المادة كاملة    
إذا قام العبد بالفرائض، ثم أتبعها بالنوافل، وخلص قلبه من الشهوات والشبهات، وقام بحق الله ظاهراً وباطناً وفقه الله تعالى لمحابه، وسدد خطاه، وكان سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وأعطاه سؤله، وأعاذه عما يخشى ويحاذر، وأنار قلبه، وأضاء دربه.
  1. المذاهب والأقوال في معنى حديث الولاية

     المرفق    
    قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (وقد استشكل كيف يكون الباري جل وعلا سمْع العبد وبصره) أي: استشكل ذلك بعض الشراح، وقد أتضح لنا أن المعنى صحيح -وهو الذي تؤيده الروايات وإن كان فيها ضعف- فبي يسمع، وبي يبصر، والراوية أخرى رواية أنس التي ذكرها أيضاً قال: ( ومن أحببته كنت له سمعاً، وبصراً، ويداً، ومؤيداً )، فالمقصود التأييد والنصرة والتوفيق والتسديد، فتصبح جوارحه لا تنبعث إلا بطاعتي، ولا تتحرك إلا لي وبي، هذا هو المعنى وغيرهم استشكله.
    1. المذهب الأول: مجيء الحديث على سبيل التمثيل

      فقال بعضهم: جاء الحديث على سبيل التمثيل، والمعنى: (كنت سمعه وبصره في إيثاره أمري، فهو يحب طاعتي، ويؤثر خدمتي كما يحب هذه الجوارح) أي: أن معناه عندهم: كما أنك أنت تحب سمعك، وتحب بصرك، وتحب يدك؛ فهذا العبد الصالح يحب الله عز وجل كما يحب جوارحه، ويحب طاعة الله كما يحب جوارحه.
    2. المذهب الثاني: شغل كليته بالله تعالى وبما يرضيه

      الثاني: أن المعنى: (كُلِّيّته مشغولة بي، فلا يصغي بسمعه إلا إلى ما يرضيني، ولا يرى ببصره إلا ما أمرته به) وهذا قريب من المعنى الذي ذكرنا أنه الصحيح.
    3. المذهب الثالث: إعطاء الله للعبد مطالبه ومقاصده

      المعنى الثالث: (أجعل له مقاصده كأنه ينالها بسمعه وبصره) أي: أعطيه مطالبه، ومقاصده، فالمقصود من السمع: أن تسمع شيئاً، وتستخدمه في جلب منافعك، والبصر: أن ترى به، فتعيش فتكون بك مصالح ومنافع؛ لأن الإنسان إذا منع منه السمع والبصر واليد أصبح لا شيء، فلا يستطيع أن يستفيد من هذه الحياة، لكن إذا أعطاه الله تعالى السمع، وأعطاه البصر، وأعطاه اليدين، وأعطاه هذه الجوارح، فكأن المقاصد والمنافع التي ينالها بهذه الجوارح هو الذي ينيله ويعطيه إياها.
    4. القول الخامس: تقدير مضاف وهو (حافظ)

      (وخامسها: قال الفاكهاني -وسبقه إلى معناه ابن هبيرة -: هو فيما يظهر لي أنه على حذف مضاف، والتقدير: كنت حافظ سمعه، وحافظ بصره كذلك)، وحافظ يده، وحافظ رجله، فيصير المعنى: أني أحفظ هذه الجوارح له، فإذا أحببته حفظت جوارحه.
    5. القول السادس: التوفيق لخير الأعمال

      السادس: (قال الفاكهاني : يحتمل معنى آخر أدق من الذي قبله وهو: أن يكون معنى سمعه: مسموعه، وذكر بعض الدلائل اللغوية على ذلك، يقول: فمعنى ذلك: أنه لا يسمع إلا ذكري، ولا يلتذ إلا بتلاوة كتابي، ولا يأنس إلا بمناجاتي، ولا ينظر إلا في عجائب ملكوتي، ولا يمد يده إلا فيما فيه رضاي، ورجله كذلك).
      وهذا قريب من المعنى الذي ذكره ابن رجب ، والذي ذكرنا أنه المعنى الراجح.
      يقول: وقال الطوفي : اتفق العلماء ممن يعتد بقوله: أن هذا مجاز وكناية عن نصرة العبد، وتأييده، وإعانته، حتى كأنه سبحانه يتزل نفسه من عبده منزلة الآلات التي يستعين بها، ولهذا وقع في رواية: ( فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي ).
    6. المجاز والكناية والفرق بينهما

      وهناك فرق بين المجاز والكناية، فمثلاً قوله تعالى: (( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ))[يوسف:82] فهو مجاز على قول أهل البلاغة، والصحيح الذي نرجحه نحن: أنه لا مجاز مطلقاً.
      وأما الكناية فمثل قول الخنساء :
      طويل العماد عظيم الرما            د ساد عشيرته أمردا
      فالعرب إذا أرادت أن تصف أحداً بالكرم قالت: فلان كثير الرماد، أي: هو كثير الضيوف، وكثير الإكرام، ومن كثرة إكرامه وكثرة ضيوفه يطبخ كثيراً، ويوقد الحطب كثيراً، فيكثر أيضاً رماده، فهم يجعلون هذا كناية عن الكرم.
      وأما المجاز عند أهل المجاز فمثاله: إذا ذهبت إلى رجل كريم قلت ذهبت إلى البحر، أو: رأيت البحر، أو: أعطاني البحر.
      فهذان الأسلوبان كلاهما مدح، فالكناية لا يمتنع أن يكون اللفظ فيها حقيقة، فعند العرب الأوائل لو ذهبت إلى مضاربهم وخيامهم فإنك تجد الرماد الكثير، متكوم، وأما البحر فإنك ترى الرجل ولا تجد قطرة ماء ولا ملوحة ولا شيء، هذا هو المقصود فالكناية إذاً لا تمنع الحقيقة بخلاف المجاز فإنه لا يريد الحقيقة.
      ومثال ذلك أيضاً: لو قال أحد: إن استواء الله على العرش كناية عن سعة الملك، والعظمة والسلطان، فليس في هذا نفي للاستواء، فقد يكون استوى، وهو أيضاً واسع العظمة، فالعرش هو أعظم المخلوقات، فمن عدل أهل السنة والجماعة أنهم يفرقون بين قول من يقول في بعض الصفات: إنها مجاز مطلقاً، وبين قول من يقول: إنها كناية، وهذا ليس موضع ذكر الصفات.
      والشاهد: أن الطوفي يقول: اتفق العلماء ممن يعتد بقوله، وليس هناك اتفاق ولا أي شيء، وإنما المقصود أن المجاز غير ظاهر فهذه المسألة في الظاهر والمقصود بالظاهر.
      ولهذا وضع شيخ الإسلام رحمه الله القاعدة العظيمة في كتابه الإكليل في الظاهر والتأويل في المراد بالظاهر، فبعضهم كثيراً ما يقول: وظاهر هذا الحديث غير مراد فيقول: (إن ذات الله تعالى ليس هي يده، ولا هي بصره، ولا هي سمعه) ومعنى كلامه أن من قال لك: إن هذا هو الظاهر أنت فهمت هذا نحن ما نفهم أن هذا هو الظاهر وإنما هذا هو الظاهر في ذهنك أنت فقط، وأما العرب الخلص الفصحاء، أو من وفقهم الله لمعنى الحديث فإنهم لا يفهمون مثل هذا الظاهر الذي فهمته أنت.
      وإلا كما فهم النصارى ، فقالوا: إن الله تعالى يقول (إنا نحن) قالوا: إذاً هذا يدل على ثلاثة أقل الجمع، فنقول هذا غير صحيح فأنتم فهمكم هو الضعيف لأن الرجل الواحد من العرب قد يقول عن نفسه: أنا ويقول أيضاً نحن، فما يلزم هذا.
    7. مدى صحة وجود المجاز في اللغة

      إذاً ليس كل ما يراه الناس ظاهراً هو الظاهر وما عداه مجاز هذا هو المقصود، ولذلك (( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ))[يوسف:82] ليس فيها مجاز؛ لأن القرية تطلق على أهل القرية وهم السكان، وتطلق على البيوت المسكونة، فإن مررنا على بيوت خراب لا سكان فيها فإننا نقول: مررنا على قرية ونسكت؛ لأن المستمع يفهم أنك مررت على أناس، فلابد أن تقول: خربة، كما قال تعالى: (( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ))[البقرة:259]، فإذا لم يقل الله عز وجل: (وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) فإننا نفهم أنها قرية فيها أناس.
      إذاً: فليس هناك مجاز ولا شيء، وإنما الأمر -كما قال شيخنا محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله- أسلوب عظيم من أساليب العرب في الفصاحة والتعبير، وما قعده المعتزلة وأشباههم من أن هذا مجاز، وهذا استعارة؛ فكله مردود عليهم، فهذه الآيات ليس فيها مجاز، فإن أطلقنا القرية على المساكن، أو أطلقنا القرية على أهل القرية فكلا المعنيين صحيح، ولكل منهما في موضعه نكتة بلاغية ليس هذا موضع تفصيلها.
      قال الحافظ رحمه الله: (وقال الخطابي : هذه أمثال، والمعنى: توفيق الله لعبده في الأعمال التي يباشرها بهذه الأعضاء) أي: أنه يوفق في أعماله، وتيسير له المحبة فيها؛ وذلك بأن يحفظ عليه جوارحه ويعصمه عن مواقعة ما يكره سبحانه من الإصغاء إلى اللهو بسمعه، ومن النظر إلى ما نهى الله عنه ببصره، ومن البطش فيما لا يحل له بيده، ومن السعي إلى الباطل برجله.
      فمعناه: أن الله يحفظه، أي: كنت حافظه، وهذا قريب من القول الذي فيه تقدير المضاف.
      قال: (وإلى هذا نحا الداودي ، ومثله الكلاباذي ، وعبر بقوله: أحفظه فلا يتصرف إلا في محابي؛ لأنه إذا أحبه كره له أن يتصرف فيما يكرهه منه).
    8. القول الرابع: النصرة والمعاونة

      (رابعها: كنت له في النصرة كسمعه، وبصره، ويده، ورجله؛ في المعاونة على عدوه). يعني: أنا أنصره كما تنصره وتؤيده أعضاؤه، أي: كما يبطش بيده فتنفعل لذلك؛ فأنا أؤيده، فلو دعاني وأراد أن أبطش بعدوه فأنا أحقق له ذلك.
    9. القول السابع: كناية عن سرعة إجابة الدعاء له

      القول السابع: (قال الخطابي أيضاً: وقد يكون عبر بذلك عن سرعة إجابة الدعاء له، والنجح في الطلب، وذلك أن مساع الإنسان كلها إنما تكون بهذه الجوارح المذكورة) أي: تكون بالسمع واليد والرجل، فيحقق الله تعالى له ذلك كله وكأنما جوارحه هي التي تعمل.
      يقول: (وقال بعضهم -وهو منتزع مما تقدم-: لا تتحرك له جارحة إلا في الله، ولله، فهي كلها تعمل بالحق للحق) وهذا كما تقدم.
      (وأسند البيهقي في الزهد عن أبي عثمان الجيزي) و الحيرة في جنوب العراق ، وأما الجيزة فهي في مصر وهو أحد أئمة الصوفية ، قال معناه: (كنت أسرع إلى قضاء حوائجه من سمعه في الإسماع، وعينه في النظر، ويده في اللمس، ورجله في المشي).
    10. القول الثامن: أن معناه الفناء والمحو

      قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: بعد أن ذكر هذه الأقوال: (وحمله بعض متأخري الصوفية على ما يذكرونه من مقام الفناء والمحو) وهنا بدأنا ندخل في المشكلات التي أتى بها هؤلاء، فبعضهم صرح بالحلول والاتحاد كما أشار الحافظ ابن رجب رحمه الله، والبعض دون ذلك فلا يقول بالحلول والاتحاد، ولكنه يقول بالفناء، فكأنه فني عن نفسه، فأصبحت أعضاؤه لا تنفعل إلا في طاعة الله، ولا تفعل إلا ما يرضي الله فهو قد فني عن نفسه.
    11. معنى الفناء وحكمه

      والإشكال هنا يأتي من أن الإنسان لو فنيت إرادته فعلاً، ولكن أعضاءه لا تعمل إلا في طاعة الله؛ فهل يكون هذا له من الأجر والفضيلة مثل أجر الذي يعمل الطاعات بإرادته؟
      الجواب: لا، لكنهم يظنون أن هذا غاية أو أنه مرتبة زائدة، وهذا ليس بصحيح، وقد قال بعضهم:
      أصبحت منفعلاً لما يختاره             مني ففعلي كله طاعات
      وعلى قول من يؤوله فإنه يقول: المقصود: أن إرادته لا تأثير لها، ولذلك لما سئل الجنيد : [ما الإرادة؟ قال: ترك الإرادة، قالوا: وما هي الحيلة؟ قال: ترك الحيلة]، فكيف يترك الإنسان إرادته؟! قالوا: يفنى، بحيث إن الأعضاء والجوارح تتحرك، ولكن ليس له فيها إرادة، فنقول: إذا كان كذلك فقد جن، أو خبل، أو مرض، أو فيه حالة من الحالات غير الطبيبعية، ولنفرض أنه ليس بجنون ولا مرض، وقرأ القرآن مثلا فاشتدت عليه معاني هذه الآيات العظيمة حتى أصبح يتحرك ويتصرف ولا يدري عن نفسه؛ فإننا نقول: إن هذا الرجل غاية ما يقال عنه: إنه معذور، وأفضل منه المأجور، وهو من كان كما كان النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه فقد كانوا يبكون ويخشعون، لكن بإرادتهم، ففعل هؤلاء مرتبته أقل من مرتبة النبي وصحابته، فهم في أعلى الدرجات في كل خير وفضل، ولا يشك في ذلك عاقل.
      وكثير من الناس يتصورون أن الذي يسمع الآية فيغمى عليه أن حاله أفضل من ذلك الذي يسمعها فيكون قلبه كالمرجل الذي يغلي، وهذا غير صحيح، فالآخر أفضل، فقوة التأثر عندك مثل قوة التأثر عند الآخر؛ ولكنه ملك نفسه ولم يسقط، فهو أقوى عزيمة، وأقوى إرادة.
      فـالصوفية يقولون: إن مقام الفناء والمحو هو الغاية، وليس وراءه عندهم غاية، وهو أن يكون قائماً بإقامة الله له، محباً بمحبته له، ناظراً بنظره له؛ من غير أن تبقى معه بقية تناط باسم، أو تقف على رسم، أو تتعلق بأمر، أو توصف بوصف. وهذا الكلام الأخير فيه عدة مشاكل، والأول كان قريباً من كلام السلف، لكن أن يفني نفسه، ويفني رسمه، ويفني ذاته؛ فلا يمكن هذا، ولو حصل ذلك -وإن أطاع- فهو ليس في درجة من أطاع بكامل إرادته.
    12. القول التاسع: قول أهل الحلول والاتحاد

      التاسع: قال ابن حجر رحمه الله: (وحمله بعض أهل الزيغ على ما يدعونه من أن العبد إذا لازم العبادة الظاهرة والباطنة حتى يصفى من الكدورات أنه يصير في معنى الحق، تعالى الله عن ذلك، وأنه يفني نفسه جملة حتى يشهد أن الله هو الذاكر لنفسه، الموحد لنفسه، المحب لنفسه).
      فهذا هو حال أهل الحلول والاتحاد، وهذا القول زندقة وكفر والعياذ بالله، وهو مأخوذ من عباد الهند الذي يرون أن الإنسان في هذه الدنيا يجب عليه أن يصفي نفسه، ويخلص الجوهر، فيقولون: إن الإنسان مكون من جوهر وهذا البدن، فيصفي الجوهر -وهي الروح- بتعذيب البدن، فإذا صفيت من الكدورات فإنها تتحد بالإله، ويصبح -كما قالوا- إن ذكر فالذاكر هو الله، وإن نطق فالناطق هو الله، وإن تكلم فالمتكلم هو الله، ولهذا قال بعضهم: سبحاني سبحاني! ما أعظم شأني. عياذاً بالله تبارك وتعالى من هذا الكفر.
      وقال الآخر: ما في الجبة إلا الله، وهذا هو الكفر الصريح الذي ليس من دين الإسلام في شيء.
    13. الرد على أهل الحلول والاتحاد

      قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (وعلى الأوجه كلها فلا متمسك فيه للاتحادية ، ولا القائلين بالوحدة المطلقة؛ لقوله في بقية الحديث: ( ولئن سألني لأعطينه، ولئن أستعاذني.. ) ، فإنه كالصريح في الرد عليهم) يعني: أنه ذكر سائلاً ومسئولاً، ومستعيذاً ومستعاذاً به، إذاً فكيف يكون هذا هو هذا! تعالى الله عن ذلك، فهذا لا يصح مطلقاً.
      هذه هي جملة الأقوال التي ذكرها الحافظ ابن حجر رحمه الله، وبين بعضها تقارب وتداخل، وبعضها ضلال، كما قلنا فيما ينسب إلى الصوفية ، والبعض الآخر كفر، وهو: ما ينسب إلى الاتحادية .
  2. اجتهاد العبد في التقرب إلى الله حتى يصير الله تعالى سمعه وبصره، وحال السلف في ذلك

     المرفق    
    وإذا عرفنا المعنى الحق فإنه يبنى عليه: أن الإنسان ينبغي أن يجتهد في التقرب إلى الله؛ حتى يصل إلى هذه الحالة.
    يقول الحافظ ابن رجب: (ومن هنا كان بعض السلف كـسليمان التيمي رحمه الله يرون إنه لا يحسن أن يعصى الله) أي: لا يليق بأي حال من الأحوال أن يعصى الله عز وجل، وذلك استشعاراً منهم لهذه المعاني، (ووصت امرأة من السلف أولادها فقالت لهم: تعودوا حب الله وطاعته؛ فإن المتقين ألفوا الطاعة، فاستوحشت جوارحهم من غيرها)، فالأذن تستوحش إذا سمعت غناءً، والعين تستوحش إذا رأت حراماً، واليد تستوحش إذا وقعت على شيء مما لم يحله الله، والرجل تستوحش أن تمشي إلى ما حرم الله.
    تقول: (فإن عرض لهم الملعون بمعصية مرت المعصية بهم محتشمة؛ فهم لها منكرون)، أي: تعودوا الطاعة، فلا يليق بهم أن يعصوا، وتعودوا الطاعة حتى أصبحت جوارحهم منفعلة بها، فإذا مر الملعون أو عرض بالمعصية فإنها تمر وهم لها منكرون، فلا يستجيبون لها، وإنما هي خواطر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة )، فلا بد أن يوسوس، لكن هذه الوساوس تكون خواطر، فيدفعها الإنسان. ‏
    1. حال أهل الشهوات وتلبيس إبليس عليهم

      وأما أصحاب الشهوات -نعوذ بالله- فإنهم يصبحون عبيداً للشيطان، كما قال الله تبارك وتعالى: (( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ))[يس:60] فيعبدونه العبودية المطلقة، فلا يأمرهم بشيء إلا ويطيعونه، فيتحكم فيهم، ولهذا يستخدم ويسخر جوارحهم: عيونهم، وأسماعهم، وأيديهم، وأرجلهم في معصية الله، فيكدحون ويشتغلون ليلاً ونهاراً في المعاصي، ولا يملون ولا يتعبون، فإذا عرضت على أحدهم الطاعة تخاذل وتكاسل وتثاءب، ونفر منها ولم يرتح لها، ولا يطمئن إلا إذا جاءته المعصية والعياذ بالله؛ لأن الشيطان متحكم فيه.
    2. هيبة الشيطان من عمر

      يقول: (ومن هذا المعنى: قول علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: [إن كنا نرى أن شيطان عمر ليهابه أن يأمره بالخطيئة] )، وعمر رضي الله تعالى هو محدث هذه الأمة، الذي: ( إذا سلك فجاً سلك الشيطان فجاً آخر )، وهذا معنى: كنت سمعه وبصره، فجوارحه كلها تنفعل وتفعل الطاعة، وليس للخطيئة عنده موضع، ولا للشيطان فيه منفذ يستطيع أن يصل به إليه، فلا يجرؤ شيطان عمر على أن يوسوس إليه ولو بشيء بسيط؛ لقوته في طاعة الله، فقد أصبح سمعه وبصره وقلبه وعقله وجوارحه كلها قوية على طاعة الله، وعلى تقوى الله سبحانه وتعالى، وما يقربه إلى الله.
      فـعمر له شيطان، ولكل إنسان منا قرين، لكن شيطان عمر رضي الله تعالى يهاب أن يأمره بشر كما يقول علي رضي الله عنه، وهذا من شهادة الأخيار بعضهم لبعض، فكانوا يتحدثون أن شيطان عمر لا يقدر أن يوسوس أو يحرك عمر إلى معصية من معاصي الله عز وجل.
    3. محبة الله والخضوع والذل له

      يقول الحافظ ابن رجب: (وقد أشرنا فيما سبق إلى أن هذا من أسرار التوحيد الخاص، فإن معنى لا إله إلا الله: لا يؤلِّه غيره حباً ورجاء وخوفاً وطاعة) أي: كما شرحها وفسرها الإمام الحافظ ابن القيم رحمه الله، فإذا تحقق القلب بالتوحيد التام لم يبق فيه محبة لغير ما يحبه الله، ولا كراهة لغير ما يكرهه الله، ومن كان كذلك لم تنبعث جوارحه إلا بطاعة الله، وإنما تنشأ الذنوب من محبة ما يكرهه الله، أو كراهة ما يحبه الله.
      وهذا كلام عظيم، وقد عرضنا له في موضوع المحبة، وقلنا: إن الإله من التأله، أو من الوله، وهو: أعلى درجات المحبة، وكذلك التعبد، فالعبودية أعلى درجات المحبة، فهي ذل وخضوع مع محبة، فالمحبة إذا تجردت عن الذل والخضوع -كما لو كان ذلك بالإكراه- فليست عبادة، ففرعون مثلاً أخضع المؤمنين في عصره كامرأته وغيرها وأكرههم وأذلهم، وكذلك كفار قريش كانوا يخضعون بلالاً وعماراً إلى أشد الدرجات، فهذا لا يضر إذا كان هو في نفسه يحب الله ورسوله، فمن أكره وأرغم بشيء فإنه لا يقال: إنه عبْد له، لكن من أحبه وتعلق به حتى أذل نفسه وأخضعها له قيل عنه: فلان يعبد فلاناً، أو يعبد فلانة، أو يعبد الوظيفة، ( تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار )، فهو مستعد لأن يخضع نفسه ويذلها من أجل الدرهم، أو الدينار، أو الوظيفة، أو فلان، أو فلانة، فهنا يقال تيم الله، ومعناها: عبد الله من التتيم وهو المحبة، وهذا معنى جيد، فالكلام كله في محبة الله، وليس المراد أن الإنسان يمتثل بجوارحه بعض العبادات وقلبه غير محب لله، ولا محب لطاعة الله عز وجل.
      فيقول: (وإنما تنشأ الذنوب من محبة ما يكرهه الله، أو كراهة ما يحبه الله، وذلك ينشأ من تقديم هوى النفس على محبة الله تعالى وخشيته، وذلك يقدح في كمال التوحيد الواجب، فيقع العبد بسبب ذلك في التفريط في بعض الواجبات، وارتكاب بعض المحظورات، فإن من تحقق قلبه بتوحيد الله فلا يبقى له هم إلا في الله، وفيما يرضيه به، وقد ورد في الحديث مرفوعاً ( من أصبح وهمه غير الله فليس من الله )، قال بعض العارفين: من أخبرك أن وليه له هَمّ في غيره فلا تصدقه، فإن كان من أولياء الله فإن كل همه يكون هو الله، وما يرضي الله عز وجل.
      وكان داود الطائي ينادي في الليل: همك عطل علي الهموم، وحال بيني وبين السهاد، وشوقي إلى النظر إليك أوبق مني اللذات، وحال بيني وبين الشهوات، فأنا في سجنك أيها الكريم مطلوب، وفي هذا المعنى قال بعضهم:
      قالوا تشاغل عنا واصطفى بدلاً             منا وذلك فعل الخائن السالي
      وكيف أشغل قلبي عن محبتكم            بغير ذكركم يا كل أشغالي )
    4. عطاء الله لأولياءه

      قال: (قوله: ( ولئن سألني لأعطينه ولئن أستعاذني لأعيذنه )، وفي الرواية الأخرى: ( إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته )، يعني هذا: أن المحبوب المقرب إلى الله له عند الله منزلة خاصة تقتضي أنه إذا سأل الله شيئاً أعطاه إياه، وإذا استعاذ به من شيء أعاذه منه، وإن دعاه أجابه) وهذا غاية ما يريد الإنسان، وهل هناك هدف أو غاية أكبر من أنك أنت العبد الفقير الضعيف المحتاج بتقربك إلى الله، وبطاعتك له، وحبك له؛ تصبح عند الله تعالى بهذه المنزلة: إن سألته أعطاك، وإن استعذت به أعاذك، وإن دعوته أجابك، فهذه درجة عظيمة، فمن يستطيع أن يصل إليها! من يطمح إلى شيء غيرها! فتسأله الجنة، وتسأله لذة النظر إلى وجهه الكريم، وتسأله الثبات على الحق، وتسأله النصر على أعدائك، وتسأله أي شيء؛ فيستجيب لك، وتستعيذ به مما تكره: من شر الشيطان، ومن كيد أولياء الشيطان، ومن شرور الدنيا والآخرة؛ فيستجيب لك، فهذه درجة عظيمة جداً.
      ولو تأملنا الحديث السابق نجد أن الله تعالى لم يقل: فإذا أحبني كنت سمعه، أي: إذا كان العبد يحب الله، فإذا أحب الله كان سمعه، وبصره، وكانت أعضاؤه تسير على مقتضى محبته لله، ليس الأمر كذلك، وإنما قال: ( فإذا أحببته كنت سمعه ) أي: أن الله عز وجل إذا أحب العبد فإنه يكون بهذه المنزلة، ولذلك إذا دعاني أجيبه، وإذا استعاذ بي أعيذه؛ لأنه هو الذي أحبني حتى وصلت محبته إلى هذه الدرجة، وهذه المرتبة.
      يقول: (فيصير مجاب الدعوة؛ لكرامته على الله عز وجل) أي: أن غاية الأولياء أن يصبح الواحد منهم مجاب الدعوة؛ كما كان الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم، فهذا دليل على أنه من خلص أولياء الله المتقربين إليه عز وجل، وكثير من السلف ثبت لهم ذلك.
    5. صور من بعض مجابي الدعاء من السلف

      يقول: (وقد كان كثير من السلف الصالح معروفاً بإجابة الدعوة، ففي الصحيح: ( أن الربيع بنت النضر كسرت ثنية جارية، فعرضوا عليهم الأرش فأبوا -وهي دية العضو- فطلبوا منهم العفو فأبوا، فقضى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص، فقال أنس بن النضر : أتكسر ثنية الربيع ؟! والذي بعثك بالحق! لا تكسر ثنيتها ) )، فحلف أنها لا تكسر، وهذا حكم الله ( ( فرضي القوم وأخذوا الأرش، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ) ، وهو لم يحلف اعتراضاً على حكم الله، ولكنه حلف أن هذا لا يكون ولا يصير، فبر الله تعالى يمينه.
      قال: (وفي صحيح الحاكم -يعني: المستدرك - عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كم من ضعيف متضعف ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره، منهم البراء بن مالك ) )، فلما كان البراء في معركة وزحفوا على المشركين؛ قال المسلمون: يا براء ! أقسم على ربك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنك لو أقسمت على الله لأبرك )، قال: أقسمت عليك يا ربي! لما منحتنا أكتافهم، فمنحهم الله تعالى أكتافهم، فقتلوهم وأبادوهم وغلبوهم.
      ثم التقى المسلمون مع الفرس مرة أخرى في فتح تستر ، فقالوا له: أقسم على ربك، فقال: أقسمت عليك يا ربي! لما منحتنا أكتافهم، ثم قال: وألحقني بنبيك صلى الله عليه وسلم، فمُنحوا أكتافهم، واستشهد البراء رضي الله تعالى عنه، فهؤلاء هم المقربون الخلص، فانتصر المسلمون، واستشهد رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
      والقصص في هذا كثيرة تستحق أن تفرد وحدها، وإنما أشرنا إلى شيء منها إشارة.
    6. اشتراط الولاية للإجابة الدائمة للدعاء

      وهنا مسألة: وهي: هل معنى قوله: ( ولئن سألني لأعطينه، ولئن أستعاذني لأعيذنه ) أن من كان ولياً لله عز وجل فلا بد أن يستجاب له دعاءه كما طلب، وأن يكون حالاً؟
      والجواب: أن ليس ذلك شرطاً؛ لحكم يعملها الله سبحانه وتعالى، وقد أشار الحافظ رحمه الله إلى هذا إشارة لطيفة خفيفة، وقال: قد تقدم في أول كتاب الدعوات: أن الحال لا يخرج عن ثلاثة أمور: إما أن يستجيب الله لوليه كما طلب ولو ناجزاً، وهذا فضل من الله.
      الأمر الثاني: أن يدخره له في الآخرة، والأمر الثالث: أن يدفع عنه من البلاء بقدر ذلك.
      وهذا كما جاء في الحديث الذي رواه الأمام أحمد في هذا الشأن، فيكون الولي مستجاب الدعوة، ويحبه الله تبارك وتعالى، ويكرمه، ويرضيه، ولا يخيبه أبداً، لكن ليس شرط ذلك أن يعطيه كما ظن أو كما دعا؛ لأنه تبارك وتعالى أعلم بمصلحة العبد المؤمن من نفسه، فمهما كان العبد من عباد الله الصالحين المؤمنين الأتقياء، ويرى المصلحة له أو لدينه في شيء، ويظن أن هذا أنفع له في دينه ودنياه، لكن الله تعالى أعلم بما يصلح ولا شك، وهو تعالى لمحبته لهذا الولي العبد هو أحرص على ما ينفعه من حرصه لنفسه، لهذا فالله عز وجل لا يستجيب له فيما طلب، ولكنه لا يضيعه، وإنما يعطيه أمراً آخراً، أو يصرف عنه شراً عظيماً لم يكن يعلم أنه واقع، والمهم أنه غير خائب.
      وكيف يخيب الولي إذا دعا والله تعالى لا يخيب أحداً دعاه أصلاً؟
      فإذا تحققت شروط الدعاء في أحد فإنه لا يخيب أبداً ولو لم يكن من الأولياء الصالحين، فكيف بالولي الصالح؟! قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله حيي كريم، يستحي إذا رفع عبده إليه يديه بالدعاء أن يردهما صفراً ) يعني: خاليتين، فذلك لا يمكن أبداً.
      ولو تأمل العبد ذلك لوجده من المعاني اللائقة بالله تبارك وتعالى حقاً، وهو بها أولى؛ فإن الكريم من أهل الدنيا -وهم كلهم فقراء إلى الله- لا يمكن أن يردك مطلقاً أبداً، فكيف بالله عز وجل الذي لا تنفد خزائنه سبحانه وتعالى، فمقتضى ذلك أن يدعو الله عز وجل دائماً، وأن يكثر من هذا، (( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ))[غافر:60].
      والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
  3. حديث الولاية وبيان الأقوال الواردة في معانيه

     المرفق    
    1. الحكم على رواية: (كنت قلبه الذي يعقل به...)

      الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
      فقوله: ( فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها )، وهذا كما في الرواية التي ذكرها الشيخ هنا، وهي رواية الإمام البخاري رحمه الله، فذكر فيها السمع، والبصر، واليد، والرجل، وفي بعض الروايات قال: ( وقلبه.. ) يعني: وكنت قلبه الذي يعقل به، ولسانه الذي ينطق بها، وهذا موجود في رواية عبد الواحد بن ميمون ، عن عروة ، عن عائشة ، وقد ذكرها الحافظ ابن رجب رحمه الله فقال: إن الطرق كلها ضعيفة؛ فقد قال الإمام البخاري في عبد الواحد هذا: منكر الحديث، والحافظ ابن حجر رحمه الله ذكر في الفتح هذه الرواية، لكن لم يشر إلى درجتها؛ ولعله اكتفى بأنه معلوم أن جميع هذه الطرق فيها مقال.
    2. معنى قوله: (كنت سمعه الذي يسمع به...)

      ويكفي ما ثبت في البخاري من قوله: ( فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها ).
      وقد اختلف الناس في هذه الجملة قديماً وحديثاً، في فهم هذه الجملة، فمنهم من خرج عن حد الإيمان إلى الكفر والعياذ بالله، ومنهم من ضل وأخطأ، ومنهم من وافق الحق وأصابه في فهم هذه الجملة، فهي من جملة العبارات التي يقع فيها الخلاف بين سائر الفرق والطوائف كـالصوفية ، و المعتزلة و القدرية وأشباههم، كما نجد ذلك الاختلاف في فهم بعض الأحاديث ولا سيما في أحاديث الصفات، وأحاديث القدر.
      فهذه الجملة بالذات: ( كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره ) ... إلخ نجد فيها اختلافاً وتبايناً شديداً بين شراح الحديث في فهم معناها؛ وذلك بحسب اتجاهاتهم العقدية، وانتمائهم الفرقي، وسنذكر هنا ما ذكره الحافظ ابن رجب رحمه الله هنا، واختاره، ثم نعرج على الأقوال الأخرى من كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح. ‏
    3. الابتداء بالفرائض قبل النوافل

      قول ابن رجب رحمه الله تعالى: (المراد بهذا الكلام: أن من اجتهد بالتقرب إلى الله تعالى بالفرائض، ثم بالنواقل قرب إليه).
      فهنا قال ابن رجب: (بالفرائض، ثم بالنوافل) مع أن الحديث يقول: ( ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه ) ولم يذكر الفرائض، فنقول: هذا يجب أن يكون معلوماً، فالنوافل لا تصح ولا تقبل إلا بعد أداء الفرائض؛ ولذا قال بعض العلماء: من شغله الفرض عن النفل فهو معذور، ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور، فاشتغال الإنسان الأساسي ويكون بالفرائض، فهي التي قال الله فيها كما في هذا الحديث: ( وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه )، فأي عبادة من العبادات التي يشتغل بها الإنسان عن الفرائض لو أنها أحب إلى الله عز وجل؛ لجعلها الله فرائض، لكن من حكمة الله أن جعل العباد على نوعين، وكل نوع فيه درجات متفاوتة كما ذكرنا: المقربون، والسابقون، وأصحاب اليمين، فلا يكون الإنسان من المقربين إلا إذا أتى بعمل أصحاب اليمين، وزاد عليه.
      فلذلك لا بد لمن يأتي بالنوافل أن يكون قد أتى بالفرائض، فمثلاً: في الصلاة أول ما يجب الاهتمام به هو الصلاة المفروضة؛ بأن يؤديها الإنسان كاملة الأركان، والواجبات، والمستحبات، أن يؤديها ما استطاع إلى ذلك في أوقاتها، وبشرائطها المعروفة، هذا هو الأصل، فمن حافظ عليها فقد جاء بالأساس والأصل؛ مع ما يدخل فيها من النوافل في شروطها، وفي مواقيتها، وفي هيئاتها، وفي أذكارها، حتى يكمل الصلاة التي هي الفريضة.
      ثم بعد ذلك يهتم بأداء النوافل، أي: يهتم بالفرض داخل الفرض، وما يلحقه أيضاً من نوافل، ثم يهتم بالنوافل خارج الفريضة، فيؤدي السنن الرواتب والوتر، ثم بعد ذلك ما هو أقل منها في السنية كالتطوع غير المحدود في الليل، أو في النهار.
      إذاً؛ لا بد أن يعلم الإنسان المؤمن العابد المتقرب إلى الله عز وجل أن الله تبارك وتعالى شرع لنا الفرائض، وهي أهم شيء، ثم ما كان آكد من السنن، ثم ما كان أقل، ثم ما كان تطوعاً مباحاً.
      وكذلك في أموالنا يجب علينا أن نتحرى وأن نجتهد في أداء الزكاة المفروضة، والواجبات الأخرى، فهناك واجبات غير الزكاة: كالنفقة على الوالدين، أو على من يجب عليه النفقة عليه، أو الجار إذا كان فقيراً معدماً لا يملك طعام ليلته مثلاً، أو الضيف الذي لا يملك شيئاً، وما أشبه ذلك من الحقوق الواجبة على تفصيل واختلاف فيها، فنبدأ بها، ثم بعد ذلك ما هو مؤكد السنية والاستحباب، ثم ينتهي الأمر ما كان تطوعاً.
      ولو أن أحداً أنفق من التطوع في سبيل الله وأخل بأداء الفريضة التي هي الزكاة، ولم يراعها؛ لكان مثل الذي يؤدي التطوع من الصلوات، ويترك الفرائض الواجبة.
      إذاً فالتقرب إلى الله تعالى إنما يكون بالنوافل بعد الفرائض، والنوافل تفيد الإنسان في كونها تجبر ما ينقص من الفرائض، فالفرائض هي الأساس، فإن زاد شيء فهو خير، والنافلة في لغة العرب: هي الزيادة، ولا يكون الشيء زائداً إلا على الواجب، أو على القدر المطلوب.
    4. فائدة التقرب إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض

      يقول: (فإذا فعل العبد ذلك) يعني: إذا تقرب إلى الله تبارك وتعالى بالنوافل بعد الفرائض (قرب إليه، ورقاه من درجة الإيمان إلى درجة الإحسان، فيصير يعبد الله على الحضور والمراقبة، كأنه يراه).
      وعبادة المؤمن في حال الإيمان هي عبادة من يخاف الله، ويتقيه، ويرجو ثوابه، ويخشى عقابه على الغيب، فإذا اجتهد حتى أصبح يعبد الله وكأنه يراه في كل لحظة، وفي كل موقف، وفي كل عمل، فهذه درجة الإحسان.
      وذلك كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام: ( أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك )، فتستشعر أن الله يراك، وتعبده وكأنك تراه أيضاً، وهذه درجة عالية، فإن لم تكن تراه فإنه -تبارك وتعالى- يراك، فليس كل من يعبد الله، وليس كل المؤمنين يستشعر هذه الرقابة، وهذه الرؤية دائماً، فهذه الدرجة امتن الله تعالى واختص بها طائفة من عبادة المؤمنين، فيجب على كل مؤمن أن يجتهد؛ ليكون كذلك بحسب الاستطاعة؛ ولو بمحبة القلب، وبتمنيه أن يكون كذلك، وأن يدعو الله أن يوفقه كي يكون كذلك؛ حتى يعبد الله تعالى -كما قال- على الحضور والمراقبة.
      فإذا عمل عملاً، أو نطق نطقاً فإنه يستشعر أنه يرى الله عز وجل وكأنه يقول له: يا عبدي! ليس الأمر كذلك؛ فهذا حرام، وهنا يأتي الورع.
      والإحسان اسم عام، ولهذا قال العلماء إن ما يسميه الصوفية في المقامات بمقام الزهد، ومقام الورع، ومقام التوكل، ومقام الخشية والإنابة؛ كل هذه المقامات تجمعها مرتبة ودرجة الإحسان وهي الكلمة واللفظة الشرعية، أي: أنه أحسن عمله، وأجاده، وأحسن صلته بالله عز وجل، وأحسن المراقبة لله عز وجل، فأصبح يستشعر في كل أمر رؤية الله تعالى له، فإذا حصل هذا فإنه يمتلئ قلبه بمعرفة الله تعالى، ومحبته، وعظمته، وخوفه، ومهابته، وإجلاله، والأنس به، والشوق إليه، حتى يصير هذا الذي في قلبه من المعرفة مشاهداً له بعين البصيرة، وأما نحن ومن كان على مثل حالتنا -نسأل الله أن يصلح أحوالنا- فإننا نسمع ونقرأ هذه العبارات ولم نذق حقيقتها، لكن من جرب ذلك، واجتهد حتى يكون كأولئك؛ فإنه يدرك معنى هذا الكلام.
      وقد كان السلف الصالح رضي الله عنهم يرون بعين البصيرة كل هذه الأمور، ويحسون بهذه الأشياء، ويشعرون بذلك، ولذلك لم يكونوا يرون ألماً أشد عليهم من أن ينقطع الإنسان أو يغفل عن ذكر الله، أو عما يجب عليه، أو أن يرتكب ذنباً فتسود صحيفته عند الله عز وجل بهذا الذنب، فهذا هو الذي كان يؤرقهم ويؤلمهم، ولذلك قال قائلهم: [ إني لأرى أثر معصيتي في خلق دابتي، وامرأتي، وخادمي ]، فهم يرون أثر معاصيهم، وهذا كما قال الآخر: [ إن القوم قلت ذنوبهم؛ فعرفوا من أين أوتوا ].
      فالإنسان إذا لم يكن عليه دين إلا لفلان فإنه يقول: ما عندي دين إلا لفلان؛ فهو يعرفه، لكن إذا تدين من هذا، ومن هذا، ومن هذا؛ فإن الديون تخفى عليه، ولا يذكر كل أصحابها، ولا يبالي بها والعياذ بالله، وهكذا هنا من قلّت ذنوبه علم من أين أوتي.
    5. ترقي السلف الصالح في مقام الإحسان

      فهذا كان حال السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم؛ فهم بعين البصيرة يعيشون هذه المعاني التي نحن نقرؤها عبارات مجملة عامة، فإذا امتلأ القلب بذلك تحقق هذا المعنى، يقول الحافظ : هذا هو المقصود من قوله: كنت سمعه وبصره: أن يمتلئ قلبه بمحبتي، وإجلالي، وهيبتي، وعظمتي، والجوارح إنما تتحرك وتعمل بإرادة القلب، وبحركته لها.
      يقول: (فيصبح حاله كما قيل:
      ساكن في القلب يعمره            لست أنساه فأذكره
      غاب عن سمعي وعن بصري            فسويدا القلب يبصره
      فقوله:
      ساكن في القلب يعمره             لست أنساه فأذكره
      يعني: أن من بلغ تعلقه بمن يحب إلى هذه الحالة فإنه لا ينساه حتى يذكر به؛ لأنه دائم الذكر والاستحضار له، وهذا لا يليق إلا بالله عز وجل من عباده المؤمنين.
      يقول: (قال الفضيل بن عياض رحمه الله -الإمام العابد الزاهد-: [ إن الله تعالى يقول: كذب من ادعى محبتي، ونام عني ] )، فالله تعالى يقول: (( كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ))[الذاريات:17-18]، فهؤلاء كانوا قانتين آناء الليل، وأطراف النهار.
      ويعلل الفضيل فيقول: ( [ أليس كل محب يحب خلوة محبوبه؟ ] )، وهذه قاعدة عند البشر: أن كل محب يريد أن يرى محبوبه، وأن يجلس معه، وأن يخلو به ولا يجلس معهم أحد؛ حتى يتحدث معه، ويناجيه، ويستمتع بمشاهدته.
      يقول الفضيل: ( [ هأنا مطلع على أحبابي وقد مثلوني بين أعينهم، وخاطبوني على المشاهدة، وكلموني بحضور، غداً أقر أعينهم في جناني ] ).
      وقد أخذ الفضيل هذه الكلمات من قوله تعالى: (( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ))[السجدة:17]، فالجزاء من جنس العمل، فهؤلاء القوم كانوا يناجون الله تبارك وتعالى، ويتقربون إليه في جوف الليل، ويخلون في أوقات مع الله تعالى ولا يراهم أحد، فأخفوا عبادتهم وصلتهم ومناجاتهم لله تبارك وتعالى، فلذلك أخفى الله عز وجل جزاءهم أيضاً، وكأنه يقول أنتم تقولون: هذا يا رب بيننا وبينك لا يطلع عليه مخلوق؛ حتى كان بعض السلف لا تدري زوجته ولا جاريته عن عبادته، وعن ذكره، وعن استغفاره في السحر، ولا عن صدقته، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( ورجل تصدق بصدقة فلا تعلم شماله ما أنفقت يمينه ).
      فهذا الذي يخفي ما بينه وبين الله كانت النتيجة والجزاء من جنس العمل، (( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ))[السجدة:17] فيخفي الله عز وجل جزاءهم، ولم يقل: أعطيهم كذا وكذا، وإنما وعدهم وعداً عظيماً مجملاً؛ حتى تظل النفوس مشتاقة، فيقولون: نعلم أن في الجنة من الحور، وفيها من الذهب، وفيها من الفضة، وفيها أنهار من لبن، ومن عسل، فماذا أخفى الله لهؤلاء؟! فلا يدري ما ذلك، فهذه حاجة خاصة بين أولياء الله سبحانه وتعالى وبين ربهم ووليهم الكريم المنان عز وجل؛ الذي يعطي كما يشاء سبحانه وتعالى.
    6. ترقي المقربين في درجات الإحسان، وانحدار العصاة في دركات الشيطان

      يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله: (ولا يزال هذا الذي في قلوب المحبين المقربين يقوى) يعني: لا تزال المعرفة والإجلال والتعظيم لله عز وجل يقوى (حتى تمتلئ قلوبهم به، فلا يبقى في قلوبهم غيره، ولا تستطيع جوارحهم أن تنبعث إلا بموافقة ما في قلوبهم) حتى إن الإنسان منهم في منامه لا يحلم ولا يرى إلا الجنة، أو النار، أو قراءة القرآن، أو الذكر، أو الجهاد، أو العمل الصالح، فالجوارح أصبحت لا تستطيع أن تعمل إلا الخير.
      وفي المقابل نجد من أسود قلبه، وطبع عليه وغلف، وتملكه الهوى والشيطان، لا تستطيع جوارحه أن تنبعث في شيء من الخير، فقد يركض ويجري الساعات الطويلة في الشهوات، وإذا قلت له: تعال صل ركعتي الفجر، أو صلاة الظهر؛ وجدها ثقيلة جداً، ولا تستطيع جوارحه أن تنبعث وأن تنطلق لتعملها، ولا يستطيع أن يستمع إلى شيء من كلام الله؛ لأن القلب إذا امتلأ بشيء فإن الجوارح لا تستطيع أن تنبعث أو تتحرك بخلافه.
      فالمؤمنون الذين امتلأت قلوبهم بمحبة الله، ومعرفته، والأنس به؛ إن جاء جهاد انطلقت الجوارح، وإن كان ذكر لله عز وجل، أو أمر بمعروف ونهي عن منكر، أو ابتلاء في ذات الله؛ تحركت الجوارح، وصبرت وتحملت، وأما إذا كانت معصية فلا يستطيع أن يستمع إلى صوت فاجرة مغنية، ولا يستطيع أن يرى شيئاً مما حرم الله، ولا تستطيع يده أن تطاوعه كي يبطش بها، أو يضرب بها في غير موضع شرعي؛ لأن ذلك كله يرجع إلى القلب، ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب )، فالقلب إذاً هو الذي يمتلئ بهذا أو بهذا.
    7. مذهب أهل الحلول والاتحاد في فهم قوله: (كنت سمعه الذي يسمع به...)

      يقول: (ومن كان هذا حاله قيل فيه: ما بقى في قلبه إلا الله، والمراد: معرفته، ومحبته، وذكره) لا كما يفهم المجرمون الزنادقة الملاحدة من أهل الحلول والإتحاد: أن ذات الله -تعالى الله عن ذلك- حالة فيه، فهذا لا يفهمه أي عربي، والعجيب أن هذا دليل على فساد فطرهم، فالعرب في جاهليتهم وفي إسلامهم مقتضى لغتهم هو ما ذكرناه، ولا يفهمون غير ذلك، فإذا قالوا: ليس في قلب فلان إلا فلان أو فلانة؛ فلا يفهم أي عربي أن فلاناً بذاته داخل في قلب فلان أبداً، وإذا قيل: ليس في قلب المجنون إلا ليلى ؛ فمعناه: ليس هناك امرأة تعلق بها، وأحبها، وشغفته حباً إلا ليلى ، وليس أنها بذاتها قد دخلت في قلبه.
      فهذا يدل على فساد الفطرة عند هؤلاء، ويضاف إليه فساد اللغة، وفساد المعتقد، فكل ذلك اجتمع لديهم، نسأل الله العفو والعافية.
      ويقول: (وفي هذا المعنى الأثر الإسرائيلي المشهور) وهو أثر مشهور على ألسنة العباد والصوفية وأمثالهم، وليس حديثاً قدسياً صحيحاً، وإنما مجرد كلمة مأثورة، فيقولون: (يقول الله: ما وسعني سمائي ولا أرضي، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن)، ولو صحت هذه الحكمة والعبارة فالمقصود بها: معرفتي وذكري.
    8. غيرة الله على عباده

      يقول: (وقال بعض العارفين) محذراً تلاميذه؛ ليكونوا من المقربين إلى الله: (احذروه فإنه غيور لا يحب أن يرى في قلب عبده غيره )، أي: إن كنتم تدعون وتزعمون محبة الله حقاً فإنه غيور، ولا يريد أن يكون في قلب أحدكم محبة غيره، وليس معنى ذلك: أن الرجل لا يحب أباه، أو أمه، أو زوجته، أو أبناءه، ولكن المقصود: أن تكون كل محبة في قلبه تابعة لمحة الله عز وجل، فتحب الوالدين؛ لأن الله أمرك بمحبتهم، وتحب الأهل كذلك، وتحب إخوانك المسلمين في الله ولله.. وهكذا، فيكون القلب لا يحب إلا الله، أو من أمر الله تعالى بمحبته، أو من أحل الله تعالى محبته، فلا يكون في قلبه غير ذلك.
    9. خطر امتلاء القلب بمحبة غير الله

      فإذا كان يحب الله ويحب غير الله محبة تجعله يعصي الله عز وجل فهذه درجات، وأعظمها أن تحب غير الله المحبة الشركية، (( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ))[البقرة:165]، فجعل لله نداً، كما قيل للنبي: ( أي الذنوب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً )، أي: في المحبة والتعظيم والإجلال، (( وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ))[البقرة:165]، فإذا كان الأمر كذلك فهذا هو الشرك الأكبر.
      أو دون ذلك: كأن يحب الرجل من يأمره، أو من لو أمره أن يعصي الله لأطاعه، وعصى الله؛ لأنه يحبه ولم يستطع أن يخالفه، فحتى لو أمرك والداك بذلك وهما أعظم البشر، وحقهما أعظم حق بعد حق الله عز وجل؛ فلا تطعهما، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق )، فإذا عصى الله عز وجل من أجل الوالد، أو الزوجة، أو الصديق، أو المدير، أو الرئيس، فإنه يكون قد وقع في نوع من هذا، وربما أفضى به فيما بعد -والعياذ بالله- إلى الوقوع في الشرك والندية.
      فبعض الناس يظن أن سعادته تكون من هذه المرأة، أو أن رزقه يكون من هذا الرئيس، أو المدير، أو المسئول، فلهذا يحب الله ويطيعه في أمور، ويطيع هذا أو هذه في أمور وإن خالفت أمر الله، وهذا غير صحيح، فكل شيء لله عز وجل، (( وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ))[النجم:42] أي: منتهى كل شيء؛ فابحث عن أسباب الرزق فإنك تجدها تنتهي إلى الله عز وجل، فالتجارة من سخرها ودبرها؟ ومن أعطاكها؟ إنه الله، والوظيفة كذلك، والوالدان من سخرهما وجعلهما يرعيانك ويحبانك؟ إنه الله، وابحث في أي نعمة من النعم تجد أنها من سبب إلى سبب إلى سبب، وفي النهاية تجد الله عز وجل، فهو الذي بيده كل شيء، وعنده خزائن كل شيء، (( مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ))[هود:56].
      وأما المخلوق فلا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا يملك بعثاً ولا حياة ولا نشوراً، ولا يملك كشف الضر ولا تحويلا.
    10. تقديم محبة الله على كل محبة ومراده على كل مراد

      إذاً: يجب أن تقدم محبة الله تعالى على كل محبة، وتقدم مراده على كل مراد، فمن أمرك بأمر فيه معصية لله عز وجل فلا تطعه كائناً من كان، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
      يقول: (وفي هذا المعنى يقول بعضهم:
      ليس للناس موضع في فؤادي            زاد فيه هواك حتى ملاه
      وقال آخر:
      قد صيغ قلبي على مقدار حبهم            فما لحب سواهم فيه متسع )
      يقول: (وإلى هذه المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته لما قدم المدينة فقال: ( أحبوا الله من كل قلوبكم )، كما ذكر ذلك ابن إسحاق في سيرته).
      والمقصود من هذه كلها: أن القلب لا يكون فيه شيء لغير الله، كما قال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله: [ أن تكون حركاته وسكناته لله عز وجل، لا يخالطه شيء، ولا يمازحه شيء ].
      إذا: فهذا هو معنى: ( كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها )، فتصبح أعماله كلها لله، فإن أعطى أعطى لله، وإن منع منع لله، وإن أحب أحب لله إن أبغض أبغض لله، وإن نطق وتكلم فبذكر الله، وما والاه، وفي سبيل، وحتى إن نام: [إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي]، فيجعل حياته كلها لله، فهذه هي درجة المقربين أولياء الله تعالى.
      قال رحمه الله: (فمتى امتلأ القلب بعظمة الله تعالى محى ذلك من القلب كل ما سواه، ولم يبق للعبد شيء من نفسه وهواه، ولا إرادة إلا لما يريده منه مولاه، فحينئذ لا ينطق العبد إلا بذكره، ولا يتحرك إلا بأمره، فإن نطق نطق بالله، وإن سمع سمع به، وإن نظر نظر به، وإن بطش بطش به، فهذا هو المراد بقوله: ( كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها ) ) ولذلك: جاء في بعض الروايات -كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله-: ( فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش ) هو غير الله -تعالى عن ذلك علواً كبيراً-، وهو يسمع ويبصر؛ لكن بالله، ويبطش بالله، فيعمل لله، فالجوارح لا تتحرك إلا لله، وفي الله.
      قال: (ومن أشار إلى غير ذلك فإنما يشير إلى الإلحاد من الحلول والإتحاد، والله ورسوله بريئان منه).
      يريد الحافظ ابن رجب رحمه الله أن يحذرنا ممن يقولون: إن قوله: ( كنت سمعه وبصره ) هو بمعنى الحلول، أي: -أن الله- تعالى عن ذلك علواً كبيراً- يحل في المخلوقين؛ كما يدعي ذلك النصارى في المسيح، فيقولون: إن الله تعالى حل في المسيح عليه السلام، أو كما يدعي عباد الهند في الحلول والإتحاد لكل عابد من عبادهم، فيتعبد ويجتهد في تعذيب النفس حتى تتحد في براهما الإله عندهم كما يزعمون، تعالى الله عن ذلك، فهذا حلول واتحاد.
      وبين القولين -قول أهل السنة وفهمهم الذي أوضحناه، وبين الحلول والاتحاد- أقوال في تفسير هذا الكلام، وقد ذكرها الحافظ ابن حجر رحمه الله، وسنأتي عليها إن شاء الله، ويمكن أن نقدمها قبل أن نبين لوازم ومتعلقات ذلك.
    11. مناسبة ذكر البخاري لحديث ناقة النبي العضباء تحت باب التواضع

      وهذا الحديث هو في صحيح البخاري في كتاب: الرقاق، باب: التواضع، وهذا يدل على فقه الإمام البخاري رحمه الله، وهذا موجود في (ص340) من الطبعة السلفية، وذكر هناك حديثين: الحديث الأول: حديث ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء التي كانت لا تسبق، فجاءت ناقة الأعرابي وسبقتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن حقاً على الله ألا يرفع شيئاً في الدنيا إلا وضعه )، فليس هنالك شيء من الدنيا إلا ويوضع بعد الارتفاع، وهكذا من اتسع ملكه وسلطانه حتى صار شيئاً عظيماً فإنه يضعف يوماً، وكذلك من كثر ماله حتى صار يرى أنه لا أغنى منه؛ فإنه يأتي عليه يوم من الأيام وإذا به لا شيء.. وهكذا.
      وقد مرت فترة من الفترات كانت فيها التجارة في العالم الإسلامي عرفت في دمشق ، و بغداد ، و القاهرة ، و قرطبة ، و تركيا تمثل (80 أو 70%) من التجارة العالمية، فأين هم الآن؟ وأين أموالهم وعقارهم وقصورهم؟ كله لا شيء.
      فالمهم: أي شيء من الدنيا سواء كان في القديم أو في الحديث فإنه يذهب، وقد فسر بعض العلماء -على وجه من القول- قوله تعالى: (( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ))[القصص:88]: أن كل هذه الأمور هالكة إلا ما أريد به وجه الله، فهذه الدنيا كلها ذاهبة فانية زائلة، ولا يرفع الله شيئاً منها إلا وضعه.
      إذاً فمعنى ذلك يا من ارتفعت وتكبرت وتجبرت تواضع؛ فإنك لا بد أن توضع يوماً ما، فالآن مثلاً شباب ونشاط وقوة؛ ويأتي بعد ذلك الضعف والهوان، والآن عندك مثلاً الحافظة القوية والذاكرة والعلم؛ ويأتي وقت من الأوقات -لو رددت إلى أرذل العمر- قد تسأل عن الفاتحة فلا تستطيع أن تقرأها، وكثير من العلماء الكبار الأجلاء في آخر عمره أصبح لا يميز في الصلاة، ولا يميز قراءة الفاتحة، وهكذا الدنيا وهكذا حال الإنسان فيها.
    12. مناسبة ذكر حديث الولي تحت باب التواضع

      والحديث الثاني: هو حديث: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، والمناسبة في ذكره في باب التواضع: أن أولياء الله هم المتواضعون، فلا يفهم أن الولاية صفة وسمة لأناس معينين، فعليك أن تتواضع لكل أحد من المؤمنين فلو عادينا أحداً منهم وقلنا: هذا مسكين ليس فيه خير، ولم نهتم به؛ فما يدريك أنه ولي من أولياء الله عز وجل؟ فربما أنه يدعو الله تعالى فيستجيب الله له، وقد يكون ممن لو أقسم على الله لأبره، وأنت تراه أشعث أغبر، ذي طمرين، إن خطب عندك لم تزوجه، وإن شفع عندك لم تشفعه.
      ولا نقول كما تقول الصوفية : إن أي فاسق فاجر نائم على مزبلة، إنه قد يكون ولياً، لكن الإنسان المقيم لفرائض الله، والذاكر لله، والعابد له؛ قد لا يشار إليه بالبنان، وقد يكون كما جاء في حديث الجبار: ( قال: هذا خير من مليء الأرض من مثل هذا )، فهذا الجبار تطقطق تحته البغال والبراذين، وإذا مر انتبهوا له، وقد يأتي إنسان آخر لا ينظر إليه ولا يؤبه له، وتقول -ولو بنوع من التكبر، ونوع من الشعور بالترفع-: إنك أفضل منه. إذاً فلازم ذلك أن نتواضع لكل عباد الله، وهذا هو المناسبة لباب التواضع.