المادة    
  1. رد قياس المفرط على المعذور

    وقد رد هؤلاء على الموجبين فقالوا: أما قياسكم المفرط على المعذور فهذا عجيب، حيث استدل أولئك بقوله صلى الله عليه وسلم: ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ) قالوا: أتيتم إلى رجل ترك الصلاة عامداً متعمداً مفرطاً مجاهراً فقلتم له: صلها الآن كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم النائم أو الناسي أن يصليها خارج وقتها الأول، وهذا قياس فاسد غير معتبر، ولذا قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (فهذه الحجة إلى أن تكون عليكم أقرب منها أن تكون لكم)؛ وذلك لأن الشارع إنما شرط في فعلها بعد الوقت أن يكون الترك لأحد هذين العذرين، فالمعلق على الشرط يعدم عند عدمه، وأنتم جئتم إلى من لا يتوافر فيه هذا الشرط فأبحتم له القضاء، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ليس في النوم تفريط، وإنما التفريط في اليقظة، أن تُؤخَر صلاة حتى يدخل وقت أخرى ) فما نص الشارع على أنه لا تفريط فيه، قستم عليه ما هو ثبت عند الجميع أنه تفريط من صاحبه وثبت أنه تفريط بنص الشارع، وأي قياس في الدنيا أفسد من هذا؟!
    وقالوا أيضاً: إن المعذور لم يؤخر الصلاة عن وقتها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (فليصلها إذا ذكرها، فإنه وقتها)، فوقت الصلاة بالنسبة إلى النائم إذا قام، ووقت الصلاة بالنسبة إلى الناسي إذا ذكرها، فهذا المعذور أداها في وقتها، فكيف تقيسون عليه من أضاعها عامداً حتى خرج وقتها؟! فالنبي صلى الله عليه وسلم لما نام هو وصحابته الكرام في الوادي فلم يوقظهم إلا حر الشمس؛ صلوا الفجر بعد طلوع الشمس، وهذا وقتها بالنسبة له ولأصحابه، ولا نقول: إنه صلاها بعد خروج وقتها. نعم ذلك هو وقتها، لكن النبي صلى الله عليه وسلم ومن ناموا معه معذورون، فوقتها هو الذي أدوها فيه.
    ومن الناحية التأصيلية قالوا: إن الأوقات ثلاثة: وقت للقادر المستيقظ الذاكر غير المعذور، وهو خمسة على عدد الصلوات، ووقت للذاكر المستيقظ المعذور، وهو ثلاثة؛ فوقت الظهر والعصر في حقه واحد، ووقت المغرب والعشاء واحد، ووقت الفجر واحد، فالمسافر إذا صلى الظهر في وقت العصر فإنه صلاها في وقتها، وإذا أدى المغرب في وقت العشاء فإنه أداها في وقتها، فهؤلاء كلهم ما خرجوا عن كونهم أدوها في وقتها.
    والوقت الثالث المشروع في حق غير المكلف، وهو النائم أو الناسي، ومثلهما المغمى عليه وما أشبه ذلك، فهذا وقته غير محدد ألبتة، إنما الوقت في حقه هو وقت زوال العذر، كأن يفيق أو يستيقظ، فلو أغمي على رجل قبل صلاة الفجر ولم يفق إلا بعد صلاة العشاء؛ فإنه يصلي كل الصلوات، ووقتها في حقه هو ذلك الوقت، فلا شيء عليه، وهذا هو المطلوب منه شرعاً، وهذا الذي دلت عليه قواعد الشرع.
    قالوا: وقد شرع الله تعالى قضاء رمضان لمن أفطر لعذر ولم يشرعه قط لمن أفطره متعمداً لغير عذر، والحديث الذي تقدم أحد الأدلة، وقلنا: إنه ضعيف، ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أن أحداً من أصحابه أوجب على أحد ترك الصلاة عمداً أن يقضيها، أو ترك الصيام عمداً أن يصومه، وهذا من أعظم الأدلة، أي: عدم ورود شيء من ذلك مع وقوع هذه الحالات في زمن الوحي وزمن النبوة.
  2. الرد على القول بأن القضاء هو المستطاع المأمور به

    كما أنهم ردوا استدلالهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم )، فأولئك يقولون: لا يستطيع الآن إلا أن يصليها خارج الوقت، فتقبل منه.
    فردوا عليهم فقالوا: إن هذا الدليل إنما يدل على أن المكلف إذا عجز عن جملة المأمور به أتى بما يقدر عليه منه، فإذا أمرنا الله بمأمور وعجز أحد عن الإتيان به كله؛ فإنما يجب عليه أن يأتي منه بما استطاع، فهذا شيء وكونه يتركه عامداً متعمداً ثم يؤديه في وقت آخر شيء آخر.
  3. الرد على دعوى التخفيف عن المفرط بإسقاط القضاء

    قالوا: وأما قولكم: إنه لا يظن بالشرع تخفيفه عن العامد المفرط وتكليف المعذور؛ فهذا الكلام بعيد عن التحقيق بين البطلان؛ إذ المعذور إنما فعل ما أمر به في وقته، ونحن لم نسقط القضاء عن العامد المفرط تخفيفاً، فليس الغرض أن نخفف عنه، ولكن أسقطناه لأنه غير نافع له ولا مقبول منه، ولا يجزئه ولا تبرأ به ذمته، ولذلك نقول: إن العامد لا يقضي.
  4. الرد على اعتبار الصلاة خارج الوقت بدلاً عن الصلاة في الوقت

    قالوا: وأما قولكم: إن الصلاة خارج الوقت هي بدل عن الصلاة داخل الوقت؛ فجوابه أن هذه هي الدعوى، فالخلاف بيننا وبينكم في هذه القضية، فلا يستدل على الدعوى بالدعوى؛ ولو أثبتم أن البدل يجوز لانتهت المشكلة، فنحن نطالبكم بذلك.
  5. الرد على القياس على دين الآدمي

    قالوا: وأما قولكم بالقياس على دين الآدمي الذي أخر عن وقته فغير صحيح؛ لأن وقت الوجوب بالنسبة للصلاة وقت محدود الطرفين، وهذا الوقت لا يمكن أن يعوض في وقت آخر أبداً؛ لأنه في هذا اليوم وفي هذه الساعة محدود الأول ومحدود الآخر، بخلاف الدين. وكذلك رمضان، فالله تعالى جعل رمضان محدود الطرفين، فيبدأ من رؤية هلال شهر رمضان إلى رؤية هلال شهر شوال، فهذا وقت محدد يجوز للعبد أن يصوم فيه، ولا يجزئ أن يصوم أحد قبله ولا بعده، أو أن يوقع هذه العبادة التي فرضها الله تعالى في غير وقتها، وكذلك اليوم الواحد من أيام شهر رمضان محدد من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فلا يمكن أن يوقع في غيره بدلاً عنه؛ لأنه إن أوقعه في رمضان فرمضان كله واجب، وإن أوقعه في غيره فقد أوقعه في غير رمضان، فلا يصح منه الأداء. أما الدين وما أشبهه فوقته فيه سعة، ولا يقال: إن رمضان يقضى بين رمضانين أو أكثر؛ لأنه لو أفطر يوماً من رمضان عامداً لا يقوم مقامه يوم آخر، أما القضاء ففيه سعة، فلو لم يقض اليوم لقضى غداً ما بين رمضان إلى رمضان، فإن جاء رمضان الآخر ولم يقض فإنه يستمر عليه الوجوب، ففرق بينهما، ولذا قال رحمه الله تعالى: (وسر الفرق أن المعذور لم يتعين في حقه أيام القضاء، بل هو مخير فيها)، فالمعذور الذي ترك الصيام لعذر مخير في أيام القضاء، ولو أنه فرط حتى جاء رمضان الآخر فلا شك في أنه فرط، ولكنه فرط في أيام هو مخير فيها، وليس كمن فرط في شهر رمضان الذي لا تخيير فيه، ففرق بين هذين.
  6. الرد على قياس القضاء على الظهر عند فوات الجمعة

    وكذلك فرقوا بين من ترك الجمعة فأوجبوا عليه الظهر وبين من ترك الصلاة عامداً؛ فقالوا: لأن الواجب في يوم الجمعة أحد أمرين: فإما أن يصلي الظهر وإما أن يصلي الجمعة، والواجب الأصلي هو الجمعة، فإذا فاتته الجمعة بقي الظهر، فهما واجبان يقوم أحدهما مقام الآخر، فالشرع نفسه الذي أوجب عليه الجمعة أوجب عليه إن فاتته الجمعة أن يصلي الظهر، أما ذلك فأمر آخر لم يرد فيه وجوب من الشرع.
  7. الرد على الاحتجاج بتأخير رسول الله صلاة العصر يوم الأحزاب

    قالوا: وأما تأخير النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العصر حتى ذهب وقتها فاختلف العلماء فيه: فقالت طائفة من العلماء: إن هذا كان قبل نزول آيات صلاة الخوف، أما بعد أن نزلت وأوجبها الله تعالى على المؤمنين بصفات معروفة مذكورة في مواضعها فإنها تؤدى على تلك الكيفيات ولا تؤخر بحال. وقالت طائفة من العلماء: ليس الأمر بسبب أنه لم يكن قد نزل الحكم، بل للمقاتل إذا حميت المعركة أن يؤخر الصلاة ويصليها عند تمكنه، وهو في هذه الحالة كمن نام أو نسي، فيكون وقتها في حقه عند إمكانه أن يؤديها، قالوا: وهذا أولى بأن يعذر من النائم أو من الناسي، خاصة إذا كان في حال الجهاد في سبيل الله. فقالوا: وعلى كلا التقديرين لا يصح أن نلحق العامد المفرط بهذا.
  8. الرد على الاحتجاج بتأخير بعض الصحابة لصلاة العصر يوم بني قريظة

    وأما تأخير الصحابة الكرام لصلاة العصر يوم بني قريظة فقد أجابوا عنه بقولهم: إما أن نقول: إن هذا التأخير مأمور به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة )، فالذي أمر هو النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا له دليل خاص استثناه واستخرجه من عموم الأوقات.
    وإما أن نقول: إن هذا كان عن اجتهاد وتأويل سائغ كما قالت طائفة أخرى من العلماء.
  9. الرد على دعوى التضييق على التائب بلزوم الذنب في عنقه

    ثم ردوا على أولئك من الناحية التربوية، حيث قالوا: إن تارك الصلاة إذا تاب وندم قد يكون عمر إلى الأربعين، بل بعضهم -عياذاً بالله- يعمر إلى الثمانين وهو لا يصلي، فكيف تقولون له: لا تقض ما فاتك من الصلوات، بل يجب عليك أن تصلي فيما بقي من عمرك؟! قالوا: فأنتم بذلك تضيقون عليه وتجعلون إثم ما فات من عمره كالطائر في عنقه لا يغادره، ولكنكم لو قلتم له صل واقض ما فاتك لارتاح وعلم أنه بقضائه ما فاته من الصلوات قد تاب وتدارك ما فرط به في جنب الله تعالى.
    فردوا عليهم بقولهم: نحن أولى منكم في هذه المسألة بالحق؛ فمعاذ الله أن نسد باب التوبة وقد فتحه الله تعالى لعباده المذنبين إلى قيام الساعة ولم يغلقه على الناس إلا أن يغرغر أحدهم، كما في حديث: ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر )، أو أن تطلع الشمس من مغربها، للبشر جميعاً، ولكن الشأن في طريق توبته وتحقيقها، فالمقصود عندنا هو طريق التوبة، فنحن نطلب منه هذا وإن كان في الثمانين أو في المائة، ونبين له كيف يتوب، ولا نقول: إن التوبة مغلقة، لا نرى توبته أن يقضي ما فاته من الفرائض، بل إن توبته أن يستقيم فيما بقي.