المادة كاملة    
إن العصمة في شريعة الله تعالى لم تكن إلا للوحي، وأما العالم فإنه مهما بلغ من العلم فإنه يستمد شرعية متابعته من الوحي، فإذا خالف النص رد قوله؛ لكن بعض الفرق تضع للأولياء مكانة ترقى إلى التسليم لما قالوه وإن خالف النصوص، وتخترع علامات للولاية والاتباع لم يشرعها الشرع، بل قد تخالفه وتعارضه.
  1. خطأ بعض الناس في طاعة الأولياء والمشايخ

     المرفق    
    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    أيها الإخوة الكرام! وفقني الله وإياكم لطاعته، وجعلنا من أوليائه الصالحين وعباده المقربين، ونفعنا بما نسمع وما نقول إنه سميع مجيب.
    سنتحدث عن بيان حدود طاعة الولي، وهل يمكن أن يكون الولي ولياً وهو غير متبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهذا فرع عن الكلام في عصمة الأولياء المتقدم.
    ولعلكم تتذكرون الكلام عن هذا الموضوع من قبل، حيث نجد أن شيخ الإسلام رحمه الله ينتقل إلى موضوع الكرامات والخوارق أي: خوارق العادات التي تقع على أيدي بعض من يدعون أنهم أولياء، ويحتجون على أنهم أولياء بما يقع لهم من هذه الخوارق والكرامات.
    وموضوع الكرامات هو من آخر موضوعات العقيدة، إذ الكرامات والإيمان بها مذكور في آخر العقيدة الطحاوية ، وهناك -إن شاء الله- نفصل الكلام عن الفرق بين الكرامة وبين المعجزة، وحقيقة الكرامة وأنواعها، والفرق بين الخارق الذي يجريه الله تعالى كرامة، وبين ما يحدثه على أيدي السحرة أو المشعوذين إلى غير ذلك من الأمور المهمة، فهذه إن شاء الله سنتكلم عنها هناك، ولكن هنا فقط تأتي إشارة مجملة لذلك؛ لأن هؤلاء الذين يدعون الولاية يحتجون على الولاية بهذه الخوارق، ولا سيما في زمان شيخ الإسلام رحمه الله والعصور الماضية، ولا يزال لهم بقية إلى اليوم في الواقع، أما كلامهم عنها في الكتب فهو موجود وكثير.
    يقول الشيخ رحمه الله: (إن كثيراً من الناس يغلط فيظن في شخص أنه ولي لله، ويظن أن ولي الله يقبل منه كل ما يقوله) أي: ما دام أنه ولي لله فيقبل الناس منه كل ما يقوله (ويسلم إليه كل ما يقوله وكل ما يفعله، وإن خالف الكتاب والسنة) وذلك ما قد يقع من بعضهم، فيوافق هذا الولي ويتبعه ويطيعه وإن خالف ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    1. مشابهة من يقدم طاعة المشايخ على طاعة رسول الله لليهود والنصارى

      ثم يقول الشيخ رحمه الله: [ هؤلاء -أيضاً- مشابهون للنصارى الذين قال الله تعالى فيهم: (( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ))[التوبة:31] وفي المسند وصححه الترمذي عن عدي بن حاتم في تفسيره هذه الآية لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال: ما عبدوهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم، وكانت هذه عبادتهم إياهم )].
      إذاً: هذه الآية بينت لنا حال أهل الكتاب، وإن كان الشيخ نص على النصارى فقط، لكن الآية يمكن أن يدخل فيها اليهود؛ ولذلك فسر العلماء الأحبار بأنهم العلماء، والرهبان بأنهم العباد، فإذاً: هؤلاء يشابهون اليهود الذين هم من أبعد الناس عن العبادة، وهم غلاظ الأكباد والقلوب، عتاة الرقاب، لا يخضعون لله عز وجل ولا يتقربون إليه والعياذ بالله، وقلوبهم من أقسى القلوب؛ لأنها غلف وكالحجارة أو أشد قسوة كما ذكر الله تعالى عنهم؛ ولذلك مسخوا قردة وخنازير.
      فـاليهود يطيعون الأحبار؛ ولذلك نجد الآية: (( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ ))[التوبة:31] فـاليهود يطيعون الأحبار الذين هم علماء الضلال نعوذ بالله ولا يعملون بعلمهم، وينطبق عليهم المثل الذي ضربه الله تبارك وتعالى في حقهم: (( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ))[الجمعة:5] فهم يطلعون على الكتاب ويعرفون أحكامه وحلاله وحرامه، ولكنهم يشرعون من عند أنفسهم، ولا يلتزمون بأحكامه، ولا يتقيدون بحلاله وحرامه، فأحلوا للناس ما حرم الله، وحرموا عليهم ما أحل الله، كما تقدم في آيات المائدة من بيان أنهم غيروا حكم الله تعالى الذي هو الرجم بالجلد والتحميم، هذا هو حال الأحبار من اليهود.
      وأما الرهبان فهم عباد النصارى ، وإلى الآن لا زال هذا هو حال النصارى ، فهم لا يعظمون العالم لعلمه فقط كحال اليهود ! بل قد يكون أكثر علماء النصارى متبوعيهم وأئمتهم ليسوا بعلماء، فلم يعظموهم لأنهم علماء، لكن عظموهم لأنهم عباد، فإذا انقطع الإنسان في فلاة أو في كهف أو في مكان، وأكثر التبتل والذكر والتعبد عظموه وقدروه وأجلوه واحترموه وإن كان ليس لديه من العلم أي شيء، وأكثر النصارى إلى اليوم في الدنيا لا يفقه من النصرانية شيئاً، كل ما في ذلك أن لديهم تعلقاً عاطفياً بالمسيح، وأن المسيح قتل من أجل خلاصنا، ونحن نحبه، ويبكي ويتأثر ويتألم، ويحاول أن ينقطع عن الشهوات، ويقول: إن المسيح لم يتزوج فلا يتزوج النساء، والمسيح حذر من الدنيا فلا أقرب الدنيا.
      فـاليهود غلب عليهم جانب العلم بلا عمل، ولذلك فهم المغضوب عليهم، والنصارى غلب عليهم جانب الزهد والعبادة والرهبانية التي ابتدعوها من غير علم فكانوا ضالين.
      إذاً: عندما يأتي في هذه الأمة من يقول: إن فلاناً ولي، وهذا الولي يؤخذ كلامه ويطاع أمره وإن كان ذلك في تحريم حلال أو تحليل حرام، فإنه أيضاً مشابه لأهل الكتاب في هذا، وهذا ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( لتتبعن أو لتركبن سنن من كان قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ) وفي الرواية الأخرى: ( حذو القذة بالقذة ) يعني: لا تتركون شيئاً من مداخلهم، أو مخارجهم، أو عاداتهم، أو تقاليدهم، أو ضلالاتهم إلا ويكون لكم فيها نصيب، إلا من رحمه الله وجعله من الطائفة المنصورة التي جعلها الله تبارك وتعالى قائمة بأمر الله، لا يضرها من خالفها حتى يأتي أمر الله.
      يقول المؤلف رحمه الله: (ولهذا قيل في مثل هؤلاء: إنما حرموا الوصول بتضييع الأصول) أي: حرموا الوصول إلى الله بتضييعهم لأصول الدين فـالصوفية يكثرون الكلام عن الوصول؛ ولهذا يسمون المبتدئ مريداً، والذي لا يزال في أثناء الطريق يسمونه سالكاً، والذي انتهى به الأمر يسمونه واصلاً، فقيل فيهم: إنهم حرموا الوصول ولم يصلوا -وإن زعموا ذلك- بتضييع الأصول؛ لأنهم أخذوا مثلاً: جانب الأذكار، الانقطاع عن الشهوات وجوانب أخرى معينة وتركوا الأصول، وذلك مثل تركهم أصل المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، تركوا الاعتقاد الصحيح الذي هو الأصل، وأخذوا ببعض الأمور التي ظنوا أنها هي الدين، بل حتى هذه ابتدعوا فيها، فبدل الذكر أخذوا السماع والرقص على صوت الطبل والعياذ بالله، فحتى الذكر لم يعد هو الذكر المشروع، مع أن الذكر لو كان على غير اتباع لما قبل، فكيف إذا لم يكن أيضاً ذكراً مشروعاً وإنما هو ذكر بدعي.
    2. انسداد كل الطرق إلى الله إلا طريق الرسول صلى الله عليه وسلم

      يقول الشيخ رحمه الله: (فإن أصل الأصول تحقيق الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فلابد من الإيمان بالله ورسوله وبما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم -وتفصيلاً لما قبله قال- فلا بد من الإيمان بأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق إنسهم وجنهم، عربهم وعجمهم، علمائهم وعبادهم، ملوكهم وسوقتهم) فلا يصح إيمان أحد إلا بهذا، فالقول بأن العباد لا يدخلون تحت الاتباع وأن لهم أن يعبدوا الله كما شاءوا كفر وضلال مبين.
      والقول أيضاً أن الملوك لهم أن يحكموا بما شاءوا ولا يتقيدوا بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم -كما يقول النصارى : دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله- كفر وضلال، فلا طريق إلى الخير والنجاح والسعادة والفلاح إلا من طريق اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا فرض على جميع الخلق أياً كانوا، وأياً كانت درجتهم أو مرتبتهم.
      يقول المؤلف رحمه الله: (وأنه لا طريق إلى الله عز وجل لأحد من الخلق إلا بمتابعته باطناً وظاهراً).
      فقول الشيخ: (باطناً وظاهراً) فيه رد على الصوفية الذين يقولون: إن اتباع الشريعة واتباع النبي صلى الله عليه وسلم إنما يكون في الشريعة، أما الحقيقة فتؤخذ من الأولياء، فجعلوا الدين حقيقة وشريعة، وجعلوه ظاهراً وباطناً، فالعمل الظاهر يقولون: نأخذه من الفقهاء؛ لأنهم في العلم الظاهر يأتونك بالآيات وبالأحاديث لتعمل بها، أما العلم الباطن فيؤخذ من الأولياء وهم لا يحدثونك بالآيات والأحاديث، وإنما يقولون: حدثني قلبي عن ربي، وهذه هي المشكلة.
      يقول الشيخ رحمه الله عن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم: (حتى لو أدركه موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء لوجب عليهم اتباعه) والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين كلهم كذلك، فإذا نزل عيسى عليه السلام في آخر الزمان كما يؤمن به أهل السنة والجماعة ويعتقدونه فإنه يحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، ويصلي خلف المهدي من هذه الأمة إشعاراً بأنه متبع، فهو في العبادة لا يتعبد الله إلا بما شرع لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته، فلا يأتي بشرع من عنده أبداً، ولو أدركه موسى عليه السلام أو نوح أو أي نبي لما كان له طريق إلى الله إلا اتباعه، فكيف من دونه؟
      ولهذا قال الشيخ: (كما قال تعالى: (( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ))[آل عمران:81] قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه الميثاق: لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه) فالنبي يأخذ الله تعالى عليه الميثاق فيقر به، ويأخذ النبي الميثاق على أمته أنه إن بعث فيهم محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به وينصروه.
      إذاً: لا طريق للخلق إلا من طريقه.
    3. عاقبة طاعة المشايخ والأولياء في مخالفة رسول الله

      يقول الشيخ رحمه الله: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي فرض الله على جميع الخلق طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر، وجعله الفارق -أي: محمداً صلى الله عليه وسلم- بين أوليائه وأعدائه، وبين أهل الجنة وأهل النار، وبين السعداء والأشقياء، فمن اتبعه كان من أولياء الله المتقين، وجنده المفلحين، وعباده الصالحين، ومن لم يتبعه كان من أعداء الله الخاسرين المجرمين، فتجره مخالفة الرسول وموافقة ذلك الشخص -أي: الذي اتخذه وجعله ولياً- أولاً إلى البدعة والضلال، وآخراً إلى الكفر والنفاق).
      وهذه هي حقيقتهم أول ما يبدءون بالابتداع والعياذ بالله، وينتهي بهم الأمر إلى النفاق إلى الخروج عن الدين؛ لأن الشيطان إذا أخرجه عن السنة وبدأ يلقي في قلبه تصديق ما يوحى أو ما يلقى إليه وما يقوله شيخه فإنه لا يقف عند حد معين؛ بل في النهاية ربما أمره بترك الجمعة والجماعات، وربما أوهمه أنه يمكن أن يصل إلى الله من غير طريق اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وبذلك يقع في الكفر الأكبر والعياذ بالله.
      ثم قال رحمه الله: (ويكون له -أي: هذا الذي اتخذ ولياً يقود- نصيب من قوله تعالى: (( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا ))[الفرقان:27-28]).
      و(فلاناً) هنا تشمل الذين يدعون إلى الفجور، وإلى الخمور، وإلى الفواحش، وإلى الشهوات، ويدخل في ذلك الذين يدعون إلى الضلالات والبدع وإن ادعوا أنهم أولياء لله تبارك وتعالى وأنهم عباد مقربون وصالحون، فالدعاوى وحدها لا تكفي، وكذلك قوله تعالى: (( يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا ))[الأحزاب:66-67].
      وليس المراد بالسادة والكبراء الأمراء أو الحكام، أو شيوخ العشائر، أو كبار العوائل فقط، بل أيضاً يدخل فيهم سادة وكبراء الدجل والخرافة والبدعة والتدين الذين يدخلون في هذا الذين ما ليس منه، فكل من اتخذ سيداً مطاعاً وقدم أمره وحكمه ورأيه على ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتباعه يدخلون في هذه الآية، ويقولون يوم القيامة هذه المقالة.
      قال المؤلف رحمه الله: (وقوله تعالى أيضاً: (( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ))[البقرة:165]) أي: فهؤلاء ينطبق ذلك عليهم؛ لأنهم يعظمون من يدعون أنهم أولياء هؤلاء ويتبعونهم ويقدسونهم، بل ربما قدموا محبتهم على محبة الله، وجعلوا تعظيمهم أكثر من تعظيم الله، وهذا ثابت في القديم والحديث؛ حتى إنك الآن لو قابلت أحداً من الرافضة أو من هؤلاء الصوفية المتعصبين الغالية أو الموغلين، وأردت أن تستوثق منه وطلبت أن يحلف، فإنه يحلف لك بالله، وإذا لم تصدقه أو شككت في يمينه فإنه يحلف بالولي والعياذ بالله؛ لأنه يرى أن الحلف به أوثق من الحلف بالله عز وجل؛ فيعظمه أكثر من تعظيمه لله، وهكذا حالهم نسأل الله العافية، فلذلك تنطبق عليهم آية البقرة.
    4. زعم المنافقين الإيمان وإرادة التحاكم إلى غير رسول الله

      ثم ذكر الشيخ أيضاً قوله تعالى: ( (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ))[النساء:60]).
      وهذه الآية فيها الإشارة إلى المنافقين، فالمنافقون ادعوا الإيمان وزعموه، ولكنهم عندما رفضوا الاتباع كما في سبب النزول، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، إذ قالوا: نتحاكم إلى كعب بن الأشرف أو إلى كاهن جهينة على اختلاف الروايتين ولا نذهب إلى محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك سمى الله دعواهم الإيمان زعماً؛ لأنهم ليسوا بمؤمنين، فقال تعالى: (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا ))[النساء:60] إذ لو كانوا مؤمنين لما رضوا أبداً أن يتحاكموا إلى غير رسول الله صلى الله عليه وسلم كائناً من كان، وقد علل الله تعالى عدم إيمانهم بأنهم يريدون التحاكم إلى الطاغوت فقال: (( يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ ))[النساء:60] فمجرد الإرادة ومجرد الرغبة في التحاكم إلى غير ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم يعد نفاقاً أكبر والعياذ بالله، فهم ما تحاكموا إلى الطاغوت، وإنما أرادوا ذلك، فبهذه الإرادة كفروا؛ لأنها تدل على خلو القلب من الإيمان بمتابعته صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم متابعة مطلقة؛ ولهذا جاء في آخر الآيات: (( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ))[النساء:65] يعني: من غير منازعة ولا مدافعة ولا ممانعة، وهذا هو الإيمان، وما عداه فليس بإيمان.
      ثم يقول رحمه الله: (وكل من خالف شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مقلداً في ذلك لمن يظن أنه ولي الله، فإنه بنى أمره على أنه ولي لله)، يعني: إذا قلد شخص أي إنسان فيما يعلم أن ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه فهذا يدل على أن الدافع له إلى ذلك اعتقاد مركب من جزئين:
      الجزء الأول: أن هذا ولي لله.
      والجزء الثاني: أن أولياء الله تعالى لا يخالفون، فما دام ولياً لله فأولياء الله لا يخالفون أوامره، فتجد التابع للولي مطلقاً قد خالف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وأطاع الولي.
      يقول الشيخ رحمه الله: (فلو كان هذا الرجل من أكبر أولياء الله كأكابر الصحابة والتابعين لم يقبل منه ما خالف الكتاب والسنة، فكيف إذا لم يكن كذلك) فلا يصح هذا أبداً، ثم ذكر الشيخ رحمه الله عمدتهم وحجتهم عندما يعتقدون في هؤلاء أنهم أولياء وبالتالي فهم لا يخالَفون في شيء، فيخرجون عن حد الإيمان -والعياذ بالله- إلى اتباع غير الرسول صلى الله عليه وسلم.
  2. الخوارق ودلالتها على الولاية

     المرفق    
    1. صدور الخوارق عن الرجل ليس دليلاً على الولاية

      يقول المؤلف رحمه الله: (وتجد كثيراً من هؤلاء عمدتهم في اعتقاد كونه ولياً لله أنه قد صدر عنه مكاشفةٌ في بعض الأمور أو بعض التصرفات الخارقة للعادة) وهؤلاء أكبر عمدتهم هي هذه الخوارق التي تجري على أيدي من يزعمون أنهم أولياء لله تعالى، كأن يحصل منه أن يشير إلى شخص فيموت، فقد يقع هذا، ولكن ما تعليله؟ لا شك أولاً أن هذا من قدر الله، لكن كيف يموت؟ الجواب: أن أولياءه من الشياطين الذين لا يرون، كما قال تعالى: (( إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ ))[الأعراف:27] يفتكون بذلك الذي أشار إليه، ويتفقون معه على ذلك، ولو أراد الله أو لم تكن منيته قد حضرت وأجله قد جاء فإنه لا يموت.
      ومن هذه الخوارق أن يطير في الهواء إلى مكة أو غيرها، وكثير ممن يدعي الولاية تحدث بهذا، كما ذكر الشيخ في موضع آخر، فمثلاً في الحج، يكون هذا الشخص يوم التروية في بغداد ، أو في القاهرة ، أو في قرطبة ، أو أبعد، ويوم عرفة يراه الناس في جبل عرفة ، ثم في يوم العيد يرى في البلد الذي كان فيه، ويقول: إني حججت، والحقيقة أنه ما حج، ومجرد ظن أنه وقف بـعرفة ليس دليلاً، ويرد السؤال: هل وقف بـعرفة ؟ قد لا يكون هو الذي وقف، بل ربما قرينه من الشياطين تمثل به فرآه الناس وظنوا أنه هو، وحتى لو طار في الهواء حيث قد يحمله شيطانه في الهواء، ثم يلقيه في مكان ما، ويتشبه القرين الآخر الذي هناك به، ويظنون أنه وصل ويكلمهم ويخاطبهم، وحتى لو كلمهم بكلام يعرفونه عنه فلا غرابة؛ لأن قرينه معه، وهناك من يكون معك من الإنس ليلاً ونهاراً، يعرف أخبارك وأسرارك، ويعرف كل شيء عنك، ويتكلم بما يعلم من حالك، ويعرف من تعرف ومن لا تعرف، فليس الخارق دليلاً على الولاية.
      قد يقول قائل: إن هذا الولي قال لي كلمة كذا وكذا، ووالله ما كان هناك من يدري ما أقول إلا فلاناً فما أدراه؟! الجواب: إنك أنت ما رأيت القرين الذي كان معه، فالقرين معكما، وكان ثالثكما، وهو الذي جاء وخاطبه والعياذ بالله، فهكذا يفتنهم الشيطان، وإلى يومنا هذا توجد فتنة ما يسمى بتحضير الأرواح، وهذه والعياذ بالله من أكبر أسباب الغواية في الغرب؛ لأن الغالب على الغرب -كما تعلمون- المادية وإنكار الغيب مطلقاً، وهناك قلة قليلة تريد أن تؤمن بالله، أو بالأحرى تريد أن تؤمن بعالم الغيب، وتشعر بأن وراء هذه الحياة حياة أخرى، وأن وراء عالم الشهادة عالم غيب، فيأتيها الشيطان من باب تحضير الأرواح والافتتان بالسحر والشعوذة والجن، ولهذا أكبر مقر للسحرة في العالم كله في نيويورك ، قريب من مبنى الأمم المتحدة، وسحرة العالم كله يجتمعون فيه، ويظنون أنهم يعوضون الخواء النفسي الموجود عندهم، وكذلك في باريس ، وفي لندن ، وفي روما ، توجد أكبر الأماكن وأكثرها ارتياداً لهؤلاء السحرة والمشعوذين والعياذ بالله، وتحضير الأرواح هو أحد أعمالهم التي يعملونها، فيقول لك مثلاً: إنه يطير في الهواء، مع أن بعض الناس يقولون: لم يحصل هذا، ويقولون: إنه على كثرة ما تدعيه الصوفية من أن الأولياء يطيرون لم يلاحظ أحد أن ولياً طار، وهذا إنما هو فقط من باب أنهم يقولونه.
      ومما يذكر من الخوارق أن هناك من يمشي على الماء أحياناً، ويذكرون أن هذا من كراماته ومن خوارقه، أو يملأ إبريقاً من الهواء بعد أن لم يكن فيه شيء، أو يختفي أحياناً عن أعين الناس، وغير هذا كثير جداً مما يسمونه كرامات الأولياء كما في كتب الكرامات، مثل جامع كرامات الأولياء أو غيره، وفيها من هذه الخرافات الشيء الكثير، والحلاج وهو متقدم كان من جملتهم، ويذكرون عنه أنه كان يحضر لهم فاكهة الشتاء في الصيف، وكان يأتيهم بالسمك كما حدث أنه كان جالساً واشتهوا سمكاً مشوياً فمد يده في الهواء وإذا بيده سمك مشوي وأعطاهم إياه وغير ذلك، فقالوا: هذا ولي لله، فتعلقوا به، وأخذوا الحق والباطل الذي يلقيه، فالولاية عندهم هي هذه الخوارق الظاهرة.
      وأسوأ من هذا النوع نوع آخر، وهو أن البعض يقول: إنه قد استغاث بولي وهو غائب أو وهو ميت، فرآه قد جاء فقضى حاجته، وهذه مصيبة كبيرة والعياذ بالله؛ لأنها شرك، إذا يقولون: استغيث بالشيخ يأتك، وإذا ركبوا في الفلك وجاءتهم الريح العاصف وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الشيخ والعياذ بالله، فبينما كان المشركون في الجاهلية يدعون الله مخلصين له الدين، فهؤلاء يدعون الشيخ، ويقولون: رأينا الشيخ جاء، وأخذ يرد الرياح بكمه أو بثيابه حتى هدأ البحر وسكن ومرت السفينة بسلام، ويحكون هذا عن الشيخ عبد القادر الجيلاني والشيخ العيدروس ، وكثير من المشايخ الذين ينسبون إليهم هذا القول، إما في حياتهم أو بعد مماتهم.
      وينقلون عن الشمس الحنفي أحد أئمتهم أنه يقول: إن الشيخ الذي لا يغيث مريديه بعد موته كما كان يغيثهم في حياته ليس بشيخ. يعني: نعوذ بالله من ذلك، وهذا من تعلقهم بالشياطين الذين يقولون: حتى بعد أن تموت نحن سنستمر في هذا العمل، وهذا لا يعني -كما نبه عليه الشيخ- أنهم كاذبون، فمن تحصل له هذه الحالة هو في ذاته قد يكون كاذباً في دعواه ولم تحصل له هذه الكرامة، وقد يكون متواطئاً مع الشياطين وراضياً، وليس شرطاً أن يكون كاذباً؛ لأنه قد يكون مخدوعاً مضللاً، كما هو حال كثير من الناس والعياذ بالله، وهو أنه بسبب ضلاله وتركه اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وقع في الضلال، وعوقب عليه بهذا؛ ولهذا كما ذكر الشيخ يبدأ هؤلاء بالبدعة وينتهون بالكفر والعياذ بالله.
      ومما يذكرونه من الخوارق أن الولي يخبر الناس بما سرق عليهم، فمن الناس من إذا أضاع حقيبته، أو ضاع عليه شيء، أو ضاع أحد أبنائه نسأل الله أن يحفظنا وإياكم ويحفظ أموالنا وأهلينا تجده يسافر من كاهن إلى كاهن، ومن دجال إلى دجال، وكل واحد منهم يعده بإظهار ما يريده، وهؤلاء الكذبة البطلة لو كانوا يستطيعون أن يأتوا بالمال المسروق فعلاً لكانوا فعلوا ذلك تعاوناً على المعروف، ولكنهم لا يراعون حدود الله بل يسرقون أموالاً ويرتاحون لهذا العمل، مع أننا نجد مطاردة رجال الهيئة، ورجال الأمن والناس لهم، وتجدهم تحت الخوف والرعب، ومع ذلك نجد هؤلاء السحرة يرجعون المسروق البعيد الغائب، وذلك لا يكون لولا أن لهم دوراً ولهم ضلعاً في سرقة الأشياء التي يرجعونها، ولو كان هؤلاء لهم قدرة على ذلك لاستطاع أحدهم أن يسرق أكبر بنك من البنوك، ولأرسل الناس هذا الولي ليأخذ مالاً ويرتاحوا الدهر كله، وهذا يدل على أن لهم في الغالب ضلعاً فيما يضيع، فيخطف الحقيبة أو الطفل أو الطفلة ولي من أوليائهم، أو بتعاون مع قرين من قرنائهم من الإنس، ثم يأتيه الخبر؛ لأن له دوراً في المؤامرة وهو يعرفها، ثم يطلع هؤلاء عليها، وإن لم يكن هو الذي خطف فالشيطان الأكبر يعلم وليه أن أحد أوليائه أخذ كذا وفعل كذا، فيتقرب إلى هذا بإخباره ويتقرب إلى ذلك أيضاً، ويُفتن الجميع والعياذ بالله.
    2. وجود الخوارق عند بعض أتباع الديانات الباطلة

      يقول الشيخ رحمه الله: (وليس في شيء من هذه الأمور ما يدل على أن صاحبها ولي لله) يعني مجرد هذه الأمور لا تدل على ولاية الله، بل قد اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء أو مشى على الماء لم يغتر به حتى ينظر في متابعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وموافقته لأمره ونهيه، وهذه العبارة قالها كثير من أئمتهم، فمن ذلك قول بعضهم: لو رأيتم الرجل يطير في الهواء، أو يمشي على الماء فلا تغتروا به حتى تنظروا إلى اتباعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
      فالأئمة المتبوعون الذين يؤخذ كلامهم في هذا الشأن يذكرون أنها ليست دلالة على الولاية؛ لأن مجرد الخارق للعادة قد يقع من أعداء الله وأولياء الشيطان، وقد يقع من أولياء الله؛ ولذلك تجد النصارى يمخرقون على الناس في عيد الميلاد، ويقولون: العذراء تنزل عليهم، وليس تلك إلا حيلة شيطانية خبيثة أو بتعاون مع الجن، فيرسمون صورة العذراء على منارة أو على عمود الكنيسة بخيوط دقيقة بشكل صورة امرأة، ثم يكون الراهب هناك، فيقول: الآن تنزل العذراء ويجلسون ويجتمعون يرتقبونها، ويقدح في الزيت فتشتعل الصورة، فيكون الزيت الذي في الخيوط يشتعل والصورة على شكل الخيط فتكون كأنها على شكل عذراء، فيقولون جاءت العذراء ويبكون ويصرخون ويمخرقون على الناس، وكذلك كثير من الحيل التي يفعلونها.
      وأما الهندوس فعندهم أعجب من هذا؛ ولذلك لا تستطيع أن تفرق بين ألعاب السحر أو السيرك التي يفعلونها العلمانيون لا دينيون ملحدون، وبين ما يفعله هؤلاء الذين يدعون أنهم أولياء، فلو رأيت ما يفعله الرفاعية ، وما يفعله سحرة الهنود أو ما يفعله الغربيون الذين لا دين لهم في ألعاب السيرك، فستجد أن القضية واحدة، وأنها إما مخرقة أو حيلة باليد أو حيل كيميائية، أو حيل علمية طبيعية، أو من فعل ومن صنع وتأثير الشياطين، فالهندوسي مثلاً في أوروبا أمام الأطباء يدقون رأسه بمسمار طويل حتى يختفي ولا يموت، فيتعجبون ويظنون أن هذا ولي لله، مع أنه عابد للبقر، فمن كان على أي دين من الأديان الكتابية ونحوها كيف يكون ولياً لله؟! والحقيقة أن ما يحدث ليس كما يرونه على الحقيقة، فالأطباء يرون أن الأعضاء سليمة كلها، إذاً: المسمار لم يُدق فيه، وإن شاء الله عندما نتحدث عن موضوع الكرامات نبين كثيراً من هذه الحيل، وكيف أن شيخ الإسلام رحمه الله بين أن بعض من تابوا هم بأنفسهم بينوا ذلك، وقد حدثت هذه الأشياء لأناس كثير في القديم والحديث، منها: أن بعضهم قال: كنت إذا حضرت بعض هذه الأمور أو رأيتها قرأت آية الكرسي فإني أرى الأمر على حقيقته، فأرى المسمار يدق بعيداً عن الرأس، والنار التي يضع فيها سيخاً من حديد ويبلعه أراه من جنبه لكن بقية الناس يندهشون ويظنون أنه أدخله في فمه، فإذا قرأ الإنسان آية الكرسي ذهبت الغشاوة الشيطانية أو التخييل الشيطاني الذي يقع على أعين الذين لا يذكرون الله ممن يرونه.
      إذاً: هذه الحيل والخوارق قد تقع من عباد الله الصالحين فتكون كرامة فعلاً، ولكنه قد تقع أيضاً من هؤلاء في الظاهر وتكون لها أسبابها، فإما أنها حيل خفية وإما أسباب شيطانية.
  3. من كرامات الأولياء التي تفوق الخوارق

     المرفق    
    وشيخ الإسلام رحمه الله ينبه إلى قضية مهمة جداً، وذلك بقوله: (وكرامات أولياء الله تعالى أعظم من هذه الأمور) فالقضية ليست مشياً على الماء، أو طيراناً في الهواء، أو إخباراً بشيء ضاع ومعرفة شيء مفقود، إذ الأولياء الحقيقيون كراماتهم أعظم من هذا بكثير، وهذه أمور ممكن أن تقع لأي أحد ولا تعد ولاية.
    1. التوفيق للعلم والحق كرامة

      إن الإمام البخاري مثلاً رحمه الله ما طار في الهواء، ولا مشى على الماء، فهل يعني ذلك أنه ليس لديه كرامة؟ الجواب: لا، فهو له أعظم من هذه الكرامات، منها كونه أُعطي هذا الحفظ، ووفقه الله لكتابة الصحيح الذي هو أصح كتاب بعد كتاب الله، تقرؤه الأمة وتهتدي به الأئمة إلى قيام الساعة، وهذه كرامة عظيمة جداً.
      وكذلك الإمام أحمد أُعطي كرامات عظيمة جداً، وليس منها أنه طار في الهواء مثلاً، بل لأنه صبر في الفتنة، وسجن، وأوذي، وضرب في الله عز وجل حتى خرجت أمعاؤه وهو صابر على الحق، ووقف في وجه الظلم والضلال والبدعة بعد أن استسلم أكثر الناس أو جاملوا أو وروا وعرضوا حتى لا يفتنوا، فكون الله تعالى يختص عدداً من الأئمة وحملة الحق أن يصمدوا وحدهم في الميدان مع انحراف أكثر الخلق، فهذه كرامة عظيمة أعظم من أنه طار في الهواء أو مشى على الماء، ثم إنه ألف المسند ، هذا الكتاب العظيم الذي يعد ديوان الإسلام وديوان السنة، فقل حديث في الصحيحين إلا وهو في المسند ، وكذلك الكتب الستة هي في المسند إلا ما ندر، وفيه زيادات أخرى عظيمة، فتأليف المسند كرامة عظيمة جداً، وليس كأي كتاب، ومن كراماته أيضاً ما أعطاه الله من القبول بين الناس، وما أعطاه الله عز وجل من هذه الإمامة في الدين، فإذا اختار الله عبداً واصطفاه جعله إماماً في الدين، وإماماً للمتقين كما قال تعالى عن عباد الرحمن: (( وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ))[الفرقان:74] فهؤلاء هم الأئمة إلى قيام الساعة، وهذه هي الولاية والكرامة الحقيقية.
    2. نشر السنة ومحاربة البدعة كرامة

      ولو أردنا أن نأخذ جانباً آخر من العباد بدون فقه، وهو الشيخ أبو عمر الزاهد، الذي كان من كبار الزهاد والعباد، جاء إليه أهل العراق ، من الموصل وما حولها فطلبوا منه أن يكتب إلى نور الدين محمود رحمه الله، الذي قال فيه ابن الأثير وغيره: ما رأيت بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز مثل نور الدين محمود في سيرته وجهاده وعدله، ولكن أهل العراق لما جاءوا للشيخ أبي عمر الزاهد وقالوا له: اكتب إلى نور الدين، لأن نور الدين كان قد ألغى جميع الأحكام إلا حكم الشرع، فاكتب أنا: كنا نأخذ الاعترافات ونفيض على المتهمين بأوضاع وأحكام وضعها الشُرط، فاكتب إليه أن هذا الأمر لا يصلح، لأن الدعارة ستنتشر ويكثر الإجرام إذا احتكمنا إلى الشرع، فكتب الشيخ أبو عمر إلى نور الدين يشفع في هذا، وهو زاهد عابد مشهور، ولكن العبادة من غير فقه لا تنفع، فكتب إليه نور الدين رداً على خطابه فقال: إن الله تبارك وتعالى قد شرع لنا الحق، وما من خير إلا ودلنا عليه، وما من شر إلا ونهانا عنه، وفي اتباع الشرع غنية وكفاية، وذكر قوله تعالى: (( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ ))[النساء:65] فكانت رسالة عظيمة مبينة أن الشرع فيه الكفاية عن كل زيادة من البشر، فلما وصل الكتاب إلى الشيخ الزاهد، أخذ الكتاب وقرأه على الناس وهو يقول: انظروا كتاب الزاهد إلى السلطان، وكتاب السلطان إلى الزاهد، يعني: السلطان أصبح هو الذي يأمر بالكتاب ويأمر بالسنة ويأمر بالحق، والشيخ يريد غير ذلك، وهذه كرامة عظيمة لـنور الدين رحمه الله، نالها بكرامة الجهاد، وكان يحكم مجموعة قرى صغيرة، ويجاهد الصليبيين ويجاهد الروافض ؛ لأن صلاح الدين كان قائده الذي فتح مصر وقضى على دولة العبيديين، ولم يمت نور الدين رحمه الله حتى حكم بلاداً تمتد من تركيا إلى اليمن ، هذا من الشمال إلى الجنوب، ومن العراق شرقاً إلى بلاد المغرب غرباً، فكانت كلها تحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وطمست كل معالم الرافضة وكل بدعهم وضلالاتهم التي ظلت أربعة قرون وهم ينادون فيها: حي على خير العمل، وأشهد أن علياً ولي الله، فقضى عليها، وكذلك لم يبق للصليبيين إلا القدس التي كان يريد أن يفتحها، ثم فتحها الله على يد قائده صلاح الدين الذي تولى الملك من بعده، فكانت كرامة صلاح الدين هنا أنه فتح القدس ، فليست الكرامات أنه طار في الهواء أو مشى على الماء، بل قد تكون الكرامات أن يكون من المجاهدين، ومن العباد الحقيقيين الذاكرين، وممن يقفون عند حدود الله، فهذه كرامة عظيمة، ومن الكرامة أن يهدي الله تعالى على يدك رجلاً كان من أبعد الناس عن الله، وكثير من الناس لا يتفطن لهذا، ولكنه إذا وجد شخصاً مجنوناً وذهب به إلى شيخ وقرأ عليه وشفي تحدث الناس بهذا الحديث على مر الأيام والليالي، وقالوا: ما شاء الله! كان مجنوناً لا يفيق فلما قرأ عليه الشيخ تعافى وشافاه الله وأصبح صحيحاً، ولكن لو رأى الناس رجلاً كان شارباً للخمر فاسقاً فاجراً لا يرعوي عن الكبيرة، فوعظه إنسان ونصحه وكرر عليه حتى هداه الله واستقام لم يلتفتوا إليه، فأيهما أعجب؟ لا شك أن هذا الأخير أعجب وأشد كرامة، والكرامة له أعظم؛ لأنه هدى الله تعالى به هذا الذي كان لا يصدر عنه إلا الشر والإجرام؛ فأصبح من أولياء الله المتقين العابدين لا يأخذ مالاً حراماً ولو قل، وقد كان يسطو على أي مال ويأخذه كله، ويهتك أي عرض ولا يبالي، فهدايته بسبب بعض الدعاة كرامة لهؤلاء الدعاة، لكن مشكلة الناس الإيمان بالماديات، والشيطان يزيد في إضلال الناس فيحصرون الكرامة في شيء معين لا دلالة فيه على الولاية، وهم يظنون أن تلك هي الخارقة العظيمة، ولكنهم لا يتأملون كيف اهتدى فلان بنصح هذا العالم الذي منحه الله هذه الكرامة، وهي أن يهدي الله على يده الجموع من الناس، ومن هنا فأعظم الناس كرامةً هم العلماء الربانيون الذين يضيء الله تبارك وتعالى بعلمهم وكلامهم للأمة كلها، وهي الكرامة الحقيقية؛ فلذلك إذا أراد الإنسان أن يبلغ أو يريد أن يكون من أولياء الله المتقين، وأن ينال درجة هؤلاء فعليه أن يسلك طريق النبي صلى الله عليه وسلم، فيقوم بتحمل العلم والتبليغ عن رب العالمين تبارك وتعالى، ونشر كلمة الحق، ولا يبالي بالخلق، فهذه من أعظم الكرامات التي يختص الله تعالى بها من يشاء؛ ولهذا تقدم في شرح حديث الولي عند الكلام عن تفسير آيات: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ))[المائدة:54] إلى أن قال: (( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ))[المائدة:54] فهذا فضل من الله يختص الله تبارك وتعالى به أمثال هؤلاء الذين يقولون كلمة الحق، ويجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم.
      فصح قول الشيخ بأن كرامات أولياء الله تعالى أعظم من هذه الأمور الخارقة للعادة، وإن كان صاحبها قد يكون ولياً لله، وهذا لا ينكر، وهناك أمثلة كثيرة مما خرق الله تبارك وتعالى من العادات لأوليائه الصالحين، ولكن في المقابل قد يكون من تحصل الخوارق عدواً لله، فهي تقع من هؤلاء وهؤلاء.
    3. حب سماع القرآن علامة على الولاية

      يقول الشيخ رحمه الله: (قال ابن مسعود رضي الله عنه: [لا يسأل أحدكم عن نفسه إلا القرآن، فإن كان يحب القرآن، فهو يحب الله، وإن كان يبغض القرآن فهو يبغض الله ورسوله]) والمعنى: إذا أردت أن تسأل عن إيمانك في قلبك، فانظر منزلة القرآن من قلبك، فإيمانك بقدر منزلة كلام الله تعالى في قلبك، فمقدار هذا الحب هو مقدار إيمانك.
      فإذا كان هؤلاء يكرهونه والعياذ بالله،كما يذكر الغزالي من طوامه الكبرى أنه ذكر في الإحياء أن بعض العباد أو الصوفية يفضلون سماع الألحان على سماع القرآن من سبعة أوجه -والعياذ بالله- وذكر أن رجلاً منهم كان يقال له يوسف الزنديق ، فجاء رجل فقرأ عليه الآيات فلم يتأثر، فلما أخذ في الشعر بكى، فقال: يا بني! يقولون: يوسف زنديق ، ما هو إلا ما ترى، لماذا يقولون عني أني زنديق؟ لأني إذا سمعت القرآن لا أتأثر، فإذا جاءت الأشعار تأثرت وبكيت، فهذا زنديق لا شك فيه، وهو يرى أن هذه تهمة عظيمة، فغريب أن تشبع هذه القلوب وتلتذ وتأنس بمزمار الشيطان، وتنفر من كلام الرحمن، ثم تدعي أنها من أولياء الرحمن؟ سبحان الله! ولذلك فإن الذين يسمعون الغناء إن كانوا يسمعون الغناء كحال كثير ممن يسمع الأغاني في الإذاعة أو يشتريها فيهم فسق وشهوة، فهذا من الكبائر المحرمة -والعياذ بالله- وأما إن كانوا يسمعون ذلك تديناً، فهذه قد أصبحت بدعة وزندقة -نعوذ بالله- أشد ممن يستمع إليها شهوةً وطرباً.
      يقول الشيخ رحمه الله: (وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: [لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله عز وجل]) يعني: إذا قرأت القرآن ووجدت أنك تعبت أو شبعت فالقلب فيه شيء، ولكن لو طهرت القلوب تماماً فإنها لا تستطيع أن تشبع من القرآن، ومن ذكر الله عموماً، والإنسان لا بد له من أمور أخرى يعملها في حياته، ولكن إذا كان يقرأ القرآن فيجب أن لا يشبع، نعم قد يضع القرآن؛ لأنه يريد أن يصلي، أو يجاهد، أو يقوم بحق من حقوق الله الأخرى، أو يقوم بحق للأهل، أو حق للعمل للدنيا لينفق على نفسه، لكن ليس معنى هذا أنه شبع من القرآن، بدليل أنه لو كفي هذه الأمور لما ترك القرآن وذكر الله عز وجل، أما إذا وجد الإنسان أنه عندما يقرأ يتعب أو يشبع فذلك فيه دلالة على أن القلب فيه شيء، وإلا فأين كمال طهارة القلب التي تجعله يشبع من كلام الله عز وجل؟
      (وقال ابن مسعود: [الذكر ينبت الإيمان في القلب كما ينبت الماء البقل، والغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل]). يعني: إما أن يكون الإنسان يمارس ذكر الله فينبت الإيمان، وإما أن يكون في قلبه الغناء فينبت النفاق، وهذا أحد ما يقيس به الإنسان نفسه، فإذا كان يسمع القرآن ويلتذ بسماعه ويأنس به فليحمد الله على ذلك، وإن كان لا يطيق سماعه، فليعلم أن قلبه تسلطن عليه الشياطين، وأن الشيطان قابض على قلبه، فهو لا يطيق ذكر الله، ولا يتحمل أن يسمع شيئاً منه.
  4. نماذج من أوصاف أولياء الشيطان

     المرفق    
    يقول الشيخ رحمه الله: (فإن هذه الخوارق تكون لكثير من الكفار والمشركين وأهل الكتاب والمنافقين، وتكون لأهل البدع، وتكون من الشياطين، فلا يجوز أن يظن أن كل من كان له شيء من هذه الأمور أنه ولي لله)، وهذا تنبيه عظيم فلا يصح الظن بأن فلاناً ولي لله لمجرد أنه ظهر على يده شيء من الخوارق، والمعيار الدقيق للولاية هو اتباع هذا الرجل لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال رحمه الله: (بل يعتبر أولياء الله) يعني: يقاسون بصفاتهم وأفعالهم وأحوالهم التي دل عليها الكتاب والسنة، ويعرفون بنور الإيمان والقرآن، وبحقائق الإيمان الباطنة، وشرائع الإسلام الظاهرة، فمن لم تكن فيه هذه الأوصاف فليس له من الولاية حظ، وهو مجرد مشعوذ، أو كاهن، أو ساحر، أو محتال، أو ممخرق إلى غير ذلك من الأمور.
    1. الصلاة بدون طهارة

      يقول الشيخ رحمه الله: (مثال ذلك أن هذه الأمور المذكورة وأمثالها) يعني: أن يطير في الهواء، أو يمشي على الماء، أو يأتي بفاكهة الشتاء في الصيف كما قرر المؤلف: (قد توجد في أشخاص ويكون أحدهم لا يتوضأ) مع أنه معلوم أن الذي لا يتوضأ ليس له صلاة، والذي ليس له صلاة ليس له من الإسلام شيء، فكيف يكون ولياً؟
      وبعضهم يقول: إن الولي الفلاني بقي شاخصاً في مكانه بضع عشرة سنة، فمعناه أنه ما توضأ ولا اغتسل، فليس له حظ في الإسلام والعياذ بالله.
      قال المؤلف رحمه الله ناقلاً بعض هذه النماذج: (لا يتوضأ أو لا يصلي الصلوات المكتوبة، بل يكون ملابساً للنجاسات، معاشراً للكلاب، يأوي إلى الحمامات والقمامين والمقابر والمزابل، رائحته خبيثة، لا يتطهر الطهارة الشرعية ولا يتنظف)، وهذه الأحوال نقلت عن البطائحية الرفاعية ، الذين كانوا في أيام شيخ الإسلام ، وهم إلى اليوم موجودون وغيرهم من الصوفية ، وهذا حالهم، لا يصلون، ولا يتوضئون، ويلابسون النجاسات، ويعاشرون الكلاب، ويأوون إلى الحمامات والقمامين والمقابر والمزابل، فمن أين تأتي الولاية إلى هؤلاء؟! والذي يسيطر على هؤلاء، في حال هذه النجاسات هو الشيطان.
      يقول الشيخ رحمه الله: (وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تدخل الملائكة بيتاً فيه جُنب ولا كلب ) وقال عن هذه الأخلية -أي بيوت الخلاء-: ( إن هذه الحشوش محتضرة ) أي: يحضرها الشيطان، وقال: ( من أكل من هاتين الشجرتين الخبيثتين فلا يقربن مسجدنا؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم ) وقال: ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً ) وقال: ( خمس من الفواسق يقتلن في الحل والحرم، وذكر منها الكلب العقور ) )، فبمجموع هذه الأحاديث يُعلم أن من يخالف هذه الأحاديث فلا يمكن أن يكون ولياً؛ لأن الذي يأتي إليه أو يخاطبه أو يكلمه ليس من الملائكة، فالملائكة لا تدخل هذه الحشوش أو المراحيض، والملائكة لا تأمر بالفحشاء والمنكر، والملائكة لا تقتل البريء المعصوم، والملائكة لا تتصور بصور الكلاب التي يعاشرون ويخالطون، وإذا كانت المقابر التي يجلسون عندها مقابر عندها المشركين والكافرين فهذه أيضاً ليست مأوى الملائكة، بل مأوى الشياطين، فإذاً: هؤلاء عندما يعاشرون هذه الأمور فإنهم يرتكبون هذه المحرمات الظاهرة، ونستدل بهذا على أنهم ليسو بأولياء لله تبارك وتعالى وإن ادعوا ذلك.
    2. مباشرة الخبائث وأكل النجاسات

      يقول الشيخ رحمه الله: (فإذا كان الشخص مباشراً للنجاسات والخبائث التي يحبها الشيطان، أو يأوي إلى الحمامات، والحشوش) وهي الحمامات التي يسمونها الآن (السونة)، والحشوش هي بيوت الخلاء، أو المراحيض التي تحضرها الشياطين، فمنهم من يأكل الحيات والعقارب والزنابير كما يفعل عباد الهند إلى الآن، والبطائحية الرفاعية وأمثالهم ممن يأكلون الحيات، وهذه الحيات أكلها حرام، وكل ذوات السموم يحرُم أكلها، وهم يأكلونها، فإذا كان هذا الذي يزعم الولاية يعاشر الكلاب، ويأكل الحيات، ويأوي إلى مقابر المشركين، فمن أين تأتيه الولاية؟
    3. النفور عن سماع القرآن

      يقول الشيخ رحمه الله: (ويأكل آذان الكلاب -لعلها هكذا- التي هي خبائث وفواسق، أو يشرب البول ونحوه من النجاسات التي يحبها الشيطان، أو يدعو غير الله فيستغيث بالمخلوقات ويتوجه إليها، أو يسجد إلى ناحية شيخه) وهذا معروف عند الصوفية ، فمنهم من يسجد إلى ناحية الشيخ، فإذا كان الشيخ المعبود هو ابن عربي وقبره في دمشق ، وكان الطالب في المدينة فإنه يسجد جهة دمشق ، وإذا كان في بغداد فيسجد غرباً، وإذا كان في قرطبة سجد شرقاً، ناحية الشيخ -نعوذ بالله- ولا يخلص الدين لرب العالمين تبارك وتعالى.
      ثم واصل المؤلف في أوصاف هؤلاء قائلاً: (أو يلابس الكلاب أو النيران أو يأوي إلى المزابل والمواضع النجسة، أو يأوي إلى المقابر، ولا سيما إلى مقابر الكفار واليهود والنصارى أو المشركين، أو يكره سماع القرآن، وينفر عنه ويقدم عليه سماع الأغاني والأشعار، ويؤثر سماع مزامير الشيطان على سماع كلام الرحمن، فهذه علامات أولياء الشيطان لا علامات أولياء الرحمن)، وهذه هي القاعدة.
      قال الشيخ رحمه الله: (وهؤلاء الملاحدة يدعون أن الولاية أفضل من النبوة، ويلبسون على الناس، فيقولون: ولايته أفضل من نبوته..) فمن تلبيسهم على الناس أنهم يقولون: حتى النبي صلى الله عليه وسلم ولايته أفضل من نبوته، (ويقولون:
      مقام النبوة في برزخ             فويق الرسول ودون الولي)
      قال رحمه الله: (ويقولون: نحن شاركناه في ولايته التي هي أعظم من رسالته، وهذا من أعظم ضلالهم؛ فإن ولاية محمد صلى الله عليه وسلم لم يماثله فيها أحد، لا إبراهيم ولا موسى، فضلاً عن أن يماثله هؤلاء الملحدون، فكل رسول نبي ولي، فالرسول نبي وولي، ورسالته متضمنة لنبوته، ونبوته متضمنة لولايته).
      إذاً: يكون الترتيب عند الصوفية كما يلي:
      أعلى شيء الولاية، ثم النبوة، ثم الرسالة وهي أدنى شيء.
      وأما الترتيب الصحيح عند أهل السنة فهو أن أعلى شيء هو الرسالة، والنبوة في الوسط، وأدنى شيء الولاية؛ لأن الأولياء أتباع للأنبياء.
      إذاً: إذا ثبت أنه رسول فهو نبي وهو ولي، فالأصل أنه ولي لله، فضله الله وأوحى إليه فصار نبياً، ثم بلغه أو أمره بالإبلاغ فصار رسولاً على الاختلاف كما في معنى الرسول والنبي.
      يقول الشيخ رحمه الله: (فإذا قدروا مجرد إنباء الله إياه بدون ولايته لله، فهذا تقدير ممتنع) أي: لأنه لا يمكن أن يكون نبياً وهو ليس بولي؛ لأن الولاية أدنى من النبوة بخلاف قول هؤلاء، فالولاية عندهم أعلى، وعليه فيمتنع هذا، ولكن ظاهر كلامهم أنه يمكن أن يكون ذلك، أما عند أهل السنة فلا تناقض فيمكن أن يكون ولياً ولا يكون نبياً؛ ولهذا فأكثر الناس على أن الأنبياء معدودون، أما الأولياء فهم كثير، فكل المؤمنين يمكن أن يكونوا أولياء لله، ولكن على كلام هؤلاء المخالفين فلا يستقيم الأمر، وهذا دليل على كفرهم وضلالهم.
      ثم يأتي الشيخ بكلام لـابن عربي وفيه إشارة إليه، وهذا يبين أن الكلام على هؤلاء مضبوط في موضع آخر في كتابه درء تعارض العقل والنقل ، ويبين فيه أن هؤلاء أكفر من اليهود و النصارى والعياذ بالله، فمن يقول هذا القول من الصوفية وأهل البدع، ومن يدعيه أيضاً كـالباطنية و الرافضة الذين يدعونه لأئمتهم فهو أكفر من اليهود و النصارى الذين كفرهم الله تبارك وتعالى تكفيراً صريحاً في القرآن.
  5. كفر من يفرق بين الظاهر والباطن أشد من كفر أهل الكتاب

     المرفق    
    يقول الشيخ رحمه الله: (ومن ادعى أن من الأولياء الذين بلغتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم من له طريق إلى الله لا يحتاج فيه إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا كافر ملحد)، وهذا لا شك فيه، ولكنهم لا يدعون هذا بوضوح، فغالباً ما يدعون اتباع الشريعة الظاهره؛ فلهذا قال الشيخ رحمه الله: (وإذا قال: أنا محتاج إلى محمد صلى الله عليه وسلم في علم الظاهر دون علم الباطن، أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة، فهو شر من اليهود والنصارى الذين قالوا إن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول للأميين دون أهل الكتاب)، فهم قسموها بحسب الأحوال، فقرروا أنه يطاع في الظاهر، ولا يؤخذ عنه في الباطن، هؤلاء هم اليهود و النصارى، قسموها بحسب الأمم، فقالوا يطيعه الأميون ولا يطيعه أهل الكتاب، فهؤلاء مثل هؤلاء.
    ويقول رحمه الله: (فإن أولئك آمنوا ببعض وكفروا ببعض فكانوا كفاراً بذلك)، وكذلك هذا الذي يقول: إن محمداً بعث بعلم الظاهر دون علم الباطن آمن ببعض ما جاء به، وكفر ببعضه، فهو كافر.
    والذي نقوله هذا ليس هو ابن عربي و الحلاج فقط، بل يوجد الآن كثير ممن يقول هذا، ومنهم محمود محمد طه الذي كان في السودان ، وكان من أكثرهم مجاهرة، ويوجد في الهند ، وفي تركيا ، وفي بلاد الشام ، وفي بلاد أخرى كثير من هؤلاء الذين يصرحون بمثل ما يصرح به محمود محمد طه أو ابن عربي أو أمثالهم من دعوى ختم الولاية، أو دعوى اتباع الدين في الشريعة فقط، أي: في الأمر الظاهر، دون الحقيقة، أي: الأمر الباطن -والعياذ بالله- وهذا كفر لاشك فيه.
    يقول الشيخ رحمه الله: (من قال: إنه يأخذ عن النبي صلى الله عليه وسلم علم الظاهر دون علم الباطن، فهو أكفر من اليهود والنصارى الذين قالوا إنه رسول إلى الأميين فقط؛ لأن علم الباطن الذي هو علم إيمان القلوب ومعارفه وأحوالها هو علم بحقائق الإيمان الباطنة، وهذا أشرف من العلم بمجرد أعمال الإسلام الظاهرة)؛ وذلك لأن أصل دعوة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم هو إصلاح القلوب والباطن، ومعه وتبعاً له يصلح الظاهر.
    (فإذا ادعى المدعي أن محمداً صلى الله عليه وسلم إنما عَلَّم هذه الأمور الظاهرة دون حقائق الإيمان، وأنه لا يأخذ هذه الحقائق من الكتاب والسنة فقد ادعى أن بعض الذي آمن به مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم دون البعض الآخر، وهذا شر ممن يقول: أؤمن ببعض وأكفر ببعض، ولا يدعي أن هذا البعض الذي آمن به أدنى القسمين).
    يعني: من يفضل الباطن ويقول: لا آخذ الباطن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا أكفر من الذي يجعلها سواء، ويقول: لا آخذ هذا، وآخذ هذا، ووجه كونه أكفر أنه يجعل الأدنى والأقل الذي هو الظاهر للرسول صلى الله عليه وسلم، والأشرف والأفضل الذي هو الباطن لغيره.
    يقول: (وليس هذا موضع بسط إلحاد هؤلاء، ولكن لما كان الكلام في أولياء الله والفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وكان هؤلاء من أعظم الناس ادعاء لولاية الله، وهم من أعظم الناس ولاية للشيطان، نبهنا على ذلك).
    إذاً: الغرض هو التنبيه على ضلال هؤلاء في هذا الباب.
  6. ضرورة تعلم الفرق بين الأحوال الرحمانية والأحوال الشيطانية

     المرفق    
    يقول رحمه الله: (وإن كان الرجل خبيراً بحقائق الإيمان الباطنة فارقاً بين الأحوال الرحمانية -التي هي كرامات- والأحوال الشيطانية -التي هي مجرد خوارق عادات- فيكون قد قذف الله في قلبه من نوره)، وهذا هو الذي قال عنه سابقاً: إنه مكاشفات، فالأولياء قد يعطيهم الله تعالى مكاشفات وتأثيرات، والمكاشفات هي ما قال عنه الشيخ: (فيكون الله قد قذف في قلبه من نوره) فأصبح يرى الأشياء بنور الله، كما قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ ))[الحديد:28].
    فالنور الذي يقذف في القلب هو ما يسميه الصوفية أو غيرهم مكاشفة، وقال تعالى: (( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ ))[الشورى:52] فالنور يجلي الله تعالى به الظلمة، والروح يحيي به الميت، فينفخ الروح في الميت، أو في العظام البالية، أو في النطفة الميتة فيحيى بها الروح فتصبح بشراً سوياً.
    ولهذا يقول: (فهذا من المؤمنين الذين جاء فيهم الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور الله ) قال الترمذي حديث حسن)، وقد تقدم الحديث الصحيح الذي في البخاري وغيره، قال فيه: ( ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه ) فهذا الذي تقدم معنا، يعني: إذا أحبه أصبح سمعه وبصره كما بينا ذلك، إذاً: فهو يرى بنور الله، ويحكم على الأشياء من خلال حكم الله ودين الله، وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا هو النور وهذا هو الروح، وهذه هي الحياة، وهذه هي الحكمة التي من ضل عنها لن يهتدي إلى شيء.
    يقول الشيخ رحمه الله: (فإذا كان العبد من هؤلاء فرق بين حال أولياء الرحمن وأولياء الشيطان كما يفرق الصيرفي بين الدرهم الجيد والدرهم الزائف، وكما يفرق من يعرف الخيل بين الفرس الجيد، والفرس الرديء، وكما يفرق من يعرف الفروسية بين الشجاع والجبان)، فلا بد أن يفرق الإنسان بين من يدعون الولاية حقاً وبين غيرهم بمثل ما يفرق أهل الخبرة بهذه الأمور، وكما أنه يجب معرفة الفرق بين النبي الصادق وبين المتنبئ الكذاب، فيفرق بين محمد الصادق الأمين، رسول رب العالمين، وموسى والمسيح وغيرهم عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين، وبين مسيلمة الكذاب ، والأسود العنسي ، وطليحة الأسدي ، والحارث الدمشقي ، وباباه الرومي وغيرهم ممن ادعوا النبوة وغيرهم من الكذابين، وكذلك يفرق بين أولياء الله المتقين وأولياء الشيطان الضالين، لا بد من التفريق وإلا اختلطت الأمور، فإذا كان لا يميز هؤلاء من هؤلاء، ويظنهم جميعاً أولياء، وأن كل من تنبأ وادعى النبوة فهو نبي، فإنه سيقع في الضلال، فلابد من معرفة أن هناك فرقاً بين النبي والمتنبئ، وكذلك الولاية فإنه يوجد فرق بين من يقول: أنا ولي وهو كاذب، وبين من يكون ولياً حقاً.
    وهنا ينتقل الشيخ رحمه الله ليفتح فصلاً ليبين أسباب ضلال هؤلاء.
  7. أسباب الضلال في باب كرامات الأولياء وخوارق العادات

     المرفق    
    1. التفريق بين الحقيقة والشريعة

      لقد اعتقد البعض أن الدين حقيقة وشريعة على القسمة المعروفة عند الصوفية ، وأن الحقيقة هي باطن الأمر، والشريعة هي مجرد الظاهر، وهذا كان سبباً في الضلالة؛ لأنها أفضت بهم إلى القول بخاتم الأولياء، ودعوى الولاية الباطنة.
      فأما الحقيقة والشريعة فنتجاوز الكلام عنها؛ لأن المقام ليس مقام التفصيل فيها، فقد تقدم عنها كلام ونرجو إن شاء الله أنها معلومة عند الجميع؛ ومرادنا الآن هو بحث الفرق بين الولي الصادق وبين أولياء الشيطان، ومعرفة هذا من هذا، وتمييز ذا من ذا، فدعوى الحقيقة التي يدعيها أولئك هي دعوى مبسوطة في مواضع أخرى، ومن احتجاجهم لها أنهم احتجوا بقصة موسى والخضر عليهم السلام، وما أشبه ذلك مما قد تكلمنا عنه من قبل.
    2. اعتقاد أن مقام الولاية فوق مقام النبوة

      وهذا من مشابهتهم وأخذهم عن الفلاسفة الذين علموهم أن مقام النبوة دون مقام الولاية، وأن النبوة عندهم أمرٌ مكتسب، والكلام الذي في تعريف الرسالة يحتاج إلى شرح ليس هذا محله؛ لأننا إن شاء الله تعالى سنعرض له بإذن الله في موضوع الكرامات بالتفصيل.
      فهم زعموا أن النبي لا بد أن يكون له قوة تخيلية، أو قوة علمية، وقوة نفسية، وقوة فعالة أو تخييلية، والصوفية أخذوا هذا عن المتفلسفة، فـابن عربي وأمثاله إنما اتبعوا أرسطو و أفلاطون ، وظنوا أن ما قاله أرسطو عن الله وعن العقل الفعال وعن الأفلاك ينطبق على الملائكة، وما قاله عن القوة التخييلية ينطبق على الوحي، وأن النبوة تكون مكتسبة، فكذلك الولاية تكون مكتسبة، بل زادوا على هذا فجعلوا الولي أعظم من النبي فقالوا:
      مقام النبوة في برزخ             فويق الرسول ودون الولي
      فجعلوا الولي أعلى من النبي، وجعلوا خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، وهذا كفر صريح والعياذ بالله، وقد أخذوه من كلام الفلاسفة ومصطلحاتهم، وألبسوها لباس الإسلام، وأدخلوها في دين الإسلام، وموهوا بها على الناس؛ ولذلك ذكر الشيخ رحمه الله بعض كلام ابن عربي في هذا، وبين أنهم جعلوا العقل الفعال هو الله تعالى مثلاً، وضلوا في الكلام عن عالم الجبروت، وعالم الملكوت، وعالم الشهادة، ويقولون: إن الأفلاك هي الملائكة وغير ذلك من الضلالات التي كفروا بها، نسأل الله العفو والعافية.
    3. طروء الأحوال الشيطانية في المكاشفات

      قال الشيخ رحمه الله: (ولهذا عامة كلامهم -أي: هؤلاء الملاحدة- إنما هو في الحالات الشيطانية، ويقولون ما قاله صاحب الفتوحات: باب أرض الحقيقة، ويقولون: هي أرض الخيال)... (وهؤلاء تأتيهم أرواح تخاطبهم وتتمثل لهم) وهنا يظهر الفرق، فالمكاشفات والمخاطبات تأتي من أرواح الجن والشياطين.
      يقول الشيخ رحمه الله عن هذه المخاطبات: (وهي جن وشياطين، فيظنونها ملائكة) فيقول قائلهم: جاءني ملك وخاطبني، ويقول: وكان وجهه أبيض، وعليه نور، ويلبس ملابس بيضاء، مع أن الشيطان يمكن أن يلبس الأبيض، فكيف عرف هذا أنه ملك؟ فليس لمجرد النور أو المظهر يلزم أن يكون ملكاً.
      يقول رحمه الله: (كالأرواح التي تخاطب من يعبد الكواكب والأصنام).
      كما حصل لبعض العرب في الجاهلية، ولعباد الكواكب الذين في بلاد العراق وبعث فيهم إبراهيم عليه السلام، فقد كان هؤلاء يبنون الهياكل، فيبنون هيكلاً للمشتري، وهيكلاً للمريخ، وهكذا، ويخاطبون منها، ويظنون أن الكواكب المعبودة تخاطبهم، وهو شيطان يخاطبهم من داخلها.
      والعزى التي كانت تعبد عند العرب كانوا يخاطبون منها، فالشياطين تتكلم من الأماكن كالشجرة، أو الصخرة، أو الهيكل الذي يتعبدون فيه، فيظن أولئك المساكين أن الآلهة المعبودة -ولا إله إلا هو تبارك وتعالى- هي التي تخاطبهم!
      ثم يأتي شيخ الإسلام بأدلة من التاريخ فيقول: (وكان من أول ما ظهر من هؤلاء في الإسلام -أي: من يدعون المخاطبات والمكاشفات - المختار بن عبيد -والصحابة لا يزالون أحياء- الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( سيكون في ثقيف -أي: قبيلة ثقيف المعروفة- كذاب ومبير ) -وهذا من آيات النبوة- وكان الكذاب: المختار بن أبي عبيد والمبير: الحجاج بن يوسف؛ ولهذا لما قيل لـابن عمر و ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إن المختار يزعم أنه ينزل إليه، فقالا: صدق! إن الله تعالى يقول: (( هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ))[الشعراء:221-222]، وقال الآخر: وقيل له: إن المختار يزعم أنه يوحى إليه، أيضاً قيل: إن المختار يزعم أنه يوحى إليه، قال: نعم قال الله تعالى: (( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ))[الأنعام:121] )، وهنا يظهر فقه الصحابة رضي الله تعالى عنهم، حيث أكدوا بما ذكروه من الآيات أن الشياطين توحي إليه.
      إذاً: العبرة في مضمون المكاشفات، أما مجرد القول أنه يوحى إلي فلا عبرة به؛ لأن المختار كان يخرق عليهم، وكان معه تابوت، ويقول: هذا هو التابوت الذي فيه السكينة، وأنه مثل الذي عند بني إسرائيل، فهذه الدعاوى قد ظهرت في أيام الصحابة! والصحابة لا يزالون أحياء، فما بالكم بمن بعدهم، ولكن الصحابة بينوا بطلانها.
      فإذاً: أول من أظهر وادعى المكاشفات والمخاطبات التي هي من الشيطان ويظنها الجهلة من الرحمن هو المختار بن عبيد .
      ولذلك فقد جاء واحد من الشعراء إلى المختار بن عبيد ، وحاله كحال بعض الصحفيين في هذا العصر ممن يريد أن يحصل على المال فقط من خلال مدح من يعرف طغيانهم، فهذا الشاعر قال للمختار قصيدة شعرية يمدحه فيها، وفي تلك الأيام كان الشعراء بمثابة الإذاعات والتلفزيونات، فكان الطواغيت والمجرمون والضالون إعلامهم الشعراء، فهذا الشاعر عمل للمختار قصيدة طويلة ذكر فيها أنه رأى السكينة والملائكة، وأنه ذهب إلى المعركة فرأى الملائكة نزلت لنصرة المختار ، وهذا الشاعر كان ممن كان يحاربهم المختار وقد أسره المختار ، وقال له: أعلن هذا، فخرج وقال للناس: لما كنا نحارب المختار رأينا طيوراً بيضاً نزلت على خيل من السماء وحاربتنا، وانهزمنا وأسرنا المختار ، فأعطاه المختار أموالاً كثيرة، ومن قوله في قصيدته:
      أري عيني ما لم تبصراه            كلانا عالم بالترهات
      يعني: أنا أريت عيني شيء ما رأته، وأنا والمختار نعلم أن هذا كذب، لكن هو يريد أن يستفيد مني، وأنا أستفيد منه الدنانير، وكلها مخرقة ودجل وكذب، نعوذ بالله من الضلال.
      قال الشيخ رحمه الله: (وهذه الأرواح الشيطانية هي الروح الذي يزعم صاحب الفتوحات أنه ألقى إليه ذلك الكتاب).
      فـابن عربي يقول: إن روحاً أوحى إلي كتاب الفتوحات ، وهذا الروح هو الوحي نفسه، ولكنه شيطان نعوذ بالله من ذلك.
      ثم يضيف شيخ الإسلام قائلاً: (ولهذا يذكر أنواعاً من الخلوات بطعام معين وشيء معين، وهذه مما تفتح لصاحبها اتصالاً بالجن والشياطين، فيظنون ذلك من كرامات الأولياء، وإنما هو من الأحوال الشيطانية، وأعرف من هؤلاء -فهذا أمر قد عرفه شخصياً- عدداً، ومنهم من كان يحمل في الهواء إلى مكان بعيد ويعود، ومنهم من كان يؤتى بمال مسروق تسرقه الشياطين وتأتيه به)، وهذا تجده يأكل ويقول: الله تعالى يطعم من يشاء، وهذه من الكرامات، والحق أن هو الشياطين سرقت المال، وأصحابه يبحثون عنه، وهؤلاء يأكلونه ويظنون أنه من الحلال والعياذ بالله.
      قال الشيخ رحمه الله: (ومنهم من كانت تدله على السرقات بجعل يحصل له من الناس، أو بعطاء يعطونه إذا دلهم على سرقاتهم، ونحو ذلك).
      وشيخ الإسلام كأنه يتكلم عن مثل واقعنا الآن مع هؤلاء الدجالين، فإذا ضاع شيء تجد بعض الناس يذهبون إلى هذا الدجال ويعطونه مالاً قليلاً فيقول: لا أقدر، وإذا أعطيته مالاً كثيراً يقول: لا بأس، فلو كان الأمر مجرد معرفة مكان الشيء الضائع لم يكن هنالك فرق بين قليل المال وكثيره، ولكان العلم بالمسروق مضبوطاً، فلماذا إذا كثر المال يزيد العلم بالمسروق؟
      الجواب: أن ذلك إنما هو -والعياذ بالله- مقابل هذه الضلالات التي يفعلونها، من الذبح للشياطين، ومن أخبث ما يكون أن يقول الدجال للبعض: خذ دجاجة سوداء، وخذ تيساً أسود، إلى غير ذلك، ولا تذكر اسم الله، واذبح عند البيت، وضع كذا في كذا، وهذه الأمور تدخله في الشرك الأكبر، والمسكين يظن أنه تعافى، أو حصل على ما فقد، وهو قد ضاع أعظم منه من هذا المال في شراء التيس ونحوه.
      فتجد أن هؤلاء في القديم والحديث يبيعون الدين بالدنيا، ويشترون بآيات الله ثمناً قليلاً، ويؤثرون العاجلة على الباقية، وهذه مشكلتهم نسأل الله سبحانه وتعالى أن يخلص الأمة من شرهم ومكرهم وخبثهم.
      ولن ندخل في موضوع الكرامات وما إلى ذلك، وإن كانت متصلة بالموضوع؛ لأن الكرامات لها مبحث آخر يأتي في آخر أبواب العقيدة إن شاء الله.
      وقد نبهنا أن الإمام الطحاوي رحمه الله ما كان يبوب، بل كان يسترسل في المسألة، فيأتي بالقضايا المتباعدة والمتفاوتة في غير مكانها، فشرحنا كلامه كما رتبه هو، وكما رتبه الشارح.
      والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.