المادة كاملة    
لقد ضرب السلف أروع الأمثلة في استجابتهم لله ورسوله، فكانوا أولياء الله العالمين العاملين، فحفظ الله ذكرهم، وكان لهم ناصراً ومعيناً، وموفقاً ومسدداً، فكان منهم مستجابي الدعوة، ولو أقسم أحدهم على الله لأبره.
  1. استجابة الله تعالى لدعاء أوليائه وأمثلة على ذلك

     المرفق    
    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.
    أما بعد:
    فلا زلنا بعون الله في شرح ذلك الحديث العظيم الجليل القدر وهو حديث الولي، وقد وقفنا عند قوله: ( ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه )، وذكرنا ما ذكره الحافظ ابن رجب رحمه الله مما جاء في إجابة دعاء الولي، وهذا ثمرة من ثمرات الولاية: أن يكون للولي هذا الفضل، وهذه المنزلة، فإن سأل الله سبحانه وتعالى أعطاه، وإن استعاذ بربه تبارك وتعالى من شر ما يخاف أعاذه الله تبارك وتعالى.
    وقد ذكر الحافظ ابن رجب رحمه الله عدة قصص لعباد الله الصالحين الذين من الله تبارك وتعالى عليهم بإجابة الدعوة، فكان ذلك دليل ولايتهم لله تبارك وتعالى، وفي هذا تحقيق لهذا الحديث الصحيح، وذكرنا منهم قصة الربيع عندما أقسم أخوها أنس بن النضر رضي الله تعالى عنه ألا تكسر سنها، وكذلك قصة البراء بن مالك . ‏
    1. استجابة الله دعاء النعمان بن نوفل

      ثم بعد ذلك ذكر الحافظ ابن رجب رحمه الله قصة عن ابن أبي الدنيا أنه روى بإسناده: ( أن النعمان بن نوفل قال يوم أحد: اللهم أقسم عليك أن أقتل فأدخل الجنة، فقتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن النعمان أقسم على الله فأبره ).
    2. استجابة الله دعاء عبد الله بن جحش

      وذكر أيضاً أن أبا نعيم روى بإسناده: [أن عبد الله بن جحش قال يوم أحد: يا رب! إذا لقيت العدو غداً فلقني رجلاً شديداً بأسه، شديداً حرده، أقاتله فيك ويقتلني، ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك غداً قلت: يا عبد الله! من جدع أنفك وأذنك؟ فأقول: فيك، وفي رسولك، فتقول: صدقت، قال سعد -وهو الراوي-: لقد لقيته آخر النهار، وإن أنفه وأذنه لمعلقتان في خيط]. أي: استجاب الله تعالى دعاءه، فجاء من قتله، ومثل به؛ حتى إنه قطع أذنه وأنفه وعلقهما كما ذكر.
      وهذا ليس بغريب على من كان هذا حالهم من الأولياء، وهم الصحابة، فأفضل الأولياء في الدنيا بعد الأنبياء هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما هذا إلا غيض من فيض.
    3. استجابة الله تعالى لدعوة سعد بن أبي وقاص

      ثم ذكر ما كان من شأن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، ولا يخفى فضله رضي الله تعالى عنه، ولا مشاهده العظيمة وفتوحاته، ولا بلاؤه في سبيل الله عز وجل، ومشهور عنه رضي الله تعالى عنه أنه كان مجاب الدعوة.
      قال: (وكان سعد بن أبي وقاص مجاب الدعوة، فكذب عليه رجل، فقال: [اللهم إن كان كاذباً فأعم بصره، وأطل عمره، وعرضه للفتن، فأصاب الرجل هذا البلاء كله، فكان يتعرض للجواري في السكك ويقول: شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد] ).
      وهذا له قصة صحيحة ثابتة، وذلك عندما شكي سعد رضي الله تعالى عنه، ودائماً أهل الوشاية وأهل الحقد لا يخلو منهم زمان، فـسعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه وهو بهذه الدرجة والمكانة من الفضل؛ ومع ذلك وشى به أقوام ممن لا خلاق لهم إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وتعلمون قوة عمر رضي الله تعالى عنه في الحق، وشدة تحريه، فلا يمكن أن يرضى أن أحداً من ولاته يحتجب عن الرعية، أو لا يعدل بينهم، أو يفعل شيئاً من التهم التي تنسب إليهم، وقد اتهم عدد من ولاة عمر رضي الله تعالى عنه، وتظهر براءتهم جميعاً، وأنهم على خلاف ما يتهمون به، حتى أصبح من علامة تعديل الرجل، أو تبرئته من النفاق: أن يكون من ولاة عمر رضي الله تعالى عنه؛ لأنه لم يثبت على أي منهم تهمة، وقد كان منهم سعد رضي الله تعالى عنه، وربما كان أجلهم، وأشرفهم، وأفضلهم قدراً، فكيف يتهم؟!
      فأرسل إليه عمر رضي الله تعالى عنه، ثم وقف في المسجد يسأل الناس ويستشهدهم عن سعد رضي الله تعالى عنه، فقام هذا الرجل المفتون وغيره، فشهدوا عليه أنه لا يخرج مع السرية، ولا يعدل بالسوية، وكان من جملة ما اتهموه به أنه لا يحسن الصلاة، ولهذا كان يتعجب رضي الله تعالى عنه كما جاء في الصحيح فيقول: لقد رأيتني وأنا سابع سبعة في الإسلام -أي: من أول الناس إسلاماً-، وقد غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قرحت أشداقنا من ورق الشجر، وجعل يذكر سابقته وبلاءه وجهاده، وقال: والآن أصبحت بنو أسد تعذرني على الإسلام والصلاة! يعني أصبحت الأعراب الجفاة الذين لا سابقة لهم، ولا هجرة، ولا جهاد؛ ينتقدونني في صلاتي، وهذا من الابتلاء الذي تعرض له رضي الله تعالى عنه.
      فقام هذا الرجل وشهد شهادة الزور هذه، فقال سعد : اللهم إن كان كاذباً.. أما إن كان صادقاً فقد قال ما عليه، ويجب على الإنسان أن يشهد شهادة الحق، (( وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ))[البقرة:283]، فيشهد بالحق، وينكر المنكر، ولو كان على وال، أو أي إنسان، فلو أنه قال هذا بحق فلا شيء عليه.
      وإنما قام هذا الرجل رياء وسمعة؛ حتى يقال: قام فلان من بني فلان وتكلم في سعد ، وأبلغ في القول، قال سعد : فأعم بصره، وأطل عمره، وعرضه للفتن، نسأل الله العفو والعافية، فكان ما دعا الله به، فأعمى الله تعالى بصره، وأطال عمره، وهذا من سوء الخاتمة -نعوذ بالله- كما قال تعالى: (( إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ))[آل عمران:178]، فطال عمره حتى عمي بصره، وعرضه الله تعالى للفتن، فكان يخرج ويتلقى الجواري في سكك البلد، ويغمز هذه، ويتعرض لهذه، أي: كما نسميه الآن المعاكسة، وهو في هذه السن: رجل أعمى، كبير السن، ويفعل هذا الفعل، فهذا أقبح ما يكون -نسأل الله السلامة والعافية-، فإذا قيل له في ذلك قال: شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد ؛ لأنه يعلم أنه إنما قام ذلك المقام، وشهد تلك الشهادة زوراً وبهتاناً ورياء، ولم تكن لوجه الله تبارك وتعالى، نسأل الله العفو والعافية.
    4. استجابة دعوة سعد فيمن شتم علي بن أبي طالب

      وأيضاً سمع سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه رجلاً يشتم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فدعا عليه، قال الراوي: فما برح مكانه حتى جاء بعير ناد -والبعير الناد: هو الضال الشارد- فخبطه بيديه ورجليه حتى قتله؛ استجابة لدعائه رضي الله تعالى عنه.
    5. استجابة الله تعالى لدعاء سعيد بن زيد

      ومن هؤلاء أيضاً سعيد بن زيد ، فقد جاء في الصحيح أن امرأة نازعت سعيد بن زيد في أرض له، فادعت أنه أخذ منها أرضها، فتعجب كيف تنسب إليه تلك الفرية؛ وهو الذي يعلم قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين )، فدعا عليها وقال: [اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها، واقتلها في أرضها، قال الراوي: فعميت، فبينما هي ذات ليلة تمشي في أرضها إذ وقعت في بئر فيها فماتت]، فاستجاب الله دعاءه، فقد أعمى بصرها، وقتلها في أرضها، نسأل الله العافية.
    6. استجابة الله تعالى لدعاء العلاء بن الحضرمي

      ومنهم أيضاً: العلاء بن الحضرمي رضي الله تعالى عنه، قال بعضهم: كان العلاء بن الحضرمي في سرية فعطشوا، فقام فصلى، وهكذا المؤمن إذا كربه أو حزبه أو أهمه أمر فإنه يلجأ إلى الله عز وجل، وأما الذين لا يؤمنون بالله، ولا يلجئون إلى الله؛ فإنهم إذا أحاطت بهم الهموم إما أن ينتحروا، وإما أن يضجوا ويضجروا، وإما أن تضيق بهم الدنيا؛ لأنهم لا يجدون ملاذاً ولا ملجأ، أما المؤمن فلديه الملجأ والملاذ وهو: الدعاء، والتضرع إلى الله تبارك وتعالى.
      فلما عطشوا، واشتدت بهم الحال، وضاقت عليهم صلى وقال: اللهم يا عليم! يا حكيم! يا علي! يا عظيم! إنا عبيدك، وفي سبيلك نقاتل عدوك، فاسقنا غيثاً نشرب منه، ونتوضأ، ولا تجعل لأحد فيه نصيباً غيرنا، فساروا قليلاً فوجدوا نهراً من ماء السماء يتدفق، فشربوا وملئوا أوعيتهم، ثم ساروا، فقال بعض أصحابه بعد أن تقدموا: والله لأرجعن كي أرى موضع النهر، فلما رجع لم ير شيئاً، وكأنه لم يكن في مكانه شيء قط؛ لأنه دعا ألا يجعل لأحد غيرهم نصيباً فيه، فهو لهم، وعلى قدرهم، فتوضئوا وشربوا، فلما ذهبوا ذهب الماء وكأن الأرض لم يكن فيها شيء، فهذا طلب مخصوص لمن طلبه، ولا يشاركهم فيه أحد غيرهم.
    7. استجابة الله تعالى لدعاء أنس بن مالك

      ومن هؤلاء أيضاً: أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ هذا الفتى الأنصاري الذي شرفه الله عز وجل بخدمة خير خلقه وأشرفهم؛ محمد صلى الله عليه وسلم، فنال هذا الغلام هذا الشرف العظيم، وقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بطول العمر، والبركة في الولد، وكان -كما تعلمون- من أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً؛ لأنه كان يرى أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ويعاينها، فروى كثيراً من الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم، فشكا رضي الله تعالى عنه عطش أرضه في البصرة ، فتوضأ، وخرج إلى البرية -أي: الخلاء- وصلى لله تعالى ركعتين، ودعا، فجاء المطر وسقى أرضه، ولم يجاوز المطر أرضه إلا يسيراً؛ لأن المقصود هي أرضه، فقد دعا دعاء خاصاً، فاستجاب له الله تبارك وتعالى، وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء.
    8. عظم إيمان الصحابة، وثباتهم على الحق

      وأحوال الصحابة رضوان الله تعالى عليهم كثيرة جداً، وهذه مجرد أمثلة، ومع ذلك فمجموع ما نقل عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم في هذا الباب لا يعني أن فضلهم لا يتجاوز هذا، وأن قدرهم عند الله تبارك وتعالى هو بقدر ما نقل عنهم وإن كان كثيراً، فهو قليل إلى جانب فضلهم، فالصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا أعظم إيماناً، وأصدق وأعلى مقاماً من أن يثبت إيمانهم بالكرامات، والكرامات إن شاء الله سيأتي فيها باب مستقل بإذن الله. ومن أعظم فوائد الكرامات: تثبيت الإيمان في قلب المؤمن، والصحابة رضي الله تعالى عنهم أعظم إيماناً، وأجل من أن يحتاجوا إلى ما يثبت إيمانهم، ولذلك فهم لم يكونوا محتاجين إلى هذه الكرامات أو خوارق العادات الظاهرة، فقد أغناهم الله تبارك وتعالى عن هذا بما أعطاهم من الحقائق، والعلوم الباطنة، فإن الواحد منهم يكون راعي غنم أو راعي إبل لا قيمة له على الإطلاق: لا عند قبيلته، ولا عند أحد من الخلق، فيأتي فيسلم فتتدفق ينابيع الحكمة في قلبه، وعلى لسانه، فيأتي بالعجب العجاب الذي لم يصل إليه أحد من الخلق ممن لو تعلم وأفنى السنين الطويلة في تعلم علوم أهل الكتاب، أو علوم أهل الحكمة والفلسفة وما أشبه ذلك، فمن أين جاءهم هذا العلم؟ ومن أين جاءهم هذا النور في قلوبهم؟ فهذه كرامة عظيمة بسبب إيمانهم. فهذه الحقائق الباطنة عند الصحابة رضي الله تعالى عنهم أعلى درجة، وأعظم من الكرامات الظاهرة، ومع ذلك فقد أوتوا رضي الله تعالى عنهم من هذا ومن هذا؛ حتى يعلم من بعدهم أنهم أسبق الناس إلى كل خير، حتى في الكرامات أو خوارق العادات الظاهرة.
    9. استجابة الله تعالى لدعاء رجل من السلف في عهد أبي موسى

      وهو أبو موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه حدثت قصة في أيامه، وهو وال على البصرة ، وذلك أنه احترق خصاف بـالبصرة -وهو جمع خصف، وهو الذي يسمى الآن: العشة، فاحترقت لأنها عادة تكون مصنوعة من الخشب، فسرعان ما تحترق- فبقي في وسطها خصف لم يحترق، فقال أبو موسى لصاحبه: ما بالك لم تحترق؟! أي: أنه تعجب، والرجل مطمئن، والناس كل واحد منهم يخاف على خصفه، فقال له أبو موسى : ما لك؟ فقال: إني أقسمت على ربي ألا يحرقه، فقال أبو موسى : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( في أمتي رجال طلس رءوسهم، دنسة ثيابهم، لو أقسموا على الله لأبرهم )، فجعل ذلك الرجل من هؤلاء الذين لو أقسم أحدهم على الله لأبره كما جاء في حديث أنس المتقدم.
    10. إلقاء أبي مسلم الخولاني في النار، وعدم تأثره بذلك

      وكان أبو مسلم الخولاني مشهوراً بإجابة الدعوة، فعندما خرج الأسود العنسي وادعى النبوة؛ ألقى بـأبي مسلم الخولاني رضي الله تعالى عنه في النار، ففعل به كما فعل بإبراهيم عليه السلام، فأعطاه الله تبارك وتعالى آية أن النار لم تحرقه، فلذلك فرح به الصحابة، حتى كان عمر رضي الله تعالى عنه يقول: [ الحمد لله الذي أعطى واحداً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم مثل ما أعطى الخليل إبراهيم عليه السلام ]؛ فهذا شرف وكرامة لهذه الأمة، فكان له كرامات، وكان مجتهداً في العبادة رضي الله تعالى عنه، وكان مشهوراً بإجابة الدعوة قال: فكان يمر به الضب فيقول له الصبيان: ادع الله أن يحبس علينا هذا الضب، فيدعو الله فيحبسه؛ حتى يأخذوه بأيديهم فأصبح معروفاً حتى عند الأطفال أن هذا الرجل مستجاب الدعوة إجابة فورية وقتية، وهذا من فضل الله، (( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ))[المائدة:54].
    11. استجابة الله لدعاء أبي مسلم في المرأة التي خببت عليه زوجته

      ودعا على امرأة أفسدت عليه عشرة امرأة له، فقد كان له امرأة، وكان هو وإياها على أحسن حال، فجاءت امرأة نمامة واشية فأفسدت زوجته عليه، والنساء غالباً يستجبن للوشاية، فدعا على هذه المرأة التي خببت عليه زوجه فذهب بصرها في الحال. أي: دعا الله عليها فأعمى الله بصرها؛ حتى لا تعرف مرة أخرى أين تذهب، وكيف تسير، ولا تنقل النميمة والوشاية بين الخلق، فجاءت فجعلت تناشده بالله، فرحمها ودعا الله تبارك وتعالى فرد عليها بصرها، ورجعت امرأته إلى حالها معه.
    12. استجابة الله لدعاء مطرف بن عبد الله بن الشخير

      وأما مطرف بن عبد الله بن الشخير رضي الله تعالى عنه فقد كذب عليه رجل، (فقال له: [إن كنت كاذباً فعجل الله حتفك]، فمات الرجل مكانه).
    13. استجابة الله لدعاء الحسن البصري في رجل من الخوارج

      قال: (وكان هناك رجل من الخوارج يغشى مجلس الحسن البصري فيؤذيهم، فلما زاد أذاه قال الحسن: [اللهم قد علمت أذاه لنا فاكفناه بما شئت]، فخر الرجل من قامته، فما حمل إلى أهله إلا ميتاً على سريره).
    14. تعنت الخوارج في الأسئلة واستجابة الله دعاء الحسن في أحدهم

      من المعروف أن الخوارج ظهروا في الكوفة و البصرة ، وكانوا يأتون المجالس ويؤذون العلماء بالتعنت في الأسئلة، ويؤذونهم بشغل أنظار الناس في الحلقة عن الذكر وعن الخير، ويطعنون في العلماء في حلقاتهم، فكان عبد الله بن الكواء يتعنت مع علي رضي الله عنه في كل شيء، ويلح عليه في كل شيء، وهكذا -والعياذ بالله- دأب الخوارج ، حتى إن علياً رضي الله تعالى عنه لما ذكر الحديث العظيم في الذكر؛ لما ذهب هو و فاطمة رضي الله تعالى عنهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم وشكيا إليه التعب، فقال: ( جاءنا النبي صلى الله عليه وسلم ودخل بيننا في اللحاف، ثم قال: ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم؟ تكبران الله أربعاً وثلاثين، وتسبحان ثلاثاً وثلاثين، وتحمدان ثلاثاً وثلاثين ) الحديث المعروف، قال علي رضي الله تعالى عنه: [فما تركتها ليلة قط] فهو يحدث بنعمة الله عليه، فقال عبد الله بن الكواء : ولا ليلة صفين؟ مع أنه لو تركها ليلة صفين في وقت الحرب والمشاكل فلا شيء، فقال علي رضي الله تعالى عنه: [ ولا ليلة صفين ]، وجاء في بعض الروايات أنه قال: [ أنسيتها في أول الليل، ثم قرأتها من السحر ]، يعني: تذكرتها في آخره، فكان التعنت شأن الخوارج .
      فهذا الرجل كان يؤذي الحسن البصري رحمه الله في حلقته في المسجد، فلما كثر أذاه عليهم قال: [اللهم قد علمت أذاه لنا فاكفناه بما شئت]. أي: دعا عليه بدعاء الغلام صاحب الأخدود: ( اللهم اكفنيهم بما شئت )، فجعل الأمر مفوضاً إلى من بيده ناصية كل شيء، قال الراوي: فخر الرجل من قامته، وما حمل إلى أهله إلا ميتاً والعياذ بالله.
    15. استجابة الله تعالى لدعاء صلة بن أشيم

      ومن التابعين أيضاً صلة بن أشيم رضي الله تعالى عنه، وقد كان في سرية (فذهبت بغلته بثقلها وارتحل الناس) فإن ارتحل من غير دابته وحمْلها فكيف يذهب؟ وإن بحث عنها لم يجدها، (فقام يصلي فقال: [اللهم إني أقسم عليك أن ترد علي بغلتي وثقلها، فجاءت حتى قامت بين يديه]، ثم ركبها ولحق بالقوم)، وهذا دليل أيضاً على عظيم قدر هؤلاء، وأنهم مجابو الدعاء عند الله تبارك وتعالى.
      (وكان مرة في برية فجاع، فاستطعم الله -أي: دعا الله تبارك وتعالى أن يطعمه-، فسمع وجبة خلفه -أي: صوتاً أو حركة- فإذا هو بثوب أو منديل فيه دوخلة رطب طري -أي: إناء أو زنبيل من الرطب الطري- فأكل منه، وبقي الثوب عند امرأته معاذة العدوية وكانت من الصالحات) وصلة بن أشيم من تلاميذ حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
    16. استجابة الله تعالى لدعاء محمد بن المنكدر وأصحابه

      وكذلك محمد بن المنكدر رضي الله عنه، وقد (كان محمد بن المنكدر في غزاة، [فقال له رجل من رفقائه: أشتهي جبناً رطباً، فقال ابن المنكدر : استطعموا الله يطعمكم؛ فإنه القادر كل شيء، وعنده خزائن كل شيء تبارك وتعالى، فدعا القوم فلم يسيروا إلا قليلاً حتى رأوا مكتلاً مخيطاً، فإذا هو جبن رطب) في هذا المكتل المخيط، وإذا رطب من أفضل أنواع الرطب فأكلوا، (فقال بعض القوم: لو كان عسلاً! فقال ابن المنكدر : إن الذي أطعمكم جنباً رطباً هاهنا قادر على أن يطعمكم عسلاً؛ فاستطعموه، فدعوا فساروا قليلاً فوجدوا ظرف عسل على الطريق، فنزلوا وأكلوا] ).
    17. بيان الأصل في الدعاء

      ونلاحظ -وهذا يجب أن ننبه إليه- أن الأصل والأساس في الدعاء هو الاضطرار والافتقار، فالإنسان عندما يدعو وهو جالس منعم ومرفه فإنه يؤجر إن شاء الله على ذلك، والدعاء لا يترك على أية حال، لكن ذلك ليس كدعائه في حال الاضطرار والافتقار والضنك، كما دعا يونس عليه السلام، فلا ملجأ من الله إلا إليه، وتنقطع الحيل، وتنقطع السبل، وليس هناك منقذ، ولا مخلص، ولا منجا إلا أن يضرع إلى الله، ففي هذه الحالة يكون ذلك أرجى للقبول، وكذلك الانقطاع في مكان خال، وفي برية من البراري لا شيء فيها، وضياع الدابة بما فيها، مثل ذلك الرجل أيضاً الذي أضاع دابته، فهذه حالات اضطرار؛ ولهذا يقول تعالى: (( أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ))[النمل:62]، فالمضطر يدعو الله سبحانه وتعالى دعاء خالصاً بعبودية صادقة؛ لأنه قد انقطعت به الحيل، ولم يبق له ملاذ إلا الله تبارك وتعالى.
      فلذلك مما يجب أن يعلم -ونحن إن شاء الله تعالى في باب آت سنذكر الدعاء، وشروطه، وآدابه، وأن من أعظم مظان وأسباب إجابة الدعاء أن يكون عن اضطرار وافتقار، وشدة حاجة وكرب.
    18. استجابة الله تعالى لدعاء حبيب العجمي

      قال: (وكان حبيب العجمي أبو محمد معروفاً بإجابة الدعوة، فمر يوماً فوجد غلاماً طفلاً أقرع الرأس، أي: ليس عليه شعر، فجعل يبكي ويمسح بدموعه رأس الغلام) أي: أنه رثى له، وأشفق عليه، وحنا عليه لما رآه بين الأطفال وهو أقرع، والكل يزدريه ويحتقره، وينظر إليه نظرة لا ترضي ذلك الطفل، فأخذ يدعو الله تبارك وتعالى ويبكي؛ ليستمطر ويستنزل رحمة الله، ويمسح رأس الطفل بدموعه، (فما قام عنه حتى أسود رأسه إلا وعاد كأحسن الناس شعراً)، وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم: ( الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء )، فإذا تعامل الناس برحمة الله تبارك وتعالى، وإذا رحموا عباد الله رحمهم الله عز وجل، فالواجب على كل إنسان -وهذا من شيم المؤمن، وهو دليل على الإيمان في قلبه- أن يكون رحيماً عطوفاً شفوقاً على الضعفاء والمساكين، والمنقطعين والمحرومين، والذين لا يجدون من يقوم بشأنهم إلا الله عز وجل.
      (وأتي أيضاً حبيب العجمي برجل زَمِن في محمل)، أي: أنه رجل لا يستطيع الحركة، وقد أتي به محمولاً (فدعا له بأن يعافيه الله عز وجل، فقام الرجل على رجليه، فحمل محمله -أي: الذي جاء محمولاً فيه- على عنقه ورجع إلى عياله) وقد عوفي بفضل الله تبارك وتعالى، ثم بدعاء هذا العبد الصالح.
      (واشترى في زمن مجاعة طعاماً كثيراً، فتصدق به على المساكين) وهذا أيضاً جانب من جوانب الرحمة، فالراحمون يرحمهم الرحمن، ويكرمهم عز وجل، وهذا أمر مستفيض، فمما يقوي إيمان العبد أن يقول ذلك، فمن يرحم خلق الله عز وجل يرحمه الله، و(من فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه من كربات يوم القيامة) ما هو أعظم وأشد.
      فاشترى طعاماً كثيراً ووزعه على الفقراء، (ثم خاط أكيسة فوضعها تحت فراشه، ثم دعا الله تعالى) أي: أنه عاد إلى بيته فخاف من الدين إذا جاءوا ماذا يقول لهم، فصنع أكيسة، ودعا الله تبارك وتعالى، فلما جاء أهل الدين وأتى كل منهم يطلب دينه أخذ تلك الأكيسة (فإذا هي مملوءة دراهم، فوزنها فإذا هي قدر حقوقهم، فدفعها إليهم)، حتى أعطى كل واحد منهم دينه الذي عليه، وهذا من فضل الله عز وجل عليه.
      وكان هناك رجل يعبث به كثيراً، أي: من أهل الأذى، ومن السفهاء الذين لا يعرفون قدر العلم، ولا قدر أهل الخير والفضل، فهذا الرجل جاء يعبث بـحبيب العجمي ويتسفه عليه، فدعا عليه فأصابه البرص، نعوذ بالله.
      يقول: (وكان مرة عند مالك بن دينار ، فجاء رجل فأغلظ لـمالك ؛ من أجل دراهم قسمها مالك).
      أي: أن مالك بن دينار رضي الله تعالى عنه كان لديه دراهم، فقسمها ووزعها، فجاء هذا الرجل فأغلظ عليه كحال كثير من الخلق، ويقول له: لماذا أعطيت فلاناً؟ ولماذا لم تعط فلاناً؟ وأنا لم تعطني؟ مثلاً، فشدد عليه في القول حتى آذاه، (فرفع حبيب العجمي يديه إلى السماء وقال: اللهم إن هذا قد شغلنا عن ذكرك، فأرحنا منه كيف شئت، فسقط الرجل على وجهه ميتاً) نعوذ بالله.
    19. استجابة الله تعالى لدعاء رجال من السلف في الجهاد

      قال: (وخرج قوم في غزاة في سبيل الله، وكان لبعضهم حمار فمات وارتحل أصحابه، فقام فتوضأ وصلى وقال: اللهم إني خرجت مجاهداً في سبيلك، وابتغاء مرضاتك، وأشهد أنك تحيي الموتى، وتبعث من في القبور، فأحي لي حماري، فقام إلى الحمار فضربه، فقام الحمار ينفض أذنيه، فركبه ولحق أصحابه، ثم باع الحمار بعد ذلك بـالكوفة).
      فهذا أيضاً رجل من الصالحين وقعت له هذه الآية، وهي كتلك الآية التي جعلها الله تبارك وتعالى للرجل: (( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ))[البقرة:259]، وهذا الرجل الذي مر اسمه: عزير ، والقرية: بيت المقدس بعد خرابها، ويسمونه خراب أورشليم ، فمر بها وقال: (( قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ))[البقرة:259]، فالله تعالى يريد أن يريه أنه يحيي الموتى سبحانه وتعالى، ثم أراه كيف يحيي الموتى أمام عينه بأن أحيا له حماره، فوقع لهذا الرجل من هذه الأمة كما وقع لذلك.
      قال: (وخرجت سرية في سبيل الله فأصابهم برد شديد حتى كادوا أن يهلكوا) فهؤلاء من عباد الله الصالحين خرجوا إلى الجهاد، وهم من خير الناس، ومن أقرب الناس إجابة للدعاء؛ لأنهم تجردوا عن حظوظ أنفسهم وذواتهم، وخرجوا لله عز وجل، ويريدون وجهه، ويريدون الشهادة في سبيله، فدعاؤهم من أرجى وأفضل أنواع الدعاء، وأكثره قبولاً عند الله عز وجل، فلما اشتد عليهم البرد (دعوا الله تعالى وإلى جانبهم شجرة عظيمة، فإذا هي تلتهب ناراً)، أي: أوقد الله تعالى تلك الشجرة وأشعلها ناراً، (فجففوا ثيابهم، ودفئوا بها حتى طلعت عليهم الشمس فانصرفوا، وردت الشجرة إلى هيئتها).
      فهذه آية من آيات الله جعلها لعباده المؤمنين، وهذا مما يقع ولا غرابة فيه؛ لأن الله تبارك وتعالى كريم، ولأن الله عز وجل يغار على عباده المؤمنين أن يضعف إيمانهم في لحظة من اللحظات، فيفتح الله تعالى لهم من أبواب الخير، ومن أبواب الرجاء، ويعطيهم من هذه الخوارق ما يثبت به إيمانهم.
    20. استجابة الله تعالى لدعاء أبي قلابة

      (وخرج أبو قلابة صائماً حاجاً فتقدم أصحابه في يوم صائف فأصابه عطش شديد، فقال: اللهم إنك قادر على أن تذهب عطشي من غير فطر، فأظلته سحابة فأمطرت عليه حتى بلت ثوبه، وذهب العطش عنه، فنزل فحوض حياضاً للماء فملأها) وهو متقدم عن أصحابه، (فلما انتهى إليه أصحابه فشربوا، وما أصاب أصحابه من ذلك المطر شيء).
      أي: أن المطر جاء على قدره فقط، وله فقط، وهذه آية من آيات الله تبارك وتعالى.
  2. مقارنة الفضل بين الصبر والدعاء لمجاب الدعوة

     المرفق    
    ثم بعد أن ذكر الشيخ رحمه الله هذه الحوادث وغيرها، وهي موجودة في حلية الأولياء ، وفي صفة الصفوة لـابن الجوزي رحمه الله؛ استطرد إلى هل الأفضل لمن كان يعلم أنه مجاب الدعوة، أو أن الله تعالى يجيب دعوته: هل الأفضل له أن يدعو أو أن يصبر؟ وهل كان عمل السلف الدعاء أو الصبر؟
    يقول: (ومثل هذا كثير جداً يطول استقصاؤه، وأكثر من كان مجاب الدعوة من السلف كان يصبر على البلاء، ويختار ثوابه ولا يدعو لنفسه بالفرج منه.
    وقد روي أن سعد بن أبي وقاص كان يدعو للناس؛ لمعرفتهم له بإجابة الدعوة، فقيل له: [لو دعوت الله لبصرك وكان قد أضر -أي: ذهبت عيناه-، فقال: قضاء الله أحب إلي من بصري] ).
    فهم رضي الله تعالى عنهم كانوا يختارون الصبر فيما ينزل بهم هم، كما هو حال سعد رضي الله تعالى عنه، فإذا نزل بأحدهم مرض أو بلاء يعلم أن فيه رفعاً للدرجة، وزيادة في الأجر عند الله تبارك وتعالى، وتكفيراً للخطيئة؛ فهو يستحيي من الله -وإن كان يعلم أنه مجاب الدعوة- أن يسأل الله أن يرد ذلك البلاء أو ذلك المرض، ولا يعني ذلك أنه لا يدعو الله، وإنما يدعو الله أن يؤجره على ما أصابه؛ لما يعلم من أن الأجر على المصيبة خير وأفضل للعبد في كثير من الأحيان من دفع هذا البلاء، فلو مرض العبد المؤمن ودعا الله أن يؤجره على مرضه هذا؛ فإن الأجر الحاصل له أفضل من لو أنه شفي، فهذا اجتهادهم ووجهة نظرهم رضي الله تعالى عنهم، وأما إذا جاءه آخرون ورأى أن البلاء قد نزل بهم، وهو يستطيع أن ينفعهم بدعائه؛ فإنه يدعو لهم.
    إذاً: فلا نقول: إن السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم لا يدعون الله، وهذا إن شاء الله سيأتي في باب الدعاء وسنوضح ذلك، وسنذكر أن من قال: إنه لا فائدة من الدعاء، أو لا حاجة إليه؛ هم الصوفية ، فقد قالوا: إن الدعاء ضد القضاء، أو أنه يعارض الصبر والرضا بالقضاء، فلذلك فخيرٌ للإنسان ألا يدعو! وهذا باطل، قال الله: (( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ))[غافر:60]، وقال: (( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ))[البقرة:186]، فلا بد أن ندعو الله، ولا غنى لنا عن الله عز وجل لحظة واحدة، وأكثر الناس قرباً من الله أكثرهم دعاء له، وكما قال الشاعر:
    الله يغضب إن تركت سؤاله            وبني آدم حين يسأل يغضب
    فأي واحد من الخلق مهما كان كريماً؛ إذا أكثرت عليه بالسؤال كل يوم، أو كل شهر، وكررت عليه، فإنه يغضب ويأنف، ولا يريدك أن تكرر ذلك، ويبتعد منك، وأما الله تبارك وتعالى فإن محبته لك، وقربك عنده يزداد بمقدار ما تدعوه، وتلح عليه ولو في أمر حقير؛ حتى في شراك النعل، فالنبي صلى الله عليه وسلم أرشد أمته وعلمهم ذلك، وكان هو صلى الله عليه وسلم يدعو الله حتى حيثما وعده الله تبارك وتعالى، ولا شك في وعد الله؛ كما حدث في يوم بدر ، (( وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ ))[الأنفال:7]، والتقت الطائفتان، فأصبح لا بد من ذات الشوكة، فقد وعدهم الله إياها، ومع ذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم دعاء شديداً طويلاً حتى سقط رداؤه عليه الصلاة والسلام، وقال الصديق رضي الله تعالى عنه: [ خفف على نفسك يا رسول الله! فإن الله منجز لك ما وعد ].
    فالدعاء عبادة، والدعاء هو في ذاته قربة، فلا يتركها أحد من الخلق، لكن من ترك الدعاء من السلف وهو موقن أن الله سيستجيب دعاءه؛ تركه لهذا الاعتبار وهو: أنه إن أصيب أو أوذي أو ابتلي فإنه سيصبر ويحتسب، ويناله الأجر من الله تبارك وتعالى، وهو لا يترك الدعاء مطلقاً؛ لكن يترك الدعاء حتى يذهب عنه هذا البلاء، ويدعو الله تبارك وتعالى دعاء آخر، ومنه أن يدعوه أن يؤجره، وأن يعظم له أجره، وأن يكتب له ذلك العمل، كما ذكر الله تعالى: (( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ))[البقرة:155-157]، فمن كان يريد من الله الصلوات، والرحمة، والهداية التي عبر عنها عمر رضي الله تعالى عنه بقوله: [نعم العدلان، والعلاوة الثالثة ] فإنه يصبر على هذا البلاء إن كان في الأهل، أو في النفس، أو في المال، خوفاً أو جوعاً أو ما أشبه ذلك، فلا يدعو الله أن يدفع ذلك عنه، وإنما يدعو الله أن يأجره عليه، فهذا لا إشكال فيه إن شاء الله، وهو غير ما يراه الصوفية وأمثالهم ممن يقولون: إن الدعاء ينافي التوكل أو ينافي التفويض.
  3. نماذج من ترك الصالحين للدعاء

     المرفق    
    ولذلك ذكر عن بعض الصالحين أنه ابتلي بالجذام، (فقيل له: بلغنا أنك تعرف اسم الله الأعظم، فلو سألت الله أن يكشف ما بك، فقال: يا ابن أخي! إنه هو الذي ابتلاني، وأنا أكره أن أراده) فهذا يحمل على هذا المحمل أيضاً.
    1. ترك إبراهيم التيمي للدعاء عند حبس الحجاج له

      (وقيل لـإبراهيم التيمي وهو في سجن الحجاج : لو دعوت الله تعالى) وإبراهيم التيمي رضي الله تعالى عنه كان من أكثر التابعين عبادة وفضلاً، فيرجى أن يستجاب له، فطلبوا منه أن يدعو الله أن يفكه من أسر هذا الظالم الباطش الحجاج، (فقال: [أكره أن أدعو أن يفرج عني ما لي فيه أجر] ).
      فهو يقول: أنا أرى أن أجري واحتسابي هو في سجن هذا الظالم الفاجر الجبار الذي فعل ما فعل بخيار خلق الله في أيامه، وهذا خير لي من أن أطلق، وهذه من الأمور التي لا يدركها كثير من الناس ممن همه الدنيا فقط، فيظن أن غاية ما في الأمر أن يخرج من سجن الدنيا فقط، وهذا غير صحيح؛ لأن الحقيقة: أن العبودية هي عبودية القلب، والرق هو رق القلب، والأسر هو أسر القلب، فـإبراهيم رحمه الله لو أنه خرج فلربما ظل ملاحقاً، فيظل خائفاً أن يرجع، وأما الآن فهو في السجن وانتهى، فهو مطمئن، ويحتسب الأجر عند الله سبحانه وتعالى، وجنته في صدره كما قال شيخ الإسلام رحمه الله، فيذكر الله، ويحتسب الأجر حتى يفرج الله عنه هذا الهم.
      ولذلك كان السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم يدركون ما لا يدركه من بعدهم؛ ولا سيما من كانت نظرته نظرة أهل الدنيا البحتة.
    2. ترك سعيد بن جبير للدعاء عند قتله

      ومثله زميله ونظيره سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه، فقد قتله الحجاج ظلماً وعدواناً، قال: (فقد صبر على أذى الحجاج حتى قتله، وكان مجاب الدعوة) حتى إنه كان له ديك يقوم بالليل فيصيح -أي: يؤذن في الليل- فلم يقم في ليلة من الليالي ولم يؤذن، فلم يقم سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه إلى الصلاة، فقال: [ما له قطع الله صوته، قالوا: فما أذن الديك بعدها أبداً، فقالت له أمه: يا بني! لا تدع بعد هذا على شيء؛ لأنه إذا دعا على شيء وقع الدعاء].
      وقد بعث الحجاج في طلبه إلى مكة، فلو أنه -وهذا حاله- دعا الله لأفلت من عيون الحجاج ومن جواسيسه، أو لو أنه إذ قبض عليه دعا الله أن يفلت منه لما قتله، لكنه لم يفعل ذلك، واحتسب وصبر، ودعا الله تعالى دعوة عظيمة، فقال: [اللهم لا تمكنه من أحد بعدي]، ففدى المؤمنين بنفسه، فاستحيا أن يدعو الله ألا يمكنه من نفسه، ولكنه قال: أنا أمام الشهادة، لكنه أشفق على إخوانه المسلمين فقال: [اللهم لا تمكنه من أحد من بعدي]، فقتله الحجاج ، فلم يعش الحجاج بعده إلا بضع عشرة ليلة ثم هلك، ولم يقتل بعده أحداً، فاستجاب الله تعالى دعاءه، وكذلك يجيب الله دعاء عباده المؤمنين.
    3. ضيق العيش عند السلف وتعاملهم معه

      قال: (وكان حيوة بن شريح ضيق العيش جداً) وهذه هي حالة السلف على ما فيهم من عبادة، ومن إجابة دعاء، وكان من الواضح جداً في حياتهم الفقر، وضيق وشظف العيش، حتى إن الواحد منهم لا يجد ما يأكل، ولا يجد ما يطعم أهله، ولا يجد ما يقري به ضيفه، ومع ذلك صبروا على الدنيا، وتحملوا هذا، وأما نحن في هذا الزمان فقد أتخمنا من الشبع والترف والنعمة، والحمد لله، ولو انقطع شيء عنا لكان القنوط والجزع منا، نسأل الله العفو والعافية.
      فإذا تتبعت حياة العلماء وقرأت سيرهم فإنك تجد من أجلى الأمور في حياتهم الفقر والحاجة، وليس حاجتهم أن تكون عندهم الملايين، أو البحث عن الترف كما مر معنا، وإنما كانوا محتاجين إلى أن يأكلوا في ذلك اليوم فقط، ويريدون ماء يشربونه في ذلك اليوم، فكانوا يعانون من الفقر، ويعانون من الجوع.
      وخير خلق الله هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الإمام والقدوة في هذا، فإنه كان صلى الله عليه وسلم يعصب الحجر على بطنه من الجوع، وحدث في أيامه ما يطول ذكره من الجوع، وفي زمن الصحابة؛ ومع ذلك كانوا صابرين محتسبين الأجر في هذا، ولا عجب أن يكون هذا في أول الإسلام، فإن الجوع كان عاماً، والحاجة كانت عامة، لكن منذ أن فتح الله تبارك وتعالى الفتوح في أواخر أيام أبي بكر ، ثم في أيام عمر ، ثم اشتد ذلك في أيام عثمان رضي الله تعالى عنه فما بعده؛ أغنى الله تعالى هذه الأمة، حتى بلغ دخل الفرد فيها أعلى دخل يمكن أن يكون في العالم؛ من الفتوحات التي فتحها الله تعالى عليهم.
      وفي أيام عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه كان عماله يطوفون بالصدقة فلا يجدون من يأخذها، فكانت الأمة في حالة ترف، وفي حالة شبع، ومع ذلك كان كثير من العلماء والعباد من السلف في حالة فقر، من التابعين وتابعيهم؛ حكمة من الله تبارك وتعالى وإعراضاً منهم عن الدنيا، ولم يكونوا يسألون الدنيا أو يحرصون على طلبها.
      وكان منهم: حيوة بن شريح رضي الله عنه، (فقيل له: لو دعوت الله أن يوسع عليك) في الدنيا، فهم يرون أنه مجاب الدعوة، فأراد أن يريهم أنه صابر رضي الله تعالى عنه؛ (فأخذ حصاة من الأرض فقال: [ اللهم اجعلها ذهباً، فانقلبت في يده تبراً -أي: ذهباً نقياً-، وقال: ما خير في الدنيا إلا الآخرة ]، ثم قال: [ هو أعلم بما يصلح عباده ] )، أي: أن هذه الدنيا لا خير فيها إلا ما قرب إلى الآخرة، فلو كنت أريد المال والذهب لسألت الله فأعطاني وأغناني، ولكنه يريد أن يقول لهم: أنا صابر ومحتسب، فإن قليل الدنيا خير من كثيرها في نظري، فهذا الذي يصلحني، والله أعلم بما يصلح عباده، كما قال الله تبارك وتعالى: (( وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ ))[الشورى:27]، وقد كان كثير من الناس في خير وفي صلاح، فلما فتحت لهم الدنيا بغوا في الأرض وطغوا، واستخدموا المال فيما يقربهم من النار، ويباعدهم من الجنة والعياذ بالله، فمثل هؤلاء لا يصلح لهم إلا الفقر، ولو أراد الله تعالى بهم خيراً لظلوا فقراء، ولبقوا على فقرهم وحاجتهم، كما أن من عباد الله من لا يصلحه إلا الغنى، ولذلك يعطيهم الله عز وجل، ولو افتقروا لقنطوا أو ضجروا.
    4. لزوم استجابة دعاء الولي واختيار الله لعبده

      قال: (وربما دعا المؤمن المجاب الدعوة بما يعلم الله الخيرة له في غيره). وهذا ملحظ آخر مهم وهو: هل من شرط كون الرجل ولياً لله أن يستجاب له، ويعطى ما يريد، وقد وعد الله تبارك وتعالى أولياءه: ( ولئن سألني لأعطينه )، أم أن هناك حكمة أخرى؟
      فالشيخ هنا يقول: لا يشترط ذلك، فقد يدعو المؤمن المجاب الدعوة الله تعالى في أمر، والله تعالى يجعل الخيرة له في غير ما دعا.
      قال: (فهو لا يجيبه إلى ما طلب، ولكن يعوضه مما هو خير له إما في الدنيا، وإما في الآخرة) إذاً: الدعاء مطلوب، وصاحبه مثاب مأجور، وطلبه عند الله تبارك وتعالى غير مردود، لكن لا يشترط أن يجاب كما رأينا في الأمثلة السابقة، فقد يدعو والله تبارك وتعالى يحول الدعاء إلى ما فيه الخير له في عاجل أمره أو في آجله.
      يقول: (وقد تقدم في حديث أنس المرفوع: ( إن الله يقول: إن من عبادي من يسألني باباً من العبادة فأكفه؛ كيلا يدخله العجب ) )، هذا إذا كان في العبادة فما بالك بشيء آخر! وهذا الحديث نحتاج إلى أن نتأكد من صحته. فالعبادة أفضل ما يتقرب به إلى الله، فما خلقنا إلا لها، فقد يكون الرجل من أهل الصلاة، أو من أهل القرآن، أو من أهل الذكر، أو من أهل بر الوالدين، أو من أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو قائم بحق الله في هذه الأمور، لكنه لو دعا الله أن يجعله من أهل الجهاد واستجاب الله له، وكان مجاهداً، وظهر صيته في الأمة، وانتشر عنه ذلك؛ قد يدخله العجب، ويغتر بعمله، فيحبط عمله، ويفسد كله: جهاده وصلاته وكل ما عنده، فمن رحمة الله ألا ينال ذلك؛ ولو كان عبادة وطاعة لله، فإذا كان هذا فيما هو طاعة فكيف إذا دعا الله أن يعطيه مالاً، أو منصباً، أو جاهاً! وقد يعاهد الله: (( لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ))[التوبة:75]، لكن بعد ذلك قد يكون: (( فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ ))[التوبة:76]، والعياذ بالله، فيكون البخل، ويكون التولي والإعراض.
      إذاً فأنت لا تدري أين الخير لك، وقد يمنع الله تعالى حتى من العبادة والطاعة، وقد يصرف ذلك عن الإنسان؛ لخير أراده الله عز وجل له، وهذا يذكرنا بحديث محاجة آدم و موسى عليهما السلام، فإذا كان ترك الطاعة أو فعل المعصية فلا بأس أن يحتج بالقدر؛ إذا أنزلها العبد منزلة المصيبة، ولا حرج في ذلك، بل قد يؤجر عليه، فأنت إذا ذهبت مع مجموعة من إخوانك طلبة العلم فأردت أن تطلب العلم، وتحفظ القرآن، وتحفظ الحديث، وتفتي الناس، وينفع الله بك ما شاء من خلقه، فعرض لك عارض، أو انقطعت ولم تفعل ذلك، ثم بعد حين من الزمن ذكرت ذلك، فأحلت إلى القدر فقلت: قدر الله، وهذا أمر كتبه الله علي، فنقول: هذا لا حرج فيه؛ لأنه ليس احتجاجاً بالقدر على المعصية، وإنما هو احتجاج بالقدر على المصيبة، فأنت تشعر بالمصيبة، لكن لا تستشعرها قنوطاً وجزعاً، وما يدريك أنك لو أصبحت قارئاً أو عالماً لفتنت بالشهرة، وبالناس، وبالثناء، وبالتعظيم، فبقاؤك على هذه الحالة خير لك، وأحفظ لدينك، فأنت في هذا أتقى لربك، وأقرب من ذلك.
      فيكون الله تعالى قد منع منك ذلك وهو خير، وهو عبادة في نظرك، ولا شك أن العلم أفضل مثلاً، وأن الله تعالى ذكر من دعاء عباد الرحمن (( وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ))[الفرقان:74]، وأن تبعث مع العلماء وغير ذلك، لكنه حرمك هذا الخير لعلمه بمآلات الأمور.
      وقد ضرب الله تبارك وتعالى المثل بذلك الرجل فقال سبحانه: (( آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ ))[الأعراف:175-176]، فهذا أسوأ ما يمكن أن تتخيله من الأمثلة، فهذه حالة مقززة للنفس، فهذا الرجل لو حرم العلم، ولو لم يؤت آيات الله، ولو بقي عابداً فلاحاً يفلح الأرض، أو طباخاً، أو بقالاً أو ما أشبه ذلك لكان خيراً له في دينه من أن يكون ممن حمل آيات الله وأصبح يشار إليه بالبنان، ثم انتكس واشترى الدنيا والعياذ بالله، وأعرض عن الآخرة.
      إذاً: ففي هذه الحالة لا يغضبن إنسان، ولا يألمن ولا يحزنن أن قدر الله تعالى عليه أمراً، وصرف عنه أمراً آخر، وليفوض ذلك كله إلى الله عز وجل.
      (وخرج الطبراني من حديث سالم بن أبي الجعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن من أمتي من لو جاء أحدكم يسأله ديناراً لم يعطه، ولو سأله درهماً لم يعطه، ولو سأله فلساً لم يعطه، ولو سأل الله الجنة لأعطاه إياها، ذو طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره )، قال: وخرجه غيره من حديث سالم مرسلاً، وزاد فيه: ( ولو سأل الله شيئاً من الدنيا ما أعطاه تكرمة له ) ).
      يعني: أن من عباد الله من لو جاء إلى أحد الخلق وطلبه ديناراً أو درهماً أو فلساً لم يعطه، أي: أن تقول له: أنا لا أعطيك، أو ما عندي لك شيء؛ احتقاراً وازدراء، وهذا الرجل الذي يرده الناس لو سأل الله الجنة لأعطاه ذلك، ( ولو أقسم على الله لأبره )، فمنع من ذلك رحمة من الله عز وجل، ليس الأمر كما يظن بعض الناس، وإنما لله عز وجل حكم لا يعلمها خلقه، ولكن يرون آثارها، فكثير من الناس ربما رأى أثر ذلك فيما بعد، وربما لامس فائدتها، والبعض قد يخفى عليه.
    5. اختيار الله العلم لأبي يوسف وفراسة شيخه فيه

      فعندما كان أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة رضي الله تعالى عنهما صبياً صغيراً؛ كان يتيماً، فدفعت به أمه إلى بقال يعمل عنده في المحل، فكان يهرب من المحل ويذهب إلى أبي حنيفة يطلب الفقه، فشكا ذلك البقال أبا يوسف إلى أمه فكانت الأم ترد الطفل إلى المحل، وهو يذهب إلى طلب العلم، فقال لها الرجل البقال: إنما أفسده أبو حنيفة ، فذهبت الأم إلى أبي حنيفة وقالت له: يا أبا حنيفة ! إن هذا طفلي وليس لي غيره، ولا آكل أنا وعيالي إلا من كده، فدعه يعمل في المحل، فضحك أبو حنيفة وقال لها: يا أمة الله! إن ابنك هذا لو تركتيه يطلب العلم لجاء يوم وهو يأكل اللوز بدهن الفستق، وهذا الشيء لا يأكله إلا ملوك العجم في تلك الأيام، وبعد مرور الأيام أصبح أبو يوسف كبير القضاة في الدولة كلها، فكان جالساً مع هارون الرشيد ، فأتي بأكل فأعجبه، فقال: ما هذا؟ قال: هذا لوز بدهن الفستق، فبكى أبو يوسف ، فقال هارون : ما يبكيك؟ فذكر له ما قاله أبو حنيفة لأمه وهو صغير.
      فلو نظرنا إلى الأمد القريب لكان قول أمه خيراً له ولهم، لكن الله تبارك وتعالى يريد أن يكون له شأن، ويريد أن يجعل له ما هو خير وأفضل من ذلك.
      إذاً لو أن الله تعالى وكل أمورنا وتدبيرنا إلى أنفسنا لكانت حياتنا عجيبة جداً؛ لأن ابن آدم نظره محدود، وتفكيره محدود حتى مع نفسه، ولو فكر كثير من الناس لوجد أن خيرة الله له أفضل من اختياره لنفسه.
    6. الاجتهاد في الدعاء مع الرضا بالقدر

      وليس معنى هذا أنك لا تختار، اجتهد في الخير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( استعن بالله ولا تعجز ).
      وقال: ( احرص على ما ينفعك ) أي: اجتهد في أي شيء ينفعك، لكن إذا أصابك شيء فقل: قدر الله وما شاء فعل، ولا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا، واعلم أن الخيرة فيما اختار الله عز وجل، فرب وظيفة كانت موبقة لصاحبها في الدنيا والآخرة، ورب زوجة كانت شراً وأضر على زوجها من ألد أعدائه، ورب ولد يطمع أن يناله أو يرزقه؛ فيكون عدواً له في هذه الدنيا؛ حتى يصبح أعظم أمنية عنده: أن هذا الولد يموت والعياذ بالله، فهذه الدنيا قد تكون عذاباً لأهلها، (( فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ))[التوبة:55]، فيعذبهم بأمنيتهم التي كدحوا من أجلها واجتهدوا وتعبوا فيها.
      إذاً: فما دام الأمر كذلك فلتحمد الله تعالى على كل حال، وأن تسلم لقدر الله، وترضى به، فهذه هي حقيقة الرضا، ولا ينافي ذلك الدعاء، بل ندعو الله تبارك وتعالى في كل أمر، وندعوه في كل شأن، ولكن نعلم أن فيما يختاره الله لنا الخير، كما قال بعض السلف: [ لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع ]، فأي شيء يقع بك فأنت تقول: هذا لا أطيقه، ولا أرضاه، ولا أتحمله، ولو اطلعت على الغيب لقلت: أفضل شيء هو هذا، وأنا أريد هذا لا أريد غيره، ولكن هذا الضجر بسبب ضيق نظر الناس، وهذا ليس خاصاً بالناس البعيدين عن الله، بل إن كل البشر يعرض لهم هذا.
      فالصحابة رضي الله تعالى عنهم -وهم أفضل الخلق بعد الأنبياء- شق عليهم ما حصل مشقة عظيمة، فكانوا يقولون: ( كيف يا رسول الله؟! ألسنا المؤمنين؟ وأليسوا المشركين؟ كيف نعطي الدنية في ديننا؟ ) ألم تعدنا أن ندخل البيت، وأن نطوف؟ ووجدوا ذلك أمراً شاقاً عليهم؛ خاصة لما رأوا إخوانهم المؤمنين كـأبي جندل ومن معه يسلمون للمشركين؛ تنفيذاً لبنود الاتفاق، لكن بعد ذلك كانت العاقبة لهم، وكان ذلك هو الخير، فأنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم: (( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ))[الفتح:1]، فكان الفتح المبين هو ما كان في يوم الحديبية ، وعادوا وهم عشرة أضعافهم بعد ذلك ودخلوا مكة ، ولما خرجوا من مكة إلى هوازن كانوا عشرة أضعاف عام الحديبية.
      إذاً: فلو كان الأمر كما نختار نحن فإننا نخطئ حتى في ديننا، ولو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع، فما اختاره الله تعالى هو الخير، وهو الأفضل لنا.
      فلذلك على العبد -سواء كان في أمر دينه أو في أمر دنياه- أن يكثر من دعاء الله، ولا يمل من الدعاء، وأن يرضى بالقضاء، ثم بعد هذا إذا حصل له ما يكره فلا يقنط من رحمة الله، ولا يجزع مما أصابه، وليعلم أن هذا أصابه هو الخير له، وأن الله تبارك وتعالى اختار له ما هو خير مما لو اختار هو لنفسه.
      وفي الأخير نقول: يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث الصحيح: (إن الله يستجيب دعاء العبد ما لم يعجل، قالوا: وكيف يعجل يا رسول الله؟! قال: يقول: دعوت الله فلم يستجب لي، فيتوقف عن دعائه)، فالاستعجال في الدعاء من أسباب عدم قبول الدعاء؛ لأن الله تبارك وتعالى يريد منا دوام العبودية، ومن دوام العبودية دوام الدعاء، فلا ينبغي لعبد أن يعجل في الدعاء، بل يتريث ويستمر في الدعاء، والله تبارك وتعالى سوف يستجيب له ولو بعد حين، وربما يعوضه في الآخرة، وربما يعوضه شيئاً غير ذلك في الدنيا، وربما يعطيه ما طلب أو ما سأل في هذه الدنيا، فالمهم ألا يعجل، فهذا من أهم شروط الدعاء، وكل منا يتمنى ويرجو دائماً أن يجاب دعاؤه.
      والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.