المادة كاملة    
إن حديث جبريل هو أشرف حديث وأكمله، وقد تميز على غيره من الأحاديث بميزات عديدة، وفضل عليها بفضائل كثيرة، وقد كان في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه التنبيه على كيفية طلب العلم، وكيفية معاملة العلماء.
  1. فصل: في الإيمان

     المرفق    
    ‏الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
    قال الإمام ابن أبي العز الحنفي رحمه الله: [قوله: (والإيمان هو الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وحلوه ومره من الله تعالى).
    تقدم أن هذه الخصال هي أصول الدين، وبها أجاب النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور المتفق على صحته: ( حين جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم على صورة رجل أعرابي، وسأله عن الإسلام؟ فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً. وسأله عن الإيمان؟ فقال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، وسأله عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ).
    وقد ثبت كذلك في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يقرأ في ركعتي الفجر تارة بسورتي الإخلاص: (( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ))[الكافرون:1]، و(( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ))[الإخلاص:1]، وتارة بآيتي الإيمان والإسلام؛ التي في سورة البقرة: (( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا ))[البقرة:136] والتي في آل عمران: (( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ))[آل عمران:64]) وفسر صلى الله عليه وسلم الإيمان في حديث وفد عبد القيس المتفق على صحته، حيث قال لهم: ( آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم )، ومعلوم أنه لم يرد أن هذه الأعمال تكون إيماناً بالله بدون إيمان القلب، لما قد أخبر في غير موضع أنه لا بد من إيمان القلب، فعلم أن هذه مع إيمان القلب هو الإيمان، وقد تقدم الكلام على هذا]
    .
    1. عدم التزام الإمام الطحاوي بالتبويب والترتيب المنهجي في هذه العقيدة

      سبق أن قلنا: إن الإمام الماتن أبا جعفر الطحاوي رحمه الله لم يلتزم في هذه العقيدة التبويب والتفصيل المنهجي الدقيق أو المنطقي، وإنما كتبها -رحمه الله- استرسالاً، وهي عقيدة فيها خير كثير، وفي ألفاظها بلاغة ووجازة، ولكن هذا لم يمنع من تداخل العبارات، وتباعد أطراف الموضوع الواحد كما في موضوع الإيمان، وموضوع القدر وغير ذلك، وهذه الفقرة مثال على ذلك.
      وموضوع الإيمان قد تقدم الكلام عنه في فقرات سابقة ومنها قوله رحمه الله: (ونؤمن بالملائكة، والنبيين، والكتب المنزلة على المرسلين، ونشهد أنهم كانوا على الحق المبين)، ثم بعد ذلك تعرض لموضوع الإيمان من جهة التعريف الاصطلاحي فقال: (والإيمان: هو الإقرار)، ونلاحظ في الموضع الأول وكأن الشيخ يريد أن يتحدث عن الأنبياء، لكن ذكر معهم غيرهم فقال: (ونؤمن بالملائكة، والنبيين، والكتب المنزلة على المرسلين، ونشهد أنهم كانوا على الحق المبين)، فليس هذا التكرار تكراراً مطلقاً، لكن فيه شيء من الخصوصية؛ لأنه قال في الفقرة التي قبلها: (ونقول: إن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وكلم موسى تكليماً؛ إيماناً وتصديقاً وتسليماً).
      فناسب أن يذكر هنا بقية الأنبياء، فقال: (ونؤمن بالملائكة والنبيين..)، ولما جاء إلى هذا الموضع ذكر الإيمان لبيان حقيقته الاصطلاحية، أي: ما هو الإيمان في اصطلاح الفرق، فيذكر الفرق فيه بين اصطلاح أهل السنة والجماعة وبين غيرهم، وتعرض الشيخ لهذه الفرق على هذا الأساس.
      وجاء بعد فقرة: (ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه)، والتي قبلها: (والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام) وهي التي تحدثنا فيها عن قضية الرجاء والخوف، والتوازن بينهما، فهنا لما تحدث عن حال المؤمن مع ربه هل هو رجاء محض أم خوض محض؟ أم بين هذين، ثم تحدث بعد ذلك ما الذي يخرج العبد من الإيمان؛ لأنه قال: (ينقلان عن ملة الإسلام) فذكر ما ينقل العبد عن الإيمان، ثم ذكر تعريف الإيمان في اصطلاح أهل السنة والجماعة ، والشارح رحمه الله ذكر الخلاف في ذلك، وتعرضنا له بالتفصيل.
      ثم قال هنا: (والإيمان: هو الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر: خيره وشره، وحلوه ومره من الله تعالى).
      ونلاحظ هنا أمرين: الأول: أنه ذكر القدر، فكأن هذا الموضوع مدخلاً للحديث عن القدر، والأمر الآخر: أن الإمام الطحاوي أثناء كتابته تأتيه مواضيع العقيدة تباعاً، فهو بعد ذلك يبدأ في موضوع أهل الكبائر، فقال: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون، إذا ماتوا وهم موحدون، وإن لم يكونوا تائبين؛ بعد أن لقوا الله عارفين، وهم في مشيئته وحكمه…)، فالحديث عن مرتكبي الكبائر، والكلام في الكبائر، والمخالفين لـأهل السنة والجماعة في ذلك، وما يأتي بعد ذلك من الكلام عن الصلاة خلف البر والفاجر، والمخالفين لـأهل السنة والجماعة ممن ضل من الفرق في هذا؛ كل هذا ناسب أن يعيد الإمام الطحاوي بيان حقيقة الإيمان.
      إذاً فذلك -كما يبدو- من أجل أمرين:
      الأول: التمهيد لموضوع الكبائر.
      والثاني: أنه ذكر فيها القدر، وسيأتي بعده الكلام عن القدر، وقد تعرض الشارح لمسألة القدر في الشرح كما سيأتي إن شاء الله.
    2. الألفاظ الشرعية يعاد في تعريفها وتوضيحها إلى الشرع

      وكلمة (الإيمان) كلمة واحدة، ومع ذلك عرفها الإمام الطحاوي فقال: (والإيمان: هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان)، وناقشنا هذا التعريف، وهنا قال: (والإيمان: هو الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله…) إلى آخره.
      فهو في الأول يتحدث عن الإيمان في حقيقته الاصطلاحية، وهنا يتحدث عن الإيمان كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا إشكال عندنا في بيان حقيقة الإيمان بعد أن فصلنا فيها القول، لكن نعيد ونوجز فنقول: إن (الإيمان) لفظة شرعية، وكل ما جاء به الشرع فتعريفه يؤخذ من الشرع، لا من مجرد اللغة، ولا من كلام اللغويين، ولا من غيرهم من العلماء، فما جاء معرفاً في لسان الشارع فإننا لا نحتاج معه إلى مجرد اللغة، فلا نقول: في اللغة كذا، فكثير من الناس يضل عندما يقول: الإيمان في لغة العرب هو التصديق، أو الناس يقولون: نؤمن بالبعث، أي: نصدق؛ كما فعل الباقلاني وغيره.
      فنقول: لا، نحن لا نرجع إلى أحد من هؤلاء، فالألفاظ الشرعية يؤخذ تعريفها من الشرع، فالنبي صلى الله عليه وسلم مثلاً عرف الغيبة، فقد سئل: ( ما الغيبة؟ فقال: ذكرك أخاك بما يكره )، فالشيء الذي يحرمه صلى الله عليه وسلم بأمر من ربه فإنه يعرفه لنا، وكذلك الإيمان هنا، فقد قال لوفد بني عبد القيس: ( أتدرون ما الإيمان بالله وحده )، ثم عرفه، فلا يؤخذ التعريف من غيره.
    3. بيان الشرع للإيمان أعظم من بيانه للأمور الأخرى

      وتعريف الله ورسوله للإيمان، وبيان الكتاب والسنة له أعظم من بيان أي أمر آخر من أمور الدين، فهو أعظم بياناً من الصلاة ومن الزكاة كما سيذكر الشارح رحمه الله؛ لأن الصلاة أكثر ما بينتها هي السنة، وكذلك الزكاة، وإنما جاء في القرآن الأمر بهما، والحض عليهما، وذكر بعض أعمالها من الركوع والسجود، وأما كيفية الصلاة تماماً فإنما بينتها السنة، وأما الإيمان: فبيانه وحقيقته وما يشتمل عليه جاءت مفصلة في القرآن في آي كثيرة جداً، فتبين القرآن له أعظم من بتيينه الصلاة وغيرها؛ لأنه أهم من كل الأعمال، إذ لا يصح أي عمل إلا به.
    4. عظم آيات الصفات وشرفها في القرآن

      ومن ذلك: الإيمان بالله الذي جاء تفصيله في آيات الصفات جميعاً، وهي أفضل وأشرف ما في القرآن، فأفضل وأشرف آيات القرآن هي التي تعرف الناس وتبين لهم صفات الله تعالى، فمثلاً آية الكرسي هي أفضل آية في كتاب الله، وهي عشر جمل، وكل جملة منها هي تعريف بالله، قال تعالى: (( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ))[البقرة:255]، وكل جملة تبين لنا من صفات الله، ومن العلم والحقائق ما لو لم تفكرنا فيه وتأملناه، واستدللنا عليه بآيات وبأحاديث أخرى لرأينا أن هذه الآية جمعت أمراً عظيماً جداً، ولهذا كان لها من الشأن ما لها وكذلك سورة: (( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ))[الإخلاص:1] التي تعدل ثلث القرآن، وكذلك سورة الفاتحة، وهي أفضل سورة، وهي السبع المثاني، والقرآن العظيم؛ كما بين ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح.
      إذاً: نلاحظ من هذا أن أفضل ما في القرآن هو ما يتعلق بالإيمان، وهو أكثر ما بيِّن، وأكثر شيء وضوحاً في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هو: الإيمان بالله، وبالملائكة، وبالكتب، وبالرسل، وباليوم الآخر، ولهذا نعجب من اختلاف الفرق وتباينها في حقيقة الإيمان، وما علاقته بالعمل، وما حكم تاركه، وغير ذلك من الخلافات التي أحدثت، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
    5. الاختلاف بين التعاريف الشرعية والتعاريف المنطقية

      فالشيخ -رحمه الله- عرف الإيمان هنا بما عرفه به الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل، ولا يقال: إن في هذا التعريف مصادرة على المطلوب، كما يقول المناطقة: إنه لا يصح أن يعرف الشيء بنفسه، فلو قيل لك: عرف العلم؛ فقلت: هو العلم بكذا وكذا، قالوا: لا يصح؛ لأنك عرفت العلم بنفسه، فلا بد أن تعرفه بغير كلمة العلم، وإنما بشيء يعرف به العلم، لكن في هذه الحالة نقول: إن الأمر هنا ليس من هذا الباب، فليس المقصود في التعريفات الشرعية بيان حقيقتها، أو ماهيتها المجردة على الطريقة المنطقية، وإنما المقصود: هو بيان معناها الشامل العام؛ لأن كلمة (الإيمان) ليست غريبة على العرب، وكذلك الصلاة والزكاة وغيرها؛ فهي من كلام العرب، لكن الشرع يأتي لها ببيان جديد شامل قد ينقل اللفظ من معناه القديم إلى غيره كالصلاة والزكاة مثلاً، فما كان العرب يعرفون أن معنى الزكاة،: دفع مال مخصوص، وإنما الزكاة في اللغة: هي النماء والطهارة وما أشبه ذلك، فنقل الشارع المعنى إلى إخراج جزء من المال في سبيل الله، لكن أصل المعنى معروف عندهم.
      وأما الإيمان فلديهم معناه لكنه ضيق المفهوم ومحدود، فالناس كانوا يعرفون أن هذا مؤمن، وأن هذا غير مؤمن من خلال كلام أهل الكتاب وغيره، أنه يؤمن بكذا ولا يؤمن بكذا، ثم جاء الشرع فبين ذلك بياناً وافياً شاملاً.
      فالنبي صلى الله عليه وسلم عندما عرف الإيمان قال: ( أن تؤمن بالله، وملائكته )، و(أن) والفعل معناهما المصدر، فأن تؤمن هو الإيمان، فليس هذا من جنس ما يذكره المناطقة وغيرهم، وإنما هو إيضاح للحقيقة الشرعية.
  2. حديث جبريل في سؤاله عن الإيمان وأهميته في الإسلام

     المرفق    
    فجبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن حقيقة الإيمان الشرعية، والنبي صلى الله عليه وسلم أجاب الجواب الشامل والعام، وهذا -كما سنبين- لأن حديث جبريل جاء في آخر عمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيكون أشمل وأكمل وأوضح التعاريف، وإلا فالصحابة رضي الله تعالى عنهم قد آمنوا في مكة ، وآمنوا في المدينة ، ومرت عليهم السنوات، فليس موضوع الإيمان بجديد عليهم، لكنه الآن يوضح لهم أشمل وأوضح صور الإيمان، والعلاقة بينه وبين الإسلام؛ وإلا فكيف يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ) وهم مؤمنون من قبل، ويعرفون دينهم من قبل؟!
    فمعناه إذاً: يعلمكم دينكم في أكمل صور التعليم، وأوضح صور هذا الدين؛ بعد أن اكتملت معالمه وأركانه.
    1. ميزات حديث جبريل على غيره من الأحاديث

      فهذا الحديث من أعظم الأحاديث، بل هو أفضل وأشرف حديث في الإسلام؛ لأسباب كثيرة، وقد ذكرناها قبل، وهو أفضلها من عدة جهات، فإذا نظرنا من جهة موضوعه: فإنه أشتمل على مراتب الدين الثلاث وهذه لم يشملها حديث آخر، فإن الأحاديث الأخرى تذكر مرتبة واحدة.
      ومن حيث وقته: فإنه كان في آخر عمر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أشمل معنى، ولا نقول: إنه ناسخ؛ لأن هذه الأمور لا يدخلها النسخ، وإنما هي تكمل شيئاً فشيئاً، كما قال تعالى: (( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ))[المائدة:3]، فهنا تكتمل الشرائع، فبهذا الحديث اكتمل معنى ومفهوم الإيمان.
      ومن جهة أخرى أيضاً: أنه اشتمل على بيان حقيقة الإيمان الظاهر والباطن، فذكر أصول الشرائع الباطنة، وأصول الشرائع الظاهرة؛ لأنه اشتمل على ذكر أركان الإسلام الخمسة، وأركان الإيمان الستة.
      وكذلك من ناحية: أن هناك أحادث كثيرة يحدث بها النبي صلى الله عليه وسلم أو يسأله السائل فيجيب، وأما هذا الحديث فله ميزة أخرى وهي: أن الرسول الملكي الذي أرسله الله تبارك وتعالى بهذا الدين، وأنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، فجاء بهذا الكتاب وهذا القرآن، وهو أفضل الملائكة عند الرحمن تعالى؛ جاء بنفسه، ولم يأت ليخبر، وإنما ليستعلم من النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يقرره على ما يقول، ثم ينصرف، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم )، فله مزية من جهة: كيفية التعليم.
      فكثير من الأحاديث يكون التعليم فيها مباشراً، فتقول لأحد مثلاً: اعلم أن الدين كذا، أو افعل كذا، أو لا تفعل كذا، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى )، وقال للرجل: ( قل آمنت بالله ثم استقم )، وقال للآخر: ( اتق الله حيثما كنت )، وقال للآخر: ( لا تغضب )، ويخطب على المنبر، يعظ ويذكر ويبين لأصحابه ما أنزل الله عليه، فهذا أسلوب تعليم مباشر، لكن هذا الحديث له مزية في التعليم، فلم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: إن جبريل أتاني وقال لي: كذا وكذا؛ كما في حديث: ( إن روح القدس نفث في روعي: إنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ).
      إذاً فهذا الحديث يختلف عن غيره من الأحاديث بهذه المزية، فنجعلها المزية الأولى؛ لأنها تتعلق بشكل وكيفية التعليم.
      إذاً: فهذه الرسول الملكي؛ الذي هو أفضل ملائكة الله تعالى، وهو الروح الذي ينزل بالروح من الله تعالى، فقد سمى الملك روحاً، وسمى ما ينزل به الملك روحاً أيضاً، وهو القرآن والذكر؛ لأن به تكون الحياة، وهذا كله قد تقدم، فالرسول الملكي هذا هو أفضل الملائكة، ويأتي إلى أفضل رسول بشري، وبحضرته أصحابه الكرام، وكلهم ينظر إليه ويعجب منه لهذه الهيئة الغريبة، وهذا أدعى أن يتفطنوا لما يقول، ففيه نوع من شد الانتباه، كما قال عمر .
    2. أشمل روايات حديث جبريل

      وأشمل الروايات في ذلك ما كان من طريق عمر، وإلا فقد ورد في البخاري من طريق أبي هريرة. وقولهم: إنه (متفق عليه) لنا عليها ملحظ وسنبينه، فالرواية الأشمل ما جاء في أول صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر ، عن أبيه رضي الله عنهما قال: ( بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.. )، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم جالساً كعادته في صدر أصحابه، وهم حوله يتلقون منه النور والهدى والإيمان، فإن قدم سائل أو جاء زائر أو حدث أي أمر فإنهم ينتظرون ماذا سيخبرهم عنه، وماذا سيقول صلى الله عليه وسلم، ففي تلك اللحظة جاء إليهم رجل لا يدرون من أين جاء، وقد كان هذا الرجل: ( شديد بياض الثياب، وشديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد ).
      فهذه ميزات عجيبة، وهي أدعى إلى أن ينتبه الجميع له، وينظرون ماذا يريد، فليس بقادم من سفر بعيد، وهم يعرفون الناس أحياناً من اللهجة، فيعرفون أن هذا جاء من نجد ، أو غطفان، أو اليمن ، أو خيبر ، لكن هذا رجل غريب، فهو شديد بياض الثياب، ولا يلاحظ عليه أنه تكلف وعانى المتاعب، وشديد سواد الشعر، فليس عليه أثر السفر أو المشقة، ولو لم يكن مسافراً وكان من أهل المدينة لعرفوه، وأما هذا الرجل فلا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد؛ لأن كل واحد منهم ينظر إلى الآخر، وينظر إلى الرجل؛ فكأنهم يقولون: من هو فإننا لا نعرفه، ولهذا لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه فقال: ( أتدرون من الرجل؟ ) قالوا: لا يعرفه منهم أحد.
      ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجلس كهيئة التشهد، ووضع يديه على فخذيه، وجلس جلسة المتأدب المتعلم، ولهذا قال بعض العلماء: إنه يستحب أن يجلس في خطبة الجمعة هكذا.
      ثم ما زاد العجب والغرابة أنه يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أمور عامة جامعة عظيمة، ثم بعد أن يجيبه يقول له: صدقت؛ في كل أمره، قال عمر : ( فعجبنا له يسأله ويصدقه ).
      إذاً: فهذا ليس بجاهل، وليس بمستعلم ومستفهم، وإنما هو في الحقيقة مقرر، فالله تعالى أنزله بهذا الدين شيئاً فشيئاً حتى اكتمل، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الأمر وكأنه في حالة المراجعة الأخيرة، والعرضة الأخيرة؛ كما حصل ذلك في القرآن، وهذه عرضة شاملة لحقائق الدين، وأصول الدين التي تتفرع منها كل الشعب.
    3. التنبيه على غلط من قال: إن حديث جبريل متفق عليه

      وننبه هنا إلى أن قولهم: (متفق عليه) ليس على إطلاقه؛ لأن البخاري إنما رواه عن أبي هريرة ، وأما مسلم فهو الذي رواه باللفظ المحفوظ المتداول من طريق عبد الله بن عمر عن أبيه.
    4. أوفى المراجع لطرق حديث جبريل وشرحه

      ومن أراد أن يطلع على طرقه فيمكنه أن يرجع إلى مرجعين: الأول حديثي، وهو: كتاب الإيمان للحافظ ابن مندة ، فقد جاء بطرق الحديث كلها تقريباً مع اختلاف ألفاظها، فمنها ما هو نفس إسناد مسلم ومنها ما هو غير ذلك.
      والكتاب الثاني: جامع العلوم والحكم للحافظ ابن رجب فهو أوفى وأشمل شرح، وقد ذكر أيضاً الألفاظ وغير ذلك، فهو أشمل من شرح الحافظ ابن حجر في فتح الباري ، ومن شرح النووي على صحيح مسلم ، فهذان المرجعان منهما يمكن أن تؤخذ فكرة عن هذا الحديث، وعن أهميته، هذا من جهة كيفية التعليم.
    5. ميزة حديث جبريل من الناحية الزمنية

      وأما من جهة الزمن: فقد جاء في بعض الروايات أنه كان في آخر عمره؛ كما ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح ، وأنه كان قبل وفاته بنحو ثمانين ليلة؛ بعد انصرافه من حجة الوداع، فقد جاءه جبريل بعد منصرفه من حجة الوداع إلى المدينة ، وقد عاش صلى الله عليه وسلم بعدها بضعاً وثمانين ليلة، إذاً فهو في آخر عمر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا دليل على أنه أفضل الأحاديث من جهة أنه أجمعها وأشملها، فهو لم يتحدث عن الإيمان وحده، ولا عن الإسلام وحده، ولا عن بعض أركانه، وإنما تحدث عنها كلها كما سنبين من المزايا الأخرى.
    6. من مزايا حديث جبريل شموله لجميع مراتب الدين

      المزية الأخرى: أنه شمل مراتب الدين الثلاث كلها، وأما ما قبله فإنه إما أن يأتي بمرتبة من مراتب الدين وإن كانت كاملة، وإما أن يأتي ببعض منها، مثال ذلك: حديث ابن عمر : ( بني الإسلام على خمس )، فقد ذكر أركان الإسلام الخمسة فقط، وحديث: ( قل آمنت بالله ثم استقم ) وهذا مجمل، وذلك مفصل، والمفصل يقدم على المجمل.
      ومثل قوله صلى الله عليه وسلم أيضاً: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة )، ولم يذكر الصيام، ولا الحج، فالإسلام نفسه لم يذكره هنا كاملاً، ولم يذكر الإيمان والإحسان، وإنما فيه: كيف يمكن للإنسان أن يعصم دمه وماله، وأما هنا فالكلام هو عن حقيقة الدين في ذاته، فالرجل قد يعصم دمه وماله بأمر لكن قد لا يكون هذا الأمر قد اكتمل في حقيقته عنده، فهذا شيء، وهذا شيء آخر.
      ومن الأحاديث التي تذكر بعض الأركان حديث: ( الإيمان بضع وستون شعبة )، وهو حديث عظيم، وهو من أعظم الأحاديث في الإيمان، لكنه ذكر شعب الإيمان ولم يذكر مرتبة الإسلام، ولا مرتبة الإحسان، فكل حديث له مزية لكن حديث جبريل أفضل.
      ومثل حديث معاذ لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ، فقال له: ( فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، وإذا فعلوها فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة تؤخذ من أموالهم فترد على فقرائهم، فإذا أطاعوا بهذا فخذ منهم وتوق كرائم أموال الناس )، ولم يأت ببقية المراتب، وبعض الأحاديث تذكر ركناً واحداً فقط مثل حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ( من لقيته خلف هذا الجدار يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؛ فبشره بالجنة )، وفي الرواية الأخرى: ( من قال: لا إله إلا الله يصدق لسانه قلبه، ويصدق قلبه لسانه؛ دخل الجنة )، أو (هو أسعد الناس بالشفاعة)، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فيأتي بركن واحد من أركان الإيمان، ولا يعني هذا أنه يترك بقية الأركان، فهي تدخل فيه، فالمهم أنها لم تفصل كما فصل هذا الحديث.
      وكما في حديث: ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء )، فذكر أهمية الإحسان ولم يذكر معه البقية، فبهذا يتضح فضل ومزية هذا الحديث: من ناحية فضله، وشموله لجميع مراتب الدين الثلاث.
    7. من مزايا حديث جبريل المشافهة بالوحي على مسمع ومرأى من الصحابة

      وذكرنا سابقاً: أن فيه المشافهة بالوحي على مسمع ومرأى من الصحابة، فكما أن القرآن وحي يأتي به جبريل فكذلك السنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ).
    8. اشتمال حديث جبريل على أصول الإيمان الظاهرة والباطنة

      وذكرنا سابقاً: أن هذا الحديث اشتمل على أصول وحقائق الإيمان الظاهر والباطن، وإن شئنا قلنا: أعمال القلب والجوارح معاً، فالدين مركب منهما معاً، فلا انفكاك لهذا عن هذا، فلا يمكن أن يقول: آمنت بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر؛ وهو لم يشهد: أن لا إله إلا الله أو وهو لم يصلِّ، ولم يصم، ولم يزك، ولا يمكن لأحد أن يشهد: أن لا إله إلا الله، ويصوم، ويصلي، ويزكي، وهو في الحقيقة لم يؤمن بالله، وملائكته وكتبه ورسله، فهذا منافق.
      إذاً فقد اشتمل على بيان حقيقة الأركان الظاهرة والأركان الباطنة معاً، لكن لو جئنا نشرح بعض الأحاديث الأخرى كحديث ابن عمر في الأركان الظاهرة لقلنا: وهذا يقتضي الإيمان بالله وملائكته وكتبه.. ونضطر أن نرجع إلى هذا الحديث، ولو جئنا لنشرح حديث وفد عبد القيس فلابد أن نقول: إنه يبين الإيمان، وتفسيره بالأعمال الظاهرة، ولابد فيها من الإيمان الباطن، ولكن حديث جبريل بيَّن هذين المعنيين.
    9. من مزايا حديث جبريل ذكره لمرتبة الإحسان

      ومن مزايا هذا الحديث أيضاً: أن الأحاديث الأخرى تشتمل على أمور الإسلام والإيمان، وأما هذا الحديث فقد ذكر أعلى المراتب معها أيضاً، فهو يدخل فيما قلناه من كونه ذكر المراتب الثلاث، فقد بين حقيقة الإحسان، لذلك نجد تحت معنى الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)؛ فكل ما تكلم به في العبادة، والتقوى، والمراقبة، والمحاسبة، والسلوك -كما يسميه الصوفية مثلاً- والحقائق الإيمانية، وكل ما يدعون من أذواق، أو مواجيد، أو ما أشبه ذلك مما خلطوا فيه الحق بالباطل، أو كان حقاً محضاً، أو باطلاً محضاً؛ كل هذه الحقائق تجمعها هذه الجملة النبوية العظيمة التي بين فيها النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة الإحسان، وأقره عليها جبريل: ( أن تعبد الله كأنك تراه )، فكل هذه الأمور ترجع إلى هذه اللفظة، فنحن نقول: إن هذا الحديث أفضل لأنه اشتمل على كل المعاني، وأما الآية وهي: (( قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ))[الحجرات:14]، ففيها تفريق بين الإيمان والإسلام، وهذا حق، وهي قبله -أي: قبل هذا الحديث- فالأعراب قالوا هذا الكلام بعد حنين.
      فالمهم: أن الآية بينت أن بينهما فرقاً، ( قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا)، فادعى الأعراب درجة الإيمان، (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا)، فحقيقة أمرهم أنهم في المرتبة الدنيا، فبين مرتبتين، والآية لم تبين أركان كل مرتبة، ولم تأت بالمرتبة الثالثة وهي: الإحسان، ونحن هنا إنما نفاضل بين الحديث وبقية الأحاديث، فنقول: إن هذا الحديث قد ظهرت بذلك مزيته وفضله، واستحق أن يقال: إنه أشرف حديث في الإسلام عامة.
      ونجد هناك أحاديث مخصوصة بفضل أو بشرف معين، كما قال الإمام أحمد في حديث أبي ذر : (يا عبادي!): إنه أشرف حديث رواه أهل الشام ، وحديث أبي ذر هذا له مزايا عظيمة؛ لأنه قدسي، ويشتمل على معاني عظيمة جداً، لكن كلها في باب الإحسان أو الوعظ والتذكير بالله تعالى، والتعريف بالله.
      وأما حديث جبريل فمزيته وفضله مطلقة وغير مقيدة برواية أفراد معينين أو بموضوع معين.
  3. فضل سورتي الإخلاص والكافرون وعلاقتهما بالإيمان

     المرفق    
    قال الشارح: (وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: أنه كان يقرأ في ركعتي الفجر تارةً: بسورتي الإخلاص والكافرون، وتارة بآيتي الإيمان والإسلام).
    يعني: ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في ركعتي الفجر بهاتين السورتين المعبر عنهما بسورتي الإخلاص، أما أولاهما فهي: الكافرون، (( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ))[الكافرون:1-6] وقد يكررها الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول عبد الله بن عمر: (رمقت النبي صلى الله عليه وسلم شهراً؛ فإذا به يداوم عليها في ركعتي الفجر، فيقرأ في الركعة الأولى بـ(قل يا أيها الكافرون)، وفي الثانية بـ(قل هو الله أحد)).
    1. أقسام التوحيد

      ولكل منهما فضيلة، ونستطيع أن نعرف فضل السورتين، ونطابق بين معناهما وبين ما جاء في حقيقة الإيمان، فنقول: إن التوحيد على نوعين، وقد ذكرنا سابقاً أنه من الممكن أن نقسم التوحيد بحسب الاعتبارات إلى اثنين أو ثلاثة، أو أربعة، ولو أخذنا بالتقسيم الثنائي فهو إما توحيد في المعرفة والإثبات، وإما توحيد في القصد والطلب والإرادة، أو نقول: توحيد علمي اعتقادي، وتوحيد عملي إرادي، فعندما يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مفتتح يومه بسورتين تشتمل كل واحدة منهما على نوع من أنواع التوحيد؛ فكأنه استكمل العقيدة، وهذا تعليم لنا أن نستفتح كل يوم بالتوحيد، فنأتي به كله مجموعاً في ركعتين؛ وذلك بقراءة سورة في كل ركعة، وكذلك في ركعتي المغرب، فنكون في أول النهار وأول الليل قد أفتتحنا نهارنا وليلنا بالتوحيد مجموعاً في هاتين السورتين.
    2. توحيد العبادة والإرادة في سورة الكافرون

      فأما النوع الأول -وهو توحيد العبادة والإرادة والقصد والطلب.. إلى آخره-: فهو في قوله: (( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ))[الكافرون:1-2]، ففيها البراءة المطلقة من الكافرين، وعبادتهم، وإخلاص العبادة لله، فنحن لا نعبد إلا الله، ونستفتح يومنا بذلك، فتخاطب الكافرين، وتتبين بذلك صلة هذا الدين بحقيقتنا ومعيشتنا وواقعنا اليومي المعايش والمباشر، فالمفروض أن كل واحد منا لا يقرأ هذه الآيات مجرد قراءة عابرة، ويهذها كهذ الشعر، ثم يركع؛ لا، بل لا بد أن يعي وأن يتدبر ذلك كل يوم، فيلعن البراءة من الكافرين، ومما يعبدون من دون الله بهذا الخطاب: (( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ))[الكافرون:1-2]، أي: اعبدوا ما شئتم من دون الله فأنا لا أشارككم في ذلك أبداً.
      وزيادة في التأكيد قال: (( وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ))[الكافرون:3] أي: لا مجال للمساومة، ولا تقولوا: نعبد إلهكم وتعبدوا إلهنا، وهذا الذي حدث من المشركين، فقد عرضوا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم لحل هذه المشكلة، ولا تقبل الحلول الوسط هنا، فهذا الأمر وحي لا يقبل الله فيه إلا الإخلاص، (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ))[البينة:5]، فغير ذلك من أي نوع من أنواع الشرك لا يقبل عند الله: ( من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه )، والله تعالى يقول في الحديث القدسي: ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه )، فلا يريد الله ذلك ولا يقبله أبداً، وإنما يريد الله تعالى التوحيد الخالص.
      فالواحد منا يستفتح كل يوم يومه أو ليلته بأن يقرأ هذه السور الكريمة بعد سورة الفاتحة؛ التي ذكرنا أن لله حكماً عظيمة في تكرارها كل ركعة، فقد اشتملت على معان عظيمة جليلة، وجوامع العقيدة، فكل أنواع التوحيد والاستقامة والهدى والإيمان بالآخرة وغير ذلك؛ كلها في سورة الفاتحة، ثم نؤكد ذلك بسورة: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) في الركعة الأولى.
    3. توحيد المعرفة والإثبات في سورة الإخلاص

      وفي الركعة الثانية نعيد الفاتحة، ثم نقرأ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، وهذا هو توحيد المعرفة والإثبات، وجاء في بعض الروايات تقديم: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، وتأخير: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) ولكن الأكثر هو على تأخير: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، وهي أقصر منها، والعادة أن السور الأطول تكون في الركعة الأولى.
      فالمهم: أننا نقرأ في الركعة الثانية: (( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ ))[الإخلاص:1-2].. الآية.
    4. سبب نزول سورتي الإخلاص والكافرون

      وسورة الكافرون نزلت عندما قال المشركون: (يا محمد! تعال كي نتفاوض ونتصالح فتعبد إلهنا سنة)، ونعبد إلهك سنة، فنزلت البراءة منهم مطلقاً.
      وأما سورة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) فقد نزلت لما قال المشركون: (انسب لنا ربك، أو صف لنا ربك) فهم يتساءلون عن حقيقة ما تعبده أنت، أي: من هو المعبود الذي تعبده، فهو هنا في المعرفة، وهناك في الإرادة والتوجه والقصد والطلب، وأما هنا ففي حقيقة المعرفة.
    5. بيان معاني مفردات سورة الإخلاص

      ومعنى: (أحد): لا شريك له، وكلمة (أحد) أبلغ وأعظم من كلمة (واحد)؛ لأن أحد لا تحتمل اثنين، فهو متفرد وليس له شريك، ولا نظير، ولا ثاني.
      (الصمد): له عدة معان، فيطلق على السيد المطلق التصرف، وقيل: هو الذي تصمد إليه الخلائق، فهو يدل على كمال الغنى، فكل ما عداه مفتقر إليه، ويصمد له في حاجته، فهو مصمود له تبارك وتعالى، وقيل: الصمد: المصمت الذي لا جوف له، وليس كما تتخيل عقولنا من هذه الأشياء المخلوقة؛ التي لها أبعاد، أو لها جوف وفراغ بداخلها، فالله هو الصمد الذي لا جوف له.
      والمقصود: أن الله تعالى ليس له نظير، ولا ند، ولا شبيه، فهو ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
      ثم قال: (( لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ))[الإخلاص:3]، وهذا فيه رد على كل طوائف الضلال المعروفة في الدنيا؛ فإن اليهود قالت: عزير ابن الله، ودعوى: أن لله ولداً دعوى قديمة، فالله يقول: (( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ))[التوبة:30]، فهناك أمم قبل اليهود و النصارى ادعت أن لله ولداً، وأن الله يلد، والآية تدل على ذلك، والتاريخ يؤكد هذا، فإن المصريين القدماء -قبل التوراة، وقبل موسى عليه السلام- كانوا يعتقدون ذلك، وكذلك اليونان قبل أن يعرفوا النصرانية وغيرهم؛ كانوا يعتقدون ذلك، فالإله الأكبر يسميه المصريون (رَع)، أو (إيزيس)، أو (حوريس)، وعند الرومان (جويبتر) وغيرها، والفرس والبراهمة يجعلون الإله يتكون من ثلاثة أقانيم: الأكبر: هو براهما، والآخر: فشنو، والثالث: سيتا.
      فالتثليث، ودعوى النبوة عقائد قديمة قبل اليهود و النصارى ، لكن العجب أن يعتقدها أهل الكتاب؛ فضلاً عن المسلمين، والحمد لله لم يقل بذلك أحد من المسلمين، فكونه تعالى ينفي عن نفسه الولد فهذا فيه تكذيب لكل من كفر بذلك وهم اليهود و النصارى ، ومن سبقهم.
      ثم إن العرب ادعت: أن الملائكة بنات الله، (( وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ))[الزخرف:19]، فوقعوا في الضلال من ناحيتين: من دعواهم: أن لله تعالى بنات، ومن دعواهم: أن الملائكة إناث، فرد عليهم الله تعالى في الموضعين، أي: كيف حكمتم أن الملائكة إناث، ثم كيف قلتم: إن هؤلاء الإناث بنات الله تعالى؟! وهكذا يكون تخبط العقل البشري، ثم ما أسوأ حكمهم حين يقررون ذلك وهم الذين إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم!
      فجعلوا لله الأدنى الذي يكرهونه، ويأنفون منه، وجعلوا لهم البنيين الذين يحبون: (( أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا ))[الإسراء:40]، وهذا هو الجهل والضلال المركب من جميع الجهات، فهذه السورة تنفي زعم العرب، وزعم اليهود و النصارى وغيرهم فتقول: (( لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ))[الإخلاص:3].
      ثم قال: (( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ))[الإخلاص:4]، وهذه غاية البيان في أن الله تعالى لا نظير له، ولا كفؤ، ولا ند: (( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ))[مريم:65]، فلا يمكن ذلك لا بالاسم، ولا بما يدل عليه الاسم من الصفات، فالله تعالى متفرد بصفات الكمال والجلال، ونعوت العظمة، فلا يشاركه فيها أحد، فهو لم يكن له كفواً أحد مما يدعي المدعون، فمهما ادعى الناس من آلهة فأيها يمكن أن يكون شريكاً لله تعالى، أو أن يكون مثل الله؟!
    6. ضعف الآلهة المعبودة من دون الله وافتقارها إليه سبحانه

      فإن قالوا: (هبل)؛ وهو كبير الأصنام، فنقول: ما هو إلا حجر، فكيف يدعى أنه مثل الله؟! وإن قيل: إن الآلهة هي الكواكب، فالكواكب من خلق الله؛ لذا قال إبراهيم عليه السلام: (( فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ ))[الأنعام:76]، فالذي يكون إلهاً لابد أن يراك ويسمعك، ويستجيب لك، وأما الذي يأفل ويغيب ويطلع، ويأتي ويذهب؛ فهذا لا يمكن أن يكون إلهاً، وهو نفسه مخلوق مربوب، والرب الخالق غير ذلك تبارك وتعالى.
      والذين عبدوا الأنبياء وعبدوا الملائكة يقال لهم: كيف تعبدون هؤلاء والله تعالى لم يكن له كفواً أحد من هؤلاء مطلقاً: لا من الأنبياء، ولا من الملائكة، فكلهم مفتقرون إليه ومحتاجون، وهم كما قال تعالى: (( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ))[الإسراء:57]، فهم يتقربون إلى الله، ويعبدون الله، ويريدون أن ينالوا رضي الله، فكيف تجعلونهم مثل الله؟! وكيف تساوونهم بالله، كما قال: (( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ))[البقرة:165].
      فأنت عندما تعتقد أنه لم يكن له كفواً أحد فكيف تحب أحداً مثله أو أكثر منه؟! فلا يصح ذلك، وكيف تعدل بينه وبين أحد من خلقه؟! كما قال تعالى: (( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ))[الأنعام:1]، وقال الله في حق المشركين: (( تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ))[الشعراء:97-98]، فكيف تسوونهم به والله تعالى ليس له شركاء يخلقون كخلقه، ولا يرزقون كرزقه، ولم يكن له في السموات ولا في الأرض من شريك، ولا ظهير، ولا معين إلى غير ذلك مما بين الله تعالى في أكثر من آية مما قطع به دابر الشرك، ودعواه، وما يزعمه أهله.
      فهو تعالى الموصوف بهذه الصفات العظيمة، ولهذا كانت هذه السورة تعدل ثلث القرآن، وقد ألف شيخ الإسلام رحمه الله كتاباً مستقلاً في ذلك سماه: جواب أهل العلم والإيمان في كون قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن ، فإذا قرأ العبد هاتين السورتين فقد جمع نوعي التوحيد في أول يومه، وفي أول ليلته.
    7. العلاقة بين حديث جبريل وسورتي الإخلاص

      والعلاقة بين حديث جبريل عليه السلام وهاتين السورتين: أن حديث جبريل يوضح الإيمان وحقيقته، وكذلك السورتان، فهما توضحان ما دل عليه الحديث من إفراد الله تعالى بالعبادة من عباده، وإخلاص الدين له وحده لا شريك له من خلقه. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.