المادة كاملة    
إن لأولياء الله تعالى منزلة عظيمة عند الله تعالى، ودرجة منيفة، حباهم الله بها، ويسر لهم الوصول إليها، وبوأهم خيرها وثمرتها في الدنيا والآخرة، لكنهم مع ذلك بشر يصيبون ويخطئون، ويعلمون ويجهلون، فليسوا بمعصومين، وقد ضلت بعض الفرق فادعت العصمة للأولياء، وأنزلتهم منزلة أكبر من منزلتهم، وألبستهم ثوباً أكبر من حجمهم، فوقعوا في المحذور، وشهدوا بالكذب والزور.
  1. تابع عصمة الأولياء

     المرفق    
    1. اشتراط العصمة في الولي

      الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
      فالمسألة الرابعة: هي عصمة الولي، أي: هل من شرط الولي أن يكون معصوماً؟ وهذا الموضوع تأتي أهميته من جهة أن كثيراً من الناس يعتقدون أنه إذا قررنا أن فلاناً ولي، أو قيل: إنه ولي، وثبت ذلك عندنا؛ أنه لا يعترض على شيء من أقواله، ولا شيء من أحواله، فمهما قال، أو تكلم، وإن خالف السنة؛ فإنه لا يعترض عليه؛ لأنه ولي في نظرهم، وكذلك لا يعترض عليه في شيء من أحواله، فإن ترك الجمعة، أو الجماعة، وإن خالط النساء، أو المردان، أو ارتكب الفواحش؛ فإنه لا يعترض عليه في شيء من ذلك.
      ولم يقفوا عند هذا الحد من ترك الاعتراض، بل إن الأمر وصل بهم إلى ذكر حكايات في أن المعترض على هؤلاء يسلب إيمانه، ويجعلون العدو لمثل هذا النوع من الأولياء هم: الفقهاء، فيذكرون -أي: الصوفية - في كتبهم: أن فقيهاً اعترض، أو أنكر على أحد الأولياء؛ فسلب الله إيمانه وعلمه وفقهه؛ حتى الفاتحة لم يعد يستطيع أن يقرأها، وهذه حرب نفسية؛ بحيث إنهم إذا رأوا إنساناً من هذا النوع فإنه يسلم له كل قول، وكل حال، ولا يناقش، ولا يعترض عليه، وبالتالي فإن المريدين ينخرطون في سلك هذه الطريقة التي ينتمي إليها الشيخ من غير تردد، ولا اعتراض، وهذا من أعظم الفساد الحاصل في دين المسلمين، والذي به وبأمثاله من الآراء الفاسدة تغلغلت الصوفية ، وانتشرت في العالم الإسلامي بشرورها وفسادها؛ حتى قيض الله تعالى لها من أنكرها، ولا تزال أخطر شيء يهدد معتقدات المسلمين؛ ولا سيما العامة منهم.
    2. تحايل كثير ممن يدعي الولاية على الشرع

      فهذا الموضوع إذاً موضوع مهم، وقد تقدمت الإشارة إلى أن هناك من يدعي الولاية وهو لا يتلقى من كتاب الله، ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يقول الواحد منهم: حدثني قلبي عن ربي؛ سواء قال ذلك بلسان مقاله، أو بلسان الحال، فهم يعتقدون ويقولون بالكشف أو الإلهام، فيتحايلون على الوحي ويقولون: إن هذه الحقائق تلقى وتقذف في قلب الولي، وهي وحي أو قريب من الوحي.
      وقد بحث شيخ الإسلام رحمه الله هذا ضمن كلامه عن التحديث، وبيان أن المحدَّثين كلهم أولياء، وذلك لا يعني أن المحدث معصوم لا يخطئ في قول ولا عمل.
  2. كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في مسألة عصمة الأولياء

     المرفق    
    يقول رحمه الله في رسالة الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ، وهي ضمن مجموع الفتاوى (11/201)، يقول: (وليس من شرط ولي الله أن يكون معصوماً لا يغلط، ولا يخطئ، بل يجوز أن يخفى عليه بعض علم الشريعة، ويجوز أن يشتبه عليه بعض أمور الدين)؛ وذلك لأنه بشر، ولا عصمة لأحد من البشر إلا للأنبياء، فقد عصمهم الله تعالى في البلاغ، فلا يخطئون فيما يبلغون عن الله، وعند كثير من الناس أن الولي لا يمكن أن يخطئ، وهذا وهم، وإلا فالحقيقة هي غير ذلك.
    يقول: (ويجوز أن تشتبه عليه بعض أمور الدين حتى بحسب بعض الأمور مما أمر الله به، ومما نهى الله عنه، ويجوز أن يظن في بعض الخوارق أنها من كرامات الله تعالى، وتكون من الشيطان لبسها عليه؛ لنقص درجته، ولا يعرف أنها من الشيطان) ولو كان من الأولياء الكمل العالمين بالله تعالى لما خفي عليه هذا الأمر.
    يقول شيخ الإسلام: (وإن لم يخرج بذلك عن ولاية الله تعالى) أي: قد يكون فيه ولاية حقيقية، لكنه يخطئ، ويلتبس عليه هذا الأمر.
    1. ما فتح به من الفهم على المتأخرين ومنهم شيخ الإسلام

      بل قد يفهم أحد المتأخرين ما لا يفهمه بعض المتقدمين، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، ومن قرأ لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يجد أن الله قد فتح عليه من الفهم ما لم يجده عند كثير من الفقهاء المتقدمين، فهذا فضل من الله، وإن كان المتقدم له فضل تقدمه وعصره، فقد يكون من القرون الثلاثة المفضلة، لكن فضل الله بالفهم يمن به على من يشاء وإن تأخر عصره.
    2. ظهور الشيطان في صورة شيخ الإسلام وتلبيسه على بعض الناس

      ومن الأمثلة على هذا: أن شيخ الإسلام رحمه الله نفسه قال له بعض الناس: لقد كنا في طريق بعيد فوقع علينا كرب، فاستغثنا بك -يعنون: شيخ الإسلام رحمه الله- فجئت إلينا، وأنقذتنا، فقال لهم شيخ الإسلام رحمه الله: أنا لم آت، وهذه من تلبيسات الشيطان. فقال بعضهم: ربما يكون هذا ملك من الملائكة تصور بصورتك؛ لينفعنا وينقذنا، فقال لهم: هذا شيطان وليس بملك؛ لأن الملائكة لا يكذبون، وإنما الذي يدعي أنه فلان وليس هو؛ هو الشيطان.
      فالمقصود: أن مثل هذه الحالات تقع، ولو كان هذا مع غير شيخ الإسلام لقال ذلك الآخر: هذا من كرامتي، وهذا ملك تصور بصورتي وأنقذكم، وأمرهم بأن ينشروها، ويشهروها، ويدونوها في الكتب، ويثنى بها عليه.. إلى غير ذلك. ‏
    3. عدم تلبيس الشيطان على من وزن أموره بالشرع

      فالمقصود: أن العالم الرباني الذي يزن أموره ويضبطها بالشرع، وبما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لا يقع عليه التلبيس، وأما من عدا ذلك فيمكن أن يلبس عليه الشيطان في أي شيء، ولا يخرجه ذلك من باب الولاية، وهذا من عدل شيخ الإسلام عندما قال: إنه قد يكون فيه شيء من الولاية، ولكنه وقع في الخطأ، أو النسيان، أو التلبيس الشيطاني.
    4. الأدلة على أن الولي قد يخطئ

      ثم يعلل سبب كونه لا يخرج عن ولاية الله بذلك فيقول: (فإن الله تعالى تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه) أي: فقد يخطأ الولي، وقد ينسى، فلا يؤاخذ، ولا تسقط ولايته؛ لأن الله تجاوز عن هذه الأمة عن الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه، فقال تعالى: ((آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ...))[البقرة:285] إلى آخر تلك الآيات العظيمات في آخر سورة البقرة؛ التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: ( من قرأ الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة في ليلة كفتاه )، وهي من أعظم ما أنزل الله في كتابه الحكيم، وقد تضمنت واشتملت على أن الله لا يؤاخذ بالخطأ.
      يقول شيخ الإسلام: (وقد ثبت في الصحيح : ( أن الله استجاب هذا الدعاء، وقال: قد فعلت ) )، فاستجاب لأوليائه ولعباده الذين يدعونه بهذا الدعاء، ولا ينبغي لمؤمن أن تفوته هاتان الآيتان في كله ليلة، فإما أن تقرأها في صلاتك، أو أن تقرأها ما قبل نومك.
      يقول: (وفي صحيح مسلم عن ابن عباس (لما نزلت هذه الآية: ((إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))[البقرة:284]؛ دخل قلوبهم منها شيء لم يدخلها قبل ذلك شيء أشد منه) ) أي: في قلوب الصحابة، فهذا أمر عظيم: إذا كنا محاسبين على كل شيء مما أبديناه، أو أخفيناه، وهذا فيه مشقة، ( ( فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قولوا: سمعنا وأطعنا وسلمنا ) ) أي: لا تقولوا كما قال أهل الكتاب: (( سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ ))[النساء:46]، وإنما قولوا: سمعنا وأطعنا، وإذا انقدتم وأذعنتم لله رفع الله عنكم هذا.
      قال شيخ الإسلام: (فألقى الله الإيمان في قلوبهم، فأنزل الله تعالى: (( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ))[البقرة:286]) فلما أذعنوا أو آمنوا وسلموا رفع الله عنهم ذلك بفضله، فإذا قالوا: (( رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ))[البقرة:286]؛ قال الله تعالى: ( قد فعلت، وإذا قالوا: (( رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ))[البقرة:286]؛ قال: قد فعلت ).
      وقال تعالى أيضاً: ((وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ))[الأحزاب:5]، وهذا أيضاً دليل على فضل وسعة رحمته تعالى.
      (وثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وعمرو بن العاص رضي الله عنهما مرفوعاً: ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر ) )، ويريد شيخ الإسلام من هذا الدليل: أن أولياء الله وإن أخطأوا فإن الخطأ لا ينزلهم عن درجة الولاية، وهذا هو الإنصاف، ولكن أيضاً ليس معنى الولاية: أنهم معصومون.
      قال: (فلم يؤثم المجتهد المخطأ، بل جعل له أجراً على اجتهاده، وجعل خطأه مغفوراً له، ولكن المجتهد المصيب له أجران، فهو أفضل منه) له أجر على الاجتهاد، وأجر على الإصابة، وأما ذاك فإنما له أجر الاجتهاد.
    5. ضلال الصوفية في اتباعهم لما يقع في قلوبهم من الأمور

      يقول: (ولا يجوز لولي الله أن يعتمد على ما يلقى في قلبه بمجرد أن يلقى إليه؛ إلا أن يكون موافقاً، ولا على ما يقع له مما يراه إلهاماً، ومحادثة، وخطاباً من الحق) وهذه مشكلة الصوفية ، ومن ضل في هذا الباب؛ وهم كثير، فيقع في قلبه أمر من الأمور، أو يحدَّث بشيء في نفسه، أو يسمع هاتفاً بأذنه، فيظن أن الله كلمه، أو أنه ملك أمره الله أن يكلمه، ويقول له: هذا حلال، وهذا حرام، وهذا الرجل منافق وإن أظهر الإيمان، وهذا الرجل مؤمن وإن كان ظاهره الكفر مثلاً، فيعمل بذلك، ويبني عليه أن هذا هو الحق، وأن الله خاطبني به، كما لو كان قرآناً أو سنة، وهذا مشهور عند الصوفية ، ومن ذلك كتاب المخاطبات ، وهو كتاب مطبوعة متداول لـعبد الجبار النفري ، فإذا قرأت هذا الكتاب فإنك تشعر وكأنه مجموعة من الأحاديث القدسية ولكنها ليست مسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو نفسه يقول: قال لي الحق، وخاطبني الحق، وأوقفني الحق وقال لي! فهذا كليم جديد للرحمن تبارك وتعالى!
      فهكذا يعتقد هؤلاء الصوفية أنهم يمكن أن يكلَّموا، فيأتون بكلام طويل هو من كلامهم، وإذا قرأت الكلام فإنك تجد فيه آثار علومهم، فإذا كان هذا الرجل ممن تعلم وتفقه فإنك تجد فقهه ظاهر في هذا الكلام، وإن كان قد أخذ الطريقة عن شيخ معين، أو أذكار معينة فإنك تجد آثار علمه وذكره في هذا.. وهكذا؛ لأنه من كلامه نفسه، ومن شيطانه، وليس خارجاً عن ذلك، فهو يلقى إليه هذا الكلام، أو يجده في نفسه، أو يؤلفه، فيقول: خاطبني الحق، وألهمني الله بذلك، وهذا مزلق عظيم، وهو الذي جعل غيرهم يدعي النبوة، وجعل غيرهم يترقى فيدعي الربوبية ولكن بشكل مغلف، كما قال أصحاب وحدة الوجود والعياذ بالله.
      فلا يجوز للولي أن يعتمد على شيء من ذلك، وإنما الواجب عليه كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: (بل يجب عليه أن يعرض ذلك جميعه على ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فإن وافقه قبله، وإن خالفه لم يقبله، وإن لم يعلم أموافق هو أم مخالف؟ توقف فيه) ولا يعتمد على مجرد ما يلقى إليه.
    6. أصناف الناس في النظر إلى الولي

      قال: (والناس في هذا الباب ثلاثة أصناف: طرفان ووسط) وهكذا الخلق في جميع القضايا، فتجدهم طرفين ووسط، فمنهم من إذا اعتقد في شخص أنه ولي لله؛ وافقه في كل ما يظن أنه حدثه به قلبه عن ربه، فما دام أنه ولي، وأحبه في الله، ورأى عليه آثار الصالحين؛ فكل ما يقوله مسلم له، ومنهم من إذا رآه قد قال أو فعل ما ليس بموافق للشرع؛ أخرجه عن ولاية الله بالكلية، وهذا هو الطرف الآخر. وهكذا الناس دائماً طرفان ووسط، فطرف يقول: هذا الولي لا يخطأ أبداً، وطرف يقول: ما دام أنه قد خالف ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم في أمر من الأمور؛ فهذا ليس بولي مطلقاً، وأخرجه عن الولاية بالكلية، وكلا الطرفين خطأ.
    7. المذهب الوسط في تصنيف الناس للولي

      يقول شيخ الإسلام: (وخيار الأمور أوساطها وهو: ألا يجعل معصوماً ولا مأثوماً إذا كان مجتهداً مخطئاً، فلا يتبع في كل ما يقوله، ولا يحكم عليه بالكفر والفسق مع اجتهاده) وإنما يخطأ، وهذا فرق عظيم بين العلماء وبين السفهاء في الأحكام، فإن العالم نادراً ما يأثم في المسائل الاجتهادية؛ لأنه بمقتضى كونه عالماً ومجتهداً يعلم أن الإنسان يجتهد اليوم، ويقرر حكماً، ثم يبدو له بعد ذلك شيء آخر ويغير اجتهاده، فلو كان يؤثم فإنه أول ما يؤثم نفسه، هكذا العلماء، وأما السفهاء والجهلاء والمتطفلون على العلم فإنهم إذا وجدوا الخطأ أثموا به، وبدعوا، وضللوا، وكفروا؛ مع أن الاجتهاد كما ذكر الله تعالى، وكما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم مغفور فيه الخطأ، وهذا من رحمة الله تعالى؛ ولا سيما إذا كان الاجتهاد هذا لنصرة الدين، وإقامة الحق، والغيرة على محارم الله، والذود عن دين الله، فهذا وإن أخطأ في العمل فالدافع له، والنية والإخلاص التي من أجلها عمل العمل تشفع له، ويأخذ أجرها وإن فاته أجر الإصابة، ولا يفوته أجر الغيرة، والقيام للدين، والانتصار له.. فهكذا ينظر العلماء، وهكذا ينظر المجتهدون بعضهم إلى بعض.
      وأما من لم يكن كذلك فإنه كما ذكر الشيخ -رحمه الله- أحد رجلين: إما رجل يأخذ كل هذه الأخطاء ويقلدها تقليداً أعمى، وهذا لا خير فيه، ولا ينفع لا في علم ولا عمل، والصنف الآخر: هو الذي يتعصب، ولكن ضد الحق، فإذا بدر من عالم، أو مفتٍ أو قاضٍ، أو مجتهد، أو عابد خطأ فإنه يخرجه من الولاية، ويكفره، ويفسقه.
    8. اختصاص أهل البيت بشيء من الوحي والعلم

      ولما سئل علي بن أبي طالب (هل خصكم رسول الله بشيء من العلم؟ قال: لا)؛ وقد أظهر الرافضة هذا القول في عهده وهو ما زال حياً بأنه اختصهم بكتب خفية، وهي الكتب التي يظهرها الرافضة من زمان ويسمونها بـالجفر أو الجامعة أو غير ذلك؛ مما يدعون أن فيها العلم الباطن، والملاحم، وما يكون إلى قيام الساعة وغير ذلك.
      فقال علي : [ لا والذي خلق الحبة، وبرأ النسمة! ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء إلا فهماً في كتاب الله، وما في هذه الصحيفة ]، فأخرج لهم صحيفة فيها: فكاك الأسير، وبعض الأحكام مثل: ألا يقتل مسلم بكافر؛ وذلك على روايات مختلفة رواها البخاري في أكثر من ستة مواضع من الصحيح.
      فيقوله: (إلا فهماً في كتاب) أي: ليس لدينا علم زائد عن بقية الناس إلا أن يختصنا الله بفهم، فقد أفهم شيئاً لا يفهمه غيري من كتاب الله، كما فهم علي من قوله تعالى: (( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا ))[الأحقاف:15] أن أقل الحمل ستة أشهر؛ لأن الله قال: (( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ))[البقرة:233]، فإذا كانت الرضاعة حولين كاملين فإنها تكون أربعة وعشرين شهراً، فيبقى للحمل ستة أشهر، فهذا استنباط وفهم.
    9. عرض الولي ما يقع في قلبه على الشرع

      يقول: (ولهذا لما كان ولي الله يجوز أن يغلط؛ لم يجب على الناس الإيمان بجميع ما يقوله من هو ولي لله؛ إلا أن يكون نبياً، بل ولا يجوز لولي الله أن يعتمد على ما يلقى إليه في قلبه؛ إلا أن يكون موافقاً) أي: لما كان ولي الله يجوز عليه أن يغلط لم يجب على الناس الإيمان بجميع ما يقوله؛ لأن ذلك لا يكون إلا للأنبياء، فالذين يؤخذ كلامهم كله، ويسلم لهم أقوالهم كلها هم: الأنبياء، والأنبياء هم أعلى طبقة أولياء الله، فأعلى وأفضل أولياء الله هم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وهؤلاء هم الذين يسلم لهم كل قول يقولونه ولا يعترض عليهم في أي شيء، وأما من عداهم فإنهم يحاكمون إلى ما جاء به الأنبياء.
    10. عدم اتباع أحد في كل أقواله وأفعاله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم

      قال شيخ الإسلام: (والواجب على الناس اتباع ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم) (( وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ))[الشورى:10]، وأن يحكم الشرع، والذي يحكم الناس بمقتضى أقواله وأحواله هو رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ الذي بلغ الدرجة العليا في العبودية، وفي العمل وفي الجهاد، وفي الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وفي العلم بالله، وبأحكام الله، وبدينه، فكل من بعده تبع له، فهو الذي يحكم وحده.
      قال: (وأما إذا خالف قول بعض الفقهاء ووافق آخرين لم يكن لأحد أن يلزمه بقول المخالف، ويقول: هذا خالف الشرع) حتى ولو كان من كبار الصحابة، فليس هو الحكم والمرجع ما دامت المسألة خلافية، حتى ولو كان الناس قد اتفقوا على أن الآية الفلانية أو الحديث الفلاني هو دليل؛ لكن اختلفوا في فهم هذا الدليل؛ ولا يصلح لأحد أن يلزم الآخر بفهمه، ولا يجوز أن يفسق، أو يضلله، أو يبدعه؛ لأنه فهم ما لم يفهمه الآخر إذا كانت المسألة اجتهادية، وهذا أمر مقرر، وأفضل الناس وأعلم الناس -وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- لم يضلل بعضهم بعضاً ولم يفسق بعضهم بعضاً بناءً على ذلك، فقد اختلفوا في كثير من الأحكام، وفي فهم وتفسير بعض الآيات من كتاب الله، وكلهم يقر لأخيه بالفضل والاجتهاد والعلم، وكل منهم يحب الآخر، والاجتهاد حكمه من الله، فقد جعل العقول تختلف، وجعل هذا المورد العذب -وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم- يرده الناس، فمكثر ومستقل، وكل منهم يؤتيه الله من الفهم ما لا يؤتى الآخر؛ حكمه منه عز وجل.
    11. شؤم التعصب المذهبي

      فالمقصود: أن المجتهد قد يخطئ، ولكن إن أخطأ فإنه لا يكفر، ولا يضلل، ولا يبدع، ولا يفسق، وهذا من أسوأ ما ينتشر بين المتعصبين المقلدين الجهلة في جميع العصور، وقد كانت تقع معارك كبيرة بين الشافعية والحنفية مثلاً في خراسان ، و بلاد ما وراء النهر ، فيقتل فيها الجم الغفير، فمن أسوأ ما يكون أن هؤلاء المقلدين المتعصبين لا يكتفون بأن يخطئ بعضهم إمام الآخر، أو يخطئ بعضهم بعضاً، بل يصل بأحد الحال إلى أن يقدح في نية العالم، حتى إن بعضهم يضع أحاديث على رسول الله في الطعن على الشافعي إن كان حنفياً، أو في الطعن على الحنفي إن كان شافعياً؛ حتى كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعياذ بالله من هذا التعصب المقيت.
      وطالب العلم الذي يريد بعلمه وجه الله؛ يأخذ الحق أينما كان، وإن وجد الخطأ ورأى أنه لا بد أن يخطئ خطأ به، ولا يضره ذلك في شيء، أما أن يطعن في نية من قال به، ويتهمه، ويظن فيه ظن السوء من غير بينة؛ فهذا خروج عن العدل الذي أمر الله به، وهذه قواعد مهمة يحتاجها طالب العلم دائماً.
    12. اصطفاء الله للمحدَّثين من هذه الأمة وكبيرهم عمر بن الخطاب

      يقول الشيخ: (وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( وقد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في الأمة أحد فـعمر منهم ) )، والمحدث: هو الملهم، فيلقي الله تعالى الحق على قلبه ولسانه؛ فيقول الحق، وقد كان في الأمم قبلنا محدثون، والله تعالى قد اختار واصطفى هذه الأمة، ولا ريب أن اختيار الله واصطفاءه لها يدل على أن محدَّثها خير ممن قبلها، كما أن رسولها خير من الرسل قبله، وكما أن صديقها خير من الصديقين قبلها.. وهكذا.
      والمقصود: هنا المحدث الكامل، وإلا فمجرد أن يوافق إنسان الحق في كلمة، أو موقف فهذا يقع لكثير من عباد الله المؤمنين كل بحسب درجته، لكن الذي بلغ الغاية بحيث يسمى محدثاً هو عمر .
      ويقول أيضاً: (وروى الترمذي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر )، وفي الحديث الآخر: ( إن الله ضرب الحق على لسان عمر ، وقلبه، وفيه ) )، وأيضاً روى أنه قال: ( لو كان بعدي نبي لكان عمر )؛ لأنه محدث، لكن لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم؛ فهو خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين.
      يقول: (وكان علي بن أبي طالب يقول: [ ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر ] )، والمراد بالسكينة: الملائكة.
      يقول: (وقد ثبت هذا عنه من رواية الشعبي). ويريد الشيخ من هذا أن يرد على الرافضة ؛ لأنهم يشيعون أن علياً أكمل في التحديث من عمر ، فهذا الأثر من طريق الشعبي الذي يقول فيه الشيعة : إنه شيعي منهم، فـعلي يشهد هنا لـعمر .
      يقول: (وقال ابن عمر : [ ما كان عمر يقول في شيء: إني لأراه كذا؛ إلا كان كما يقول ] )، وهذا فضل عظيم من الله: أن يرى عمر الرأي فيوافق الحق؛ بخلاف غيره من العلماء أو الحكام المجتهدين؛ فإنه يخطئ ويصيب، وإنما العبرة بكثرة الخطأ والصواب والخطأ وارد على عمر لكنه نادر، ولا نقول: إنه لا يخطئ، والشيخ يريد أن يقرر هذه الحقيقة، وإنما كان رضي الله عنه مشهوداً له بأن رأيه يوافق الحق.
      يقول: (وعن قيس بن طارق قال: [كنا نتحدث أن عمر ينطق على لسانه ملك] ). وهذه العبارة مثل عبارة علي رضي الله عنه.
      قال: (وكان عمر يقول: [اقتربوا من أفواه المطيعين، واسمعوا لما يقولون؛ فإنهم تتجلى لهم أمور صادقة] ).
      (وهذه الأمور الصادقة التي أخبر بها عمر أنها تتجلى للمطيعين هي التي يكشفها الله لهم) وهي إلهام أو فراسة كما ذكر الشيخ فقال: (فقد ثبت أن لأولياء الله مخاطبات ومكاشفات) لكنها ليست من جنس مخاطبات ومكاشفات الصوفية ، فقد يلقي الله تعالى في قلبه، أو يبعث إليه من يكلمه ويكون هذا عين الحق، ويكون هذا من عند الله بمعيار ما جاء عن رسول الله، فيزن هذا بذاك.
      يقول: (فأفضل هؤلاء في هذه الأمة) أي: أفضل هؤلاء الذين لهم من الله التحديث، والإلهام، والمكاشفة، والمخاطبة (بعد أبي بكر هو: عمر بن الخطاب)؛ لأن خير هذه الأمة بعد نبيها هما أبو بكر و عمر .
      يقول: (وقد ثبت في الصحيح تعيين عمر بأنه محدَّث في هذه الأمة، فأي محدث ومخاطب فرض في أمة محمد صلى الله عليه وسلم فـعمر أفضل منه) وهذه قاعدة مقررة يجب ألا يخالف فيها أي مسلم: أن محدَّث، أو مخاطب، أو مكاشف أطلعه الله على بعض الأمور، أو أعطاه فراسة قوية؛ فإن عمر أفضل منه، وأعلى درجة.
    13. تحكيم عمر للشرع في كل أموره مع أنه محدَّث

      يقول: (ومع هذا فكان عمر يفعل ما هو الواجب عليه؛ فيعرض ما يقع له على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فتارة يوافقه، فيكون ذلك من فضائل عمر رضي الله عنه، كما نزل القرآن بموافقته غير مرة، وتارة يخالفه؛ فيرجع عمر عن ذلك) فما بالك بمن دونه، فـعمر له موافقات عظيمة تعد من فضائله، فكان يقول القول وينزل القرآن موافقاً لقوله، كما في أمر الحجاب، والمقام، وأسرى بدر ، وطلاق النساء وغيرها، ولا يبعد أن نقول: إن الأصل أن ما يلقى في قلب عمر يوافق الوحي، وليس شرطاً أن ينزل القرآن، ولكن يوافق ما هو الحق مما يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم أو هو الرأي الصواب في الأحكام الدنيوية، فما يراه عمر الأصل أنه هو الصواب؛ لأنه المحدث الكامل، ولا غرابة في ذلك، لكن مع هذا قد يخطئ وهو عمر ، ونعرف أنه أخطأ عن طريق الوحي.
      والمراد من هذا الكلام: بيان أنه لا يحق لأي ولي أن يعتمد على ما يحدَّث به، ويترك ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فكل شيء يحاكم إلى ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
    14. خطأ عمر في فهم صلح الحديبية

      ويقول: (وهذا كما رجع يوم الحديبية لما كان قد رأى محاربة المشركين، والحديث معروف في البخاري وغيره).
      وكذلك رواه أحمد بنفس الطول تقريباً.
      يقول: (فإن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر سنة ستة من الهجرة، ومعه المسلمون نحو من ألف وأربعمائة، وهم الذين بايعوه تحت الشجرة) وهم أيضاً الذين نزلت فيهم آية البيعة: (( إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ))[الفتح:10].
      قال: (وكان قد صالح المشركين بعد مراجعة جرت بينه وبينهم على أن يرجع في ذلك العام، ويعتمر في العام القادم، وشرط لهم شروطاً فيه نوع عضاضة على المسلمين في الظاهر) ومن هذه الشروط: أن من آمن وهاجر إلى المدينة فإنه يرد إلى قريش، ومن فارق دينه من أصحاب محمد فإن قريشاً لا ترده، وهذا في الظاهر فيه غضاضة، فكيف نرد الذي يؤمن ليعذبوه، ويفتنوه عن دينه، والذي يرتد عندنا لا يبالى به؟! فإن العكس هو الذي ينبغي، وكان هذا من غيرة عمر على دينه، وعلى الإسلام، وهذا في الظاهر، وأما في الباطن فأن من ارتد لا خير فيه، ولا مقام له بدار الإسلام، فليذهب حيث شاء، ولا حاجة لنا فيه، والحمد لله لم يهاجر أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة يريد وجه الله؛ ثم ارتد وعاد إلى قريش.
      وأما من آمن كيف يرجع إليهم؟ وقد جاء أبو جندل وأعيد إلى المشركين، فغضب عمر وثارت غيرته.
    15. الحكم المحصلة من صلح الحديبية

      وهذا فيه عدة حكم، ومن ذلك: أن هذا المؤمن مهما ابتلي وامتحن فإن في هذا تمحيصاً له، وزيادة في الإيمان، (( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ))[العنكبوت:2]، فلا تؤخذ الجنة هكذا من غير ابتلاء، ولا امتحان في الدنيا، (( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ))[البقرة:155]، ولو لم يكن من ذلك إلا الاستهزاء من الناس، وسقوط الإنسان من أعين كثير من الخلق إذا اهتدى وتمسك بدينه، فلا بد من تضحيات، ( ألا إن سلعة الله غالية ألا وإن سلعة الله الجنة ).
      فلما جاء أبو جندل مهاجراً هو وأصحابه لم يقبله النبي صلى الله عليه وسلم، وعمل بشروط قريش وردهم، وقريش تضطهدهم، فذهبوا وكونوا عصابة لقطع طريق القوافل، فآذوا قريشاً إيذاءً عظيماً، ولا تستطيع قريش أن تحاسب عليهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم ليسوا تحت حكمه، وهو لم يقبل منهم أحداً، ولا تستطيع أن تسيطر عليهم قريش؛ لأنهم كانوا هاربين في الجبال، وفي أماكن بعيدة.
      فالمهم: أن هؤلاء كانوا مما أظهر الله به صدق رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه معه، ومؤيده، ولن يضيعه كما قال صلى الله عليه وسلم، فإذا بقريش تأتي بنفسها وتطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبلهم، وتتنازل عن هذا الشرط، وأن يكفوا أذاهم عنها؛ حكمة من الله، فهذا الصلح كان فيه ما فيه من المشقة على المسلمين، وكان الله ورسوله أعمل بما فيه من المصلحة، (وكان عمر فيمن كره ذلك؛ حتى قال لرسول الله: ( ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قال: أليس قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ ) ) أي: لماذا نرضى بالشروط المجحفة؟ وقريش تشمخ بأنفها وتقول: أرغمناه على ألا يعتمر، وأن يذهب ويعود من العام القابل، وأن من آمن واتبعه من أبناء قبيلتنا فإنهم لا يهاجرون إليه، وأما من كفر فيرجع، وهي شروط ظاهرها الإجحاف.
      فكان المشركون يفتخرون بذلك، وهذا من إملاء الله، فلا يجوز للمسلم أن يغتر بإملاء الله لهؤلاء؛ ولهذا يقول الله: (( فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا ))[مريم:84]، وكثير من الناس يقول سبحان الله! كيف أن الله يمكن لهؤلاء! وكيف يملي لهم وكيف يمهلهم! وهذا من قصور البشر أما حكمة الله وعلمه فهو أعظم من ذلك بكثير، فلا تغرنك دائماً الأمور الظاهرة، فقد ترى شيئاً في ظاهره شر، ولكن في باطنه خير كثير؛ ولهذا يقول الله: (( فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ))[النساء:19]، فكره الصحابة ذلك، وجعل الله فيه خيراً كثيراً، ولا شك أن ثماره وخيراته كانت واضحة.
      ومن ذلك أن قريشاً إنما كانت تريد الدنيا، فبمجرد ما وضعت الهدنة وكتبت؛ انصرفت قريش لتجارتها ودنياها، وفي ذلك الوقت كانت حادثة مقابلة أبي سفيان لـهرقل ، فإن هرقل لما سأله عن نسبه وشرفه وغير هذا كان يجيب، ولم يجد مغمزاً ولا مطعناً، وعندما سأله كيف حروبه؟ وجد مطعناً فقال: يوم له، ويوم عليه، ونحن وهو الآن في هدنة، فلا ندري ماذا سيصنع، أي: قد يغدر بنا، فكان يتكلم عن هذه الهدنة.
      إذاً: فشيخ قريش وكبيرها وقائدها ذهب في تجارته إلى الشام ، وذهبوا إلى دنياهم، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد تفرغ لدعوة الله، ونشر دينه، فنفعته الهدنة؛ ولذلك لما دخلوا عام الفتح كانوا عشرة آلاف، ولو دخلوا تلك السنة لكانوا ألفاً وأربعمائة.
      يقول: (فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( إني رسول الله، وهو ناصري، ولست أعصيه ) ) أي: أن هذا وحي، ولكن عمر لم يتحمل ذلك، فقال: ( ( أفلم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت، ونطوف به؟ -يريد أن يحاج النبي صلى الله عليه وسلم- فقال: بلى، أقلت لك: إنك تأتيه العام ) )، فالنبي صلى الله عليه وسلم نبهه هنا إلى أن الوعد كان مطلقاً ولم يقيد بهذا العام، فالله إذا وعد رسوله فإن الوعد يظل على إطلاقه ما لم يقيد، كما قال تعالى: (( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ ))[الفتح:27]، ولم يذكر زمن ذلك.
      ورؤية يوسف عليه السلام: (( إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ))[يوسف:4] تحققت بعد أربعين عاماً، وهي حق.
      إذاً: فالوعد -وإن كان حقاً- لا ندري متى يكون تحقيقه إلا إذا جاء ذلك من عند الله.
      (فقال عمر : ( لا، قال: إنك آتيه ومطوف به ) ) يعني: بإذن الله، لكن ليس هذا العام، فأتى عمر إلى أبي بكر (فقال له: مثل ما قال للنبي صلى الله عليه وسلم) وهنا يظهر فضل أبي بكر على عمر ، وهما أفضل وخير هذه الأمة، لكن هنا يظهر فضل الصديق، (فرد عليه أبو بكر بمثل جواب النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه لم يكن قد سمع جواب النبي صلى الله عليه وسلم) فلم يكن معهم، ومع ذلك قال: [ يا عمر!! إنه رسول الله، والله ناصره، ثم قال: يا عمر ! أقال: في عامنا هذا؟ ]، وهذا دليل على أن الصديق أعلى درجة من المحدَّث؛ لأن الصديق هو يواطئ قلبه قلب النبي مواطئة تامة، ونعني به: الصديق الكامل، وأكمل الصديقين: أبو بكر ، وأما المحدث فهو أقل منه درجة، فقد يواطئ قلبه قلب النبي، وقد يخالفه.
      قال: (فكان أبو بكر أكمل موافقة لله وللنبي صلى الله عليه وسلم من عمر) ورجع عمر عن ذلك، وقال: في آخر الحديث في البخاري وغيره: [ فعملت لذلك أعمالاً ] يعني: عمل أعمالاً لذلك الموقف، فأعتق رقاباً، وتصدق، واجتهد في كثير من أمور الخير؛ ليكفر الله عنه خطأه في ذلك اليوم؛ مع أن ذلك كان غيرةً لله، ولم يكن لأجل حظ النفس، أو انتصاراً للرأي أو للهوى الشخصي، فحادثة الحديبية هذه مما خالف فيه المحدَّث الوحي.
    16. خطأ عمر في حادثة موت النبي صلى الله عليه وسلم

      والحادثة الأخرى؛ يقول: (وكذلك لما مات النبي صلى الله عليه وسلم أنكر عمر موته، فلما قال أبو بكر: إنه قد مات؛ رجع عمر عن ذلك).
      فهذه حادثة أخرى وهي: أنه لما مات النبي صلى الله عليه وسلم كان المفروض من عمر -وهو المحدث الملهم- أن يؤمن بذلك، ويسلم، فأخطأ في هذا الموضع وقال: والله! لا أجد الرجل يزعم أن محمداً قد مات إلا فلقت هامته بالسيف، إنه لم يمت، وإنما رفعه الله إليه وسيعيده إلينا، وتكلم بكلام ليس عليه دليل، وذلك من وقع المصيبة عليه رضي الله عنه، فما رده غير أبي بكر ، فأنكر عليه ذلك، وقرأ عليه وعلى المسلمين قول الله: (( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ))[آل عمران:144]، يقول عمر : [ فكأني لم أسمع هذه الآية إلا تلك اللحظة ].
    17. خطأ عمر في إنكاره مقاتلة مانعي الزكاة

      الموقف الثالث: لما بويع الصديق ، فالعرب لما بلغتهم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتد أكثرهم؛ إما ردة كلية كمن ادعى النبوة كـالأسود العنسي في اليمن ، أو كـسجاح في اليمامة ، ومن كان معها، أو ارتدوا عن شرائع من الدين، وهي ردة أيضاً؛ كما حدث ممن منعوا الزكاة، فارتدت العرب، وكفر من كفر من العرب كما جاء في الصحيح، فقام أبو بكر يدعو المسلمين لقتالهم أجمعين، فرأى عمر ألا يقاتل المانعين للزكاة؛ للشبهة، فهم يشهدون: أن لا إله إلا الله، ورأى أن يُبدأ بغيرهم، ثم بعد ذلك يتفرغ لهم، فقال أبو بكر : [ والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ]، ولما قال عمر : ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: ( فإذا قالوها -أي: شهادة أن لا إله إلا الله- عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها )؛ قال أبو بكر : [ فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً أو عقالاً كانوا يدفعونه لرسول الله لقاتلتهم عليه ]، فانشرح صدر عمر ، ووافق هو وباقي الصحابة على ما رآه الصديق ، فهذا موقف ثالث بين أن عمر -وهو المحدث الملهم الكامل- قد أخطأ ورجع إلى النص والوحي.
    18. تقدم أبي بكر على عمر في الأفضلية

      يقول: (ولهذا نظائر تبين تقدم أبي بكر على عمر ؛ مع أن عمر محدَّث، فإن مرتبة الصديق فوق مرتبة المحدَّث؛ لأن الصديق يتلقى عن الرسول المعصوم كل ما يقوله ويفعله) من غير أدنى ريبة أو شك، (والمحدَّث يأخذ عن قلبه أشياء، وقلبه ليس بمعصوم، فيحتاج أن يعرضه على ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم المعصوم)؛ ليرى مدى مطابقته وموافقته.
    19. مشاورة عمر للصحابة وخلافهم له مع كونه محدَّث

      يقول: (ولهذا كان عمر رضي الله عنه يشاور الصحابة، ويناظرهم، ويرجع إليهم في بعض الأمور) ولم يقل عمر : أنا إنسان محدَّث كامل وملهم، وقد ألقى الله الحق على قلبي ولساني، وشهدوا لي أنهم كانوا يظنون أن ملكاً يتكلم من فمي؛ لم يقل: ما دام أن الأمر كذلك فأي قول أقوله فلا بد أن تأخذوه، ولا يعترض أحد، وأي أمر آمر به فعليكم أن تنفذوه، لم يقل ذلك أبداً؛ لأنه أفقه وأعلم بدين الله من أن يقول ذلك، فقد كان يشاور الصحابة مع أن له رأياً معيناً.
      قال: (وينازعونه في أشياء، فيحتج عليهم ويحتجون) أي: ويحتج البعض على البعض بالكتاب والسنة؛ إذْ كان هو وهم مسلمين أن المرجع عند الاختلاف هو كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
      قال: (ويقررهم على منازعته) أي: لم يكن يقول لهم: لماذا تنازعوني؟ ولماذا تعارضوني؟ ولماذا تأخذون من كلامي وتتركون؟ (ولم يقل لهم: أنا محدث ملهم مخاطب، فينبغي لكم أن تقبلوا مني ولا تعارضوني)؛ لأنه كان يعلم ويعلمون أن المحدث قد يخطئ.
    20. ادعاء الولي وجوب اتباعه وعدم معارضته

      ثم يقول: (فأي أحد ادعى له أصحابه أنه ولي لله، وأنه مخاطب يجب على أتباعه أن يقبلوا منه كل ما يقوله ولا يعارضوه، ويسلموا له حاله من غير اعتبار بالكتاب والسنة؛ فهو وهم مخطئون، ومثل هذا من أضل الناس).
      أي: إذا اعتقد أحد ذلك فهو من أضل الخلق، والضلال إنما يأتي من مخالفة الكتاب والسنة، فإذا ظن في أحد أنه لا يمكن أن يعارض كلامه، ويقال: إنه يحدثه قلبه عن ربه، أو أن هذا يلقى إليه، وهو الحق مطلقاً من غير منازعة؛ فهذا من أشد أنواع الضلال.
      يقول: (فـعمر بن الخطاب أفضل، وهو أمير المؤمنين) أي: أنه يحكم ولايته الدنيوية فإنه يأمر، وهؤلاء ليس لهم ولاية على أتباعهم، وإنما هم معتكفون في معابدهم، أو في مساجدهم أينما كانوا، وليس لهم ولاية، وهناك فرق بين من يأمر وينهى في مقام الولاية، وبين من يأمر وينهى من غير ولاية وإنما هو مجرد إفتاء أو علم.
      يقول: (وكان المسلمون ينازعونه فيما يقول، وهو وهم على الكتاب والسنة، وقد اتفق سلف الأمة وأئمتهم على أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم).
      أي: فكل من عداه فإنه يؤخذ من قوله ويترك، وهذا من أعظم ما يوضح الفرق بين الأنبياء وغير الأنبياء؛ سواء كانوا أئمة وعلماء وفقهاء، أو كانوا خلفاء وحكاماً وأمراء، فإن الأمير له طاعة، والعالم له طاعة، والوالد له طاعة، والمعلم أو المؤدب له طاعة، والزوج له طاعة، وهكذا جعل الله لبعض الخلق طاعة باعتبار؛ لكن الذي يطاع مطلقاً، ولا يخالف أمره في أي شيء هو: الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما من عداه فإنه يطاع في طاعة الله، أي: ما لم يأمر بمعصية، فمن رفع أحداً من الأولياء أو العباد وجعله في هذه المنزلة فقد جعله بدرجة الأنبياء.
    21. عرض أقوال الأولياء وأعمالهم على الشرع

      إذاً: فضلال الصوفية الكبير في هذا الباب: أنهم يجعلون الأولياء في درجة الأنبياء، فلا يردون عليهم قولاً ولا حالاً، ويسلمون لهم في كل ما يعملونه.
      يقول: (فإن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم يجب الإيمان بجميع ما يخبرون به عن الله عز وجل، وتجب طاعتهم فيما يأمرون به بخلاف الأولياء فإنهم لا تجب طاعتهم في كل ما يأمرون به، ولا الإيمان بجميع ما يخبرون به).
      أي: أنهم قد يأمرون بما هو غير مأمور به شرعاً، وقد يخبرون بخلاف الواقع، أو بخلاف الحق، وأما الأنبياء: فإن خبرهم حق، وأمرهم ونهيهم حق.
    22. الأجر على الاجتهاد وبذل الوسع في حال خطأ الولي أو صوابه

      قال عن الأولياء: (بل يعرض أمرهم وخبرهم على الكتاب والسنة، فما وافق الكتاب والسنة وجب قبوله، وما خالفها كان مردوداً، وإن كان صاحبه من أولياء الله، وكان مجتهداً معذوراً فيما قاله، له أجر على اجتهاده، ولكنه إذا خالف الكتاب والسنة فإنه يكون مخطئاً، ويكون ذلك من الخطأ المغفور إذا كان صاحبه قد اتقى الله ما استطاع). فقد يكون اتقى الله، وظن أن ما يقوله من أمر، أو يخبر عنه من خبر؛ أنه هو الحق، فمثلاً: في باب الرواية لو أن أحداً حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً، واتقى الله في حفظه، ورواه كما حفظه؛ فإنه يؤجر على ذلك، لكن قد يكون أخطأ في الرواية، فكثير من العلماء والحفاظ من المحدثين يخطئ في الرواية؛ لكن لا يعني ذلك أنهم يحرمون الأجر، أو أنهم لا يؤخذ كلامهم مطلقاً، فكذلك الولي إذا تكلم أو تحدث عما يقع له، أو عما يكاشف وأخبر به؛ إذا اتقى الله واجتهد، وظن أن هذا فعلاً موافق لما جاء به الله، وأن الله تعالى أعطاه فراسة في أمر من الأمور، فاجتهد وقال: إن هذا الأمر كذا، ويجب أن يكون كذا، أو أخبر عن شيء حتى ولو كان الإخبار عن رؤية رآها في منامه، وظن أن رؤياه حق، وأنه لم يجرب على نفسه رؤيا كذب، فمثلاً: إذا نام على وضوء، وعلى ذكر الله، فرأى رؤيا صالحة حسنة، ورأى بعض التباشير والدلائل، فأخبر بها، وقال: سيكون كذا، فذلك لا يعني: أن الأمر سيكون كذلك قطعاً، فقد يقع على خلاف ما ظن واعتقد، وهذا لا يعني أنه ليس بولي، أو أنه كذاب ودجال، وكذلك لا يؤخذ كلامه وإن كان خطأ، فهو ولي، وذلك لا يقلل من درجته، ولكن لا يؤخذ كل كلامه، وله أجر الاجتهاد.
    23. تفسير قوله تعالى: (اتقوا الله حق تقاته)

      يقول: (فهذا إذا اتقى الله ما استطاع كان هذا حاله؛ لأن الله يقول: (( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ))[التغابن:16]، وهذا تفسير قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ))[آل عمران:102]، قال ابن مسعود وغيره: [ (حَقَّ تُقَاتِهِ): أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر ] أي بحسب استطاعتكم) فليس هناك تعارض بين قوله تعالى: (فاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) وقوله: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) أي: بقدر ما تستطيعون، فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، كما قال تعالى: (( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ))[البقرة:286]، وقال تعالى: (( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ))[الأعراف:42] وقال تعالى: (( وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ))[الأنعام:152].
    24. الإيمان بجميع ما جاءت به الرسل والأنبياء

      وقد ذكر الله الإيمان بما جاءت به الأنبياء في غير موضع، فلا يرد من أقوالهم شيء، قال تعالى: (( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ))[البقرة:136]، وذكر ذلك أيضاً في غير ذلك من الآيات، ومنها آية البر: (( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ))[البقرة:177] الآية، وقد تقدم فيما مضى شرحها وتفسيرها، وشرح دلالتها على موضوع الإيمان.
      إذاً: فهذا ما يؤمن به المؤمنون، وما يجب عليهم أن يسلموا به: أن يؤمنوا بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر، ويسلموا بكل خبر جاء به الله، أو رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما ما يقوله من عداهم فلا يدخل إلا تبعاً، فالعلماء والأولياء إذا أخذنا كلامهم وعملنا به فلأنهم يبلغون عن الله، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لا لأنهم يقولون ذلك استقلالاً من عند أنفسهم، فإنما يجب الإيمان بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    25. اتفاق أولياء الله على أنه لا يسوغ اتباع ما يقع في القلب من غير الرجوع إلى الشرع

      ثم يقول: (وهذا الذي ذكرته من أن أولياء الله يجب عليهم الاعتصام بالكتاب والسنة، وأنه ليس فيهم معصوم يسوغ له أو لغيره اتباع ما يقع في قلبه من غير اعتبار بالكتاب والسنة؛ هو مما اتفق عليه أولياء الله عز وجل). إذاً: فالشيخ قرر أولاً هذا الحق من الكتاب ومن السنة، ثم أتى الآن بدليل آخر، فيذكر أن الأولياء الذين هم أولياء على الحقيقة قد اتفقوا على هذا، ولا يمكن أن يكون أحد ولياً لله تعالى، ويقول: خذوا كلامي وإن خالف الآية أو الحديث، كما أن العلماء الفقهاء لا يمكن أن يرضى أحدهم ويقر بأن يؤخذ قوله وإن خالف الكتاب والسنة، ولو رضي بهذا وأقره لما عد من العلماء، ولو أن أحداً من الأولياء أيضاً قال ذلك أو أقره؛ لما عد من الأولياء أبداً.
    26. آثار الصالحين والأولياء في ضرورة الرجوع إلى الكتاب والسنة

      ثم إن هذا الكلام يريد الشيخ أن يقرر به الأتباع فيقول: (وأولياء الله لا يقولون هذا، والذي يقوله إما أن يكون كافراً، وإما أن يكون مفرطاً في الجهل، وهذا كثير في كلام المشايخ) أن ينبهوا إلى هذه الحقيقة؛ (كقول الشيخ أبي سلمان الداراني : [ إنه ليقع في قلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين الكتاب والسنة ] )، و أبو سليمان الداراني رحمه الله من أشهر العباد في هذه الأمة؛ الذين علت منزلتهم في العبادة، وأعمال القلوب، والتأمل والتفكر في ملكوت الله، وذكر الله تعالى، وقد شهدت له الأمة بذلك، وسيرته مشهورة عند الجميع.
      فـالصوفية كانوا يدعونه؛ لما فيه من العبادة، والاجتهاد فيها، وهذه الدعوة مردودة؛ لأنه في الحقيقة متبع، فهو الذي قال هذه المقولة واشتهرت عنه: ( [ إنه ليقع في قلبي النكتة من نكت القوم ] ) يعني: ما يأتون به من رأي أو حكمة، أو موعظة، أو عبرة، فيقع مثلها في قلبي، ( [ فلا أقبلها إلا بشاهدين ] ) يعني: تظل موضع نظر وتساؤل وتردد حتى يشهد لها شاهدان وهما: القرآن والسنة، فما شهدا له قبله، وما رداه رده، وهكذا يجب أن يكون العباد، لكن جاء بعدهم أناس ضلوا وانحرفوا، وهذا كثير، وهو رحمه الله من أعظم هؤلاء العباد. والداراني نسبة إلى داريا والنون زيادتها هنا غير قياسية، وهي قرية في بلاد الشام.
      ثم قال: (وقال أبو القاسم الجنيد) الجنيد: هو الذي يقال عنه: شيخ الطائفة، والذي ينتسب إليه الجميع، ويقولون: إنه شيخهم كما أن الأئمة الأربعة مثلاً شيوخ الفقه، والبخاري شيخ الحديث.
      (يقول الجنيد: (علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة) ) أي: يعلم أتباعه ومريديه كل من ينتسب إليه (فيقول: (علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث فلا يصلح أن يتكلم في علمنا، أو قال: لا يقتدى به) أي: فما وافقهما قبل، وما خالفهما رد، فهذا هو كلام شيخ الطريقة الذي يدعون فيه ذلك، وينتسبون إليه، ثم يخالفون هذا القول ويقبلون ما كان مناقضاً لصريح القرآن والسنة.
      يقول: (ويقول أبو عثمان النيسابوري : من أمّر السنة على نفسه قولاً وفعلاً؛ نطق بالحكمة) وهذه حقيقة، وهذا الكلام درر، وهو عين الصواب؛ لأن من فعل ذلك فقد اجتنب كل ما يعكر هذا القلب، والذي يعكر على القلب ويفسده هي الذنوب والمعاصي والبدع، فإذا ترك العبد الذنوب والمعاصي والبدع، وحكّم سنة النبي صلى الله عليه وسلم، واتبعها في كل ما يقول وما يعمل، وحفظ لسانه وجوارحه؛ فإن قلبه يصفو، فيقع فيه الحق، فيتكلم وينطق وبالحكمة.
      يقول: (وإذا خالف ذلك وأمر الهوى نطق بالبدعة)، وليس المقصود: هوى الشهوات، فالكلام هنا عن هوى الشبهات، فإذا أعجبته موعظة، أو أعجبه خبر، أو قصة، أو حادث عن الأولين، أو فتوى هويها وأمّرها وتحكمت فيه؛ فإنه ينطق بالبدعة، ويفعل البدعة، ويأمر وينطق بها.
      يقول: (لأن الله تعالى يقول في كلامه القديم: (( وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ))[النور:54]) يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم، فيلقى الهدى في القول والعمل.
      قال: (وقال أبو عمر بن نجيد : كل وَجْد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل) والوجد: هو الذي يجدونه في قلوبهم، أو الذوق الذي يجدونه عندما يعبدون، أو يهيمون في الخلوات، أو يذهبون إلى المقابر أو غير ذلك مما يفعله هؤلاء الصوفية ، يجد في نفسه وجداً معيناً.
      إذاً: فهذا من جملة ما يحتج به على هؤلاء: أن أئمتكم إنما يدعون إلى تحكيم كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    27. غلو بعض الناس في الاعتقاد في الأولياء

      يقول: (وكثير من الناس يغلط في هذا الموضع؛ فيظن في شخص أنه ولي لله) ومن هنا يبدأ الخطأ، (ويظن أن ولي الله يقبل منه كل ما يقوله، ويسلم له كل ما يفعل) ثم يظن أنه ما دام ولياً فلا يعترض عليه في شيء، فيؤخذ عنه كل شيء.
      يقول: (فيوافق ذلك الشخص له، ويخالف ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم) فهنا يقع الضلال فيتتبعه وإن جيء له بالدليل من الوحي المعصوم أن ما فعله ذلك الشيخ، أو ذلك الولي في نظرك، أو ما أفتى به باطل، بل إن كثير من الناس لا يكتفي بأن يعتقد بأنه ولي من الأولياء لا يخطئ، بل يظن و يعتقد أنه لو قال في قلبه: إن فلاناً يخطأ؛ فإن الشيخ الولي سيسلط عليه مصيبة، وهذا واقع كثير من الناس الآن، بل إنك إذا تكلمت وقلت: فلان أخطأ، أو فلان مخالف؛ فإنه يثور عليك ويقول: أكيد ستحل بك مصيبة، يعني: الولي سينتقم منك، ولو كان هذا الولي غائباً، بل ولو كان الولي ميتاً من قرون.
      ويقولون: هذا الولي قد جرّب أنه لا يعترض عليه أحد، أو يقدح في ولايته، أو يتكلم فيه إلا وتأتيه مصيبة؛ ولذلك إذا كانت الأم مثلاً أو الأب يعتقدان هذه الخرافات، والابن ممن فقهه الله، ونور قلبه بالتوحيد والعقيدة الصحيحة؛ فإنهما لا يسمحان لهذا الابن أن يعترض على أحد من الأولياء في البيت وهما يسمعان أبداً؛ لأنهما يخافان عليه، فإذا وقع له شيء مما قدره الله: كحادث، أو ضعف في الدرجات المدرسية، أو رسوب؛ فإنهما يرجعان هذا ويعلللانه: بأنك تكلمت في ذلك الولي، وقد نبهناك ونصحناك، فأبيت إلا الكلام في أولياء الله، فأصبحت هذه ألوهية وربوبية وليست مجرد ولاية كما يزعمون؛ لأن من كان هذا حاله، ومن كان هذا شأنه بحيث إنه ينتقم ممن يتكلم فيه أو يخالفه، وهو ميت أو بعيد؛ لا يكون إلا رب العالمين سبحانه وتعالى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (( قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ))[الأعراف:188]، فلا يملك لنفسه شيئاً وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يستطع أن يضر أحداً من الناس الذين آذوه بغير سبب مادي إلا أن يدعو الله عليهم؛ وأما هذا فلا يدعو ولا شيء؛ فهو ميت منذ زمن، فبمجرد أن أحداً يتكلم فيه فإنه يؤذيه، وهذا لا يمكن؛ وإلا لكان من تكلم في النبي صلى الله عليه وسلم، أو أبي بكر ، أو عمر ، أو عثمان ، أو علي -وهم أفضل الأولياء- يبتلى، ولا شك عندنا: أن من طعن في النبي، أو في الصحابة؛ فإن الله سينتقم منه في الدنيا أو الآخرة، لكن حتى هذا لا نعتقده كما يعتقد أولئك: أن بلوى معينة ستصيبه في ماله، أو في بدنه؛ لأجل هذا بالذات، وإنما نقول: إنه عرضة للعقوبة، وقد لا يعجل له شيء من ذلك وإنما يؤجل إلى يوم القيامة.
      وأما الانتقام عند هؤلاء من الشيخ أو الولي فهو نازل به تلك اللحظة، فيخافون عليه أن يقع تلك اللحظة؛ ولهذا لا يذكرون أحداً من الأولياء -كما يزعمون- ولا يتعرضون له إلا بالثناء والمدح والتعظيم، فإذا قال أحد إن فلاناً ولي؛ خافوا، فكل من ادعى الولاية قبلوه، ومن هنا دخل زنادقة، ومنافقون، وعباد شهوات، وكهنة، وسحرة؛ من باب الولاية، فيأتي المشعوذ الدجال الأفاك الشهواني ويقولون: إنه ولي؛ لأنه يقرأ القرآن، ويعافي الناس، فيصدق الناس أنه ولي، فلا يتكلم في حقه أحد أبداً، ويعتقدون أن له جنوداً من الجن يحضرون المجالس، ويسمعون من يغتابه أو يتكلم فيه؛ فينتقمون منه، أو يخبرون الشيخ والشيخ ينتقم.
      وبهذه الطريقة فرضوا على ضعاف العقول هيمنة عجيبة، فأصبح الإنسان يصدق بالخرافة والدجل والكذب، وتفسد عقيدته، ويعتقد أن أحداً غير الله يعلم الغيب، أو يطلع على أحوال الناس، أو ينتقم ممن يشاء بهذه الطريقة، فهذا المدخل الفاسد أدخلته الصوفية على الناس، وهم يظنون أن هذا من الولاية.
    28. اعتقاد أهل السنة في الولي الحق

      وأما نحن فنقول: إن الولي الحق هو كما ذكر الله: (( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ))[يونس:62-63]، وأعلى الناس ولاية أعلاهم توحيداً، فمن أخل بالتوحيد أو بشيء من لوازمه أو مقتضياته فلا حظ له في الولاية، فإن ظل في دائرة الإسلام العامة فهو من جملة أهل هذه الدائرة، وأما أن يعتقد في هؤلاء ما يعتقدون فهذا ضلال وباطل وإفك مبين؛ ولذلك يجب على كل مؤمن موحد عرف العقيدة الصحيحة، وعرف حقيقة الألوهية والربوبية: أن يبين ذلك للناس، وأن يعلمهم وإن كانوا آباءه، أو إخوانه، أو عشيرته، أو جيرانه؛ أن يبين لهم حقيقة التوحيد، وأن يصحح عقائدهم في هذا الباب؛ لأنهم لا تنفعهم طاعة ولا قربة إذا فسدت العقيدة والعياذ بالله.
      ومهما اجتهد المرء في الأعمال، ومهما اجتهد في العبادات؛ وكان يعتقد أن غير الله له ما لله عز وجل من خصائص الربوبية والألوهية؛ فإن ذلك لا ينفعه في شيء، بل إن حقيقة الإيمان: أن يعتقد العبد أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، وأنه لو اجتمعت الأمة على أن ينفعوه لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، ولو اجتمعت الأمة على أن يضروه لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، هذا ما يجب أن يعتقده المؤمن، ويعتقد العقيدة الصحيحة في أفعال الله، وقد قدر الله، وأن يدعو إليه، ويؤمن به.
      والولي الحق لله تعالى هو من كان على طاعة الله وتقواه، ولا يمكن لولي من أولياء الله أن يقر أو يرضى أن يتعلق به الناس، وأن يعتقدوا فيه شيئاً من هذه العقائد الباطلة.
      نسأل الله بمنه وكرمه أن يجعلنا من عباده المتقين، وأوليائه الصالحين.
      والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.