المادة كاملة    
إن لأولياء الله تعالى منزلة عظيمة عند الله تعالى، ودرجة منيفة، حباهم الله بها، ويسر لهم الوصول إليها، وبوأهم خيرها وثمرتها في الدنيا والآخرة، لكنهم مع ذلك بشر يصيبون ويخطئون، ويعلمون ويجهلون، فليسوا بمعصومين، وقد ضلت بعض الفرق فادعت العصمة للأولياء، وأنزلتهم منزلة أكبر من منزلتهم، وألبستهم ثوباً أكبر من حجمهم، فوقعوا في المحذور، وشهدوا بالكذب والزور.
  1. السبب في التنصيص على عدم ولاية الكافر والمجنون مع وضوح ذلك

     المرفق    
    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد:
    فقد لقد بقي في حديث الولاية أربعة أمور نستطيع معرفتها من خلال ما تقدم في معنى الولاية، ومن هم أولياء الله، وشرح حديث الولي، وهي واضحة في الحقيقة لمن تدبر ما تقدم، بل هي واضحة لكل مؤمن، لكن التنصيص عليها وذكرها تأتي أهميته من كون كثير من الناس -من الصوفية وأمثالهم- ضلوا وأضلوا في هذه الأمور، ومن ذلك: ولاية الكافر، أي: هل يكون الكافر ولياً لله، والمفروض أن هذا الأمر لا يخفى على أحد، ولكن مع ذلك هناك ضلال وقع عند كثير من الناس كما سنذكر إن شاء الله.
    وكذلك ولاية المجنون: هل يكون المجنون ولياً لله؟ وهذا أيضاً موضوع له سبب كما سنبين، وكذلك ما يتعلق بالأولياء: هل يجب أن يتميز الولي عن بقية الناس بأمور وشعائر ومراسم وعلامات، أم أنه يكون من جملة المسلمين في لباسهم وحياتهم الأخرى؟
    والمسألة الرابعة: هل الولي معصوم؟ أي: إذا قلنا: إن فلاناً ولي لله؛ فهل يعني ذلك: أنه معصوم، أم أن الأولياء ليسوا بمعصومين، وإنما هم من جملة عباد الله الصالحين الذين يكون منهم الخطأ، ويكون منهم الصواب، وأعلاهم درجة: الصديقون، ثم المحدثون كما كان عمر رضي الله عنه.
    وهل معنى كون الرجل محدثاً أنه لا يخطئ أيضاً، وأن كل قول أو رأي يقوله فهو حق؟ وما معنى المحدث؟ فهذه الأمور تتبين بها حقيقة الولاية أكثر إضافة إلى ما تقدم بإذن الله.
  2. ولاية الكافر

     المرفق    
    1. هل يكون الكافر ولياً لله تعالى

      المسألة الأولى: هل يكون الكافر ولياً لله تعالى؟
      هذا السؤال لا تخفى الإجابة عليه، فهو لا يكون كذلك؛ لقول الله تعالى: ((أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ))[يونس:62-63]، فمن كان عديم التقوى والإيمان فإنه لاحظ له في الولاية، وقوله تعالى: ((اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ))[البقرة:257]، فمن كان ولياً لله فالله وليه، ومن كان ولياً للطاغوت فالطاغوت وليه: ((فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ))[البقرة:98].
      فالكافرون هم أعداء الله، والله عدو لهم، فلا تجتمع العداوة والولاية، (( وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ))[فصلت:19]، فالله تعالى جعلهم أتباع الشيطان وحزبه، وأولياء الطاغوت، وأعداء الله، فكيف يكون لأحدهم حظ في الولاية؟! لا يكون ذلك أبداً.
    2. أخذ الصوفية من عباد النصارى والهند وغيرهم من الكفار

      وإذا كان الأمر كذلك فلماذا نحتاج إلى ذكر ذلك والتنصص عليه؟
      والجواب: لضلال وقع فيه بعض الناس، والضلال وقع من الصوفية الذين ظنوا أن بعض العباد من أهل الملل الأخرى -أي: الكفار- يمكن أن يكونوا أولياء؛ لذا نجدهم يذكرون ذلك في كثير من كتبهم؛ حتى نجد ذلك أحياناً في حلية الأولياء مع أن المؤلف أبا نعيم إمام محدث من أهل السنة والجماعة، لكنه يروي عنهم، فتجد الرجل منهم يذهب إلى عباد الهندوس ويظن أنهم أولياء، وقد يتحدثون عن بعض عباد النصارى أو رهبانهم بذلك، ويأخذون منهم الحكمة والمعرفة، ويظنون أنهم أولياء، وقد يتكلمون عن عباد لا يعلم ما دينهم، فيظنون أن الله يعبد بأي وسيلة، فكل من انقطع في مغارة، أو اعتزل في جبل، وأخذ يذكر الله ويتعبد ويسبح بأي نوع من الأنواع فهو ولي الله، وهو من المقربين؛ على أي دين كان، وإن كان يحب أهل الأديان جميعاً، ولا يميز ولا يفاضل بينهم، ولا يلتزم اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيظنون أن الأمر في هذا واسع.
    3. زعم بعض الصوفية أنهم يلزمهم اتباع النبي ظاهراً لا باطناً

      حتى إن بعضهم يقول: يلزمنا اتباع دين محمدٍ ظاهراً، ولا يلزمنا ذلك باطناً، يعني: أننا في الظاهر نصلي ونصوم مع المسلمين، وأما في الأحوال الباطنة والمعارف فيمكن أن نأخذ المعرفة عن طريق العارفين من البوذيين أو الهندوس أو النصارى أو ما أشبه ذلك، وأقرب مثال على ذلك -كما ذكرنا من قبل- ذو النون المصري ؛ فقد كان يذهب ويقابل العباد والرهبان في الأديرة، وفي المغارات، ويسألهم عن الحكمة، وعن المعرفة، وعن العبادة، وهم من عباد النصارى ، ومن أهل وحدة الوجود، أو الحلول، أو ما أشبه ذلك، وليسوا من أهل الملل الكتابية المعروفة، ومع ذلك يؤخذ كلامهم، ويقتدى بهم، وينتشر ذلك ويروج بين المسلمين، فيقول بعضهم: رأيت راهباً وسألته عن كذا، فقال لي: كذا! فهل كلام الراهب حجة؟ وهل يؤخذ بكلامه في معرفة الله، أو الدين، أو الإيمان؟ كلا؛ لا يؤخذ.
      فنقول لهؤلاء الصوفية وأمثالهم: إن ولي الله لا يكون كافراً أبداً، فمن كان كافراً فلا ولاية له بوجه من الوجوه، ولا يؤخذ عنه، ولا يتلقى منه، ومن زعم أن أحداً يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم إما ظاهراً وإما باطناً، أو في أي أمر من الأمور، واحتج أو استشهد بخروج الخضر عن شريعة موسى عليهما السلام؛ فقد كفر، فمنذ أن بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم والخلق كلهم مأمورون بالإيمان به، واتباع دينه وشريعته، ولا طريق إلى الجنة، ولا إلى معرفة الله، ولا إلى الحق إلا من طريقه صلى الله عليه وسلم، وما عداه فكل الطرق مسدودة، ولا تؤدي إلا إلى النار.
      فهذه من أعظم عقائد المسلمين، ومن اعتقد غير ذلك فليس من الإسلام في شيء ولو تابع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور، فمن اعتقد أنه يجوز الخروج عن شريعته في أمور أخرى فإنه لا يكون مسلماً قط.
      والمقصود: اعتقاد ذلك وتلقيه من غيره، وأما إذا ترك شيئاً مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فهو معصية منه وتقصيراً؛ فهذا حاله حال عصاة المسلمين المقصرين، وهم أكثر المسلمين إلا من رحم الله عز وجل، لذلك فإن حديث الولي يدل على الولاية الخاصة؛ لأن المؤمنين جميعاً أولياء لله.
      والولاية الخاصة تنال بالتقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، ولا شك أن الكافر غير داخل في شيء من الولايتين، فإذا كنا قد سلبناه الولاية العامة فكيف يكون من أهل الولاية الخاصة؟
      ومن ضلال الصوفية في هذا الباب أنهم يجعلون هؤلاء الرهبان وأمثالهم من أهل الولاية الخاصة؛ الذين يتلقى عنهم الدين، ويسألون عن الحكمة، وعن الزهد، وعن الورع، وعن التقرب إلى الله، وعن أمور لا يسأل عنها الأنبياء، أو من يفتي بميراث النبوة.
  3. لا يكون الطفل ولا من لم تبلغه الدعوة ولياً

     المرفق    
    يقول شيخ الإسلام رحمه الله في رسالة الفرقان: (وكذلك -أي: كما تقدم في موضوع ولاية الكافر- من لا يصح إيمانه وعباداته؛ وإن قدر أنه لا إثم عليه مثل: أطفال الكفار، ومن لم تبلغه الدعوة).
    يعني: أن أطفال الكفار -وإن قلنا: إنهم غير مؤاخذين كما في أحكام الدنيا، ومعلوم الخلاف فيهم في الآخرة- غير الكفار البالغين، ومع ذلك فحتى هؤلاء لا تدعى لهم الولاية، وكذلك من لم تبلغه الدعوة من الرهبان الذين يتعبدون ولديهم معرفة، وأحوال، وزهد، وعبادات وغيرهم؛ كل هؤلاء لا يكونون أولياء لله، وإن كانوا معذورين من جهة أنهم لم تبلغهم الرسالة، وغاية ما في الأمر أن الواحد منهم معذور، والمعذور غير المأجور، فهناك فرق بين أن نقول: إنه معذور؛ وبين أن نقول: إنه مأجور، أو إنه ولي لله، فلا يكون أحد من هؤلاء ولياً لله: لا الكافر، ولا الطفل الكافر، ولا من لم تبلغه الدعوة.
  4. ولاية المجنون

     المرفق    
    1. لا يكون المجنون ولياً لله تعالى والرد على من خالف ذلك

      ثم انتقل الشيخ إلى الموضوع الآخر وهو: ولاية المجنون فقال: وكذلك المجانين والأطفال. فهناك من يدعي أن المجنون ولي، وهذا كثير جداً، وأكثر ما جاء الضلال عند الصوفية هو من دعواهم: أن المجانين أو المجاذيب أولياء، وأن جنونهم بسبب ذكرهم، وأن حالهم يشبه حال الذاكرين إذا أقاموا حضرة وسماعاً تغنوا وطربوا، ثم صرع من صرع منهم؛ فصار مجنوناً يهذي، ويتكلم، ويتحرك، ويتكشف، ويتعرى كالمجنون، فيظنون أن الجنون درجة عليا من درجات الولاية، بل ربما فضل من يفعل ذلك ويقع له هذا الحال على الصحابة والتابعين، لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصاب بمثل هذا الحالة إذا ذكر الله عز وجل، ولم يكن الصحابة يضربون حتى يصرعوا، وتظهر منهم حركات غير إرادية، ويتكشفون، وهم أعظم الناس إيماناً وذكراً، فضلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
      فهؤلاء يخيل إليهم أن هؤلاء أفضل درجة من أولئك؛ لأن هؤلاء بلغ بهم الإيمان والتأثر بالذكر إلى أنهم يفقدون الوعي، فكأن هذا الذي فقد وعيه قد ارتقى إلى درجة أعلى من ذلك الذي لم يفقد وعيه.
    2. تحمل النبي والصحابة للواردات القلبية وكمالهم في ذلك

      وقد ذكرنا من قبل ونجمل الآن: أن أفضل الناس هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ الذين كمل لديهم التأثر بالواردات الإيمانية التي ترد على قلوبهم، وكمل لديهم التحمل لها، فهم يجدون من المعاني الإيمانية ما لا يمكن أن يجده أحد بعدهم؛ لكن لديهم من قوة التحمل ما يجعل الواحد منهم يقرأ القرآن، ويذكر الله، ويسبحه، ويتفكر في ملكوت السموات والأرض ولا يفقد وعليه. وأما من حصل له خلاف ذلك: كمن يحصل له ما يطلق عليه: واردات القلوب، والمعاني الإيمانية؛ فلم يتحملها فيسقط مغشياً عليه، أو سمع آيات في ذكر الجنة أو النار فلم يتحمل ذلك فسقط وأغمي عليه؛ فهذا ضعف عن التحمل، وهو مأجور إن شاء الله، وهذا دليل على الإيمان، لكن لا نفضله على من تحمل ذلك مع استوائهما في قوة الوارد، هذا المتحمل والصابر والقوي والمتماسك أفضل، لكن المشكلة هي في النوع الثالث؛ الذين لا يرد على قلب أحدهم إلا معاني غير إيمانية، أو ضلالات، أو بدع، أو أوهام؛ ومع ذلك لا يتحملها، ويظن الأتباع، أو من ضل فيهم وظنهم من أكابر الأولياء؛ أنهم أفضل حالاً من الصحابة أو التابعين فمن هنا جاء الضلال.
    3. ولاية المجانين عند الصوفية

      ومن قرأ في طبقات الشعراني وأشباهها فإنه يجد أن الولي هو المتعري، والمجنون، والمتكشف، والذي يأكل من المزبلة، ويرتكب الفواحش أمام الناس، ولا يحضر جمعة، ولا جماعة، فهو مجنون بمعنى الكلمة، فلذلك ذكر شيخ الإسلام رحمه الله هذا، وهم يظنون أن ذلك نتيجة الذكر والخوف، ويقولون في الثناء عليهم:
      مجانين إلا أن شر جنونهم             عزيز على أبوابه يسجد العقل
      فيمدحونهم بما ليس فيهم، فجنونهم ليس كجنون هؤلاء الذي عندهم أمراض عصبية، والعقل لا يستطيع أن يصل إلى سر جنون هؤلاء المجانين، فلو كان الأمر كذلك لكان أولى الناس بهذه الحالات وهذا الصرع وهذا الجنون هم أفضل الخلق، وأفضل الناس عبادة بعد الأنبياء وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ الذين فضلهم الله واصطفاهم من هذه الأمة المباركة المصطفاة.
      إذاً: فلا يكون المجانين ولا الأطفال أولياء لله بهذا المعنى، ولذلك يقول شيخ الإسلام: (وكذلك المجانين والأطفال؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ )، وهذا الحديث رواه أهل السنن من حديث علي ، و عائشة رضي الله عنهما، واتفق أهل المعرفة على تلقيه بالقبول، لكن الصبي المميز تصح عباداته، ويثاب عليها عند جمهور العلماء).
      أي: أن الفرق بين الذي سبق ذكرهم: أن الصبي المميز تصح عبادته، ويثاب عليها، كما هو القول الراجح عند العلماء، ومن الأدلة على ذلك: صحة الحج، والأمر بالصلاة؛ لأنهم إذا أمروا بذلك فلا يمكن أن يأمر الله بشيء عبثاً، ولا يؤجر عليه فاعله، وأصرح من ذلك ما جاء أن امرأة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ألهذا حج؟ قال: نعم؛ ولك أجر )، فمادام أن له حجاً فعباداته صحيحة، وإذا كانت عبادته صحيحة فإنه يؤجر عليها.
      وكذلك يعاقب الطفل المميز؛ ولو من باب العقوبات التأديبية التعزيرية في الدنيا، فهذا جانب يختلف فيه الطفل عن المجنون، والمهم في الذكر هنا هو المجنون؛ لأن هؤلاء الأولياء المزعومين هم مجانين، أو ممن يسمون: بمجانين الأولياء.
      قال: (وأما المجنون الذي رفع عنه القلم فلا يصح شيء من عباداته باتفاق العلماء، ولا يصح منه إيمان ولا كفر)، فلا يقال: إنه مؤمن، ولا يقال: إنه كافر؛ لأنه فاقد لمناط التكليف وهو: العقل.
      قال: (ولا صلاة ولا غير ذلك من العبادات)، ولهذا نجد بعض العلماء في الفقه يطيلون في هذه الأمور، فيذكرون في شروط الحج، أو الصلاة: الإسلام، والعقل، والتمييز، والبعض لا يذكرها؛ لأنه من البدهي أن يكون مسلماً؛ لأننا لا نتكلم إلا عن المسلمين، فالبعض يذكرها والبعض لا يذكرها فمن لا يذكرها، إنما ذلك لبداهتها ووضوحها؛ لأنه لا يخاطب بأحكام الله إلا من يعقل، وأما المجنون فالقلم مرفوع عنه، ولا تصح منه أي عبادة.
      بل يقول شيخ الإسلام: (بل ولا يصلح هو عند عامة العقلاء لأمور الدنيا كالتجارة والصناعة). أي: أن أهل الدنيا لا يولون المجنون تجارة، ولا صناعة، (فلا يصح أن يكون بزازاً، ولا عطاراً، ولا حداداً، ولا بخاراً) ولا أي عمل آخر.
      قال: (ولا تصح عقوده باتفاق العلماء، فلا يصح بيعه، ولا شراؤه، ولا نكاحه، ولا طلاقه، ولا إقراره، ولا شهادته ولا غير ذلك من أقواله، بل أقواله كلها لغو لا يتعلق بها حكم شرعي لا إيجاباً ولا سلباً، ولا يتعلق بها ثواب ولا عقاب؛ بخلاف الصبي المميز).
    4. اعتبار أقوال الصبي في مواضع دون أخرى

      فالمقصود: أن من كان هذا حاله فلا يمكن أن يكون ولياً لله تعالى بأي حال من الأحوال.
      يقول: (بخلاف الصبي؛ فإن له أقوالاً معتبرة في مواضع بالنص والإجماع، وفي مواضع فيها نزاع) أي: أن الصبي المميز يعتبر كلامه في مواضع، ولا يعتبر في مواضع أخرى، ويختلف الفقهاء في مواضع أخرى، فنعتبر كلامه في الرواية إذا كان ثقة وحافظاً ومتقناً، فلا نشترط في الصحابي أن يكون بالغاً إذا روى حديثاً ما، كما قال محمود بن الربيع : ( عقلت مجة مجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهي )، فهو يتكلم بهذا بعد أن بلغ، فلا نشترط في ذلك البلوغ.
      وتصح إمامته، كما أم عمرو بن سلمة بعض القوم، ولو جاهد لصح جهاده، وتقبل شهادة بعضهم على بعض، فإذا كانوا مجتمعين مع بعض ولا نستطيع معرفة حكم إلا عن طريق شهادة بعضهم على بعض؛ فتقبل، بخلاف شهادة الطفل فيما يتعلق بالعقلاء.
      فالمهم: أن الأطفال لهم أقوال تعتبر، وإن لم تعتبر بينات فهي تؤخذ كقرائن، وأما المجنون فلا تؤخذ منه قرينة، ولا تؤخذ منه بينة.
    5. رد أقوال المجنون ونطق الشيطان على لسان أحياناً

      يقول شيخ الإسلام: (وإذا كان المجنون لا يصح منه الإيمان، ولا التقوى، ولا التقرب إلى الله بالفرائض والنوافل، وامتنع أن يكون ولياً لله؛ فلا يجوز لأحد أن يعتقد أنه ولي لله؛ لا سيما أن تكون حجته على ذلك إما مكاشفة سمعها منه، أو نوع من التصرف).
      قوله: (مكاشفة سمعها منه)، أي: أن يقول: هذا المجنون ولي، فإذا قيل له: كيف عرفت أنه ولي؟ قال: لقد حدثني بأمر من أمور الغيب ما أخبرني به قبله أحد، فوجدت أن ذلك حق، أو حدثه بأمر يجهله المخاطب فصدقه، فإذا قيل: كيف تفسر إخباره بشيء لا يستطيع أن يعرفه حتى لو كان عاقلاً؟
      فنقول: إن الشياطين تكلمت على لسان المصروع، حتى إن الضرب الذي قد يضرب به من به مس وقد تلبس به جني؛ لا يقع على الآدمي، وإنما يقع على الجني، وهذا معروف مشاهد، ومن أنكر ذلك ممن يدعون أنهم أصحاب عقول، أو العقلانية؛ فهم أصحاب جهل، فهذا أمر معلوم قديماً وحديثاً أن الشياطين تتلبس بالإنس.
      وقد ذكر الله ذلك في القرآن، قال تعالى: (( الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ))[البقرة:275]، فهذا الذي يتخبطه الشيطان من المس قد ينطق بكلام لا ينطق به الإنس، ولو ضرب فلا يشعر بذلك الضرب الإنسي، وغير ذلك من الأمور، حتى إن الرجل الإنسي المصاب قد يكون من بلد ولا يعرف لغة غير لغة بلده، فإذا تلبس به الشيطان تكلم بلغة غير لغته، أو أتي بعلوم لا يعرفها ذلك المصروع، فنعلم أن ذلك ليس من علمه، ولا من كلامه.
      فهذا يدل على أنه لو أخبرك أحد من أهل الجنون عن أمر غائب فكان الأمر كما قال؛ فإنك لا تعتقد بناءً على ذلك أن هذا المجنون ولي؛ لأن الشياطين قد تخبر على لسانه بحق أو بباطل، ولذلك يكثر في مثل هؤلاء -القائلين بهذا القول- الضلال؛ لأن الشيطان المتلبس به قد يكون بوذياً، أو نصرانياً، أو يهودياً، فإذا تلبس بأحد من هؤلاء المجانين المزعوم أنه ولي وعابد من العباد، وأنه إنما جن من كثرة العبادة والذكر والتسبيح، وأخذوا يسألونه فربما أجابهم بكلام يقتضي الحلول، أو وحدة الوجود، تعالى الله عما يصفون، أو تصحيح شيء مما في الأناجيل مما هو كفر وتحريف، أو غير ذلك من الضلالات، فيؤخذ على أنه كلام مسلَّم وإن خالف القرآن والسنة.
      والله تعالى قد أغنانا عما يلقيه الشيطان إلى المجنون بما يلقيه الملك الروح الأمين على محمد صلى الله عليه وسلم، فعندنا الوحي من القرآن والسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف نقبل ما يخالف الوحي الذي نزل به الروح الأمين؛ على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، ووصلنا وبلغنا عن طريق التواتر، أو عن طريق السند الصحيح من السنة؟ كيف يمكن أن ندع هذا ونأخذ كلام مجنون؟!
    6. اضطراب أقوال المجانين بحسب ديانة الشيطان الذي ينطق على لسانه

      ومن الأدلة التي تبين ضلال هؤلاء: أن هؤلاء المجانين كل منهم ينطق بأقوال تخالف أقوال الآخر؛ لأن كل شيطان له رأي، فهذا شيطانه يدين بـالهندوسية ، وهذا بـالبوذية ، وهذا بـالنصرانية .. وهكذا فيتباينون، فالعاقل لو كان يميز ويرى لعلم أن هؤلاء لا يؤخذ منهم شيئاً مما يقولون، فليس في الأمر أكثر من أن الشيطان الكافر تكلم على لسان هذا الرجل، فكأنك بدلاً من أن تأخذ الكفر من إنسي عاقل فإنك تأخذه من إنسي يتكلم على لسانه شيطانه المتلبس به، فالكفر واحد سواء جاء من تلك الطريق، أو من غيرها، والإيمان والحق إنما يؤخذان من كتاب الله، وسنة رسوله الثابتة، ولهذا نجد أن الله جعلهما نقيضين لا يجتمعان.
    7. الفرق بين كلام الأنبياء والكهان

      وهذا بخلاف قول المشركين: إن هذا القرآن كلام شاعر، أو كلام كاهن، والكاهن معروف عندهم أنه تلقى من الشياطين، وهذا من أعظم ما رد به الكفار الإيمان بالوحي، فإنهم ظنوا أن الشياطين تتنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا ميز الله في آيات واضحة كثيرة بين الكلام الملقى من طريق الملك، وبين ما يلقى إلى الكاهن، وبين ما يقوله الشاعر، كما في قوله: (( وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ))[الشعراء:210-212]، أي: فيما يتعلق بالوحي وكلام الله فهم معزولون عنه، ومن سمع منه شيئاً فإنه يتبعه شهاب مبين، وقد وضع الله بعد بعثة النبي على السماء الحراسة المشددة، فكانت النجوم من قبل تتساقط في الحين، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم قوي هذا الأمر، وأصبح واضحاً جلياً يراه كل أحد، فتسقط على هؤلاء الكذابين المفترين.
      ثم قال بعد ذلك: (( هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ))[الشعراء:221-223].
      إذاً: فحال هذا غير حال هذا؛ فالأفاك الأثيم غير الطاهر الصادق الأمين، فالروح الأمين ينزل، وهو غير ذلك الشيطان، فالشيطان إنما ينزل على الأفاك الأثيم.
      ثم قال: (( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ))[الشعراء:224]، وهذا أيضاً لنفرق بين الشاعر، والكاهن؛ والرسول، وهناك وجه شبه وهو: أن كلاً من هؤلاء يتلقى، والشاعر قد لا يتلقى لكن لديه سبب خفي لطيف يقع له، فالله تعالى يوضح أن الفرق واضح، وهو: أن القرآن ليس بقول كاهن، ولا بقول شاعر، (( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ))[يس:69]، فالقرآن كلام الله يتنزل به الملك على محمد صلى الله عليه وسلم، (( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ))[الشعراء:193-195] فلا يمكن أن يدخله اللبس، وأما الكهّان فهم أفاكون آثمون دجالون وكان العرب إذا ذهبوا إليهم يخبئون خبئاً؛ حتى ينفق كذبهم، فيقولون للكاهن: خبئنا لك شيئاً، فيقول الكاهن: كذا، فإذا عرف ما خبئ سألوه، وقالوا: إذاً هذا عنده علم بالغيب.
      ويذكرون هنا قصة لا يهمنا سندها أو صحتها وهي: أن أبا سفيان أو غيره ذهب إلى أحد الكهان وقد خبأ حبة في إحليل أحد الخيول، فقالوا للكاهن: خبئنا خبئاً ما هو؟ قال: ثمرة في كمرة، قالوا: زد وضوحاً، قال: حبة بر في إحليل مهر. وهذا السجع طريقة الكهان دائماً، ثم بعد ذلك يسألونه عما يريدون، وهذا كثير في أخبار العرب وأشعارهم في الجاهلية أنهم يخبئون. وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مع ابن صياد ، فقد خبأ الدخان، فقال: ( دخ دخ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اخسأ، فلن تعدو قدرك )، يعني: إنما أنت كاهن دجال، وليس كما يزعم أنه يوحى إليه، ففرق كبير بين هؤلاء وبين الأنبياء.
    8. الفرق بين كلام الأنبياء وكلام الشعراء

      وأما الشعراء فحالهم في كل الأزمنة والعصور واحد، وحالهم يدل على أنهم ليسوا ممن تتنزل عليهم الملائكة، أو تحدثهم، أو تلقى إليهم، وسيأتينا موضوع التحديث أو الإلهام، فللملك لمة، وللشيطان لمة على قلب ابن آدم ، فهؤلاء ليس كلامهم من جنس ما تلقيه الملائكة؛ إلا من استثنى الله منهم: (( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ))[الشعراء:224]، إذاً فهم من أكثر الناس غواية إذا كان يتبعهم الغاوون.
      (( أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ))[الشعراء:225]، وهذا مما يفترق به كلام النبوة عن كلام هؤلاء، فاقرأ كلام أي نبي من أنبياء الله فإنك تجده لا يتناقض ولا يتغير، فهو حق كله، ويصدق بعضه بعضاً، ومهما كثر كلام الأنبياء فإنك تجده في موضوع واحد وهو: تحقيق العبودية لله ظاهراً وباطناً، وإصلاح وتزكية النفس، لكن لو نظرت إلى كلام الشعراء فإنك تجدهم في كل واد يهيمون، فيمدح أحدهم الشيء اليوم ويهجوه غداً، ويتكلم بكلام الفلاسفة في موضوع، وبكلام الساقطين في موضوع آخر، وبكلام الساسة في موضوع آخر، وبكلام العلماء في موضوع آخر، فيتكلم في أي موضوع، وكل ديوان شعر تجده أنواعاً وأخلاطاً، ولا يبالي أحدهم أن يذم ما مدح، أو أن يمدح ما ذم بالأمس فهذا وارد عنده، وهذا يدل على أنه ليس وحياً، وليس حقاً مطرداً إلا من استثناهم الله؛ لأنهم ربطوا قلوبهم بالوحي، (( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا ))[الشعراء:227]، لأن ذكر الله يزيل ما يلقى في القلب مما جاء في الحديث: ( لئن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه خيرٌ له من أن يمتلئ شعراً ) أي: من هذا الشعر الذي لا خير فيه، فذكر الله يجعل كلامهم وشعرهم حقاً. فالفرق واضح بين هؤلاء.
      والشبهة التي قد تدخل على بعض الناس ويجعلون المجنون ولياً هي المكاشفة، وأنه أخبر بأشياء، فنقول: إن هذا من جنس ما يلقيه الشيطان إلى الكهان.
      يقول شيخ الإسلام: (مثل أن يراه وقد أشار إلى واحد فمات أو صرع). وهذا طبيعي؛ لأن شيطانه المتلبس به عندما يشير إلى رجل آخر، فإنه يرسل جنداً من جنوده -ونحن لا نراهم- فيصرع ذلك الرجل، فيقولون: هذا ولي من أولياء الله.
      يقول: (فإنه قد علم أن الكفار من المشركين وأهل الكتاب لهم مكاشفات، وتصرفات شيطانيه كالكهان، والسحرة، وعباد المشركين، وأهل الكتاب).
      فهؤلاء لهم تصرفات شيطانية، ومما ذكره العلماء ومنهم شيخ الإسلام رحمه الله، وهو مذكور قبله في التاريخ: أن النصارى كانوا يستخدمون السحر في أعيادهم؛ حتى يبرهنوا للعوام على أن دينهم حق، فيجتمعون يوم العيد ويقولون: إن العذراء تتنزل، فيرسمون صورة، وهذه الصورة تكون من خيوط مدهونة بزيت، فإذا أشعل فإنه يتحول إلى نور، ولكن لا تأكله النار، فتظهر صورتها، فإذا اجتمعوا يأتي الراهب الساحر الدجال فيقدح فتشتعل، فتظهر الصورة، فيقولون: تنزلت علينا العذراء، وأمثال ذلك من الحيل التي هي من البشر، فما بالك بما كان من حيل الشياطين! فأي إنسان يستطيع أن يفعل مثل هذه الأمور إذا عرف سر خواص بعض المواد التي جعلها الله فيها؛ كأن تكون تشتعل أو لا تشتعل أو ما أشبه ذلك، فلو كانت العبرة بالمكاشفات أو المخاطبات أو نحو هذه الأمور لكان دين النصارى ، ودين اليهود حق والعياذ بالله، ونحن لا نشك أن هذا باطل.
      يقول: (فلا يجوز لأحد أن يستدل بمجرد ذلك على كون الشخص ولياً لله، وإن لم يعلم منه ما لا يناقض ولاية الله؛ فكيف إذا علم منه ما يناقض ولاية الله)! أي: لو كان لا يناقض الولاية كأن يكون من أهل الدين، ومن أهل الصلاة؛ لكنه يصرع فتتلبس به الشياطين فيقول أشياء من هذا القبيل؛ فلا تعتقد أنه ولي، فكيف إذا كان ممن يعتقد ما يضاد وينافي الولاية؛ كأن يكون ممن يترك الجمعة والجماعات، ويخالط الأجنبيات، ويتقرب ويتعبد بالسماع والدفوف وما أشبه ذلك في الحضرات، فهذا أصل مخالف للشرع، فكيف يظن أنه ولي في حال تلبس الشيطان به؟!
      يقول: (فمثل هؤلاء من لا يعتقد وجوب اتباع النبي باطناً وظاهراً) بل يعتقد أنه يتبع الشرع الظاهر دون الحقيقة الباطنة، كما يقول بعضهم: إن الناس يجب عليهم أن يتبعوا الشريعة في الظاهر، وأما في الباطن فيتبعون الحقيقة، فيميزون بين الشريعة والحقيقة، وبين الظاهر والباطن، أو يعتقد أن لأولياء الله طريق إلى الله غير طريق الأنبياء عليهم السلام، وهذا لا يمكن أن يكون ولياً لا في حال صحوه، ولا في حال جنونه من باب أولى.
      يقول: (أو يقول: إن الأنبياء ضيقوا الطريق، أو هم قدوة العامة دون الخاصة، وهذا كفر، ويريد أن يعبد الناس الله كما يشاءون؛ كما هو حال البوذيين وغيرهم ممن يرون أن المهم هو أن يتقرب إلى الله، وهذه هي دعوى الماسونية في العصر الحديث، فهي تتستر تحت ما يسمى بوحدة الأديان، وأن الأديان كلها حق، وأن الإنسان يعبد الله كما يشاء، وهذا كله باطل معلوم البطلان من الدين بالضرورة.
      قال: أو يقول: إنهم قدوة العامة دون الخاصة، وأما من بلغ درجة اليقين وأصبح يخاطب -أي: يكاشف- فلا يقتدي بالأنبياء في العبادة والعياذ بالله، وهذا قول كثير من الطوائف منهم غلاة الصوفية ، و الباطنية ، و القرامطة ، و المتفلسفة وأمثالهم الذين يرون أن الأنبياء وشرائعهم إنما جاءت للعامة، وأما الخاصة فعندهم الحكمة أو كلام الحكماء، فكل فرقة وطائفة لها دين ومصدر.
      وهذا يشبه من وجه ما يتردد الآن من أن الدين والإسلام واتباع النبي صلى الله عليه وسلم، والتمسك بسنته ظاهراً وباطناً يصلح للعصور القديمة أي: عصور ما قبل هذه النهضة الحديثة كما يدعون، أو التطور الصناعي الحديث، أو الحضارة الغربية، فما قبل ذلك يمكن أن يتدين الناس، وأما بعد ذلك فلا يصلح له هذا الدين، وقريب من هذا قول من قال: إن الدين للعامة دون الخاصة، والفرق أن هؤلاء يرون أن الخصوصية جاءت من الزمن ومن الحضارة، وأما أولئك فيرون أنه حتى في ذلك الزمن هناك عامة وهناك خاصة، وهذا كله كفر، وتكذيب لكلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يقوله أحد بذلك ويظل على إيمانه فضلاً عن أن يكون ولياً لله.
    9. عبادات المجنون حال إفاقته

      ثم قال: (والمجنون في حال إفاقته إذا عبد الله عبادة مشروعة كأن يصلي ويصوم ويتصدق؛ فإنه يقبل منه ذلك، ويثاب ويؤجر عليه، فإذا غلبه الجنون فإنه يرفع عنه القلم، وكذلك لو أفاق وعمل ما يلام عليه، أو يعاقب عليه، فإنه أيضاً يستحق الذم والعقاب إما في الدنيا أو في الآخرة، فقد جعل الله لكل شيء قدراً).
      فهذا من الحق، فالمجنون في حال إفاقته واستقامته يكون ولياً بالمعنى العام ما دام يؤدي الفرائض، أي: من عامة المؤمنين الذين هم أولياء الله، ولو كان هذا المجنون يتعبد إذا أفاق بالنوافل بعد الفرائض فإنه يكون من أهل الولاية الخاصة، ولايته جاءت من عبادته حال إفاقته، وهذا من العدل من شيخ الإسلام رحمه الله.
      وهناك حالة أخرى وهي ما يسمى: بالمتولّه، أي: أصحاب الوله أو المجاذيب، يقول الشيخ: (فعلى هذا فمن أظهر الولاية وهو لا يؤدي الفرائض، ولا يجتنب المحارم، بل قد يأتي بما يناقض ذلك؛ لم يكن لأحد أن يقول: هذا ولي لله، فإن هذا إن لم يكن مجنوناً، بل كان متولهاً من غير جنون، أو كان يغيب عقله بالجنون تارة ويفيق أخرى، وهو لا يقوم بالفرائض، بل يعتقد أنه لا يجب عليه اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فهو كافر).
      فأكثر ما يقوله الصوفية : إن هذا ليس بمجنون، أي: لم يتلبس به شيطان، ولم يصرع، لكن ذلك من شدة الوله كما يزعم البعض، والوله: هو شدة المحبة، وقد قلنا: إن حقيقة العبادة هي المحبة ودرجاتها، ومن هنا قيل: إن الإله بمعنى مألوه، أي: محبوب، فهو الذي يحبه الناس إلى حد الوله، لكن المقصود هنا معنى آخر، فالوله هنا يجعل صاحبه يفقد وعيه، ويغيب عن حسه، فهذا ليس مجنوناً صرفاً، وهو أيضاً ليس عاقلاً صرفاً، فإذا ذكر الله وسبح الله فإنه يفقد صوابه، فيصاب بهذه الحالة التي تسمى: الوله، فإن كان مجنوناً أو متولهاً على أي حال: فإنه إن كان في حال إفاقته مؤمناً متقياً لله عز وجل فهو في ذلك له ولاية، وإن كان في حال إفاقته فيه كافر أو نفاق، ثم طرأ عليه الجنون؛ ففيه من الكفر والنفاق ما يعاقب عليه، وجنونه لا يحبط عنه ما حصل منه حال إفاقته، كما أن جنونه لا يحبط عمله الصالح الذي عمله حال إفاقته.
      إذاً: فدعاوى الصوفية بأن الجنون علامة الولاية دعاوى باطلة.
  5. عدم تميز أولياء الله بميزة ظاهرة

     المرفق    
    المسألة الثالثة: هل لأولياء الله شيء يتميزون به في الظاهر؟ أي: هل لهم شيء مصطنع متكلف يتميزون به عن غيرهم؟ والجواب: أننا نعلم جميعاً أن المؤمنين أولياء الله المتبعون لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتميزون في الظاهر، وكلامنا هذا كله في التميز المصطنع الذي يمكن الإنسان أن يفعله، فنقول هل للمؤمنين تميز عن غيرهم من الناس؟ والجواب: نعم؛ مثل سمتهم العام، والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في مظهره: في لحيته، في لباسه، في كلامه، وذهابه، وإيابه، فلهم ما يميزهم ظاهراً، وهكذا المؤمنون أولياء الله جميعاً، وليس الأمر أن صنفاً منهم هم الأولياء، ولهم شعار خاص كما يقول أولئك، فعندهم أن الناس عامة فئة، وأما الأولياء ففئة معينة مخصوصة لها شعائر معينة، وتتميز بلباس معين، وهذا موجود، وليس لذلك أصل في الدين، فليس الولي هو الذي لابد أن يلبس عمامة لونها أسود مثلاً، ويلبس طرحة خضراء، وخرقة لونها كذا، وشكله ومرتبته كذا.. فهذا ليس من الإسلام في شيء، بل هو مما أحدث. ‏
    1. تواضع النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وعدم تميز البعض على الآخرين

      وإذا نظرنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام فإنا نجدهم أقل الناس تكلفاً، وهذه حقيقة عامة في كل شيء، ففي اللباس: إن جاءتهم الثياب من البرد اليمانية لبسوها، وإن جاءتهم الثياب المصرية لبسوها، وإن جاءتهم رومية لبسوها، فإن كان لأحدهم إزار لبسه، وإن كان له حلة لبسها، وإن لم يكن عنده إلا سراويل لبسها، فهم يعيشون بحسب الحال والحاجة، وكلهم مؤمنون، وكلهم أولياء لله عز وجل، ولا يتخصص طائفة منهم عن طائفة بشيء يميزهم ويكون بذلك من أهل مرتبة معينة.
      وأوضح مثال على ذلك: العسكريون، فيعرف أن هذا نقيب، وهذا عريف بالتميز الظاهر، فلم يكن للصحابة درجات وميزات ظاهرة يعلم بها أن هؤلاء من أهل بدر، وهم أفضل درجة، وهؤلاء من أهل الحديبية، وهم درجة ثانية، وهؤلاء من العرب آخر الناس إيماناً، وإنما كانوا أقل تكلفاً في كل شيء.
      بل كان الأعرابي كما في صحيح البخاري وغيره يأتي فيدخل إليهم في المسجد وهم جالسون فيقول: أيكم محمد؟! فهو لا يدري أين رسول الله صلى الله عليه وسلم من هؤلاء؛ لأنهم كلهم سواء، ومتقاربون ومتجانسون، وإن اختلفوا في شيء فاختلاف طبيعي، فهذا فتح الله عليه فاشترى بزاً، أو حلة جيدة في نوعها، جيدة شكلها، والآخر لبس السراويل ولم يجد غيرها، أو لبس كساء وحبة من صوف، أو نمرة؛ كوفد مضر الذين جاءوا مجتابي النمار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من سن في الإسلام سنة حسنه.. )، فجاء هذا بنمرة، وهذا بالبجاد، وهذا بصوف، وهذا بقطن، وكل يأتي بما يسر الله له، ولا يدل هذا على ميزة لذلك بهذا عن ذلك.
      وحصل فيما بعد شيء من التميز الذي قد يكون له نوع من الاعتبار، أو هو قريب من المباح، كما يذكر العلماء: أن القاضي لابد أن يكون متميزاً في لبسه مثلاً؛ حتى لا يطمع فيه الناس، أو يُظن أنه فقير فيرشى، أو غير هذا من الاعتبارات أو الاجتهادات التي رآها الفقهاء.
    2. بعض المميزات الظاهرة الباطلة الفرق

      وهناك أيضاً تميزات لا شك أنها باطلة ومن البدع، وهي التي يهمنا أن نذكرها هنا، كما يظن أن للأولياء ما يتميزون به، فـالبطائحية الذين ناظرهم شيخ الإسلام ابن تيمية يحملون أطواق الحديد على رقابهم، أو على أيديهم؛ حتى يعرف إذا ذهب إلى أي مكان، أو مشى في الشارع أن هذا من الأولياء، وبعضهم يتميزون بالخرقة، وكل طريقة لها خرقة معينة، ورتب وشارات، وهذه لم تكن معروفة إلا عند الأعاجم قبل الإسلام، ثم أخذها من انحرف من المسلمين تقليداً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لتركبن سنن من كان قبلكم؛ حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه )، فأخذوا منهم الرتب والشارات والعلامات الظاهرة؛ اتباعاً وتقليداً، وذلك بغض النظر عن درجتها من الحرمة والابتداع، فالمقصود: أنها أخذت ونقلت نقلاً من هؤلاء، وهذا فيما يتعلق بالدنيا.
      وأشد من ذلك ما يتعلق بالدين، فنجد أن البابا عند النصارى ، أو البطريك -الذي يسمونه الآن: البطريك، وأصلها البطريك- له لباس معين، وشعارات معينة، وشكل معين، ثم الأسقف الكبير، ثم تحته القس، ثم تحته كذا، وهكذا نجدهم درجات، فأتوا هؤلاء فجعلوا نفس الدرجات، ونفس الشعارات، ونفس الشارات، ويميز بينها، فـالرافضة -كما يرون في الحج والعمرة- يلاحظ الاختلاف في ملابسهم، فيلبسون إما عمامة سوداء أو بيضاء، فإن كانت عمامته لونها كذا فهو مجتهد، وهو من آل البيت، وإن كان لونها كذا فهو دون ذلك، وليس مجتهداً، وهذا الشعار في اللباس الظاهر ليس له أصل في الإسلام، وأحياناً نرى في وسائل الإعلام لباس أحبار اليهود عند حائط المبكى، فنجد أنه نفس لباس الرافضة ، فمشابهتهم لليهود واضحة، وذلك من اتباع أحوال وتقاليد من كان قبلنا.
      فأراد شيخ الإسلام بهذه الفقرة أن يقضي على هذا التميز الذي يراه بعض الناس، فالشيخ عندهم لابد أن يلبس بصورة معينة، وبحالة معينة، وبطريقة معينة، والذين تحته لهم شعار ولباس معين إن كانوا مقربين، وإن كانوا مجرد مريدين؛ فالمريد يمكن أن يلبس لباساً عادياً من جملة ما يلبسه الناس.
    3. خطأ جعل المباح فوق منزلته

      يقول رحمه الله: (وليس لأولياء الله شيء يتميزون به عن الناس في الظاهر من الأمور المباحات، فلا يتميزون بلباس دون لباس؛ إذا كان كلاهما مباحاً).
      والقاعدة: أن المباح إنما يكون مباحاً إذا عومل على أنه مباح، وأما إذا عومل على أنه واجب فهذا بدعة، وجاء الابتداع من جعل المباح واجباً، كما أنه يأتي من جعل الحلال حراماً، فلو جاء أحد وجعل هذا المباح حراماً كما حرم أهل الجاهلية الوصيلة والسائبة والحام وغيرها؛ فهذا فيه تحريم لما أحل الله، وهذا ابتداع عظيم في الدين، وقد بين الله ذلك في الحديث القدسي من حديث عياض بن حمار : ( كل مال نحلته عبداً حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم )، فهؤلاء أتوا بهذه البدع من السائبة والوصيلة وغيرها كما ذكر الله في القرآن، وكذلك قتلهم أولادهم بغير حق وما إلى ذلك.
      وحتى لو كان من المباح فجعلوه واجباً فهو أيضاً بدعة، وهو افتراء على الله، فما جعله الله مباحاً فهو مباح، ولا يجوز لك أن تجعله حراماً، ولا أن تجعله واجباً.
      فإذا كان اللباس مباحاً لا يصح أن نجعل هذا النوع لطبقة معينة، مثل أن نقول: إن البشت الأسود للكبار، وإذا كان بنياً فهو لطلبة العلم، فهذا الترتيب حرام وابتداع، ولكن ليلبس الإنسان ما شاء.
    4. التميز بحلق الرأس أو تقصير الأظافر وحلق اللحية وغيرها

      ويقول: (وأيضاً ولا بحلق شعر، أو تقصيره، أو ظفره إذا كان مباحاً).
      أي: ليس من العلامة أنه يحلق دائماً، أو أن لأظفاره شكل معين، أو ما أشبه ذلك، إذا كان في حدود المباح، فيعمل الجميع بالسنة بما يقصر كالأظافر، أو بما يعفى كاللحى، فعلى الجميع يجب أن يعملوا بالسنة الواجبة، أو يستحب لهم أن يعملوا بالسنة المستحبة، وإذا عكس ذلك وجعل شيئاً من هذا الواجب أو المستحب ميزة لأناس محرماً عليهم؛ فلا يصح، فبعض الصوفية عكسوا: فجعلوا حلق اللحية علامة على الصوفي، وحلقها حرام أصلاً، فجعلوا ذلك علامة للعباد وللأولياء، وهذا أشد ممن يحلقها على أنه تقليد، أو عادة، أو تشبهاً بالمردان، فهذا هو صاحب الكبيرة، أو المخالف لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، الواقع فيما نهى عنه، لكن إذا حلقها لتكون علامة على أنه من الأولياء كـالملامتية أو أمثالهم من الصوفية؛ فهذا أشد إثماً، وضرره أعظم في الدين.
      يقول: (ولهذا كما يقال: كم من صديق في قباء، وكم من زنديق في عباء).
      والقباء: هو الثوب العادي الذي يلبسه أكثر الناس، والعباء: هي الثياب التي يلبسها القضاة، أو العلماء، أو أهل الدين والخير، فاللباس يشترى، والشعر يمكن أن يطيله أو يحلقه أي شخص، وكذلك الظفر وغيره، فلو كانت الولاية تحصل بمجرد أي تميز ظاهر وما عداه ليس بولي -أي: بهذه القيود، ولا يفهم الكلام على غير وجهه- لكان الأمر أهون ما يكون، لكن الحقيقة غير ذلك.
    5. وجود الأولياء في جميع أصناف الأمة

      يقول شيخ الإسلام: (فأولياء الله يوجدون في جميع أصناف الأمة، فيوجدون في أهل العلم والقرآن، ويوجد في أولياء الله من هم من أهل الذكر، والفقه، والدين، ويوجد منهم في أهل الجهاد والسيف؛ الذي شغلوا أنفسهم بالجهاد، ولا لباس لهم يتميزون به، ويوجدون في التجار، فمن التجار من لا يفارق متجره إلا إلى مسجده، أو إلى بيته، وهو من أولياء الله في بيعه وشرائه وتصدقه، وكذلك الصناع؛ فقد يكون صانعاً يصنع الآلات وينتجها ولا يفارق ذلك إلا إلى بيته، أو إلى مسجده، وهو من أولياء الله في عمله، أو الزراع، أو ما أشبه ذلك).
      إذاً: فليس الأولياء فئة مخصصة من الناس، ولا يتميزون بشيء خاص بهم، فالأولياء من هذه الأمة هم المتقون، (( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ))[يونس:62-63]، فالمؤمنون إن كانوا عمالاً، وكانوا أطباء، أو مهندسين، أو فلاحين، أو سياسين، أو حكاماً، أو قضاة، أو علماء؛ إن كان فيهم تقوى الله، واتباع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فهم أولياء لله، وهذا من فضل الله وكرمه، فكيف إذا كانت الولاية ليست إلا لمن حصر نفسه وجلس في المسجد، أو قرأ أشياء معينة، ولبس ملابس معينة، فأين يذهب الآخرون؟! فلا يمكن ذلك، ورحمة الله أعظم من ذلك وأشمل.
      يقول شيخ الإسلام: (وقد ذكر الله أصناف أمة محمد في قوله: (( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ))[المزمل:20] إلى أن قال: (( عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ))[المزمل:20]) فقوله: (منكم) أي: من هذه الأمة القوامة المصطفاة من يضربون في الأرض -أي: تجار- يبتغون الرزق، إذاً: فالتجار قد يكونوا من هؤلاء، ((وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ))[المزمل:20]، إذاً فالمجاهدون قد يكونون من الأولياء.. وهكذا.
    6. الأوصاف المميزة عند السلف

      ولهذا استطرد الشيخ إلى ذكر الصفات المميزة، وليست مجرد شعارات، فقال: (كان السلف يسمون أهل الدين والعلم: القراء)، فكان مصطلح القراء يطلق على كل من يقرأ القرآن في عهد الصحابة، فلما خرجت الخوارج ، وكان كثير منهم من القراء، لكنهم كانوا يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، فكأن الناس أهملوا هذا اللقب حتى تخصص فيه من يجيد القراءة؛ بغض النظر عما فيه من صفات أخرى، لكن في أول الأمر كان القراء العباد يتميزون عن الأمة بصفة وهي: أنهم يقرءون القرآن، فالأمة كلها أولياء الله، لكن تميزوا بأنهم يقرءون القرآن، وهذه ميزة عظيمة ولا شك، والناس -والحمد لله- يعتبرونها ميزة إلى هذا الزمان، فيقولون: فلان قارئ لكلام الله.
      ثم ظهرت الصوفية فأصبحوا يلقبون الأولياء بـالصوفية ، فعندما يتكلم عن أصناف الأمة يقال: الأمة فيها العلماء، وفيها الفقهاء، وفيها الأصوليون، وفيها المؤرخون، وفيها أهل اللغة، وفيها الصوفية ، فصار مصطلح الصوفية مصطلح يطلق على أهل العبادة والذكر والورع، وأما الفقهاء فالفقيه إنما يفتي الناس، وقد يكون على أية حال من حيث العبادة، وهذا التقسيم خطأ، فقد حدث التمايز بين الأمة بهذا الشكل.
      ثم أصبح اسم الصوفية أو الفقراء محصوراً فيمن ينتظم في الطرق المعينة فقط، وليس في أي عابد، أو أي ذاكر، وهكذا يتغير ويتحدد الاصطلاح، والمقصود أن أولياء الله الحقيقيين لا يحصرهم شيء من ذلك، وأما الأوصاف الشرعية فإنها لا تعني الحصر أو التميز، بل كما تقدم في أول موضوع الإيمان: أن الألفاظ تختلف دلالتها عند الاقتران عنها عند الإفراد، فإذا قلنا: هؤلاء متقون، وهؤلاء مهاجرون، وهؤلاء مجاهدون، وعابدون؛ فهذه ليست متباينة؛ فإنها يمكن أن تقال وتطلق على فئة واحدة من عباد الله تكون هذه الصفات فيهم، لكن إذا قرنت فإنه يظهر التباين فيها كالإسلام والإيمان، فإذا قيل: هؤلاء مؤمنون ومجاهدون؛ فهمنا أن هؤلاء يشتغلون زيادة على الإيمان بقتال الكفار، لكن إذا قلت: هؤلاء مؤمنون؛ فإننا نفهم أن منهم المجاهد، ومنهم العابد، ومنهم الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، وطالب العلم وغير ذلك، وكذلك أهل الحق، أو أهل الدين، أو أهل السنة تشمل كل من كان على السنة حتى لو كان من العوام، وإن كان الأخص به هم العلماء العاملون بالسنة، لكن حتى العوام، وحتى أهل اللغة وأهل التاريخ إن كان أحدهم من أهل السنة ويؤرخ، وحتى الأديب إن كان أديباً وهو من أهل السنة والجماعة ، والكتّاب إن كانوا من أهل السنة ؛ فهم جميعاً من أهل السنة ، وكذلك القراء أو المهاجرون.
      فهذه الألقاب كلها صفات شرعية تدل على أن صاحبها محقق لهذه الشعبة من شعب الإيمان، أو هذا العمل، أو هذا الوصف من أوصاف المؤمنين، وليست شارة أو شعاراً يطلق على فئة معينة من الناس وإن كان فيهم من يخالف هذا الوصف، فهذا هو الفرق بين الحق وبين الدعاوى الباطلة، وإلا فقد يأتي بعضهم ويقول: نحن مجاهدون، ولا جهاد فيهم، وربما يكونون من أهل البدع، فالأسماء بذاتها لا تدل على الحقائق، لكن الأوصاف الشرعية إذا استحقها الإنسان أو الأمة أو الطائفة فإنها توصف بها، وقد يوصف الإنسان أو الطائفة بأكثر من وصف؛ لترادف تلك الأسماء.
  6. عصمة الولي

     المرفق    
    ‏ ثم استطرد الشيخ في هذا الموضوع وشرع في الموضوع الرابع وهو عصمة الولي، أي: هل يخطئ الولي؟ أو بتعبير آخر: إذا قلنا: إن فلاناً من أولياء الله فهل معناه: أنه معصوم لا يخطئ؟
    معلوم عند أهل السنة والجماعة وطلبة العلم أن المعصوم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن من عداه -ولو كان الصديق - ولو كان عمر وهو محدث رضي الله عنهم- فإنه يؤخذ من قوله ويترك، وإنما الغاية أن يكون كل أحد أقرب الناس إلى سنة المعصوم، فبمقدار قربه من امتثال أمر المعصوم يكون أقرب إلى العصمة، وأما أن يكون معصوماً؛ فلا أحد معصوم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    هذا هو المعلوم؛ لكن في واقع حال الأمة من الخلط، ومن الضلال، ومن الضياع الشيء الكثير؛ حتى أصبح من يدعون أنهم أولياء يأمرون الناس بالفحشاء وبالمنكر المخالف لما في القرآن والسنة، فيقول بعضهم: الشيخ أمرني، والولي أمرني، ولا يخالفونه بحجة أنه يخاطب ويكاشف، ومن هنا جاءت علاقة موضوع الولاية بالخطاب، لكن لابد أن تكون المكاشفة أو التحديث أو الإلهام متعلقة بالاستقامة، فالولي الحق هو من استقام على ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وكل أحد يوزن ويحاسب بما جاء به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
    وقد ضرب الشيخ مثلاً بـعمر رضي الله عنه، فقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه محدَّث فقال: ( قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن أحد من أمتي فـعمر )، فـعمر محدَّث، ويستحق أن يوصف بذلك، ومع ذلك لم يكن عمر يلزم الناس برأيه، أو بفتواه، أو بقوله، بل إن عمر له اجتهادات ومواقف خالف فيها الصواب، وأخطأ فيها وهو عمر المحدَّث.
    إذاً فأي ولي تفترضه بعد عمر فهو دونه، والخطأ عليه وارد، والمشكلة أن من يزعمون ويدعون الولاية في العصور المتأخرة أكثرهم زنادقة، وأكثر أعمالهم معاصٍ وفجور، فهم أبعد عن الولاية، كما أنهم هم أبعد شيء عن العصمة.
    ومن مواقف عمر التي أخطأ فيها: ما حصل منه عند قتال المرتدين وعند صلح الحديبية، وعند موت النبي صلى الله عليه وسلم، وفي قضايا كثيرة في الأحكام، والصديق أكمل منه في الولاية، ولهذا كان موقف الصديق يوم الحديبية هو الصواب، وموقفه يوم المرتدين هو الصواب، وقبل هذا كان موقفه عندما مات الرسول صلى الله عليه وسلم هو الصواب، وأما عمر فقد كان يقول: لم يمت، مع أنه قد مات: (( أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ))[الأنبياء:34]، (( وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ))[الأنبياء:34].
    إذاً: فأكبر وأعظم المحدثين في هذه الأمة الملهمين؛ الذين يوفقهم الله، ويجعل الحق على ألسنتهم ولمَّة الملك هي الغالبة عليهم؛ هو عمر ، قال علي : [ إن كنا لنرى أن الشيطان يهاب أن يأمر عمر بمعصية ]، ومع ذلك فليس معصوماً، إذاً: فما بالك بأي ولي من بعده، وأي إمام أو عابد أو زاهد أو أياً من كان في التقوى والإخلاص والإيمان واليقين؟ فلا بد أن له أخطاء ومخالفات، وأنه قد يقول الحق وقد يخطئه، وكونه مأجوراً على اجتهاده هذا أمر آخر، وهذا من حكمة الله؛ ليتميز رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عامة الناس، وليكون وحده المتبوع المتلقى عنه؛ الذي يطاع أمره كله، ويؤخذ عنه قوله كله، (( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ))[النجم:3-4].
    والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.