المادة كاملة    
اختلف العلماء في الغنى والفقر من جهة التفضيل، والتحقيق أنه ليس أحدهما أفضل من الآخر مطلقاً، إنما المفاضلة بالتقوى، فإن من الخلق من لا يصلح له إلا الغنى، ولو أفقره الله تعالى لتسخط على الله، وأصيب بالقنوط واليأس، وتملكه الشؤم والجزع. ومن الخلق من لا يصلح له إلا الفقر، ولو أغناه الله تعالى لبغى في الأرض، وأهلك الحرث والنسل، وزج به غناه في جهنم.
  1. تصوير مسألة: التفضيل بين الغني الشاكر والفقير الصابر، والترجيح فيها وما شابهها من المسائل

     المرفق    
    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
    فإن الحديث في مسألة التفاضل قد تقدم، وقد مهدنا له بمقدمات وتمهيدات، والمسألة التي اختصها الشارح -رحمه الله تعالى- بالذكر هي: مسألة التفضيل بين الغني الشاكر والفقير الصابر، فنقرؤها من كلام الشيخ، ثم نبين مصادره في ذلك، ونأتي على الموضوع من أساسه من كلام شيخ الإسلام رحمه الله.
    قال الشارح رحمه الله: [وبهذا الدليل يظهر ضعف تنازعهم في مسألة الفقير الصابر والغني الشاكر، وترجيح أحدهما على الآخر، وأن التحقيق أن التفضيل لا يرجع إلى ذات الفقر والغنى، وإنما يرجع إلى الأعمال والأحوال والحقائق.
    فالمسألة فاسدة في نفسها؛ فإن التفضيل عند الله بالتقوى، وحقائق الإيمان لا بفقر ولا غنى؛ ولهذا -والله أعلم- قال عمر رضي الله عنه: [الغنى والفقر مطيتان لا أبالي أيهما ركبت].
    والفقر والغنى ابتلاء من الله تعالى لعبده، كما قال تعالى: (( فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ))[الفجر:15] الآية.
    فإن استوى الفقير الصابر والغني الشاكر في التقوى استويا في الدرجة، وإن فضل أحدهما فيها فهو الأفضل عند الله؛ فإن الفقر والغنى لا يوزنان، وإنما يوزن الصبر والشكر]
    .
    1. حال من كان فقيراً من الأنبياء والصالحين

      ثم يقول: (وفيهم من كان فقيراً) يعني: الأنبياء أولي العزم، والسابقين الأولين.
      قال: (كالمسيح عيسى ابن مريم، ويحيى بن زكريا، و علي بن أبي طالب ، و أبي ذر الغفاري ، و مصعب بن عمير ، و سلمان الفارسي ونحوهم ممن هو من أفضل الخلق من النبيين والصديقين).
      أي: لا نقدر نفاضل مطلقاً؛ لأن هنا أنبياء، وبعضهم ومن أولي العزم، وأيضاً بعض السابقين الأولين، وكذلك هناك.
    2. ذكر بعض من اجتمع له الغنى تارة والفقر تارة من الأنبياء والصالحين

      قال: (وقد كان فيهم من اجتمع له الأمران: الغنى تارة، والفقر أخرى، وأتى بإحسان الأغنياء، وبصبر الفقراء، كنبينا صلى الله عليه وسلم، و أبي بكر ، و عمر).
      وبهذا يظهر فضل أبي بكر و عمر ، وفي كل شيء يظهر فضلهما حتى في هذه الحالة رضي الله عنهما، فقد مرت عليهم جميعاً حالة الفقر، ومرت عليهم حالة الغنى.
    3. فضل النبي صلى الله عليه وسلم على غيره من الأنبياء

      والنبي صلى الله عليه وسلم ترك الدنيا زهداً فيها، ورغبة عنها، ولو شاء لأعطي بطحاء مكة ذهباً، وفتح الله عليه في آخر حياته صلى الله عليه وسلم من كنوز الأرض، ومن غنائم الفتوح والفيء مما جاء من البحرين ، ومن خيبر وغيرها، ولكنه ظل يعيش عيشة الفقراء؛ حتى إن الحصير قد أثر في جنبه صلى الله عليه وسلم.
      فهكذا كان حاله وحال زوجاته الطاهرات الكريمات، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وسع الخلفاء الراشدون على زوجاته من بعده، وأما هو صلى الله عليه وسلم فقد اختار ذلك لنفسه، كما قال: ( إن عبداً خيره الله بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة )، وهو يعني نفسه صلى الله عليه وسلم، فقد خيره الله بين هاتين، فاختار صلى الله عليه وسلم الآخرة.
      وبهذا يظهر فضل النبي صلى الله عليه وسلم على كلا النوعين من الرسل، فهناك أنبياء ورسل أعطاهم الله تبارك وتعالى المال، وأعطاهم الغنى، وآخرون كانوا فقراء، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد جمع بين صبر الفقراء على الفقر، وزيادة على ذلك أنه شكر، وأنه أعطي الدنيا، ولو أرادها لكان من الأغنياء، فاختار حياة الفقراء اختياراً منه، فإذا كان له فضل -وهم كذلك لهم فضل على الصبر- فهو أفضل منهم؛ لأنه اختاره اختياراً.
      وهو أفضل من أولئك الأغنياء؛ لأنه أعطي ما أعطوا، ومع ذلك اختار ما هو أقرب وأكمل، اختار الدار الآخرة.
      وهو صلى الله عليه وسلم خير بين أن يكون عبداً رسولاً، وبين أن يكون ملكاً رسولاً، فاختار العبودية، فهو بهذا أكمل من نبي الله سليمان وداود عليهما السلام؛ لأنهما كانا ملكين رسولين، وأما رسولنا صلى الله عليه وسلم فاختار أن يكون عبداً رسولاً؛ لأن العبودية أعلى وأفضل.
    4. قول بعضهم: إن الإيمان تصف صبر، ونصف شكر

      قال: [ومنهم من أحال المسألة من وجه آخر وهو: أن الإيمان نصف صبر، ونصف شكر، فكل منهما لا بد له من صبر وشكر، وإنما أخذ الناس فرعاً من الصبر وفرعاً من الشكر، وأخذوا في الترجيح، فجردوا غنياً، منفقاً، متصدقاً باذلاً ماله في وجوب القرب، شاكراً لله عليه، وفقيراً متفرغاً لطاعة الله، ولأداء العبادات، صابراً على فقره، وحينئذ يقال: إن أكملهما أطوعهما وأتبعهما، فإن تساويا تساوت درجتهما. والله أعلم].
    5. جعل الترجيح في هذه المسألة قاعدة عامة فيما شابهها من المسائل

      قال: [ولو صح التجريد لصح أن يقال: أيما أفضل: معافى شاكر أو مريض صابر، أو مطاع شاكر أو مهان صابر أو: آمن شاكر أو خائف صابر؟! ونحو ذلك].
      إن هذه المسألة ليست ذات قيمة أو أهمية كبيرة لولا أن العلماء تحدثوا فيها، وأثارها الصوفية من قبل، ومن ناحية أخرى -وهو المهم لنا-: أنها تعطينا قاعدة عامة في التفضيل؛ لأن كثيراً من الناس يشغلون بذلك أو يسألون عنه كما سيذكر الشيخ رحمه الله، فمثلاً: يسألون: أيهما أفضل: الإمام أو المأموم، والأمير أو المأمور .. وهي أحوال كثيرة جداً، فالقاعدة في التفاضل هي المهمة، ولنجعل هذا المثال: الغني الشاكر والفقير الصابر موضحاً لها.
    6. تحقيق معنى الفقير لغة وشرعاً

      وأصل المسألة كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في أول الجزء الحادي عشر من مجموع الفتاوى عندما تعرض لموضوع الفقر والتصوف هو: أن كلمة الفقير عند الصوفية لها معنى غير الفقير الذي نعرفه نحن في الكتاب والسنة، فالفقير في الكتاب والسنة، ولغة العرب، وعرف الناس هو كما ذكر الله سبحانه وتعالى: (( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ))[التوبة:60]، ومن ينظر إليه من جهة ماله، أي: المستحق للزكاة؛ بغض النظر عن أيهما أشد فقراً: الفقير أم المسكين، فالمهم أن من يصدق عليه الاسمان: الفقير أو المسكين فهو من أهل الزكاة، فينظر إليه من جهة حاجته المادية -حاجته المالية- وهكذا، فلا يتعلق بالفقر مدح ولا ذم لذاته، يعني حالة من الحالات.
      فالله تعالى جعل بعض الناس أغنياء، وجعل بعض الناس فقراء، (( فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ ))[النحل:71] كما ذكر الله عز وجل، وليس لهذا حكم لذاته بأن يمدح أو يذم، لكن لأن كلمة الفقير أصبحت اصطلاحاً على طائفة من الصوفية ؛ يتعبدون وينقطعون عن الدنيا، ويزهدون فيها، ولهم رسوم معينة، بل ربما كان لهم أماكن معينة كما سنقرؤه من كلام الشيخ رحمه الله عند التفضيل بين الصوفي والفقير؛ لأن الصوفية أنفسهم انقسموا إلى طائفتين: طائفة منهم تسمى: فقراء، وطائفة تسمى: الصوفية ، وهؤلاء في الزوايا وهؤلاء في الخوانك كما كانت تسمى بلغة الترك.
      إذاً فهو اصطلاح خاص، وليس على معناه الأصلي في لغة العرب، أو في الشريعة، وقد تعرض شيخ الإسلام في الحادي عشر من مجموع الفتاوى ، وهو جزء التصوف؛ تعرض لهذا الموضوع أكثر من مرة، منها: ما ذكره في أوله عندما تعرض لاسم الفقير كما في (ص:20) كما ذكرناه ولخصناه.
    7. لزوم العلو في الأسبقية في دخول الجنة على من يدخل بعد

      ثم يقول: (وقد تنازع الناس هذه المسألة أيما أفضل الفقير الصابر أو الغني الشاكر؟ والصحيح: أن أفضلهما أتقاهما، فإن استويا في التقوى استويا في الدرجة كما قد بينا في غير هذا الموضع، فإن الفقراء يسبقون الأغنياء إلى الجنة؛ لأنه لا حساب عليهم). أي: يكون التفضيل من هذه الجهة وهي: الأسبقية، فالفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء؛ لأنهم لا حساب عليهم. قال: (ثم الأغنياء يحاسبون، فمن كانت حسناته أرجح من حسنات فقير؛ كانت درجته في الجنة أعلى). أي: أنه ليس معنى أنهم يدخلون قبلهم: أنهم يكونون دونهم في الجنة، فالأسبقية لا تعني الأفضلية في الدرجات. قال: (وإن تأخر عنه في الدخول). أي: وإن تأخر في الدخول فهو أعلى منه في الرتبة. (ومن كانت حسناته دون حسناته -يعني: الفقير- كانت درجته دونه) أي دون درجة الفقير أيضاً. يقول: (لكن لما كان جنس الزهد في الفقراء أغلب؛ صار الفقر في اصطلاح كثير من الناس: عبارة عن طريق الزهد، وهو من جنس التصوف).
    8. التفضيل بين الفقير والصوفي

      قال: (وعلى هذا الاصطلاح تنازعوا قد أيما أفضل: الفقير أو الصوفي؟! فذهب طائفة إلى ترجيح الصوفي كـأبي جعفر السهروردي ونحوه، وذهب طائفة إلى ترجيح الفقير كطوائف كثيرين، وربما يختص هؤلاء بالزوايا، وهؤلاء بالخوانك ونحو ذلك، وأكثر الناس قد رجحوا الفقير.
      والتحقيق: أن أفضلهما أتقاهما).
      أي: أفضلهما أتقاهما، وأقربهما إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    9. حكاية في تفضيل الفقر، والرد عليها

      وقد ذكر الشيخ في (ص116) حكاية يقول: فقد سئل سؤالاً؛ وهذا السؤال يبين لكم كيف أن الألفاظ تختلف اختلافاً كلياً عما نألفه أو نقرؤه، (فسئل عن رجل متصوف قال لإنسان -في كلام جرى بينهم-: فقراء الأسواق، فقال له الرجل: اليهودي والنصراني والمسلم في السوق، قال تعالى: (( وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ))[الإسراء:35]، فقال الصوفي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الفقر إلى الله، والأولياء مفتقرون للخاتمة، والأشقياء تحت القضاء ).
      فقال الصوفي للرجل: تعرف الفقر؟ فقال له: لا، قال الصوفي: الفقر هو الله، فأنكروا عليه هذا اللفظ، ثم في ثاني يوم قال رجل: أنت قلت: الفقر هو الله، فقال الصوفي: أنا قرأت في كتاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من رآني آمن بي) وأنا رأيت الفقر فآمنت به، والفقر هو الله.
      فأجاب شيخ الإسلام رحمه الله: الحمد لله، أما الحديث فكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مع كونه كذباً مناقض للعقل والدين؛ فإنه ليس كل من رآه آمن به، بل قد رآه كثير مثل الكفار والمنافقين) إلى آخر ما ذكر.
      ثم في (ص119) سئل الشيخ رحمه الله في هذه القضية فقيل له: (إن الفقير والغني لا يفضل أحدهما صاحبه إلا بالتقوى، فمن كان أتقى لله كان أفضل وأحب إلى الله تعالى، وإن الحديث الصحيح الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: ( يدخل فقراء أمتي الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام ) هذا في حق ضعفاء المسلمين وصعاليكهم القائمين بفرائض الله تعالى، وليس مختصاً بمجرد ما عرف واشتهر في هذه الأعصار المتأخرة من السجّاد، والمرقعة، والعكّاز، والألفاظ المنمقة؛ بل هذه الهيئات المعتادة في هذه الأزمنة مخترعة مبتدعة، فهل الأمر على ما ذكر أم لا؟)
      فهذا السائل فقيه، وقد وجد أن أناساً في أيامه -وهم الصوفية - يرتدون زياً معيناً، ويحملون السجادة، والماء ليتوضئوا به، ويحملون الثياب المرقعات، ولا يلبسون إلا المرقع من الثياب، ويأخذون العكازات، ويمشون هكذا في حالة وهيئة ورثة، ولا يتزودون بشيء غير ذلك، ولا يعملون في أي عمل من أعمال الدنيا، ويسمون أنفسهم: الفقراء، ثم يقولون: يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، فرد عليهم السائل وقال: لا، ليس الأمر كذلك، فالمقصود بالفقراء هنا: ضعفاء المسلمين، وفقراؤهم الذين لا مال لهم، والذين يقومون بفرائض الله، وحق الله، وأما ما أحدثتم من البدع فهذا محدث مبتدع.
    10. اختلاف الناس في التفضيل بين الغني الشاكر والفقير الصابر

      فأجاب شيخ الإسلام وقال: (قد تنازع كثير من متأخري المسلمين في الغني الشاكر والفقير الصابر أيهما أفضل، فرجح هذا طائفة من العلماء والعباد، ورجح هذا طائفة من العلماء والعباد، وقد حكي في ذلك عن الإمام أحمد روايتان.
      وأما الصحابة والتابعون فلم ينقل عنهم تفضيل أحد الصنفين على الآخر).
      أي: لأن الصحابة كانوا أفقه من أن تثور في أيامهم مثل هذه المسائل، أو يسألوا عنها.
      قال: (وقالت طائفة ثالثة: ليس لأحدهما على الآخر فضيلة إلا بالتقوى، فأيهما كان أعظم إيماناً وتقوى كان أفضل، وإن استويا في ذلك استويا في الفضيلة، وهذا أصح الأقوال؛ لأن الكتاب والسنة إنما تفضل بالإيمان والتقوى، وقد قال الله تعالى: (( إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا ))[النساء:135]).
    11. قيام الكاملين من الناس بمقامي الصبر والشكر

      (وقد كان في الأنبياء والسابقين الأولين من الأغنياء من هو أفضل من أكثر الفقراء، وكان فيهم من الفقراء من هو أفضل من أكثر الأغنياء، والكاملون يقومون بالمقامين) -أي: الكاملون ممن حققوا مقامات العبودية يقومون بالمقامين- (فيقومون بالشكر والصبر على التمام، كحال نبينا صلى الله عليه وسلم، وحال أبي بكر و عمر رضي الله عنهما).
      أي: أنهما عاشا حالاً من الشكر، وحالاً من الصبر، بحسب ما يأتيهما، فإن جاءهما رخاء ونعمة شكروا، وإن جاءهما بلاء وأذى صبروا.
      يقول: (كما في الحديث الذي رواه البغوي وغيره: ( إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا السقم، ولو أصححته لأفسده ذلك، إني أدبر عبادي، إني بهم خبير بصير ) ).
      وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم ).
      ونصف اليوم هذا هو الخمسمائة عام؛ لأن الحال كما قال تعالى: (( وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ))[الحج:47]
      يقول: (وفي الحديث الآخر: حديث ( ذهب أهل الدثور بالأجور، فقالوا مثلما قالوا، فذكر ذلك الفقراء للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء )، فالفقراء متقدمون في دخول الجنة؛ لخفة الحساب عليهم، والأغنياء مؤخرون؛ لأجل الحساب، ثم إذا حوسب أحدهم فإن كانت حسناته أعظم من حسنات الفقير كانت درجته في الجنة فوقه؛ وإن تأخر في الدخول، كما إن السبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، ومنهم: عكاشة بن محصن ، وقد يدخل الجنة بحساب من يكون أفضل من أحدهم).
      يعني: من أحد السبعين ألفاً.
      فهذه فتوى موجزة، ثم بسط الكلام، وأنا أحببت أن نقدمها شيئاً فشيئاً، فمن أراد أن يأخذ بالموجز فليأخذ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كلام الشيخ رحمه الله، وقد تكررت هذه المسألة على الشيخ؛ ولهذا يأتي الجواب مختصراً مرة، ومرة أطول قليلاً، ومرة أكثر؛ لأن هنا الموضوع كان في أيامهم متردداً وشائعاً، فالفتوى التي أطال فيها الشيخ هي من (ص122) إلى آخر (ص132).
      والشارح هنا أوجز ولخص منها ما كتبه هنا، ونحن سنأتي عليها من أصلها من كلام شيخ الإسلام رحمه الله.
    12. خطر الجهل واتباع الهوى

      وقد كثر تنازع الناس أيهما أفضل: الفقير الصابر أو الغني الشاكر؟! وأكثر كلامهم فيها مشوب بنوع من الهوى، أو بنوع من قلة المعرفة.
      وهذه مشكلة، فإذا جاءك أي خلاف فأول ما تنظر إليه أن تنظر: هل هذا الخلاف معتمد على الأدلة، أو أنه مشوب بشيء من الهوى أو الجهل؟ وغالب ما يختلف فيه الناس في هذا الزمان -وفي كل زمان- مرجعه إلى هذا، والعياذ بالله، فيخالف الحق بسبب الهوى والجهل، وربما كانت لدى بعض الطوائف كلا الخصلتين الذميمتين، فيكون لديها جهل وهوى، وهؤلاء لا علاج لهم إلا أن يمن الله عليهم بالعلم والهدى.
      فأما صاحب الهوى؛ فلا فائدة من جداله، (( وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا ))[الأنعام:25]، وأما صاحب الجهل؛ فإن شفاء العي السؤال، فإن لم يتعلم فلا تستطيع أن تقنعه، ولو أجبته بدليل وفهمه وأيقن به، ثم جاء آخر وذكر له دليلاً آخر -ولو كان في غير موضعه- ذهب أيضاً مع الآخر؛ لأنه ليس لديه من العلم ما يفهم به الدليل، ويفهم به الحجة، ويرجح به بين الحجيج والأدلة؛ ولهذا قال العلماء: إن المستفتي مذهبه مذهب المفتي، ولا يقول: أنا مذهبي كذا؛ لأنك لا تستطيع أصلاً أن تفهم ما هو مذهبه، أو تميز كلام هذا من كلام هذا.
      قال شيخ الإسلام: (والنزاع فيها بين الفقهاء و الصوفية ، والعامة والرؤساء وغيرهم).
      يعني: دخل فيها الفقهاء من جهة فقهية بحتة، وجاء الصوفية ونظروا فيها من ناحية سلوكية كما يقولون، ودخل العوام والكبراء أيضاً، وأصبحت مجالاً لأن يخوض فيها كل أحد، وإن كانت ثمرتها العملية لدى كثير منهم قليلة.
      ثم ذكر أن القاضي أبا يعلى ذكر فيها روايتين عن الإمام أحمد، ثم قال: (والقول الأول يميل إليه كثير من أهل المعرفة، والفقه، والصلاح من الصوفية والفقراء، ويحكى هذا القول عن الجنيد وغيره.
      والقول الثاني يرجحه طائفة منهم، كـأبي العباس بن عطاء وغيره، وربما حكى بعض الناس في ذلك إجماعاً، وهو غلط).
      يعني: أنه لا إجماع على أي من القولين.
    13. الترجيح في التفضيل بين الغني الشاكر والفقير الصابر

      قال: (وفي المسألة قول ثالث، وهو الصواب: أنه ليس هذا أفضل من هذا مطلقاً، ولا هذا أفضل من هذا مطلقاً، بل أفضلهما أتقاهما، كما قال تعالى (( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ))[الحجرات:13]، وقال عمر بن الخطاب: [الغنى والفقر مطيتان، لا أبالي أيتهما ركبت ]. وقد قال تعالى: (( إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا ))[النساء:135]).
      وانظر إلى قول عمر رضي الله تعالى عنه: [الغنى والفقر مطيتان، لا أبالي أيتهما ركبت] . أي: إن قدر الله تعالى علي الغنى شكرت، وأنفقت وتصدقت، واحتسبت ذلك عند الله عز وجل، ولم أبغ، ولم أطغ، كما ذكر الله تعالى عن حال من حذرنا منهم: (( كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ))[العلق:6-7]، فحذرنا من حال من يطغى إذا استغنى كـقارون وأمثاله، وقد وعظه ونصحه قومه فقالوا له تلك العبارات العظيمة الجامعة التي ينبغي لكل من أعطاه الله تبارك وتعالى مالاً أن يراعيها، وأن يجعلها منهاجاً له، قالوا له: (( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ ))[القصص:77]، ولو أن كل من أعطاه الله مالاً وثروة عمل بمقتضى هذه الآية لكنا في خير حال.
      لكن نجد أن كثيراً من الناس إذا أغناهم الله بغوا في الأرض، وابتغوا شهوات الدنيا، ونسوا الدار الآخرة، وأفسدوا وهم يشعرون؛ عياذاً بالله، وأما المتقي إن ابتلاه الله تعالى بالفقر صبر واحتسب، وقال: إن هذا خير لي، وربما لو ابتلاني بالغنى ما أفلحت، فيحمد الله تبارك وتعالى على ذلك.
      فهذا الكلام من عمر رضي الله تعالى عنه يرجع فيه الأمر إلى الله، فالله تبارك وتعالى هو الذي يبتلي بهذا وبهذا، فبأيهما ابتلاني لا أبالي، فإن ابتلى بالخير فالحمد لله، وله حله، وعلاجه، والصبر عليه كيف يكون، وإن ابتلى بالشر فكذلك له حله، وعلاجه، وكيف يكون الصبر عليه.
      ثم يقول: (وهذا القول اختيار طائفة، منهم: الشيخ ابن حفص السهروردي).
    14. أفضلية الفقر أو الغنى لقوم دون قوم في بعض الأحوال

      (وقد يكون هذا أفضل لقوم، وفي بعض الأحوال) أي: قد يكون الغنى أو الفقر أفضل لقوم، وفي بعض الأحوال. قال: (وهذا -أي: الآخر -أفضل لقوم، وفي بعض الأحوال). فإما أن يكون الفقر مطلقاً أفضل لأناس معينين، كما هو الحال في أول الدعوة، ففي أول الدعوة نجد أن أول من يتبع الأنبياء هم عادة الفقراء، ويغلب عليهم ذلك، فهذا أفضل لهم في هذا الحال، أو في حال دون حال، أي: إما لقوم معينين، أو في بعض الأحوال فقط، فالإنسان في حال إقباله على الله، وتوبته وهدايته يصلح له أحياناً أن يكون فقيراً؛ حتى لا يشغل عن التوبة والهداية والاستقامة بالترف، وربما في بعض الأحوال يصلح له الغنى؛ لأنه لولم يجد المال ويجد ما يكفيه لما استقام، فهذه المسألة هي بحسب الأحوال والأوضاع. قال: (فإن استويا في سبب الكرامة والتفضيل؛ استويا في الدرجة، وإن فضل أحدهما الآخر في سببها؛ ترجح عليه، وهذا هو الحكم العام). أي: كما تقدم في الغني والفقير.
    15. أصناف الناس من حيث الغنى والفقر

      قال: (وكما أن الأقوال في المسألة ثلاثة؛ فالناس ثلاثة أصناف: غني، وهو: من ملك ما يفضل عن حاجته).
      هذا هو تعريف الغني، وأما نحن الآن فإننا نعيش في حالة الأغنياء، والملوك الكبار والخلفاء في تلك القرون لم يعيشوا في مثل ما نعيش فيه نحن اليوم: من النعمة، ومن الترف، والله المستعان، نسأل الله أن يرزقنا شكرها.
      قال: (وفقير، وهو: من لا يقدر على تمام كفايته، وقسم ثالث: وهو من يملك وفق كفايته؛ ولهذا كان في أكابر الأنبياء والمرسلين، والسابقين الأولين من كان غنياً، كإبراهيم الخليل).
      فإبراهيم الخليل عليه السلام أعطاه الله سبحانه وتعالى غنىً وثروة، ولذلك كان كريماً عليه السلام، فلما جاءته الملائكة في صورة بشر ما لبث أن جاء بعجل حنيذ، وهذا دليل على الكرم، ودليل على أن لديه ما يطعمهم ويقريهم.
      قال: (وأيوب)؛ فقد أعطاه الله تبارك وتعالى نعمة ومالاً بعد أن عافاه الله عز وجل
      قال: (وداود وسليمان) فقد أعطاهما الله تعالى من الملك العظيم ما يجعلهما من أعظم وأكبر أغنياء الدنيا، ومع ذلك فإنهم كانوا جميعاً شاكرين.
      ثم ينتقل إلى السابقين الأولين فقال: (وعثمان بن عفان ، و عبد الرحمن بن عوف ، و طلحة ، و الزبير ، و سعد بن معاذ ، و أسيد بن الحضير ، و أسعد بن زرارة ، و أبي أيوب الأنصاري ، و عبادة بن الصامت ونحوهم ممن هو من أفضل الخلق من النبيين -يعني الأوائل-، والصديقين) يعني: الصحابة.
    16. أحوال بعض الصحابة في الغنى

      فهؤلاء كانوا أغنياء، وإذا رجعت إلى ما ذكره العلماء كما في سير أعلام النبلاء ، وفي طبقات ابن سعد وغيرها من المصادر فإنك تتعجب عندما تجد أن ثروة بعض الصحابة بلغت حداً كبيراً جداً؛ حتى إن نصيب الزوجة الواحدة يقدر بالملايين من الدراهم، وأحدهم متزوج من عدة زوجات، وهذا بعد أن فتح الله تبارك وتعالى عليهم، ووسع عليهم.
      فـعثمان رضي الله تعالى عنه مثلاً كان من أول الأمر ومن أصله ذا مال، وذا غنى، وذا ثروة، ثم لما فتح الله تبارك وتعالى عليهم البلاد والأمصار، وأصبح كل منهم يأخذ نصيبه الذي قدر الله له من الغنائم والفيء؛ ازدادوا غنىً رضي الله تعالى عنهم، وقد فتح الله عليهم من خيرات الأرض ما لم يكونوا يحلمون به، حتى إن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه كان يمتخط في الكتان، أي: كان يتخذ منديلاً يمتخط فيه من الكتان، فتذكر كيف كان في أيام الصفة لا يكاد يجد ما يستر العورة، ولا يقيم الأود، والآن أصبح أبو هريرة يمخط بالكتان فسبحان الله!
      ففتح الله تبارك وتعالى ووسع عليهم من النعم، ولكنهم رضي الله تعالى عنهم كانوا صابرين على الفقر، وكانوا شاكرين في الغنى، فلم ينسهم هذا، ولم يطغهم ذاك كحال كثير من الخلف بعدهم، ففيهم هذا وهذا، وإن كان الأغلب والأعم هو الفقر والحاجة؛ لا سيما في الصحابة، وأما التابعون فإن الغالب على الأمة في أيامهم هو الغنى الذي لم تصل إليه أية أمة من الأمم في القرون الوسطى، وربما إلى يومنا هذا، فلم تصل أي أمة من الأمم في المساواة في الثروة والغنى إلى ما كانوا عليه في أيام التابعين، حتى إنه في أيام عمر بن عبد العزيز رحمه الله كان العمال يطوفون بالصدقات ولا يجدون من يأخذها؛ لأن الناس كلهم في غنىً وفي عفاف وقناعة أيضاً.
    17. أحوال عرض الغنى والفقر على العبد من حيث الاختيار وعدمه

      قال: (والفقر والغنى حالان يعرضان للعبد باختياره تارة، وبغير اختياره أخرى). يعني: ليسا حالين دائمين، بل هما حالان يعرضان للعبد إما باختياره، وإما بغير اختياره، فمثال الاختيار: أن يعطي الله تبارك وتعالى رجلاً مالاً عظيماً وفيراً من ميراث أو غيره، ولكنه يتصدق به كله، وينسلخ من ماله كله، فهذا هو الذي اختار الفقر، أو يختار الغنى. وقد يكون بغير اختياره، كإنسان يكدح ويجد من أجل المال ولا يحصل عليه، بل يظل فقيراً، أو يكدح ويجتهد فيأتيه المال، ويجتهد فينموا ماله ويكثر، فيكون أيضاً باختياره، وهذا من فضل الله عز وجل، فأحياناً يكون باختياره، وأحياناً تكون هذه الحالة بغير اختياره. يقول: (كالمقام والسفر). يعني: قد تقيم، وقد تسافر، فأحياناً تكون إقامتك أفضل، وأحياناً يكون سفرك أفضل، فليس هناك قاعدة مطلقة. قال: (والصحة والمرض). فقد يعرض لك المرض، وقد تعرض لك العافية منه، فأحياناً يكون هذا، وأحياناً يكون هذا، وربما كان هذا باختيارك، وربما كان هذا بغير اختيارك، أو بتفريط منك فيه. قال: (والإمارة والائتمار). فالإنسان قد يكون أميراً، وقد يكون مأموراً، ولا إطلاق في ذلك. قال: (والإمامة والائتمام).
    18. مدى صحة إطلاق القول بتفضيل أي جنس من الأجناس السابقة على الآخر لذاته

      وكل جنس من هذه الأجناس لا يجوز إطلاق القول بتفضيله على الآخر.
      يعني: لا نطلق القول بأن المقيم أفضل من المسافر، ولا أن الصحيح أفضل من المريض، ولا أن يكون الإنسان أميراً، أو أن يكون مأموراً، ولا أن كونه إماماً أفضل من كونه مأموماً، لا نطلق القول بهذا.
      يقول الشارح: (بل قد يكون هذا أفضل في حال، وهذا في حال، وقد يستويان في حال آخر).
      فمن الناس من يكون في حال مرضه أفضل، أو في حال سفره أفضل، أو في حال كونه مأموماً أو مأموراً أفضل، وغيرهم لا، فالأحوال إذاً تختلف، فالخطأ يكون في الإطلاق، ولا بد من التقييد.
      ثم أعاد الحديث الذي رواه البغوي عن أنس فيما يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه قال: ( وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الصحة، ولو أسقمته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا السقم، ولو أصححته لأفسده ذلك، إني أدبر عبادي، إني بهم خبير بصير )، وفي هذا المعنى ما يروى: ( إن الله يحمي عبده المؤمن الدنيا كما يحمي أحدكم مريضه الطعام والشراب ) -من الحمية-، ويروى في مناجاة موسى نحو هذا. ذكره أحمد في الزهد .
      فهذا فيمن يضره الغنى، ويصلحه الفقر، كما في الحديث الآخر: ( نعم المال الصالح للرجل الصالح ).
      فهذه حالات تعرض، فالرجل الصالح يصلح له المال الصالح، لكن إذا كان الرجل غير صالح فإن المال يفسده ويطغيه والعياذ بالله، فيكون الفقر في حقه -ومن كان مثل حاله- أفضل.
    19. التفضيل بين الخلفاء الراشدين من حيث الغنى والفقر

      وكذلك كان أبي بكر و عمر رضي الله تعالى عنهما أفضل من حال عثمان ، ومن حال علي رضي الله تعالى عنهما، وشيخ الإسلام رحمه الله في منهاج السنة يقول: كل منهما كمل في جانب من الزهد -يعني: علياً و عثمان - فأما عثمان فكمل زهده في المنصب، فلما جاءه الثوار البغاة الظالمون المجرمون وتجمعوا عليه من الكوفة ، ومن مصر وغيرها، وأرادوا أن ينازعوه في الملك؛ كمل زهده فيه حتى إنه لم يطلب من الصحابة أن يقاتلوا، أو يمانعوا دونه، ولو فعل لقاتلوهم، فظلوا محاصرين له حتى اقتحموا البيت وقتلوه رضي الله تعالى عنه شهيداً، فكمل زهده في المنصب، واختار أن يقتل، وأن تذهب الخلافة، ويفقد منصبه، ولا يقتل أحد من المسلمين دونه، ولا تراق دماء المسلمين دونه.
      ثم يقول: وأما علي فقد كمل زهده في الدنيا؛ فإن علي رضي الله تعالى عنه كان من أزهد الناس في الدنيا، فلم يكن يعيش إلا كما يعيش سائر فقراء المسلمين في حياته، ولم يكن له مال، وعندما تولى الخلافة لم يأخذ من بيت المال ما يزيد به عن أدنى المسلمين، وعثمان رضي الله تعالى عنه لم يأخذ من بيت المال؛ لأنه كان له مال خاص به، إلا أن علياً -رضي الله تعالى عنهم جميعاً- لم يكمل زهده في المنصب كما كمل زهد عثمان ؛ فقد قاتل من أجل الخلافة، ولا يعني ذلك أن قتاله كان خطئاً، أو كان باطلاً، ولكن المقصود حالة التفاضل العليا.
      وأما الشيخان أبو بكر و عمر رضي الله تعالى عنهما فقد كمل زهدهما في الأمرين معاً، فإنهما إنما بويعا باختيار الأمة، وكان كل منهما يكره ذلك ويدفعه، ولم يكن حريصاً عليه، ولا مريداً له، ثم عاشا عيشة النبي صلى الله عليه وسلم من الزهد، ولهذا أتعبا الخلفاء بعدهما رضي الله تعالى عنهما؛ لأنهم إما أن يكملوا في جانب أو في الآخر، وأما أن يكملوا في الجانبين فهذا صعب لا يحققه كل أحد.
    20. العدل والقسط في الكتاب والسنة

      ثم قال: (والنصوص الواردة في الكتاب والسنة حاكمة بالقسط).
      وهي كذلك في أي مسألة أشكلت علينا، فنجد أن الحكم الحق العدل القسط هو في الكتاب والسنة.
      قال: فإن الله تعالى في القرآن لم يفضل أحداً بفقر ولا غنى، كما لم يفضل أحداً بصحة ولا مرض، ولا إقامة ولا سفر، ولا إمارة ولا ائتمار، ولا إمامة ولا ائتمام، بل قال: (( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ))[الحجرات:13]، وفضلهم بالأعمال الصالحة: من الإيمان، ودعائه، وشعبه: كاليقين، والمعرفة، ومحبة الله، والإنابة إليه، والتوكل عليه، ورجائه، وخشيته، وشكره، والصبر له، وقال في آية العدل: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا ))[النساء:135].
      فهذا من العدل الذي أمر الله تبارك وتعالى به، وجعله أصلاً لا يجوز للمسلم أن يفارقه، فقال: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ))[النساء:135]، وفي الآية الأخرى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ))[المائدة:8]، وقال في آية الأنعام: (( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا ))[الأنعام:152]، فلا بد من العدل في الأقوال والأعمال، والعدل في الحكم على الأفراد، وفي الحكم على الأعمال، أو على الأحوال.
    21. الأسباب التي تدعو الناس إلى الجور

      ثم نبه إلى ما يدعو الناس إلى الجور، فقال: (( وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ ))[النساء:135]، فالاعتبار الأول الذي يدعو الناس إلى الجور: أن يراعي الإنسان قريبه، فإذا طلب منك أن تفاضل بين أبيك أو قريبك وبين أي إنسان آخر؛ فإن النفس تميل إلى ترجيح الأب، أو القريب، أو الصديق.. وهكذا، وهذا شعور قد لا يكون الإنسان مؤاخذاً به لمجرد الشعور نفسه، لكنه يؤاخذ إذا ظلم بناء على هذا الشعور، فأنت تتمنى أن أباك، أو ابنك، أو قريبك، أو زميلك، أو صديقك، أو من تعرف؛ أن يكون هو الأفضل، وتحب ذلك، لكن إذا حكمت فإنك تحكم بالعدل، ولا تنظر إلى هذه القرابة، أو هذا الشعور الداخلي، فإن قادك هذا الشعور إلى أن تفضل المفضول فهذا هو الظلم؛ ولهذا قطع الله هذا الطريق.
      والاعتبار الآخر: هو الغنى والفقر، (( إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا ))[النساء:135]، فأكثر الناس ينظرون إلى هذه الحالة، وليس الغنى هو بالمال فقط، فقد يكون غنياً بمنصبه، أو بجاهه، أو بنسبه، أو بأي اعتبار آخر من الاعتبارات، والآخر لا يؤبه له، فتميل النفس عادة إلى ترجيح وتفضيل صاحب هذا الأمر الذي له شأن معين عند الناس، والآخر لا يبالى به، ولذلك جاء تصحيح هذا: (( إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا ))[النساء:135]، فلا بد أن تقول العدل، وأن تحكم بالقسط في أي حال، وهذا من أشق ما يمكن على النفوس، وليس كما يظن البعض أنه أمر هين، وفي هذا يتفاضل المؤمنون.
    22. علم شيخ الإسلام وعدله

      وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إمام عجيب جداً، فإنه عندما يعرض الأقوال المخالفة والبعيدة؛ وحتى ما فيه كفر واضح؛ يعرضها بكل عدل، حتى إنه يفاضل بين درجات الكفر، فيذكر أن هذا أكفر من هذا، وهذا أقل كفراً، وكلها كفر، فلا يجور ولا يحيد، وهذا عدل عجيب، وقد أعطاه الله تعالى أمرين: العدل والعلم، ومن أعطي العلم والعدل فإنه لا يجور، فالعلم: أن يعلم ماذا يقول عما يتكلم عنه، فلا يتكلم بجهل، والعدل: ألا يظلم ولا يجور.
      وآفة الناس -نسأل الله السلامة والعافية- البشرية جميعاً هي ما ذكره الله تبارك وتعالى في قوله: (( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ))[الأحزاب:72]، وهاتان أسوأ صفتين: الظلم والجهل، فقلة العلم والهوى لا يمكن معهما أو مع إحداهما أن نعرف الحق من الباطل، ولا نعدل، ولا نصدق.. فتختل كل الموازين في الدنيا، فمن أعطاه الله تبارك وتعالى العلم والعدل، وجنبه الهوى، استقام على الحق؛ فإنه يبلغ الكمال بقدر ما يفتح الله تعالى عليه في هذا.
      فالشيخ رحمه الله يعرض أقوال المعتزلة ، وأقوال الرافضة ، وأقوال الفلاسفة ، ولا يبالي أن يقول: هذا حق، وهذا باطل، وفي النهاية تخرج بحكم لا تملك إلا أن تسلم به، فعندما يحكم عليهم بأنهم كفار، أو بأنهم مبتدعة، أو ضلاّل؛ لا يحكم تشفياً، ولا يأتي بعبارات تشعر بأنه ينتقم فيها من هؤلاء؛ أبداً، وإنما يتكلم بناء على علم وبصيرة بأقوالهم، وما تؤدي إليه، و أن هذه هي حقيقتها، وهذه هي لوازمها، فهم كذلك؛ ولهذا لا يقرأ لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أحد عنده علم ثم يحيد عن منهج السلف الصالح؛ إلا من كان ذا هوى والعياذ بالله.
      وكثيراً ما كنت أردد هذا وأقوله لبعض الأساتذة والمشايخ الذين تبحروا وتوسعوا في علم الكلام، كبعض من درسونا من شيوخ الأزهر وغيرهم، فهم متبحرون في علم الكلام، لكن لم يقرءوا لـشيخ الإسلام في بلادهم، فنقول لهم: اقرءوا كلامه، ومن كان منكم منصفاً فلا بد أن يرى الحق؛ لأنه لا يترك لك مجالاً إلا ويطرقه.
      وأضرب لكم مثالاً: فـالجهم بن صفوان لم يكن فيلسوفاً ولا عالماً، وكل ما في الأمر أنه قال كلمتين التقطهما من السمنية وغيرهم، لكن عندما تقرأ كلام شيخ الإسلام فإنك تجده يضبط كلامه، حتى إنك تقول: لعل الجهم نفسه لم يخطر بباله هذا الكلام، فتجد شيخ الإسلام يبين مأخذه، ويذكر له الاحتمالات، ويسهب ويطيل في ذلك، ويوضح هذه لذاتها بغض النظر عن الجهم ؛ لأنه قد يقول بها إنسان آخر، ويئولها ويفلسفها بهذه الفلسفة الطويلة، فقد يأتي جهمي في آخر الزمان ويقول: أراد الجهم كذا وكذا.. ويأتي بمعاني طويلة جداً، فـشيخ الإسلام يقول لك: تقول الجهمية كذا، وإن قالت كذا فالرد يكون بكذا، وقد يقولون كذا.. ويعرض شيئاً لا يخطر ببال المدافع عنهم، ثم ينقض هذا الكلام كله جملة وتفصيلاً.
      فرضي الله تعالى عنه، ورحمه، فما أعدله، وما أنصفه! ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم العدل، وكلمة الحق في الغضب والرضا؛ إنه سميع مجيب.
    23. عدل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه بين المسلمين

      ثم قال: (ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه يعدلون بين المسلمين غنيهم وفقيرهم في أمورهم).
      والعجب من الرعية أنهم لم يبغ بعضهم على بعض في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يأتوا ويقولوا: يا رسول الله! نحن فقراء وهؤلاء عندهم الأموال، وعندهم.. وعندهم، لم يفعلوا ذلك كما يفعله دعاة الاشتراكية، وأمثالهم من دعاة الضلال ممن يثوّر الفقراء ويقول لهم: طالبوا، وخذوا، وافعلوا، فالفقراء راضون، والأغنياء متصدقون، هذا في الرعية، والراعي -وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلفاؤه- لم يكونوا ينظرون إلى حال هذا أو هذا فيقولون: نفضل هذا لفقره، أو نفضل هذا لغناه، فكان العدل من الطرفين.
      قال: (ولما طلب بعض الأغنياء من النبي صلى الله عليه وسلم إبعاد الفقراء؛ نهاه الله عن ذلك، وأثنى عليهم بأنهم يريدون وجهه).
      وهؤلاء الطالبون ذلك هم أغنياء الكفار؛ قال: (فقال: (( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ))[الأنعام:52].. الآية، وقال: (( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ))[الكهف:28]) الآيتان اللتان في الأنعام وفي الكهف.
    24. نصح النبي صلى الله عليه وسلم لضعفاء المسلمين

      قال: (ولما طلب بعض الفقراء من النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يصلح له نهاه عن ذلك، وقال: ( يا أبا ذر ! إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، فلا تأمرنّ على اثنين، ولا تولينّ مال يتيم ).
      ولم يقل له: يا أبا ذر ! أنا أحبك، وسأوليك منصباً، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان بالمؤمنين رءوفاً رحيماً، فـأبو ذر جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يوليه، فأخبره أولاً بالعلة المانعة وهي: أن الإمارة تحتاج إلى قوة، وأنت ضعيف، فقال له: ( إني أراك ضعيفاً )، ثم طمأنه وقال له: ( وإني أحب لك ما أحب لنفسي )، فأنا أحبك، وأحب لك الخير؛ لأني لا أختار لنفسي إلا الخير، ثم قال له: ( لا تأمرنّ على اثنين ) أي: لا تكن أميراً على اثنين، وحتى لو كنت مسافراً ومعك اثنان فلا تتأمر عليهما؛ لأنك ضعيف، ولا تستطيع أن تحركهم، ولا أن تديرهم، فكن مأموراً.
      ثم قال له: ( ولا تولينّ مال يتيم )؛ لأنك لا تستطيع أن تحصنه.
    25. تفاضل الخلق في الرزق

      فالله تعالى هو الذي وزع المواهب، ووزع الطاقات، فنرى في حالنا اليوم من الناس من يفتح الله عليه من العلم ما يشاء، لكنه لا يستطيع أن يدير بيته، أو أسرته، ولا يستطيع أن يقدم أو يؤخر.
      ومن الناس من أعطاه الله تعالى مقدرة إدارية، فيدير دولة، ويدير وزارة، ويدير كل شيء، ومع ذلك تجده قليل العلم، ومنهم من يجمع له الله تعالى هذا وهذا، وانظروا إلى عمر رضي الله تعالى عنه بالذات؛ لطول مدته، ولما كان في أيامه، وكذلك كان الصديق أيضاً من قبل، فقد أعطاهم الله تبارك وتعالى العلم، وأعطاهم أيضاً القدرة والقوة.
      وأما أبو ذر رضي الله تعالى عنه فقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم هذا شفقة منه ونصحاً؛ ولذلك إذا كنت تحب إنساناً فليس معنى ذلك أنك تعطيه، أو توليه، أو تورطه في أمر من الأمور، فأنت بهذا تكون قد دفعته إلى باب فتنة وشر وبلاء عظيم والعياذ بالله؛ ولذلك نجد أن عمر رضي الله تعالى عنه لما أشار عليهم بـعبد الله بن عمر؛ قال: [استشيروه، ولا يولى بعد، يكفي واحد من آل عمر].
      وعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه ليس دون بقية من اختارهم عمر رضي الله تعالى عنهم جميعاً للشورى، ولكن أمرهم عمر ألا يختاروه خليفة؛ ولكن يستشيروه، فجمع بين الأمرين: أن يستفاد منه لمكانته، وعلمه، ومحبة الأمة له، وإجماعها عليه وعلى فضله، فيؤخذ رأيه، لكن لا يتولى، وقال: [يكفي واحد من آل عمر؛ إن كان في الجنة وإن كان في النار].
      وكذلك كان عمر بن عبد العزيز وغيرهما ممن كانوا يعلمون أن الأمر تكليف ومشقة، وأن المسألة ليست مجاملة، أو مداهنة، أو محاباة من القريب لقريبه، أو من الحبيب لحبيبه.
    26. تساوي الناس في الحقوق والواجبات في الإسلام، والرد على دعاة الديمقراطية

      يقول: (وكانوا يستوون في مقاعدهم عنده).
      وأما ما يسمونه الآن: الديمقراطية فهي هذر من الكلام، وإنما يضحكون به على الشعوب، ويقولون: يدخل الناس الصغير والكبير ويكونون سواء، وهذا الكلام غير صحيح على الإطلاق، فلا تصدقوا مثل هذا الكلام، ولا تصدق أن رئيساً من دول أوروبا الغربية التي تدعي الديمقراطية؛ أنه يعامل رئيس الوزراء عنده، أو وزيراً مثل أي فقير في الشارع، فهذا مستحيل عندهم، وإذا قالوا له: سيأتيك أحد الناس؛ نظر ما هي رتبته، وما هو عمله، وإلا فلن يدخله عليه، ومع ذلك لا شك أنهم أعدل من كثير من حكام الشرق، وأقرب إلى المساواة منهم، وأما أن يدعوا أنهم هم الذين علموا العالم هذا الشيء؛ فهذا كذب وافتراء.
      فالذي حقق هذا المفهوم، ولا يمكن لأحد أن يصل إليه، ولا أن يجاريه، أو ينافسه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلفاؤه الراشدون، فقد كانوا يجلسون في المسجد فيأتي الكبير والصغير، والغني والفقير، والرجل والمرأة ويستطيع الكل أن يصلوا إليهم، وهذا هو الذي كان حلماً في خيال الحكماء، وفي خيال الفلاسفة ، حتى إن أفلاطون في الجمهورية لم يصل إلى هذا، والذي تخيل هذا هو توماس مور في كتابه الذي سماه اليوتوبيا أي: المدينة الفاضلة، وكان توماس سفيراً لـبريطانيا عند الدولة العثمانية في القرن السابع عشر، فتخيل في اليوتوبيا : الطوبا، وهي مأخوذة من كلمة: طوبا، وكلمة: طوبا معروفة في الكتب السماوية، ونجدها في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ومعلومة أيضاً في كلام الأنبياء قبله.
      فهم أخذوا اليوتوبيا كما يسمونه، أو الطوباوية، وهو الشيء المثالي أو الخيالي كما يعنون به هم، وهذا كان واقعاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد افترضوا أن يكون الحاكم لا يفرق بين الناس، ولا يحابي ولا يجامل، ويأتيه الفقير والصغير والكبير وكل واحد، وأنهم سواء، فهذه افتراضات خيال عندهم.
      وتوماس مور كان -كما قلنا- سفيراً لـبريطانيا ، وفي بريطانيا إلى يومنا هذا لا يزال ينظر فيها إلى الأسرة المالكة عندهم، والطبقة الارستقراطية، واللوردات على أنهم شيء آخر، فعندهم مجلس العموم، ومجلس اللوردات، فأين الديمقراطية؟! واللوردات يكونون كذلك بأموالهم، فما عندهم: (( إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا ))[النساء:135]، فالغني لورد، وله قيمته، وله مكانته، ويملك الإقطاعيات وغيرها، والفقير لا قيمة له، نعم هم يكرمون الفقير بأنه لا يجوع عندهم أحد، فهذه حقيقة، فأي إنسان عندهم لا عمل له فإنه يعطى ما يكفيه من المال العام للدولة، وهذا ليس معناه أنهم يتبجحون ويقولون: إنه عندنا مثل اللورد ! فهذا مستحيل.
      وأما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعند خلفائه الراشدين فقد كان هذا موجوداً، فهذا عثمان رضي الله تعالى عنه مثلاً جالس وبجواره بلال ، وبعد أن أسلم أبو سفيان -وهو زعيم قريش- يجلس وبجانبه صهيب ، فكلهم لا فرق بينهم، فالمجلس واحد، والحال واحد.
    27. عدل النبي وخلفاؤه في توزيع المال بين المسلمين والرد على دعاة الاشتراكية

      فإذا جاء من بيت المال شيء فإنهم يأخذونه جميعاً بالتساوي. فلن يقع، ولا يمكن أن تتخيل هذا العدل إلا في عهده صلى الله عليه وسلم، وفي عهد الخلفاء الراشدين، لكن لما نسينا ذلك، وأهملناه وغفلنا عنه؛ عشنا في ظلمات القرون المتأخرة، ثم جاءنا من الغرب هذا البهرج، والعدالة الاشتراكية، والديمقراطية.. وإذا في كل بلد حزب اشتراكي يريد المساواة، والحرية، والعدالة، والديمقراطية، وكل هذه الشعارات زائفة باطلة، فجاءت ومعها الكفر والإلحاد، فأخذ شباب المسلمين ما فيها من كفر وإلحاد، ولم يأخذوا حتى الجانب الآخر منها، فلا يمكن أن تجد اشتراكياً عربياً يتنازل عن قطعة من أرضه لواحد من الفقراء؛ ولو كان من زعماء الحزب الاشتراكي، بل وجدنا أنهم نحوا الإقطاعيين، وصاروا هم كبار الملاك، ويملكون أكبر الأراضي، وأكبر ما يمكن من أموال الشعب والأمة. فحتى الجانب المادي لم يأخذوه، وإنما أخذوا من الاشتراكية الإلحاد والكفر بالدين، ونسبة الدين إلى الظلم، وأن الظلم سببه الدين، وفي حياتهم العملية لم يأخذوا بالعدالة، ولم يأخذوا المساواة.
    28. استواء المسلمين في الصلاة

      يقول رحمه الله: (وكانوا يستوون في مقاعدهم عنده، وفي الاصطفاف خلفه). وهذا والحمد لله -ما زال إلى الآن، وإن كان البعض يريد أن يميز أحياناً، لكن المشاهد عموماً: أن الناس يتساوون في الصف، وأما عند هؤلاء مثل: الروم الذين هم أعدل الأمم فيما بينهم، فإنهم في الكنيسة عندما يجلسون فإن الوزير يجلس وهو وزير، والكبير وهو كبير، والفقير وهو فقير، وترتب المقاعد والكراسي بحسب منازلهم في الدنيا، وهذا مما ضلوا فيه والعياذ بالله.
    29. معرفة الفضل لأهله في الإسلام

      يقول: (ومن اختص منهم بفضل عرف النبي صلى الله عليه وسلم له ذلك الفضل).
      فهناك مساواة عجيبة، وفي نفس الوقت ليس هناك غمط لفضل صاحب فضل، فليس معنى المساواة: أنك أنت يا معاذ وأنت أعلم الأمة بالحلال والحرام؛ تكون مثل ذلك الأعرابي الذي جاء وبال في طرف المسجد وقعد! وكلا الاثنين كانا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فالمساواة موجودة ومع ذلك صاحب الفضل له فضله، وله قدره، وله قيمته.
      يقول: (كما قنت للقراء السبعين -قنت لهم النبي صلى الله عليه وسلم يدعو على من قتلهم- وكان يجلس مع أهل الصفة).
      وهذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم يجلس مع أهل الصفة، وكانت حياته صلى الله عليه وسلم في ذاته، وفي بيته أقرب إلى حياة أهل الصفة منها إلى غيرها.
      قال: وكان أيضاً لـعثمان ، و طلحة ، و الزبير ، و سعد بن معاذ ، و أسيد بن الحضير ، و عباد بن بشر ونحوهم من سادات المهاجرين والأنصار الأغنياء منزلة ليست لغيرهم من الفقراء.
      فقد جمعوا بين الحسنيين.
    30. العدل عند أئمة المسلمين وعلمائهم في الأغنياء والفقراء

      يقول شيخ الإسلام: (وهذه سيرة المعتدلين من الأئمة في الأغنياء والفقراء، وهذا هو العدل والقسط الذي جاء به الكتاب والسنة، وهي طريقة عمر بن عبد العزيز ، و الليث بن سعد ، و ابن المبارك ، و مالك ، و أحمد بن حنبل وغيرهم في معاملتهم للأقوياء والضعفاء، والأغنياء والفقراء).
      وهذا تقسيم عجيب جداً، وهو من فوائد شيخ الإسلام وهي كثيراً، ودائماً إذا قرأت له شيئاً فإنك تستفيد منه، فهو يذكر النماذج العملية في حياة السلف، فقد كانوا ثلاث طوائف: فطائفة كانت على الأمر الوسط؛ كما كان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون، فليس هناك أي تمييز، فكان هناك عدل بين الفقير والغني وغيرهم، ومعرفة فضل كل ذي فضل أيضاً، فلا غمط لفضل صاحب الفضل، ولا إجحاف مطلقاً، إنما مساواة وتقدير.
      يقول: وعلى هذا كانت طريقة عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه؛ فإنه لم يحاب الأغنياء على الفقراء، ولم يحاب الفقراء على الأغنياء، فينظر إلى التقوى، وإلى درجة الإنسان من ذلك.
      وقد ذكر عمر بن عبد العزيز نموذجاً للخلفاء، وذكر الليث بن سعد ، و عبد الله بن المبارك و مالك ، و أحمد بن حنبل -رحمهم الله جميعاً- نموذجاً للعلماء، هؤلاء كانوا نموذجاً في ذلك يقدرون لكل إنسان قدره بغض النظر عن كونه فقيراً أو غنياً.
    31. ميل بعض العلماء إلى الفقراء وميلهم عن الأغنياء

      يقول شيخ الإسلام: (وفي الأئمة كـالثوري ونحوه ممن كان يميل إلى الفقراء، ويميل عن الأغنياء؛ مجتهداً في ذلك، طالباً به رضا الله، حتى عتب عليه ذلك في آخر عمره، ورجع عنه).
      فكان بعضهم يميل إلى الفقراء، ويميل عن الأغنياء؛ حتى لو كان هذا الغني صالحاً محسناً متصدقاً، وربما كان هذا خوفاً على أنفسهم من أن تميل إلى الدنيا، وزيادة في الاحتياط، ويمثل لذلك بـالثوري ، وهناك غير الثوري في هذا كثير، لكن لأنه من الأئمة المتقدمين، وجاء بعده مثل: معروف الكرخي ، و السري السقطي ، وأبي سليمان الداراني وغيرهم من العباد، فهؤلاء كانوا أميل وأبعد عن ذلك جداً، لكن هؤلاء قد يقال فيهم إنهم من الصوفية ، فهو يذكر هنا العلماء الذين لا يمكن أن ينسبوا إلى أي فرقة من الفرق.
    32. ميل بعض العلماء إلى الأغنياء والرؤساء وسبب ذلك

      قال شيخ الإسلام: (وفيهم من كان يميل مع الأغنياء والرؤساء).
      ولا يميل من أجل مرتبة، أو وظيفة، أو منصب، لا، وإنما كانوا رضي الله تعالى عنهم يميلون إليهم لمصالح يرونها.
      قال: (كـالزهري ، و رجاء بن حيوة ، و أبي الزناد ، و أبي يوسف ، و محمد وأناس آخرين، وتكلم فيهم من تكلم من العلماء بسبب ذلك).
    33. شيء من سيرة الإمام الزهري

      فأما الزهري فإنه كان عالماً قرشياً، وكان -رضي الله تعالى عنه- من أغنى الناس، وكان يدخل على الخلفاء كما يدخل الخليفة على الخليفة، وكان يدخل عليهم فيهابونه، فيعظهم، وينصحهم، وينكر عليهم، وكانت الأمة كلها تعظمه وتجله؛ وذلك لأمرين: لعلمه، وزيادة على ذلك أنه قرشي، ولو جاءهم عطاء رضي الله تعالى عنه مثلاً فإنهم لا يقدرونه كما لو دخل عليهم الزهري ، فـالزهري إذا دخل عليهم فإنه يتكلم ولا يهاب، وينكر ولا يخاف، وهم يخافون منه، وإن كان كذلك غيره يجاملونه، لكن ليس بمثل قوة الزهري ، فمن هذا الباب كان ميالاً إلى هؤلاء بطبعه.
    34. شيء من سيرة الإمام رجاء بن حيوة

      وأما رجاء بن حيوة ؛ فأي وزير أعظم وأفضل من رجاء رضي الله تعالى عنه! فعندما جاء سليمان بن عبد الملك الموت قال: لمن تريد الخلافة؟ قال: عمر بن عبد العزيز ، فتردد، فكتب رجاء الكتاب وجمع بني أمية وقال: إن أمير المؤمنين استكتمني وكتب الكتاب، فسنقرؤه ونفضه، فمن كان هو الخليفة فلا يعارض أحد، فأذعنوا كلهم، فقرأه وإذا به: عمر بن عبد العزيز ، فسلموا وأذعنوا، وقالوا: قد ذهب الأمر؛ لأن هذا سيجدد سيرة عمر بن الخطاب ، فالإقطاعات، والمخصصات كلها ستنتهي ما دام أن عمر قد تولى، لكن سلموا بذلك؛ لأن رجاء بن حيوة -هذا الوزير العالم الفقيه- نفع الله به، وفعل هذا الفعل.
      فإذا كان منهم من يتقرب إلى الأئمة والخلفاء بهذه النية لمصلحة الأمة، ويفتي ويقول الحق، ويعظ، ويأمر وينهى، فهذا له اجتهاده، وإن كان قد تكلم فيهم من تكلم من بقية السلف بسبب هذا.
      وأما أبو يوسف و محمد بن الحسن رضي الله تعالى عنهما فإنهما أيضاً كانا يدخلان على هارون الرشيد مثلاً، وكانا يريان أنهما بوجودهما عنده يقيمان الدين، ويقيمان الحدود، ويأمران بالمعروف، وينهيان عن المنكر، وهذا أيضاً اجتهادهما رضي الله تعالى عنهما.
    35. دلالة الكتاب والسنة على العدل في معاملة الفقراء والأغنياء

      قال شيخ الإسلام: (والأول هو العدل والقسط الذي دل عليه الكتاب والسنة).
      يعني: ليس الميل إلى الأغنياء على الفقراء، ولا الميل إلى الفقراء على الأغنياء، فالعدل هو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون، وتبعهم عليه عمر بن عبد العزيز ، و مالك ، و أحمد ، و الليث ، و ابن المبارك وأمثالهم.
      قال شيخ الإسلام: (ونصوص النبي صلى الله عليه وسلم معتدلة -يعني: لا حيف فيها ولا جور- فإنه قد روي: ( أن الفقراء قالوا له: يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور؛ يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضول أموال يتصدقون بها ولا نتصدق، فقال: ألا أعلمكم شيئاً إذا فعلتموه أدركتم به من سبقكم، ولم يلحقكم من بعدكم إلا من عمل مثل عملكم؟ فعلمهم التسبيح المائة في دبر كل صلاة، فجاءوا إليه فقالوا: إن إخواننا من الأغنياء سمعوا ذلك ففعلوه ) ).
      وهذا هو التنافس، (( وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ))[المطففين:26].
      قال: ( ( فقال: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) ).
      لكن مع ذلك لو أكثر الفقراء من الذكر فربما يقاربون أو يزيدون على الصدقة، فلا ييأس الفقير، ولكن يكثر من الذكر، ولهذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( رجلان: أحدهما يذكر الله، والآخر ينفق الدرهم والدينار، الذي يذكر الله أفضل ) وهذا أيضاً تفضيل بحسب حالة معينة، فأنت بذكرك الله أفضل بإذن الله، وإن أعطاك الله المال فكن مثل الصحابة، قل: سبحان الله، والحمد لله، وأنفق، فهذا هو حال الذين ينافسون في الخير، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.
      يقول: (وهذه الزيادة في صحيح مسلم من مراسيل أبي صالح ، فهذا فيه تفضيل للأغنياء الذين عملوا مثل عمل الفقراء من العبادات البدنية، بالقلب والبدن، وزادوا عليهم بالإنفاق في سبيل الله ونحوه من العبادات المالية).
      والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.