوقت باقياً وتلك الصلاة التي صلاها لا تبرأ بها الذمة؛ فإنها تبقى في ذمته ولو لم يبق من الوقت إلا مقدار ما يؤديها فيه أو يؤدي ركعة منها.
  8. الاستدلال على سقوط القضاء عمن لم يبلغه وجوب الصلاة أو بعض أوصافها

    قال رحمه الله تعالى: (ومعلوم أنه لو بلغ صبي أو أسلم كافر أو طهرت حائض أو أفاق مجنون والوقت باق لزمتهم الصلاة أداء لا قضاء)؛ فهؤلاء أراد شيخ الإسلام أن نتخذهم أنموذجاً ونقيس عليهم الذي لم يبلغه خطاب التكليف، فالصبي قبل البلوغ لا تجب عليه الصلاة وإن كان يندب إليها ويحث عليها ويعلمها، لكن الوجوب المتعين إنما يكون بعد البلوغ، فلو بلغ صبي في وقت فريضة من الفرائض، أو أسلم كافر في وقت فريضة من الفرائض، أو كانت امرأة حائضاً فطهرت في وقت فريضة من الفرائض، أو كان رجل مجنون فأفاق في وقت فريضة من الفرائض، وما يزال في الوقت متسع لأدائها، فإن عليهم أن يصلوها، وتكون أداءً لا قضاءً، كحال النائم والناسي الوارد حكمهما في حديث: ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ) فكذلك هنا، فوقتها متى ما ظهرت عليه علامة البلوغ إن كان صبياً، أو أسلم إن كان كافراً، أو طهرت إن كانت حائضاً، أو أفاق إن كان مجنوناً.
    قال رحمه الله تعالى: (وإذا كان بعد خروج الوقت فلا إثم عليهم)، وليس في ذمتهم أن يؤدوا تلك الفريضة التي ذهب وقتها، إذ التكليف لم يحصل بعد.
    قال رحمه الله تعالى: (فهذا المسيء الجاهل إذا علم بوجوب الطمأنينة في أثناء الوقت وجبت عليه الطمأنينة حينئذٍ ولم تجب عليه قبل ذلك، فلهذا أمره بالطمأنينة في صلاة ذلك الوقت دون ما قبلها) أي: التي قد صلاها ولم يطمئن فيها، وإلا لكان في ذلك من الحرج والمشقة ما الله به عليم، ولكن من لطف الله تعالى أنه ما جعل علينا في الدين من حرج، وأنه بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة، ولله الحمد.
    قال رحمه الله تعالى: (وكذلك أمره صلى الله عليه وسلم لمن صلى خلف الصف أن يعيد، ولمن ترك لمعة من قدمه أن يعيد الوضوء)؛ لأن الصلاة تترتب على الوضوء (وقوله أولاً -أي: للمسيء في صلاته-: (صل فإنك لم تصل) تبين أن ما فعله لم يكن صلاة، ولكن لم يعرف أنه كان جاهلاً بوجوب الطمأنينة، فلهذا أمره بالإعادة ابتداءً ثم علمه إياها لما قال: (والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا) فهذه نصوصه صلى الله عليه وسلم في محظورات الصلاة والصيام والحج فيمن ترك واجباتها مع الجهل، وأما أمره لمن صلى خلف الصف أن يعيد؛ فذلك أنه لم يأت بالواجب مع بقاء الوقت، فثبت الوجوب في حقه حين أمره النبي صلى الله عليه وسلم لبقاء وقت الوجوب، ولم يأمره بذلك مع مضي الوقت، وأما أمره لمن ترك لمعة في رجله لم يصبها الماء بالإعادة؛ فلأنه كان ناسياً فلم يفعل الواجب، فكان كمن نسي الصلاة وكان الوقت باقياً، فإنها قضية معينة بشخص لا يمكن أن يكون في الوقت وبعده، أعني أنه (رأى في رِجْل رَجُل لمعة لم يصبها الماء فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة) رواه أبو داود ، وقال أحمد بن حنبل : حديث جيد.
    يعني أن هذا الرجل الذي بقي من رجله مثل الدرهم يعرف أن الوضوء واجب، وأنه شرط لابد منه للصلاة، ويعلم أن الوضوء لابد فيه من أن يكون سابغاً، فتوضأ ونسي ذلك المقدار، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يعيد الوضوء وأن يصلي بوضوء كامل، فالفرق بين المسألتين أن الوقت في حق تارك اللمعة كان باقياً، وأن القضية شخصية تتعلق بهذا الرجل، فلا نأخذ منها قاعدة كما أخذ بعض الفقهاء، حيث قالوا: كل من ترك واجباً عليه أن يعيده، بل نقول: هذا حاله غير حال الذي لم يبلغه الخطاب بعد، وكذلك الذي لم يلتزم الخطاب ولو كان يعلم الحكم، لكن لم يلتزم به، وكان تاركاً له عن عمد وعن إصرار، فلا يقاس عليه.
    فقضية تارك اللمعة من غير وضوء حالة معينة تخص ذلك الرجل ومن كان مثله، فلو أنك رأيت أحداً ترك شيئاً من أعضاء الوضوء فأرشدته إليه، أو ترك واجباً من واجبات الصلاة أو ركناً من أركانها ولم يأت به فنبهته إلى ذلك؛ فإنه يجب عليه أن يأتي به.
    قال رحمه الله تعالى: (وأما قوله: ( ويل للأعقاب من النار ) ونحوه؛ فإنما يدل على وجوب تكميل الوضوء، ليس في ذلك أمر بإعادة شيء).
    أي أن قوله صلى الله عليه وسلم: ( ويل للأعقاب من النار ) ليس كما فهم منه بعض الفقهاء أنه يجب على الرجل أن يعيد كل صلواته التي صلاها ولم يكن يسبغ الوضوء، إنما يدل على وجوب تكميل الوضوء، فهذه حالة الجاهل الذي لم يبلغه الخطاب.