المادة كاملة    
لقد جعل الله تعالى العمل هو ميزان الخفض والرفع، وهو مقياس العلو والتسفّل، ومناط التفضيل والتحقير، ولم يجعل ذلك لمال، ولا لجمال، ولا لنسب، ولا لحسب، فتلك موازين دنيوية يستخدمها الناس، وهي في حقيقة الأمر لا تصلح لذلك. فكم من فقير هو خير من ألف غني، وكم من قبيح الخلقة هو أجمل في حقيقة الأمر ممن هم مشهورون بجمال الصورة، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه.
  1. سبب تفضيل الغني الشاكر على الفقير الصابر

     المرفق    
    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
    فهذه تتمة لما تقدم من قضية المفاضلة بين الغني الشاكر والفقير الصابر، وما قرأناه من كلام شيخ الإسلام رحمه الله، فنكمل كلامه، ثم نعود إلى كلام الشارح؛ فهو مأخوذ من هذا، وسنستعرض ما فيه مما يحتاج إلى زيادة إيضاح.
    لقد نال كون النبي صلى الله عليه وسلم قد نال أعلى درجات الشاكرين، وأفضل مقامات الصابرين، قال: (وإنما يفضل الغني لأجل الإحسان إلى الخلق، والإنفاق في سبيل الله) أي: لا يفضل الغني لمجرد غناه، فالقاعدة هي: أن التفاضل إنما يكون بالتقوى، وأنه كما قال الله تعالى: (( إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا ))[النساء:135].
    فتكملة لذلك يقول الشيخ: (وإنما يفضل الغني لأجل الإحسان إلى الخلق، والإنفاق في سبيل الله، والاستعانة به على طاعة الله، وعبادته)، وهذا هو الذي لأجله غبط الفقراء من المؤمنين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إخوانهم الأغنياء، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا حسد إلا في اثنتين، ومنها: رجل آتاه الله مالاً، فهو ينفق منه آناء الليل، وآناء النهار )؛ (وإلا فذات ملك المال لا ينفع -أي: مجرد الملك لا ينفع- بل قد يضر)، وذلك كما قدمنا مما قص الله تبارك وتعالى علينا في القرآن ممن ملك المال ولم ينفعه مجرد ملك المال؛ لأنه لم يؤمن، ولم يتق الله تبارك وتعالى فيه، وهو قارون ، (( إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ))[القصص:76]، وهذه أول وصية يوصى بها الأغنياء: (لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ).
    (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ)، وهذه الثانية.
    (( وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ))[القصص:77]، وهذه الثالثة.
    (( وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ))[القصص:77]، وهذه الرابعة.
    (( وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ ))[القصص:77]، وهذه الخامسة.
    فهذه الوصايا تصلح أن تكون موضوعاً لموعظة أو محاضرة، فعسى الله تعالى أن يوفق من يجعلها موعظة تهدى إلى الأغنياء، فتخاطب من آتاه الله تعالى مالاً بهذه الوصايا القرآنية العظيمة؛ سواء ما كان منها من قوم قارون، أو ما كان منها من كلام الله، فالكل أقره الله تبارك وتعالى.
    فالمال لذاته لا ينفع صاحبه، بل إنه قد يكون حتى مع التقوى، وحتى مع عمل الخير، وحتى مع الصلاح؛ سبباً في الحساب، فالدنيا حقيقة كما جاء عن علي رضي الله تعالى عنه: [ حرامها عقاب، وحلالها حساب ]، ثم بعد الحساب قد تعلو الدرجة أو تنخفض، وهذا أمر آخر.
    فالمقصود: أن المال لذاته ليس هو الذي ينفع، ولا يفاضل به الناس، بل قد يضر، كما قال الشيخ رحمه الله.
  2. نماذج من صبر رسول الله وأصحابه على شدة الفقر

     المرفق    
    (وقد صبر النبي صلى الله عليه وسلم مع هذه اللأواء والشدة على ما لم يصبر عليه غيره، فنال أعلى درجات الشاكرين، وأفضل مقامات الصابرين صلوات الله وسلامه عليه).
    فأما ما أعطاه الله تبارك وتعالى، وما وسع عليه؛ فإنه هو باختياره صلى الله عليه وسلم اختار غيره، ولو شاء لجعل الله تعالى له بطحاء مكة ذهباً وفضة، ولو شاء لنوله كنوز كسرى وقيصر، وقد جاءته الجزية من هجر من البحرين ، وقد غنم غنائم خيبر وغيرها، فلو شاء لتوسع في الدنيا؛ وذلك حلال له، وخيره الله وأعطاه، لكنه صلى الله عليه وسلم اختار الحالة الأخرى وهي: التقلل من الدنيا، والتخفف منها، فجمع الله له بذلك بين أعلى درجات الشاكرين، وأفضل مقامات الصابرين؛ مع ما أصابه قبل ذلك من اللأواء والشدة والابتلاء في سبيل الدعوة إلى الله عز وجل، كما فعل به عندما ذهب إلى أهل الطائف ابن عبد ياليل، وكما كان قريش تفعل به في المواسم، ويشتمونه عنه، ويقولون عنه: مذمماً، ويقولون: الصابئ، ويقولون: الأبتر، ويقولون غير ذلك.
    وكذلك ما لقي صلى الله عليه وسلم في الشعب عندما حصر فيه هو وأصحابه، كما قص ذلك سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه وغيره كما في الصحيح، وكذلك ما لقي أيضاً صلى الله عليه وسلم في غزواته، فإنه غزا غزوات كثيرة في شدة الفقر، وربما كانت أيضاً في شدة الحر، وقد غزا النبي صلى الله عليه وسلم سبع غزوات يأكلون فيها الجراد كما ثبت ذلك في الصحيح.
    ثم غزا عام تبوك ، وقد كان فيه من اللأواء والشدة ما ذكره الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم عندما قال المنافقون: (( لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ))[التوبة:81]، وقال: (( لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ ))[التوبة:42]، ففيه بعد الشقة، وفيه شدة الحر، وفيه مقاومة عدو هو أعتى وأقوى من على ظهر الأرض يومئذ، فإن أقوى الأمم في ذلك الزمان هما دولتا الفرس والروم، ثم إنه في تلك الأيام في آخر أمر النبي صلى الله عليه وسلم كانت دولة الروم قد غلبت دولة الفرس، فأصبحت أقوى دولة في الدنيا، وقد تحقق فيهم قول الله تبارك وتعالى: (( الم * (( غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ))[الروم:1-4]، فكانت هذه أول ما بشر الله تبارك وتعالى به المؤمنين.
    وقد نزلت الآيات عندما دالت وغلبت الروم، وقد غلبهم الفرس، ودخلوا إلى أنطاكية إلى بلاد الشام ، ثم جعل الله تبارك وتعالى الكرة للروم، فلكم أن تتخيلوا أي لأواء، وأي شدة تصيب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم يعانون ما يعانون من الفقر ومن الحر، حتى إن البعض منهم كانوا يتناوبون على البعير الواحد، ومنهم من لم يجد ما يركبه، ومنهم من رجع، كما ذكر الله سبحانه وتعالى: (( وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ ))[التوبة:92]؛ لأنهم لم يجدوا ما يحملهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يخرج بعد ذلك لمحاربة دولة هي في أوج انتصارها، وفي عز قوتها، فهذا كله احتسبه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذات الله، وتحمله، فنال بذلك أعلى درجات الشاكرين، وأفضل مقامات الصابرين، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى أصحابه أجمعين.
    يقول: (وكان سابقاً في حالي الفقر والغنى لم يكن ممن لا يصلحه إلا أحدهما كبعض أصحابه وأمته)، وقد تقدم في الحديث الذي رواه البغوي : ( إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك ).
    فهذا لا ينطبق على النبي صلى الله عليه وسلم، وخلفائه، وخيار أصحابه، فهم في حال الغنى وفي حال الفقر أمرهم مستقيم، فيصلح لهم الحالان، وعلى هذا جاءت عبارة عمر رضي الله تعالى عنه التي ذكرها الشارح، وهي منقولة من كلام الشيخ هنا، قال: (الفقر والغنى مطيتان، لا أبالي أيهما ركبت).
    إذاً: فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم، وخيار أصحابه في الغنى في أعلى الدرجات، وفي الفقر في أعلى المقامات، ولا يبالون بأحدهما، ولا يفضلون أحدهما تفضيلاً مطلقاً.
  3. المقصود بالفقر والمسكنة في حديث: (في الفقراء والمساكين)

     المرفق    
    يقول: هذا هو نهاية المعنى الأول، لأنه قال قبل ذلك: (فهذه الأحاديث فيها معنيان) أي: أحاديث احتجاج الجنة والنار، فالمعنى الأول هو: أن المقصود بالفقر أو المسكنة هو التواضع، فالمتواضع غنياً كان أو فقيراً، خليفة أو صعلوكاً، هو من أهل الجنة، وأما النار ففيها المتكبرون؛ سواء كانوا فقراء أو أغنياء، وقد تقدم هذا المعنى. قال: (المعنى الثاني) أي: لهذه الأحاديث وأمثالها: (أن الصلاح في الفقراء أكثر منه في الأغنياء، كما أنه إذا كان في الأغنياء فهو أكمل منه في الفقراء، فهذا في هؤلاء أكثر، وفي هؤلاء أكثر؛ لأن فتنة الغنى أعظم من فتنة الفقر، فالسالم منها أقل، ومن سلم منها كان أفضل ممن سلم من فتنة الفقر فقط، ولهذا صار الناس يطلبون الصلاح للفقراء؛ لأن المظنة فيهم أكثر، فهذا هذا والله أعلم).
  4. دور الغنى والفقر في صلاح العبد وطغيانه

     المرفق    
    فما دام قد تقرر أن أكثر أهل الجنة هم الضعفاء والمساكين، وأن أكثر أهل النار هم الجبارون والمتكبرون والنساء؛ إذاً: فنستنتج من هذا: أن الفقر أقرب إلى صلاح شأن العبد، وأن الغنى أقرب إلى أن يطغيه، (( كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ))[العلق:6-7].
    فالغني والمترف أبعد من أن يستجيب لدواعي الخير، أو الوعظ، أو التفكير في الآخرة، أو الجنة، أو النار أو ما أشبه ذلك، فهو لغناه ولترفه لا يجد نفسه محتاجاً، أو مضطراً لأن يعبد الله تبارك وتعالى، ولا يعني ذلك أن كل غني كذلك، ولكن الفتنة بالغنى والمال أكثر، ولهذا تأتي الآيات: (( قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا ))[التوبة:24]، وجاء: (( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ))[آل عمران:14]، وجاء: (( زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ))[البقرة:212]، وجاء: (( وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ))[طه:131].
    فترف المساكن، والنساء، والمركوبات، والمناصب، والجاه وما أشبه ذلك كله مدعاة للغفلة والفتنة به أكثر، وبه حفت النار؛ لأن النار حفت وحجبت بالشهوات، وهذه هي أعظم شهوات الدنيا، ويمكن أن نرجعها كلها إلى الغنى، فمن ملك المال فإنه يستطيع أن يصل إلى المنصب، وإلى ما يشاء من النساء، وبقية أمور الدنيا تبع، وإن لم تدخل في كلمة المال أو الغنى من حيث اللغة؛ فإن المال يأتي بها جميعاً.
    فإذا تقرر هذا فالغنى مدعاة وسبب لأن يطغى العبد، وأن يترف، وأن يقسو قلبه، وألا يتفكر في أمر الله، ولا في شرعه، وألا يستجيب لنداء رب العالمين، أو لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعاه لما يحييه، وألا يدخل قلبه وعظ واعظ، ولا تذكير مذكر، هذا إن جلس وسمع الموعظة أو الذكرى؛ لأن هذا الغنى يحجبه عن ذلك، فمن هنا يكون التفضيل لهذا السبب فقط، وليس لمجرد أنه غني، أو الآخر لأنه فقير، فالنظر إنما يكون إلى الفتنة.
    وهنا أمر وهو: (أن الصلاح في الفقراء أكثر منه في الأغنياء) وهذا أمر مشاهد، وقد وجد الآن في الدراسات التي يسمونها: الدراسات الحديثة الاجتماعية، ولها قدر من الحق، ونصيب من الصحة؛ لأنها تعتمد على الاستبيانات ورصد الأحوال؛ وجدوا أن أكثر الطبقة والفئة المتدينة في المجتمع هم عادة من الطبقة المثقفة والمتوسطة، وقليل منهم من الطبقة الغنية، وكذلك تجد فيهم طائفة قليلة من الطبقة الدنيا، وهذا أمر واضح؛ لأن تلك لا تكاد تحسب على أحد؛ لأن التدين الواعي يحتاج إلى علم، فيكون أصحابه من أبناء ما يسمى بالطبقة المثقفة، والطبقة المثقفة عادة في أغلب المجتمعات هي طبقة متوسطة، فليست من الطبقة الثرية العليا في المجتمع؛ كما أنها ليست أيضاً من الطبقة العامة الدنيا، فهذا له قدر من الحقيقة حتى في هذا الزمان، وفي أي زمان.
    1. تفضيل الغني المتدين على الفقير المساوي له في الدين

      يقول الشيخ: لكن (كما أنه إذا كان في الأغنياء؛ فهو أكمل منه في الفقراء) فلو قدر لك أن رأيت رجلين: أحدهما آتاه الله مالاً، وهو مع ذلك في تقوى وعبادة وصلاح وخير وبر وطلب علم وقراءة قرآن.. إلى آخر ذلك، والآخر لم يؤت مالاً، وهو كأخيه في الخير، والبر، والصلاح، وطلب العلم .. إلى آخره، فهما سواء؛ إلا أن ذاك أوتي مالاً وهذا لم يؤت، فإنك ترى أن هذا أكمل؛ لأن لديه من المال ما يمكن أن يصرفه ويشغله كما أشغل غيره، وأما هذا فإنه لا إشكال ولا غرابة في أن ينصرف إلى هذا الخير؛ إذ ليس هناك ما يعوقه كما أعاق أخاه. إذاً: فيكون الصلاح في الفقراء وفي الأقل غنى أكثر، ولكنه في الأغنياء أكمل، والمتدين منهم يكون أفضل، وأعلى درجة؛ لمقاومته للفتنة، فالزينة فيه تدينه بالخير والعلم والتقوى أكمل منها في الآخر، وإن كانت الزينة واحدة.
    2. سبب ميل الناس إلى طلب الصلاح في الفقراء

      ويقول الشيخ: (فهذا في هؤلاء أكثر) -يعني: الصلاح- (وفي هؤلاء أكثر) -يعني: كمال الصلاح-؛ (لأن فتنة الغنى أعظم من فتنة الفقر) كما قدمنا من الآيات، (فالسالم منها أقل)، فكلما كانت الفتنة أعظم كان الناجي والسالم منها أقل بطبيعة الحال، فإذا كان هؤلاء أقل فإن سلامتهم أكمل، وحالهم أفضل، (فمن سلم منها كان أفضل ممن سلم من فتنة الفقر فقط). يقول الشيخ: (ولهذا صار الناس يطلبون الصلاح في الفقراء) هذا تعليل ميل كثير من العباد والزهاد والأئمة إلى الفقراء، والميل عن الأغنياء، حتى ولو كانوا أهل أموال، أو أهل دنيا، أو سلاطين أو ما أشبه ذلك فإنك تجد أكثر العلماء والعباد والزهاد يميلون إلى الفقراء؛ لأن الفتنة عندهم أقل، فلا يخشى من زيارتهم، أو محبتهم، أو مودتهم الفتنة، بخلاف ما لو أن الرجل زار الأغنياء، أو أقام علاقات معهم؛ وإن كانت العلاقة لله، لكنه هنا يكون قد تعرض للفتنة ولو بقدر ما، فإنه يرى عندهم من بهارج الدنيا وزخارفها ما ليس لديه، ولو كان الأمر حلالاً، فربما دعاه ذلك إلى أن يشغل قلبه بشيء من أمور الدنيا، فيرى أن بيته أقل، وأن مركبه أقل، وأن لباسه أقل، وأن حال أهله أقل.. وهكذا فهذا يشغله. وربما جعله ذلك يستدين ليقاربه مثلاً، وربما قال لنفسه أو قال له غيره: إنك لو كنت في بيتك، أو مظهرك، أو حياتك مثل هؤلاء لكان ذلك أدعى أن يأتوك، وأن يستجيبوا لك، أو حتى لا تظهر أنك أقل منهم، فبهذه الطريقة يغرق شيئاً فشيئاً، أو يميل ويركن شيئاً إلى الدنيا، ثم إن لم يجد من أسبابها ما يعينه على أن يكون مثلهم -وهو الغالب أنه كذلك ما دام فقيراً- فهذا يؤدي به إلى أن يشغل نفسه، ويضيع بعض الوقت الذي كان يمكن أن يصرف في دعوة، أو طلب علم، أو جهاد؛ يشغله في تحصيل ما فاته؛ ليكون كهؤلاء، فمن هنا تكون الفتنة بالمال وبأهله أكثر منها في الفقر وأهله؛ (فالمظنة فيهم أكثر). ثم يقول الشيخ رحمه الله، ويختم كلامه بهذه الفقرة: (فلهذا السبب صارت المسكنة نسبته) -والظاهر أنها: نسبية- أي: أنها قد تكون في الأغنياء، وقد تكون في الفقراء، أي: ليست مطلقة. قال: (وكذلك لما رأوا) -يعني: العباد، والزهاد، والذين يميلون عن الدنيا ويريدون وجه الله- (المسكنة والتواضع في الفقراء أكثر) -وهذا أيضاً بطبيعة الحال والمشاهدة أنه في الفقراء أكثر- (اعتقدوا أن التواضع والمسكنة هو الفقر). وهنا قضيتان: أن المسكنة نسبية، والأمر الآخر: أنهم رأوا أن المسكنة والتواضع في الفقراء أكثر؛ فظنوا أن ذلك نتيجة الفقر، مع أنه ليس شرطاً، والقضية ليست مطلقة.
  5. المراد بالفقر والمسكنة في الشرع

     المرفق    
    ثم عاد يوضح ذلك فيقول: (بل الفقر هنا: عدم المال، والمسكنة: خضوع القلب) فهما متباينان. وأيضاً جاء في الحديث الذي رواه الحاكم ، وصححه الترمذي : ( اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين ).
    فالمسكنة التي في هذا الحديث المقصود بها التواضع، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يدع الله أن يكون فقيراً لا مال له، ولا أن يكون مسكيناً لا يجد كفايته، وإنما المقصود بالمسكنة هنا: أن يكون متواضعاً لا تكبر فيه، ولا علو في الأرض، ولا بطراً للحق، ولا غمطاً للناس، كما فسر النبي صلى الله عليه وسلم الكبر فقال: ( الكبر: بطر الحق، وغمط الناس ).
    يقول الشيخ: (وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ من فتنة الفقر، وشر فتنة الغنى) فالنبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ من الفقر؛ لأن الفقر شر، وهو أيضاً سبب لشرور كثيرة.
    1. خروج الفقر والمسكنة عن معناهما الصحيح بسبب الفرق في تعريفهما

      فالمهم أن كلمة: الفقر أو المسكنة لهما معنيان: معنى لغوي، ومعنى اصطلاحي خاص يقصده العباد، أو الصوفية ، أو السالكون، أو الزهاد وما أشبههم، فالفقر في لغة العرب وهو ما جاء في القرآن المقصود به: عدم المال.
      والشيخ يقول هو على معنيين، ومنهما: التواضع؛ بغض النظر عن كثرة المال أو قلته، لا كما يظن أولئك؛ فهم أخذوا المعنى الاصطلاحي وظنوا أنه عدم المال، فأنزلوا هذا المعنى على هذا اللفظ، فظنوا أن الفقر الذي يمدح أو يثنى عليه، وكذلك المسكنة التي تمدح الواردة في الحديث السابق، وفي حديث: ( فيّ الضعفاء والمساكين ) وأمثاله؛ أنها بمعنى عدم المال.
      وأحياناً قد يخرج الاصطلاح عن الأصل، وتكون الكلمة في الاصطلاح لها معنىً جديداً، والخلط بينهما خطأ، وهذا كثيراً ما يقع. ‏
    2. أمثلة على خروج المعنى الاصطلاحي عن المعنى الأصلي

      فمثلاً: جملة: (حدود الله) كثيراً ما تأتي في القرآن، كما في قوله تعالى: (( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا ))[البقرة:187]، وقوله: (( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا ))[البقرة:229]، ومعناها هنا: جملة الأوامر والنواهي مما يتعلق منها بالبيوع، وما يتعلق بالنكاح، وما يتعلق بالطلاق، وما يتعلق بالحقوق كلها، فكل هذه هي حدود الله، وأما الفقهاء فيذكرون الحدود ويعنون بها العقوبات المقدرة، وقلنا: العقوبات المقدرة؛ لأنها يقابلها التعازير، وهي عقوبات غير مقدرة، والعقوبات المقدرة مثل: القصاص في حد السرقة، وحد الزنا، والقذف، وشرب الخمر، فهذه يسميها الفقهاء: الحدود، فعندما نجد قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يزاد على عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله ) فمعناه على قولهم: أنه ليس لك أن تعزر إلا في حدود العشرة أسواط، وهذا قال به طائفة من العلماء، فتقول مثلاً: يجلد الزاني غير المحصن مائة جلدة، ويجلد الشارب والقاذف ثمانين أو أربعين، وأما ما عدا ذلك كأن يختلي رجل بامرأة، أو أن يبني رجل مصنعاً للخمر؛ فهذا يجلد فيها عشرة أسواط فما دون، وهذا قول بعض العلماء.
      وهو في الحقيقة ليس هو القول الراجح أو الصحيح في المسألة؛ لأن كلمة (الحد) هنا ليس المقصود بها ما قرره الفقهاء بمعنى: العقوبات المقدرة، وإنما المقصود: أن الله سبحانه وتعالى جعل العقوبات على نوعين، فالنوع الأول: ما كان في حد من حدود الله، أي: في أوامر الله ونواهيه، كما في قوله تعالى: (( وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ))[المجادلة:4]، أي: ما كان من أوامر الله ونواهيه.
      والأمر الثاني: ما كان من باب الولاية التي جعلها الله تعالى للعبد في حق من حقوقه، كالرجل مع أبنائه مثلاً، أو مع أهله، أو المعلم مع صبيانه وما أشبه ذلك، فهناك قدر للولاية، فإذا كان التأديب أو التعزير في حدود الله فلك أن تجعلها ما شئت، وهذا هو القول الصحيح، فلو قال أحد: إنه يعزر بألف جلدة؛ فإنه يجوز إذا كان يستحق ذلك، فإذا وجد عنده مصنع للخمر مثلاً وقال القاضي: يعزر بألف جلدة، وتوزع عليه على عشرين يوماً، أو على مائة أو غير ذلك، فهذا صحيح، ولا حرج في ذلك.
      لكن لو أراد رجل أن يضرب ابنه، أو أراد معلم أن يؤدب تلميذه الذي لم يرتكب حداً من حدود الله؛ لكنه لم يحفظ ما قرره عليه، فأراد أن يؤدبه فليؤدبه بأربع جلدات أو خمس أو غيرها، ولا يزيد على العشر، وهكذا فيما يتعلق بالولايات، كموظف أراد رئيسه، أو ولد أراد وليه أن يعاقبه أو يعزره لتغيبه مثلاً أو ما أشبه ذلك، فهذا داخل في الولايات والتأديب.
      والشاهد من هذا كله: كلمة (حد)، فاللفظ قد يكون في كلام الشارع على غير ما يستخدمه الناس، ويحددونه، ويصطلحون عليه.
      وهناك مثال آخر واضح جداً وهو: النسخ، فالنسخ في اصطلاح المتأخرين: هو إزالة حكم سابق بحكم متأخر لاحق، فمعنى ذلك: أن حكماً ما كان ثابتاً، فجاء حكم آخر بعده فأزاله؛ لأن النسخ في اللغة هو: الإزالة أو النقل، كما في قوله تعالى: (( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ))[الجاثية:29] أي: نكتبه وننقله، ولهذا يقول ابن عباس : [ هذا فيها دليل على القدر ]، يعني: أن الملائكة تكتب من اللوح مباشرة، كما تنقلون أنتم ما في اللوح مباشرة، إذاً فهو نقل الحكم من الحل إلى الإباحة، أو من الإباحة إلى الحل مثلاً، فالمتأخرون من الفقهاء والأصوليين عندهم النسخ بهذا المعنى المقيد.
      ولذلك لو قلت لواحد منهم: أعطني دليلاً على النسخ فقد يأتيك بعشرة أدلة، وقد يأتيك بخمسة أمثلة، ويمكنك أن ترد منها اثنين أو ثلاثة أحياناً؛ لأنها لا ينطبق عليها أنها تغيير للحكم، وإنما تدخل في العام والخاص، وفي المطلق والمقيد.
      إذاً: فالسلف كـابن عباس و عكرمة و عطاء و مجاهد وغيرهم رضي الله تعالى عنهم إذا قالوا: هذا منسوخ؛ فإنهم يعنون: أنه منسوخ بالمعنى الذي يعنيه الفقهاء، ويعنون أيضاً أنه مخصص، أو مقيد، أي: أن عمومه ليس باقياً، فيكون النسخ عند السلف أعم منه في كلام المتأخرين أو الأصوليين.
      إذاً: فالإشكال يأتي عندما حمل كلام السلف في النسخ على ما يعنيه العلماء المتأخرون، أو العكس.
      وفي علم مصطلح الحديث نجد كثيراً من العلماء يقولون: هذا حديث صحيح، وهذا حديث حسن، وبعض العلماء يقول: لا، إما صحيح، أو ضعيف، بل إن بعضهم -وهو ابن حزم - يقول: إما صحيح، أو موضوع، ويعني: إما أنه ثابت، أو غير ثابت.
      فكلمة: الحسن هي اصطلاح معين قاله بعض العلماء، وأكثر منه الإمام الترمذي ، ثم أصبح بعد ذلك هو القاعدة العامة تقريباً، وشرطه: خفة الضبط إذا ما قورن بالحديث الصحيح.
      فهذه الكلمة لو أن قائلاً قالها قبل أن يتحدد هذا الاصطلاح فإنا نحمل كلامه على أنه المعنى اللغوي، أي: أنه جيد ومقبول، فهو صحيح عنده، لكن بعد أن تحدد الاصطلاح فإنا لا نحمل هذه الكلمة على معناها العام، وقس على ذلك أشياء كثيرة.
      ومثال آخر: أن بعض العلماء يقولون: إن المياه ثلاثة أقسام: طهور، وطاهر، ونجس، فيفرقون بين الطهور والطاهر، فينبغي أن تراعي كلمة (طاهر)، فإن كان قائلها ممن يقول بالقسمة الثلاثية؛ فكلمة (طاهر) عنده تكون بمعنى: الطاهر في نفسه، غير المطهر لغيره.
      فلو جاء أحد الناس وقال: هذا الماء طاهر، ثم قال مثلاً: وهو طاهر يجوز التوضؤ به، أو يرفع الحدث؛ لأنه طاهر، فتقول أنت: لا، بل هو طهور، فهذا أخطأ ولابد من تعديله، فنقول: لا، هو غير ملزم باصطلاحك أنت، أو بما درست أنت، فهو لا يرى أن القسمة ثلاثية، وإنما هي عنده ثنائية وهكذا.
      إذاً: فهذه قاعدة يمكن أن نأتي عليها بأمثلة كثيرة.
      فالمقصود: أن من أسباب الخطأ أحياناً: عدم فهم الاصطلاح الذي وضعه العلماء أو قرروه، ومن هنا قال قائلهم عياذاً بالله: إن الفقر هو الله -تعالى الله عن ذلك- وارتبط في ذهنه أن الفقر هو أصل كل خير، والصحيح في معنى الحديث: ( فيّ الضعفاء والمساكين )، وحديث: ( اللهم أحيني مسكيناً ): أنه التواضع والإخبات.
  6. شدة فتنة المال وابتلاء هذه الأمة به

     المرفق    
    يقول: (وقال بعض الصحابة: [ ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر ] ) فجعلهما فتنتين، فهما في كلا الحالين امتحان واختبار لنا من الله تبارك وتعالى، فهم في حال الضراء صبروا، وحصلوا على مقامات الصابرين، لكن وقع الضعف في درجات الشاكرين، ولذلك فالصحابة رضي الله تعالى عنهم لم يقع بينهم الاختلاف إلا بعد أن وسع الله تبارك وتعالى عليهم من الدنيا، وهم أفضل الخلق بعد الأنبياء، وأفضل أمة؛ ومع ذلك وقع الخلاف بينهم عندما كثر المال، وذلك أن الأمة في أيام النبي صلى الله عليه وسلم، ثم في أيام أبي بكر ، ثم في أيام عمر ، ثم في شطر من خلافة عثمان رضي الله تعالى عنهم أجمعين كانت أمة واحدة لا تفرق بينها، ولا اختلاف، ثم في النصف الأخير من خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه وقع الخلاف الذي نجم عنه خروج الثوار من الأنصار، ثم مقتل عثمان رضي الله تعالى عنه، وبعد مقتل عثمان رضي الله تعالى عنه وقعت الفتنة الكبرى، وتفرقت الأمة إلى شيعة و خوارج ، وظهرت أيضاً بعد ذلك أو معه المرجئة ، وكانت الفتن المعلومة.
    ولو تأملنا في الذي أُخذ على عثمان رضي الله تعالى عنه -بغض النظر عن أن هذا مصيب، وهذا مخطئ، وهذا مجتهد، وهذا غير مجتهد- لوجدنا أن ذلك بسبب المال أو الدنيا، فإنهم أخذوا على عثمان رضي الله تعالى عنه عدة مآخذ، ومن تلك المآخذ -ولا شك أن صاحبه مخطئ، وإن كان له أجر الاجتهاد- ما أخذه أبو ذر رضي الله تعالى عنه، فقد كان يرى أن ما زاد عن الحاجة فهو كنز، والصحابة كلهم يرون أن ما أديت زكاته فليس بكنز، فالخلاف هنا في المال، وليس في أمر من أمور الدين كالعقيدة، أو الإيمان، أو القدر، أو الصفات، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن هذه المشكلة نتج عنها أن وقع نوع من الاختلاف، وهذا الاختلاف أدى إلى نوع من البغي، فبغى بعضهم على بعض ولو بالكلام، والناس -وخاصة العوام- إذا سمعوا من هذا كلمة، ومن هذا أخرى؛ فإنهم بسهولة ينشقون إلى فئتين: فئة مع هذا، وفئة مع هذا، فقالت طائفة منهم: إن عثمان رضي الله تعالى عنه قد حمى الحمى، وأنه توسع في الأعطيات لبعض أقاربه، وأخذوا مآخذ كلها ترجع إلى المال.
  7. أسباب ظهور الفتن في أمة الإسلام في عهدها الأول

     المرفق    
    وفي الجانب الآخر ظهر لأول مرة أن الناس توسعوا في التنعم، وفتنة هذه الأمة في المال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( هذه الأمة أمة مرحومة، فتنتها المال، وعذابها الفرقة )، وقال: ( والله ما الفقر أخشى عليكم )، فهو صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رءوف رحيم، يشفق عليهم مما يضرهم فطمنهم: ( والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا )، وهذا الذي وقع.
    فكان مما حدث وظهر من البدع -والمقصود بالبدع هنا: الأمر المحدث الذي لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومن قبله-: أن الناس توسعوا في التنعم، فأدى ذلك إلى ظهور شيء من الترف، والتقاعس، والبعد عن الجهاد، وولد في هذا النعيم ناشئة نشأت في أحضان الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولم يعانوا مرارة الجاهلية، ولم يعرفوا الجاهلية، ولم يعرفوا نعمة الإيمان كما ينبغي، ونشئوا في أحضان العلم، والنور، والخير، والنعمة، والترف، فابتدأ في الحجاز -وهذا شيء عجيب أن يبتدئ في الحجاز : في مكة و المدينة - مع هذا الترف ظهور نوع من الغزل، والغناء وما أشبه ذلك، حتى إن هؤلاء الشعراء كانوا منتشرين في الحجاز ، مع أن المفروض ألا يوجد هناك منهم أحد، حتى كثروا في المدينة ، وكان منهم عمرو بن أبي ربيعة وأمثاله، فكثروا هناك بسبب الترف والمال والنعمة والشبع.
    وقد كانت المدينة حاضرة الأمة، وكان فيها كبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فقدمت إليها أنواع من المطاعم، والمشارب، والملابس، والزينة، والحلي مما لم يكن معروفاً من قبل، فولد هؤلاء في هذه النعمة، وقل عندهم وازع الإيمان، كما هو حال هؤلاء الشعراء وأمثالهم، فصاروا يتغزلون، ويتغنون، وينشدون، ثم بدأ ذلك يدب في بعض الناس، وكان كثيراً منهم من الموالي، أو من العبيد، ومال بعض الناس إلى سماع أصواتهم، فبدأت هذه الظاهرة تنتشر وهي غريبة، فلم يكن لدى النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه مع الجهاد، ومع العبادة، ومع المجالدة ما يمكن أن يجعلهم يتوسعون في المباح -وهو مباح- فضلاً عن أن يكون لديهم ما يشغلهم من المحرم.
    فانتقل هؤلاء من المنطقة الوسط -وهي التوسع في المباح- إلى الوقوع في المحرم، فانطبق عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( كالراعي يرعى حول الحمى؛ يوشك أن يرتع فيه )، وهذا الأمر معروف في التاريخ، وإن كنا لا نصدق كل ما يقال، ولا نأخذ هذا من كتاب الأغاني ، ولا نحتج بمثله، لكنه وجد، حتى إن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، ومن قبله سليمان وغيرهم وضعوا حلولاً لهؤلاء المغنين وأمثالهم، فهذا الأمر كان موجوداً وثابتاً.
    1. ظهور الغناء في صدر الإسلام

      فهذه الظاهرة كان أول ظهورها في أن الرجل يشتري أمة فيعجبه صوتها، وهذه ملك يمينه، وله أن يتلذذ بسماع صوتها إن كان صوتها جميلاً، فهي ملكه على أية حال، وكذلك الزوجة التي لها صوت جميل فللزوج أن يسمع صوتها ولا حرج إذا كان مجرداً عن الآلة، فبدءوا يتوسعون في أن يحترف بعض هؤلاء الإماء في الغناء، ثم تباع وتشترى للغناء لا لأنها أمة، وهنا بدأت المشكلة، ثم تطورت الأمور وأصبحت لها قواعد وقوانين، فإذا قرأت في الأغاني مثلاً فإنك تجده يذكر تلك المصطلحات والقوانين، وأصبح للغناء سلالم معينة، ومبادئ وقوانين معينة، وآلات.. وهكذا، ومن هنا قاوم العلماء ذلك، فمثلاً سئل الإمام أحمد رحمه الله -وهذا يدل على فقهه رضي الله تعالى عنه- عن رجل مات وله أيتام، وكان مما خلف: أمة ملك يمين مغنية، وبعض العلماء يفتي هنا: بأن يراعي الأصلح للفقراء، فتباع على أنها مغنية، فيكون لها سعر كبير؛ لأن الأيتام يحتاجون المال، والبعض يقول: لا، ما دام أن هذا الاحتراف حرام فإنها لا تباع بشيء مطلقاً، أي: يتركونها ولا يرثونها، وكأنهم ورثوا خمراً، أو خنزيراً، فإنه لا يورث.
      وأما الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه فقال: تباع على أنها ساذجة. أي: تباع على أنها مجرد أمة، وعندما تكون مجرد أمة فإنها تكون بعشرة دنانير أو مائة دينار، أما إذا كانت مغنية فإن القيمة تكون مضاعفة كما قلنا.
    2. ظهور التغزل بالنساء من قبل الشعراء

      فالمقصود: أن هذا وقع في هذه الأمة، وابتدأ النساء يلبسن ما لم يكن يلبس من قبل، وابتدأ الترف والغزل يدخل عليهم؛ حتى إن بعض هؤلاء يتورع أن يتغزل بالنساء وهن ذاهبات إلى المسجد، أو وهن يطفن بالبيت أو ما أشبه ذلك، فلما جاءت حادثة عبد الله بن الزبير وأمثاله، وما حدث في الحرة في المدينة وغيره؛ عادت الناس نوعاً ما، فالعقوبات ترجع الناس إلى رشدهم ولو شيئاً ما.
      فالمقصود: أن فتنة الدنيا كانت من أعظم الأبواب التي فتحت، نسأل الله العفو والعافية، فبقدر ما فتح من الكنوز؛ فتح معها من الفتن، ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم : ( والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم ).
  8. حال المهاجرين والأنصار من حيث الغنى والفقر

     المرفق    
    يقول: (ولهذا كان الغالب على المهاجرين الفقر، والغالب على الأنصار الغنى).
    أي: الغالب فيهم وإلا فيوجد من هؤلاء أغنياء، ومن هؤلاء فقراء، لكن الغالب على المهاجرين الفقر؛ لأنهم تركوا أهليهم، وأموالهم، وديارهم بـمكة ، إلا من تاجر منهم في المدينة فأصبح من كبار التجار والأغنياء، وكان الغالب على الأنصار الغنى؛ لأنهم أهل المزارع، وأهل النعمة، وكانت العرب تأتيهم من مضر، ومن اليمن ، ومن الشام ليشتروا منهم التمر وغيره، فكانوا في حال نعمة، إلا أنهم بعد أن آمنوا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم حصل لهم ما حصل من ترك لهذه الدنيا، ولهذا فسر أبو أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه قول الله تبارك وتعالى: (( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ))[البقرة:195] على غير ما كان يفهم منها كثير من الناس، فقد فهموا منها أنها في المعركة، [فعندما خرج رجل من المسلمين لقتال الروم فأخذ يضرب فيهم يميناً ويساراً؛ قال قوم: إن هذا قد ألقى بيديه إلى التهلكة، فقال أبو أيوب : ليس هذا كما تقولون، فينا معشر الأنصار نزلت هذه الآية، فلما فتح الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: إن الله قد فتح على رسوله صلى الله عليه وسلم فلو رجعنا إلى أموالنا ومزارعنا وضياعنا فأصلحناها، فأنزل الله تبارك وتعالى: (( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ))[البقرة:195]، فجعل التهلكة هي ترك الجهاد، والاشتغال بالدنيا].
    فالمهم أنهم كانوا أهل نعمة، وكانوا مؤهلين لأن يكونوا من أغنى الناس؛ ولكن شغلوا عن ذلك بالجهاد، فلما فتح الله الفتوح، وجاءت الجزية من كل مكان، وأصبح الجهاد فرض كفاية يقوم به ويتطوع له من يشاء، وجبيت كنوز وجزيات وخيرات الأرض إلى المدينة وغيرها؛ ظهر ذلك الترف، وظهر ذلك التنعم في الأمة، فكان الأمر كما تقدم.
    أما في غير ذلك: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: ( إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض )، وهذا ما شعر به بعض الأنصار: أنهم فاتهم شيء من الدنيا من جهة المناصب، وليس فقط من جهة المال، فالغالب أن ما فات هو من جهة أنه لم يكن منهم الخلفاء، أو الأمراء، أو ما أشبه ذلك، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر.
    يقول: (ولهذا كان الغالب على المهاجرين الفقر، والغالب على الأنصار الغنى، والمهاجرون أفضل من الأنصار، وكان في المهاجرين أغنياء هم من أفضل المهاجرين، مع أنهم بالهجرة تركوا من أموالهم ما صاروا به فقراء بالنسبة إلى ما كانوا عليه) فكأن هذا يرجح جانب الفقر على جانب الغنى.
    فإذا قلنا: إن المهاجرين أفضل من الأنصار، والغالب على المهاجرين الفقر؛ فيكون الفقر أرجح، فكل الأحاديث تؤدي إلى نفس المعنى، ولكن ليس بالإطلاق وإنما بالنسبية.
    قال: (ثم كان في المهاجرين أغنياء هم من أفضل المهاجرين). أي: أن ذلك الغنى أحدثوه بتجارتهم، (مع أنهم بالهجرة تركوا من أموالهم ما صاروا به فقراء بالنسبة إلى غيرهم)، فهم أصل عيشهم الفقر، ولكن حدث لبعضهم من الغنى ما حدث، فيكون هؤلاء قد نالوا درجات الشاكرين، ومقامات الصابرين في آن واحد.
  9. الراجح في التفضيل بين الفقير الصابر والغني الشاكر

     المرفق    
    يقول الشيخ: (وبهذا الدليل يظهر ضعف تنازعهم في مسألة الفقير الصابر والغني الشاكر، وترجيح أحدهما على الآخر، وأن التحقيق: أن التفضيل لا يرجع إلى ذات الفقر والغنى، وإنما يرجع إلى الأعمال والأحوال والحقائق، فالمسألة فاسدة في نفسها، فإن التفضيل عند الله بالتقوى وحقائق الإيمان، لا بفقر ولا غنى، ولهذا -والله أعلم- قال عمر رضي الله عنه: [الغنى والفقر مطيتان، لا أبالي أيهما ركبت].
    والفقر والغنى ابتلاء من الله تعالى لعبده، كما قال تعالى: (( فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ))[الفجر:15] الآية، فإن استويا -الفقير الصابر، والغني الشاكر- في التقوى استويا في الدرجة، وإن فضل أحدهما فيها فهو الأفضل عند الله، فإن الفقر والغنى لا يوزنان، وإنما يوزن الصبر والشكر).
    (ومنهم من أحال المسألة من وجه آخر وهو: أن الإيمان نصف صبر، ونصف شكر، فكل منهما لا بد له من صبر وشكر، وإنما أخذ الناس فرعاً من الصبر، وفرعاً من الشكر، وأخذوا في الترجيح، فجردوا غنياً منفقاً، متصدقاً، باذلاً ماله في وجوه القرب، شاكراً لله عليه، وفقيراً متفرغاً لطاعة الله، ولأداء العبادات، صابراً على فقره، وحينئذ يقال: إن أكملهما أطوعهما، وأتبعهما، فإن تساويا تساوت درجتهما، والله أعلم.
    ولو صح التجريد لصح أن يقال: أيما أفضل: معافىً شاكر، أو مريض صابر، أو مطاع شاكر، أو مهان صابر، أو آمن شاكر، أو خائف صابر؟ ونحو ذلك) انتهى كلام الشيخ.
    ويظهر أنه ليس في كلام الشيخ رحمه الله شيء جديد يخرج عما في كلام شيخ الإسلام ، بل إنه لخص كلامه وأوجزه، فهذه هي القاعدة العامة للتفضيل، ثم ما هو منشأ ذلك، والقضية الأخيرة هي: قضية التجريد، أي: أن ينظر إلى الغني مجرداً، وينظر إلى الفقير من حيث فقره، وقلنا: إنه لا الغني ولا الفقير، ولا الإمام ولا المأموم، ولا الأمير ولا المأمور، ولا شيء من ذلك يجرد مطلقاً، ويفضل مطلقاً، بل قد يكون أميراً وهو أفضل، وقد يكون مأموراً وهو أفضل، وقد يكون إماماً وهو أفضل، وقد يكون مأموماً وهو أفضل، وقد يكون فقيراً وهو أفضل، وقد يكون غنياً وهو أفضل، وقد يكون مسافراً وهو أفضل، وقد يكون مقيماً وهو أفضل، وقد يكون صحيحاً وهو أفضل من المريض، وقد يكون مريضاً وهو أفضل من الصحيح، فالعبرة بالأحوال والحقائق المضافة إليه لا بهذا التجريد الذي قد يفهم.
    وأظن أن المسألة اتضحت إن شاء الله، وقد ألمحنا أن هذه المسألة قيمتها وفائدتها -مع ما أخذنا فيها من العبر عن حال الناس؛ وهو حال عام لا يخرج عنه أحد من الغنى أو الفقر- أننا نأخذ منها قاعدة عامة في التفاضل بحسب الألوان، أو القوميات، أو الجنسيات، أو الأحوال، أو المهن، أو الحرف، أو ما أشبه ذلك، وكيف نفاضل بين أمور قد تشتبه علينا شرعاً.
    وأوضح مثال لهذا الاشتباه والاختلاف في هذه المسألة: مسألة الفقير الصابر والغني الشاكر، وكيف أنه بإمكاننا أن نجمع وجهات النظر جميعاً، وأن نأخذ ما عند هؤلاء من حق، وما عند هؤلاء من حق في أي مسألة من هذه المسائل، ولو أخذنا بأحد طرفي الخلاف فيها لكنا مخطئين.
    نسأل الله الكريم، رب العرش العظيم أن يرزقنا جميعاً الغنى والشكر، وأن يجيرنا وإياكم من الكفر والفقر؛ إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.
    وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.