المادة كاملة    
الناظر في آيات الولاية يجد صفات يجب على المؤمن أن يتحلى بها، حتى ينال ولاية الله تعالى، فبدون الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ورفع راية الجهاد، ونصرة الحق، والذلة للمؤمنين، والعزة على الكافرين، بدون هذه الصفات وغيرها لا تحصل الولاية، فينبغي للمؤمن السعي الحثيث لتحصيلها وتحقيقها، وأولياء الله وأحبابه وأهل صفوته لا راحة لهم إلا بلقاء الله تعالى، فهم يستسهلون الصعاب في طاعة الله، ويتلذذون بها مع مشقتها، ولا يغفلون عن ذكر ربهم سبحانه، ويتقربون إليه بكل ما يقربهم إليه، مما يوافق الوحي.
  1. وقفات عامة مع آية الولاية

     المرفق    
    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد:
    فبفضل الله تعالى وتوفيقه نكمل شرح الحديث العظيم، الذي ذكره الإمام الشارح ضمن حديثه عن الولاية، وهو حديث (الولي) الذي ذكرنا طرقه والحكم عليها، فقرأنا طائفة من شرحه من كلام الإمام الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى، وكان آخر ما وقفنا عنده هو ما كان يتحدث عنه الحافظ ابن رجب رحمه الله من أوصاف الذين يحبهم ويحبونه، بعد أن تحدث عن الفرائض التي تقرب إلى الله تبارك وتعالى، وذكر الآية وهي قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ))[المائدة:54].
    آخر ما وقفنا عليه قوله: (من فاته الله فلو حصلت له الجنة بحذافيرها لكان مغبوناً)، وهذا كلام عظيم لا يقدر قدره إلا من عرف الله عز وجل، وعظم الله حق تعظيمه، وقدره حق قدره.
    يقول: (من فاته الله، فلو حصلت له الجنة بحذافيرها، لكان مغبوناً -على فرض أنها الجنة-، فكيف إذا لم يحصل له إلا نزر حقير يسير من دار كلها لا تعدل جناح بعوضة؟!).
    هذه الدار التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: ( لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء )، فكلها لا تعدل جناح بعوضة، ويستمتع فيها الكفار من قديم الزمان إلى نهاية هذه الدنيا، فكم نصيب الكافر الواحد منها؟ كم نصيب الكافر الواحد من هذه التي كلها لا تعادل جناح بعوضة؟
    نسبة عجيبة جداً لو تأملها الإنسان بذهنه وخياله، فهذا آثرها على الله والدار الآخرة، وباع حظه من الآخرة، وحظه من محبة الله ومعرفته، بهذه العاجلة الفانية الحقيرة التافهة.
    ثم يقول: (ثم ذكر وصف الذين يحبهم الله ويحبونه، فقال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ))[المائدة:54]).
    إذاً: أول وأعظم درجات القوم هؤلاء هي: أنهم يحبهم الله ويحبون الله.
    ثم أتى بالوصف الثاني لهؤلاء المحبين فقال: (( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ))[المائدة:54] يقول: (يعني: أنهم يعاملون المؤمنين بالذلة واللين وخفض الجناح، ويعاملون الكافرين بالعزة والشدة عليهم والغلظة لهم، فلما أحبوا الله أحبوا أولياءه الذين يحبونه، فعاملوهم بالمحبة والرأفة والرحمة، وأبغضوا أعداءه الذين يعادونه؛ فعاملوهم بالشدة والغلظة، كما قال تعالى: (( أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ))[الفتح:29]).
    إذاً: الوصف الأول: أنهم أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين، ولو تأملنا هذه الآية لوجدنا أنها بينت آيات الولاية المحذرة من موالاة الكفار، فإنه أول ما ابتدأ هذا المقطع والموضوع من الآيات، ابتدأ بقول الله تبارك وتعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ))[المائدة:51] ثم جاءت آية، ثم هذه الآية، ثم بعد ذلك -بعد أن أكمل هذه الآيات- ذكر آية الولاية، وذكر أولياء الله، وأنهم حزب الله (( فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ))[المائدة:56].
    ثم حذر بعدها فقال: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ ))[المائدة:57] إذاً: قبلها آية تحذير، وبعدها آية تحذير من اتخاذ الكفار أولياء، فبين التحذيرين من موالاة الكفار تأتي صفة المؤمنين، الذين يستبدل بهم الله تبارك وتعالى من يترك دينه ويعرض عنه ويرتد، ويتخلى عن القيام بحمل هذه الدعوة، والوفاء بعهد الله، وميثاقه في نصرة هذا الدين، وحمل ميراث النبوة، ورفع لواء سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذروة ذلك الجهاد في سبيل الله عز وجل.
  2. تحقيق صفتي العزة على الكافرين والذلة على المؤمنين وعاقبة التخلي عن صفة الولاية

     المرفق    
    ينبغي أن تكون الأمة المؤمنة كما أمر الله بها في قوله: (( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ))[آل عمران:104] وترفع لواء الجهاد في سبيل الله، وتنصر الحق، موجودة أو لا توجد، أو ترتد كما ارتدت طائفة كانت تدعي ذلك، فإن الله سبحانه وتعالى لن يضيع دينه، فسوف يأتي بقوم آخرين، كما قال تعالى: (( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ))[محمد:38] فيأتي الله تبارك وتعالى بقوم هذه صفتهم.
    وهذا دليل على أن الأمة التي تتخلف فيها هذه الصفات، هي أمة متروكة مخذولة ليست من أولياء الله، بل يتخلى عنها الله عز وجل ويعاقبها بما يشاء، يسلط عليها أعداءها، يسلط عليها الفرقة فيما بينها، يشتت جمعها، يذلها بمن يشاء من عباده مؤمنين أو كافرين، يبتليهم بالخوف، يبتليهم بالجوع، يبتليهم بما ذكر من مصائب وعذاب الأمم السابقة، أو كما يشاء، ويأتي بالبديل وهم القوم الذين هذه صفاتهم.
    1. تحقيق صفة الذلة على المؤمنين

      لما كان موضوع الولاية بهذا النهي والتحذير عن موالاة الكفار، وبهذه المثابة وبهذه المنزلة، جاء من صفات المؤمنين الذين يأتي بهم الله تبارك وتعالى عوضاً عمن ارتد عن دينه، من صفاتهم أنهم أذلة على المؤمنين، كما علل الشيخ رحمه الله بأن هؤلاء يحبون الله، ويحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحبون الدين، فمن كان من أهل الدين والإيمان، من أهل محبة الله، من عباد الله الصالحين، من أهل اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم أذلة معه، يعاملونه باللين والرحمة والشفقة وخفض الجناح؛ لأنهم ينظرون إلى دينه، وإلى محبوبه، وإلى غايته وإلى همه ومراده، وهو الله واتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيعاملونه بمقتضى ذلك، فهو أخوهم وحبيبهم وخليلهم وقريبهم، حتى لو أخطأ عليهم يعفون عنه ويتجاوزن، ولا يغلظون عليه؛ لأنهم ينظرون إلى قوة صلته بالله ومحبته له، فمن أحب الله حقاً فإنه لا بد أن يحب كل من أحب الله من الأحياء أو من الأموات.
      لو أنك فتحت كتاباً من كتب التاريخ، فقرأت سيرة رجل عالم عابد داع إلى الله، آمر بالمعروف ناه عن المنكر لأحببته وليس بينك وبينه أي صلة، قد يكون من بلاد الهند ، أو الترك، أو آخر إفريقيا ، أو أطراف الدنيا، ولكن لما وجدت صفته بهذه الحال تحبه وتترحم عليه، وتترضى عنه، وتسأل الله سبحانه وتعالى أن يكثر من أمثاله في هذه الأمة.
      كذلك لو لم يكن هنالك أي رابطة إلا أن الإنسان المؤمن يقرأ عن الماضين أو عن المعاصرين في أقاصي الدنيا، أن رجلاً منهم حاله وشأنه من البعد عن الله، ومن محادة الله ورسوله، ومن ارتكاب ما حرم الله؛ فإنه يبغضه.
      إذاً: هذا أمر يكون في قلب كل مؤمن، ودرجته ومقداره تكون بمقدار إيمان الإنسان ومحبته لله، فـ كلما عظمت محبة الله تبارك وتعالى في قلب العبد المؤمن عظمت محبة أولياء الله وأحباب الله، فكان خافضاً للجناح ذليلاً أمامهم، لاحظوا كلمة (( أَذِلَّةٍ ))[المائدة:54] والذل هذه صفة الأصل فيها أنها عند الإنسان صفة مكروهة لا أحد يريدها، ولا يتمناها، ولا يصف بها إخوانه، ولا يصف بها أحداً ممن يحب، ومع ذلك جاءت هذه الصفة في هؤلاء، يعني: لم يقل فقط: (رحماء)، وقد قال في الآية الأخرى عندما وصف الصحابة فيما بينهم: (( رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ))[الفتح:29]، لكن عندما ذكر شروط هؤلاء القوم جاء بوصف أبلغ من مجرد الرحمة وهو الذلة؛ لأنك قد ترحم إنساناً لكن أن تكون ذليلاً له فهذه مرحلة أعمق من ذلك، فهذا دليل على أن هذا الشرط مهم ودقيق وضروري، ولا بد منه لمن يريد أن يكون من هؤلاء القوم.
      وعليه فإذا وجدت الإنسان غليظاً على المؤمنين، شديداً على الصالحين، عنيفاً على المتقين، بأي سبب؛ حتى لو يرى أنهم ظلموه في دنياه أو خالفوه في رأي أو فتيا؛ فاعلم أنه فقد صفة أساسية من هذه الصفات، ولا يمكن أن توجد الولاية أو المحبة لله مع وجودها، ولا بد من ترك ما يضادها.
    2. تحقيق صفة العزة على الكافرين

      إذا كان الإنسان ذليلاً للمؤمنين وفي المقابل مع الكافرين عزيزاً غليظاً عليهم فقد حقق الشرطين، وهذا لا يتعارض مع العدل، والغلظة على الكافر ليست ظلماً للكافر، بل هي عدل؛ ولذلك نحن عندما نجاهدهم فإننا نجاهدهم؛ لأن الجهاد عدل، ونجاهدهم ونغلظ عليهم كما أمر الله تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: (( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ))[التوبة:73]، وقال سبحانه: (( وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ))[التوبة:123].
      فهذه الغلظة من العدل، وليس فيها اعتداء، بل هي حق، وليست الغلظة أيضاً بغياً، فنحن حين نجاهدهم فإننا لا نقتل إلا من أمر الله تعالى بقتله، ولا نقتل من نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله، ففي كل أمورنا نحن مقيدون بالعدل وبالقسط وبالحق.
      إذاً: هذا لا يتعارض مع العدل، والغلظة أن يرى عدو الله تعالى منك ما يغيظه ويكدر أمره، إما بكلمة غليظة، ولا نعني بكلمة غليظة أن المسلم يسب أو يشتم، وإنما بالقوة في الحق والموقف، وإما عملاً يسيء إليه، كأن تهدم ما يبني هذا الكافر، وتحبط عمله، وتجتهد في رد كيده، وإفشال سعيه.
      وإما إن كان أعلى من ذلك كمن يريد بالإسلام والمسلمين حرباً، فتحاربه وتقاتله وتقتله إذا لم يكف شره إلا بذلك، وإذا لم يخضع لحكم الله ويدفع الجزية فإنه يقاتل حتى يقتل.
    3. الخلل في تحقيق صفتي العزة على الكافرين والذلة على المؤمنين

      هاتان الصفتان لا بد أن تكونا مقترنتين؛ ولذلك كان أكبر خطأ يخطئ فيه كثيراً من الناس أنهم يغلظون على المؤمنين، ومن أغلظ على المؤمنين فإنه يؤدي به أن يتساهل مع الكافرين، وهذا أمر يجده كل إنسان من نفسه، فالله سبحانه وتعالى جعل في نفس الإنسان هذين العاملين:
      الحب، ومقتضاه: اللين، والرأفه، والرحمة، والذلة.
      البغض، ومقتضاه: العنف، والقسوة، والشدة، والمقاتلة.. إلى آخره.
      فلو أن الإنسان أخطأ في أحدهما، فإنه يخطئ في الآخر لا محالة، فتجد بعض من يلين القول مع الكفار فإنه يغلظ على المسلم، فإذا تعامل مع الكفار وودّهم، وأحبهم وخالطهم، فجاء إنسان وتكلم في الكفار والكافرين وحذر منهم، وبين أنهم أعداء الله أغلظ هذا المحب للكفار، وأنكر عليه.
      وكذلك لو أنه أغلظ على إخوانه المؤمنين وكان شديداً عليهم، فإن هذا قسط من عداوته للكافرين صرفه وحوله إلى إخوانه المؤمنين.
      فتجد من شغله الله بالطعن والعيب والعداوة للمؤمنين لا يجد وقتاً ولا يفرغ للطعن والحرب والعداوة لأعداء الله الكافرين ولذلك يجب على المؤمن أن يحفظ هذا الميزان الدقيق، وأن يجعل نفسه كما أمر الله تعالى.
      فقوله تعالى: (( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ))[المائدة:54] يجب أن نأخذ هذه الكلمة بكل ما تحمله من معنى وليس في ذلك غضاضة، فإن ذل المسلم لأخيه المسلم عز له عند الله عز وجل، فإن ذلك يورثه الدرجة العليا، وهي: أن يكون ممن يصطفيهم الله عز وجل، فأنت لا تنظر إلى أن أخاك المسلم أخطأ عليك، أو أخطأ في اجتهاد أنه خالفك فيه، بل انظر إليه هل هو ممن يحب الله ورسوله فتجتمعان في محبة الله أم لا؟
      ومن عادة الناس في أمور دنياهم أنهم إذا كان أحد منهم يحب أحداً فإنهم يستشفعون إليه بمن يحب، فلو أن شخصاً يعلم أنك تحب إنساناً معيناً، وأراد أن تخدمه في قضية وموضوع، قال: أنا من أصحاب فلان -الذي تحبه- فبيني وبين فلان معزة وأخوة ومحبة، حتى لو كان قد أخطأ عليك وعمل لك مشكلة، فعندما يقول لك: اعلم انني من أصحاب فلان، وأن فلاناً يحبني -وأنت تحب ذاك الرجل وتقدره جداً- فتقول: من أجل فلان أسامحك، وتتحول المشكلة إلى محبة وأخوة من أجل فلان، والجامع بينك وبينه أن كلاً منكما يحب فلاناً.
  3. أقسام الناس تجاه الطائفة المنصورة وصفات هذه الطائفة

     المرفق    
    الناس مع الطائفة المنصورة على قسمين:
    الأول: أعداء؛ فهؤلاء يقاتلون.
    الثاني: مُقِرَّون وموافقون للطائفة المنصورة، لكنهم يخذلونهم ولا يعاونونهم، فهاتان ليستا من الطائفة المنصورة.
    الطائفة المنصورة: تدعو، وتأمر، وتنهى، وتجاهد، فمن خذلهم فليس منهم، ومن قاتلهم فهذا عدوهم مستحيل أن يكون منهم.
    وقد قرأنا العقبات السبع من كلام ابن القيم رحمه الله، العقبة السابعة: عقبة المراغمة -أي: الجهاد- لا بد منه، فعندما ذكر العقبات وأن كثيراً من الناس يتركها ويتجاوزها، ومنها: عقبة الشرك، فالحمد لله كثير من المسلمين لا يشرك بالله.
    كذلك: عقبة الكبائر، يوجد لله عباد لا يرتكبون الكبائر، لكن العقبة التي لا يستطيع أحد أن يتداركها أو يتجاوزها: عقبة المراغمة، لا بد أن يسلط الله تبارك وتعالى عليه من يعاديه ومن يؤذيه.
    ولهذا يذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه الفوائد قصة سلمان الفارسي ، عندما قال له أبوه: (إما أن تعود إلى ديننا وإلا فالقيد)، فقال: (هذا الجواب هو جواب الأمم لأنبيائهم من قديم، قال: وهو الجواب الذي خوطب به الإمام أحمد عندما رفض القول بخلق القرآن، وهو الجواب الذي قيل لـابن تيمية شيخنا شيخ الإسلام رحمه الله. ثم يقول: وهو الجواب الذي قيل لنا).
    هذا لابد منه، هذا هو الجواب الأخير، إما أن يعود في ملتهم وإما أن يناله من الأذى ما يستطيعون؛ رجماً، أو طرداً، أو إخراجاً، أو أذى، وربما وصل الحال إلى ما فعله أصحاب الأخدود، وهذا شيء عجيب، وحالة نادرة أن يصل الأمر إلى أن يحرق المؤمنون، يجمعون جميعاً فيحرقون بالنار وينتهي الأمر، ويرجع الملك إلى ملكه، وتبقى الأمور مستمرة، سبحان الله! ولكن حكمة الله سبحانه وتعالى لا بد من هذا، كما قال: (( يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ))[المائدة:54].
    ولاحظوا سبحان الله! قوله تعالى: (( وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ))[المائدة:54] فيه معانٍ حكيمة وعجيبة، وكل القرآن فيه ذلك لمن تدبره وتأمله، لكن قال: (( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ))[المائدة:54] كلها صفات معروفة لا بد منها، وهي ضرورية للإنسان المستخلف الذي يريد أن يمكنه الله تبارك وتعالى، وأن ينصر بها دينه.
    1. عدم الخوف من لوم اللائمين

      لكن قوله: (( وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ))[المائدة:54] كثير من الناس لا يمنعه من قول الحق، أو السير في طريق الدعوة والاستمرار فيه إلا لوم اللائمين، واللائم إن كان قريباً أو صديقاً أو محباً قال: يا فلان أنا أحبك وأعزك وأشفق عليك، ولا أريدك أن تؤذى، ولا أريدك أن تهان، ولا أريدك أن تذل، بل أريدك أن تقعد محترماً، وقد يكون هذا اللائم يحبه حقيقة، ولكن هذا من لوم اللائمين.
      وآخر قد يقول له: تريد الجهاد؟ أخاف عليك أن تموت فمن يبقى لنا؟ أين نذهب من بعدك؟ .. وهكذا.
      واللوم هو حرب أخرى، وهذه الحرب تسمى في مصطلحات الناس اليوم: الحرب النفسية، وحرب الأعصاب، من المهم جداً أن يتجنب اللوم؛ لأنك قد تندفع إلى الكافر وتقاتله وتجاهده تريد الجنة، كذلك تدعو إلى الله ولو أوذيت ولو عذبت تحتسب الأجر، لكن المشكلة هي أن يأتيك اللوم، فيؤثر عليك، وليس شرطاً أن يكون اللوم من العدو؛ بل إنك لا تبالي بلوم العدو، إنما إذا جاءك اللوم من المحب والموافق، وفي صورة الناصح المشفق الحنون الدءوب على مصلحتك، فلو أطعت هذا اللائم لتركت أمر الله تبارك وتعالى، وتركت الجهاد في سبيل الله، ونزلت عن الدرجة التي يريدها الله لك؛ فالله تبارك وتعالى يصطفي هؤلاء الأقوام بدرجة عالية عظيمة المقام، كمقام الأنبياء، بحيث يقفون ويقومون مقام الأنبياء، ويرثون ميراث النبوة، ويدعون إلى الله، هذه الدرجة عظيمة، فهذا اللائم القريب المحب لا يريد أن يخرجك من الدين، ولا يريدك أن تترك الحق والخير، لكن ينزلك عن هذا المقام إلى مقام بعيد، بالنسبة لهذا فإن من المؤمنين، ومن الأخيار، ومن الصالحين من هم على خير، ويكونون من أصحاب اليمين ويدخلون الجنة بإذن الله، لكن ليس هذا هو الغرض الذي تريده، ولا هو الشرط أو الصفة التي يريدها الله عز وجل فيمن يريد أن يمكنه وأن يستخلفه وأن ينصر به دينه ويظهره.
    2. وجه كون المسلم لا يخاف في الله لومة لائم

      لا بد أن يكون المسلم ممن لا يخاف في الله لومة لائم، لا يخاف أبداً ما دامت أعماله حقاً، وبميزان الكتاب والسنة.
      فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا دائماً يتحرون الحق، حتى في الأمور المندوبة، وفي السنن المستحبة، ويعلل أحدهم ذلك: بأني لا أخاف في الله لومة لائم.
      أقول: هذه الجملة من الآية من المهم جداً لطلبة العلم أن يتدبروها، يقول ابن رجب رحمه الله: (فإن من تمام المحبة مجاهدة أعداء المحبوب، وأيضاً فالجهاد في سبيل الله دعوة للمعرضين عن الله إلى الرجوع إليه بالسيف والسنان، بعد دعائهم إليه بالحجة والبرهان.
      فـ المحب لله يحب اجتلاب الخلق كلهم إلى الله، كما قال بعضهم: وددت لو أن لحمي قرض بالمقاريض، وأن أحداً لم يعص الله عز وجل، من غيرته على دين الله، وغيرته أن تنتهك حرمات الله، ومن تعظيمه لله ومحبته له، فهو لا يريد من أحد أن يغضب الله أو يتعدى حدوده، فيؤثر أن يقرض بالمقاريض ولا يعصى الله عز وجل، فهذا يعظم الله تبارك وتعالى ويحبه.
      فالمحب لله يحب أن يكون الخلق كلهم عبيداً لله طائعين له، ولا يرضى أن أحداً منهم يعصى الله أويتجاوز حدوده.
      ثم قال: (فمن لم يجد الدعوة إليه باللين والرفق احتاج إلى الدعوة بالشدة والعنف، عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل، ولا يخافون لومة لائم، ما للمحب غير ما يرضي حبيبه رضي من رضي عليه وسخط من سخط).
      ابن رجب كانت عادته كعادة ابن القيم يتكلم بروحانية وبشفافية، فيأتي بأساليب وعبارات أدبية، ثم يستشهد بالشعر، كما تقرءون لهما رضي الله تعالى عنهما، فهو لا يكتفي بكلام الفقيه أو المؤصل، بل ينتقل إلى واحة الشعر والأدب، ويبدأ يعبر بهذه التعبيرات الأدبية الجميلة، فيقول: (ما للمحب غير ما يرضي حبيبه رضي من رضي عليه، وسخط من سخط، فمن خاف الملامة في هوى من يحبه فليس بصادق في المحبة:
      وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي            متأخر عنكم ولا متقدم
      أجد الملامة في هواك لذيذة            حباً لذكرك فليلمني اللوم)
      وهذه الأبيات يقول فيها بعض الناس: إنها أبلغ أبيات قالتها العرب في الحب، وهذه الأمور ذوقية، فقد ترى أنت أن غير هذا أبلغ.
      وقال آخر:
      وأهنتني فأهنت نفسي جاهداً            أين المهان لديك ممن يكرم
      أي: من أجلك أهنت نفسي.
      فقوله:
      (أجد الملامة في هواك لذيذة            حباً لذكرك فليلمني اللوم)
      أي: أفرح حين يلومونني؛ لأنهم يلومونني في حبك، فهم يذكرونني بك، كما يقول:
      لقد نقل الواشون عنك            فقد سرني أني خطرت ببالك
      وهذه قالها أحد شعراء الهوى، يقول: كلما يقولون عنك: إنك لا تحبينني أفرح به؛ لأن المهم عندي أني خطرت ببالك، فانظر إلى هذا الحب العظيم العميق، ويخطر ببال من؟ ومن أجل من؟ وما النتيجة؟ سبحان الله!
      فكيف يكون شعور المؤمن إذا ذكر الله؛ فإنه يستشعر أن الله يذكره، كما يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: ( أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ) الله أكبر! جبار السماوات والأرض سبحانه الغني الحميد، القائل: (( إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ))[إبراهيم:8]، والقائل: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ))[فاطر:15] ومع ذلك يقول: ( إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ) فهو سبحانه بدون واسطة يعلم أنك ذكرته، ثم قال: (وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ) مهما تخيلت من ملأ في الدنيا، فالملأ الأعلى المقربون عند الله تبارك وتعالى هم خير هؤلاء، ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي بن كعب : ( إن الله تعالى أمرني أن أقرأ عليك: (( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا... ))[البينة:1]، قال: وسماني؟ قال: نعم، فبكى أبي ) هكذا يكون المحب المحبة الحقيقية، أما أهل الهوى فيقولها في حق المحبوب.
    3. انحراف الصوفية في مفهوم قوله تعالى: (ولا يخافون لومة لائم)

      الصوفية يكثرون من الأشعار ومن الدعاوى في المحبة لله -زعموا- والحقيقة أن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وأولياء الله الصالحين حققوا هذه المحبة على الحقيقة، حقوقها في قلوبهم وأحوالهم، أما الصوفية فدعوى فقط، بغض النظر عن الزندقة والكذب، وعن دعوى المحبة التي ليست إيمانية، ولو نظرنا إلى من يتكلم بهذه المحبة والود والهيام والشوق، لوجدناها كلها دعاوى، إنما هي مجرد أشعار يقرءونها وينشدونها ويتمايلون ويبكون عند سماعها، أما حقيقة هذه الأشعار والأذواق والوجدانيات.. إلى آخره، هذه عاشها الصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم حقيقة، والتابعون وأولياء الله العباد الصالحون عاشوها حقيقة وإن لم يتمثلوا بها شعراً.
      فـالصوفية مثل الذي يتكلم ويتغزل بمحبوبته، والآخر مثل الذي حصل على ما يحب، وبذل، وأعطى، وأنفق، وأكرم حبيبه، وضحى من أجله بالفعل، الفرق بين هذا المتمني من بعيد، وبين الذي يحب ويدفع ويبذل ويضحي، وإن لم يقل بيتاً من الشعر في هذا المحبوب.
      إذاً: فهذه الأبيات إنما تليق بالله سبحانه وتعالى، على تعديل في بعض العبارات أحياناً، فمثلاً قول أحدهم:
      وقف الهوى بي حيث أنت             فليس لي متأخر عنكم ولا متقدم
      أي: يجب أن تقف رغبتك ومحبتك وميولك حيثما كان أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلا تكن متقدماً عنه ولا متأخراً، هذا الذي يليق بك أن تكون عند مرضاة الله عز وجل، لا تتقدم ولا تتأخر، لا تغلو فتزيد من عندك في الدين ما ليس منه ولا تقصر؛ لأن السنة كما قال الحسن رحمه الله: [السنة وسط بين الجافي عنها والغالي فيها، فلا تتقدم ولا تتأخر عما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم].
      وكذلك قوله:
      أجد الملامة في هواك لذيذة            حباً لذكرك فليلمني اللوم
      نقول: يجب على الإنسان المؤمن أن يجد الملامة في محبة الله، وفي طاعة الله لذيذة.
      وقوله:
      حباً لذكرك فليلمني اللوم
      أي: فليلم اللوم، وليقولوا ما شاءوا؛ لأن غاية ما يقولونه هو نفس ما ذكره، كما شعراء الغزل:
      وماذا عسى الواشون أن يتحدثوا            سوى أن يقولوا إنني لك عاشق
      أي: دعهم يسبونني، وليقولوا: إنني عاشق، فهذا شيء أفتخر به، وهذا المعنى أولى أن يحققه المؤمن؛ لأنه ماذا عسى أن يقول الناس فيك؟ إلا أنك محب لله، تجاهد في سبيل الله، وتدعو إلى الله! فليكن ذلك، وهل هناك شرف أفضل أو أعظم من هذا؟ فهذا هو التعرض للوم الحقيقي.
      وتعلمون أن طائفة من الصوفية سمت نفسها الملامتية ، وألف فيهم أبو عبد الرحمن السلمي الصوفي المعروف كتاباً مطبوعاً -وإن كان قليل التداول- سماه الملامتية .
      وهؤلاء الملامتية سموا بذلك؛ لأنهم يقولون: افعل أي شيء تلام عليه، واحرص أو اجتهد في فعل شيء من العبادة لكي يلومك الناس من أجلها، وكما يقول بعضهم: اذكر الله حتى يقال: إنك مجنون، اتركهم يلومون ويقولون: مجنون، وقد وصل الحال ببعضهم إلى ما يشبه المجانين فعلاً، حتى إن بعضهم -نسأل الله العفو والعافية- غلا في ذلك، فأصبح يرتكب بعض المحرمات وهو يعلم أنها محرمة؛ حتى يلومه الناس، وحتى يسقط من أعينهم.
      فهذا ضلال في فهم اجتناب الرياء، واجتناب الاغترار وتعظيم الناس، فانظروا كيف تكون الأدواء النفسية صعبة جداً، والواحد لا يستطيع أن يعرفها، حتى قيل: إن أولياء الله وعباد الله من الصوفية إنما هربوا وفروا عن القضاء، وعن العلم، وعن مجالس الفتيا، وعن التبحر في المسائل، وعن التقرب إلى السلاطين، وعن هذه الأمور إنما فعلوا ذلك حتى يجتنبوا الناس، ويجتنبوا الدنيا، ويجتنبوا الاغترار والعجب؛ فلبسوا الثياب المرقعة، وأخذوا يأكلون مما يعطيهم الناس من أبسط العيش، وعاشوا بعيدين عن الناس، فسلموا من هذا.
      ولكن تدرج الحال، فأصبح الناس لا يعظمون القاضي لكونه قاضياً، أو الفقيه لكونه فقيهاً، إنما يعظمون من يسمونه أولياء لله، فإذا وجدوا إنساناً في زاوية من زوايا المسجد يذكر الله، ويسبح، ويقرأ القرآن، وثيابه رثة عظموه وأكرموه وأجلوه، وقالوا: ادع الله لنا، وتمسحوا به، وتبركوا به، وأينما ذهب يتبعونه، فقالوا: ما دام الأمر كذلك، فالحل أننا نخالف مراد الناس، فنفعل أفعالاً يحتقرها الناس، ويتركوننا من أجلها، حتى إن بعضهم كان يمشي في السوق، فما وجد وسيلة ليصرف الناس عنه -لأنهم كانوا يمشون وراءه ويعظمونه- إلا أن سرق جوزاً من السوق، وأخذ يأكلها، فكرهه الناس، وقالوا: هذا ليس ولي، فتركوه وتفرقوا عنه.
      فيقول أصحاب الملامتية ، أصحاب المنهج الضال، الذين يعالجون الضلال بالضلال والخطأ بالخطأ: يجب على الإنسان أن يتعرض لما يلام عليه، وأن يعمل أعمالاً يلام عليها، فيسلم من العجب والرياء والغرور.. وما إلى ذلك.
    4. المفهوم الصحيح لقوله تعالى: (ولا يخافون لومة لائم)

      يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله -وهو من أعطاه الله من الفقه والحكمة-: (عجباً لهؤلاء، أطع الله تجد من يلومك) أي: لا تحتاج أن تعصي الله حتى يلومك الناس، أطع الله، واتق الله، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر؛ تجتمع الدنيا كلها عليك لوماً.
      ولم يُلَمْ أحد والله أعلم من بعد الإمام أحمد مثل شيخ الإسلام ابن تيمية ، ما من أذى وتعذيب وسجن وتشهير وتكفير وتضليل وتبديع إلا وتعرض له؛ لأنه استقام على الحق.
      فيقول: (ليس هذا حقاً، بل استقم على دين الله، ومن غير أن تطلب اللوم فسوف تلام، وعندها يجب عليك أن تصبر، أما أن تخالف شرع الله من أجل أن تلام، فتحتسب هذا اللوم، أو تخالف حتى يدفع عنك الغرور والعجب! فهذا مخالف لمنهج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإنهم استقاموا على دين الله، ولامهم الخلق وعذبوه وأوذوا واضطهدوا، حتى أقرب الناس إليهم لامهم، فهذا أبو طالب يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد! إن قومك فعلوا كذا، وعرضوا كذا، وقالوا كذا..، فلم يأبه بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
      إذاً: أنت استقم على الدين، وافعل الخير، وأمر بالمعروف، وانه عن المنكر، وسيأتيك اللوم، وحينئذ لا تأخذك في الله لومة لائم؛ لأن هذه الصفة، هي كما قال الله تبارك وتعالى: (( يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ))[المائدة:54]، وبعد أن ذكر هذه الصفات، قال: (( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ))[المائدة:54] أي: هذه الصفات لا يمن الله تبارك وتعالى بها إلا على من يصطفيهم ويختارهم.
      إذاً: حري وجدير بكل مسلم أن ينافس وأن يسابق؛ ليكون منهم.
      ومن لا يريد أن يقدم هذه التضحيات فلن ينال هذه الدرجة، وهذا الاصطفاء، وهذا الكرم، وهذا الفضل، لأن هذا فضل الله يختص برحمته من يشاء: (( لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ))[الأنبياء:23].
      فعليك أن تجتهد لتكون ممن يختارهم الله ويصطفيهم لهذا؛ ولذلك يقول ابن رجب رحمه الله: (وقوله تعالى: (( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ))[المائدة:54] يعني: درجة الذين يحبهم ويحبونه بأوصافهم المذكورة، (( وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ))[المائدة:54] واسع العطاء، عليم بمن يستحق الفضل فيمنحه، ومن لا يستحقه فيمنعه.
      ويروى أن داود عليه السلام كان يقول: ( اللهم اجعلني من أحبابك، فإنك إذا أحببت عبداً غفرت ذنبه وإن كان عظيماً، وقبلت عمله وإن كان يسيراً )، وكان داود يقول في دعائه: ( اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، وحب العمل الذي يبلغني حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي وأهلي ومالي ومن الماء البارد ).
      وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أتاني ربي -يعني في المنام- فقال لي: يا محمد! قل: اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، وحب العمل الذي يبلغني حبك ) وكان من دعائه عليه الصلاة والسلام: ( اللهم ارزقني حبك، وحب من ينفعني حبه عندك، اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب، اللهم ما زويت عني مما أحب فاجعله فراغاً لي فيما تحب ) وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو: ( اللهم اجعل حبك أحب الأشياء إلي، وخشيتك أخوف الأشياء عندي، واقطع عني حاجة الدنيا بالشوق إلى لقائك، فإذا أقررت أعين أهل الدنيا من دنياهم، فأقرر عيني بعبادتك )، فأهل هذه الدرجة من المقربين ليس لهم همّ إلا فيما يقربهم ممن يحبهم ويحبونه).
      كما تلاحظون ابن رجب رحمه الله جعل القضية كلها تابعة لصفة المحبة، فهؤلاء القوم همهم في الدنيا هو الحصول على مرضاة الله، ومحبة الله تبارك وتعالى.
      ثم قال: (قال بعض السلف: العمل على المخافة قد يغيره الرجاء، والعمل على المحبة لا يدخله الفتور)، وقد تقدم الكلام في هذا عند الكلام على الحب والخوف والرجاء، ولكن أجمع ما يقال فيها: إن الخوف والرجاء كالجناحين، والمحبة هي الرأس، فليكن عمل الإنسان كالطائر، الرأس هو الموجه وهو الأساس، والخوف والرجاء جناحان لا يميل أحدهما عن الآخر، ولو طار الطائر بجناح واحد لسقط.
      فإذاً: العمل على الخوف قد يغير الرجاء ويضعفه، وإضعاف الرجاء لا ينبغي؛ لأنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه، ويرجو رحمة الله ).
      قال: (والعمل على المحبة لا يدخله الفتور). وهذا حق، فأي شيء تعمله وأنت تحبه لا يدخله الفتور، ولو كنت في آخر الليل وتريد أن تنام؛ لأنك مرهق، فجاءك إنسان بعمل تحبه وتشتاق إليه؛ فإنك تقوم وتنشط وتنسى النوم وتشتغل وتسهر.
      وإذا كنت مريضاً فزارك إنسان تحبه، فإنك تقوم وتنسى المرض.. وهكذا، فـ العمل على المحبة لا يلحقه الفتور، ولا يلحقه الممل ولا السأم، ولهذا كان العمل عملاً خالصاً لله تبارك وتعالى؛ لأن العبد يعمله بمحبة، وشوق، ويعمله بهذه الرغبة؛ فيكون ذلك من العمل الصالح الخالص الصالح عند الله تبارك وتعالى.
      وقال أيضاً: (ومن كلام بعضهم: إذا سئم البطالون من بطالتهم، فلا يسأم محبوك من مناجاتك وذكرك.
      قال فرقد السبخي : قرأت في بعض الكتب: من أحب الله لم يكن عنده شيء آثر من هواه، ومن أحب الدنيا لم يكن عنده شيء آثر من هوى نفسه)، وينبغي أن نقول: من أحب الله لم يكن عنده شيء آثر من محبته، حتى لا يظن أن الهوى ينسب إلى الله، ومن أحب الدنيا لم يكن عنده آثر من هوى نفسه.
      ثم قال: (فالمحب لله تعالى أمير مؤمر على الأمراء).
      يعني: الله تعالى يجعله كذلك.
      ثم قال: (زمرته أول الزمر يوم القيامة، ومجلسه أقرب المجالس فيما هنالك، والمحبة منتهى القربة والاجتهاد، ولن يسأم المحبون من طول اجتهادهم لله تعالى، يحبونه ويحبون ذكره، ويحببونه إلى خلقه) لاحظ كيف يحبهم ويحبونه؟!
    5. حتمية مصاحبة المشقة واللوم للحب

      فالعملية واحدة، والتضحية واحدة، والتعلق والتعب والمشقة لا بد منها، ولذلك لا تجد أحداً حتى من أكثر الناس تطفلاً على الحب -كما يسمونه- وعلى الغزل إلا ويكتب: الحب عذاب على سيارته، وعلى أوراقه، وعلى كتاباته، فما دام عذاباً فلا تتعذب من أجل أي شيء، بل ينبغي إذا أحببت شيئاً وتعبت من أجله فليكن ممن يستحق ذلك الحب، ولا شيء يستحق أن يُحب على الحقيقة إلا الله سبحانه وتعالى، وما والاه عز وجل، فلهذا يقول العلماء الربانيون، ومن يعرفون الله عز وجل: إن مثل هذه الأبيات التي تقال في حق المحبوبين لغير الله لا يليق أن تقال لغير الله عز وجل.
      فمثلاً: أبو فراس له أبيات عظيمة جداً في الحب، يقول:
      فليت الذي بيني وبينك عامر            وبيني وبين العالمين خراب
      إذا صح منك الود فالكل هين            وكل الذي فوق التراب تراب
      فهذا كلام عظيم جداً، لكن أبا فراس كتب هذا الشعر في ابن عمه سيف الدولة وكان يحبه؛ لكن لما اختلفا على الملك تقاتلا، وكم تقاتل من إخوة وآباء وأبناء على الملك والدنيا.
      إذاً: لا يستحق أحد أن يكون الذي بينك وبينه عامراً، ولو خرب ما بينك وبين العالمين، وأن تراقب وتراعي رضاه، ومحبته، ورغبته إلا الله عز وجل فقط، أما ما عداه فلا، ولو دققت النظر في هذا الكلام، فإنما يقال على سبيل المبالغة التي لا تصل إلى درجة الحقيقة، لكن بالنسبة لله عز وجل يمكن أن يكون وأن يوجد على الحقيقة.
  4. ضرورة تحبيب الله عز وجل إلى الخلق

     المرفق    
    لقد أضاف الشيخ هنا عبارة عظيمة جداً وهي: (ويحببونه إلى خلقه)، كثير من الدعاة ومن طلاب العلم ينسى هذا المعنى، يقول: أنا أحب الله ويكتفي، لا تبغض الله تعالى إلى الخلق، حبب الله إلى الخلق، بالرفق، باللين، بالنصح، بحسن المعاملة مع الخلق، فإذا أحب الناس هذا المخلوق ورأوا أنه يدعو إلى الله، أنه عالم، أنه مفت، أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ففيه صفة من صفات أولياء الله؛ لأن أعماله من الأعمال التي تقرب إلى الله، وعاملهم بالمعاملة اللينة الحسنة التي يحبونها، هذا من غير تنازل أو تهاون أو مداهنة في الدين، ليس هذا هو المقصود، إنما عاملهم بذلك فأحبوا الذي يتدين له هذا العبد -وهو الله عز وجل- فهو عندما يقوم بأي معاملة أو قضية لشخص، قال: ما خدمني في قضيتي إلا واحد ما شاء الله وهو إنسان فيه خير ومستقيم وطالب علم. فهذا يحب الدين، ويحب الله الذي يحبه هؤلاء المتدينون.
    إذاً: يحببونه إلى خلقه، ومن تحبيب الله إلى الخلق التذكير بنعم الله ولهذا نوصي إخواننا في خطب الجمعة وفي المواعظ، من الحكمة فيها أن تكون من موضوعاتها، أو مما تستفتح به تحبيب الله إلى الخلق، وبيان نعم الله عليهم، وتذكيرهم بها، فإذا ذكرتهم بنعم الله عليهم؛ أحبوا الله، واستشعروا التقصير والتفريط، وأنه لا يليق بالإنسان أن يقابل هذه النعم بتلك المعاصي والذنوب، مع التخويف أيضاً والوعيد، لكن هذا جانب قد يغفل عنه، فتجد كثيراً من الوعاظ يقول مثلاً: هذا حرام، والله تعالى توعد عليه بكذا، وهذا حرام ومن فعله فقد توعده بكذا! وينسى الجانب الآخر، وهو أن يذكّر الناس بالنعم، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( جبلت النفوس على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها ).
    إذاً: أنت أيها الداعية علم الناس أن الله تعالى أحسن إليهم بنعم عظيمة جداً، فإذا عرفوا ذلك أحبوا الله، فلذلك يجب علينا جميعاً أن نكون ممن بخلقه وبتعامله يحبب الله إلى الخلق.
  5. حقيقة عمل الدعاة في الأمة وأثر ذلك

     المرفق    
    يقول ابن رجب رحمه الله: (يمشون بين عباده بالنصائح، ويخافون عليهم من أعمالهم يوم القيامة يوم تبدو الفضائح)، يعني عملهم في الأمة هو النصح، كما قال تعالى عن أنبيائه وأوليائه: (( وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ))[الأعراف:68] (( وَأَنصَحُ لَكُمْ ))[الأعراف:62]، (( يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ ))[يس:20-21] فهم لا يريدون شيئاً، (( مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ))[الفرقان:57]، (( لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا ))[هود:29]، هكذا رسل الله الكرام ومن يتبعهم لا يريدون من الخلق مالاً، ولا دنيا، ولا منصباً، ولا جاهاً، إنما نصحاً وإشفاقاً ومحبة وحرصاً منهم أن يكون هؤلاء الناس على طريق الخير، الذي يؤدي بهم إلى سعادة الدارين، والفوز والفلاح في الدنيا والآخرة.
    يقول: (أولئك أولياء الله وأحباؤه وأهل صفوته، وأولئك الذين لا راحة لهم دون لقائه) كما قال الإمام أحمد رحمه الله: [لا يجد المؤمن راحة دون لقاء ربه]، ما هو الشيء الذي يمكن أن ترتاح منه قبل أن تلقى الله؟ ما يمكن؛ لأن ما أمرك الله تعالى به فهو شاق، فقد أمرك بقول الحق، وقد يكون هذا مراً وصعباً وعظيماً على النفس، وأمرك بالجهاد، وهذا شاق عليك ومجهد لك، وأمرك بالصلاة، تقوم لصلاة الفجر، وإن كنت تؤثر النوم والفراش الوفير والدفء، فتقوم إلى الصلاة لتلبي داعي الله سبحانه وتعالى، وتنفق من مالك الزكاة الواجبة، أو الواجبات غير الزكاة، أو الصدقات، والمال أحب إليك، وهكذا تقاطع ابنك أو أخاك أو قريبك؛ لأنه أعرض عن طاعة الله مثلاً، وهكذا فلا راحة في الدنيا.
    ثم إن أعداء الله وأعداء الدعوة وأعداء الحق لا يتركونك ما دمت حياً، فلا يجد المؤمن الراحة الحقيقية إلا إذا تنزلت عليهم الملائكة: (( أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ ))[فصلت:30] فدون لقاء الله لا يستطيع الإنسان أن يرتاح، حتى لو سلم من كل شيء فرضاً، فإنه لا يضمن لنفسه حسن الخاتمة، فهو يخاف -والعياذ بالله- أن يختم له بخاتمة السوء، فهو دائم الخوف من الله سبحانه وتعالى، والخوف مما أمامه.
    فإذا بشر بهذه البشرى ولقي الله عليها ارتاح، ولهذا يقول: (( قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ))[الطور:26] كانوا مشفقين خائفين في الدنيا، فأصبحوا بعد ذلك آمنين مطمئنين، أبدل الله تعالى هذا بهذا، (( لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ))[فاطر:35] (( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ))[فاطر:34] إذاً: كانوا في الدنيا حزينين مشفقين وجلين خائفين؛ ولذلك جاءت الجنة لا حزن فيها ولا خوف ولا وجل، وإنما الطمأنينة، (( وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا ))[الفرقان:75]، ويبشرون بنعم الله تعالى، ويتمتعون بالنظر إلى وجه الله، وإلى لقاء ومجالسة أحباب الله، الذين كانوا يحبونهم في الدنيا ولم يروهم، والآن يرونهم؛ لأنك أنت في الدنيا تحب كثيرين ولا تستطيع أن تراهم، لأسباب كثيرة جداً، أما من مات ممن تحب فهذا أمر قد سبق، فهل نستطيع أن نرى النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة في الدنيا؟ لا، لكن في الآخرة نراه بإذن الله تعالى.
    وأيضاً يأتي أقوام من بعدك تحبهم، لكنك ما رأيتهم، ولا تستطيع أن تعيش حتى تراهم، ففي الدنيا لا تستطيع أن تحصل فيها على كل شيء تريده، فهي ضيقة دائماً.
    لكن الآخرة من نعيمها أن الله يجمع لك بين هؤلاء وهؤلاء، فتلتقي بمن تحب، وأول شيء وأعظم محبوب هو الله عز وجل، فالمؤمنون يرون ربهم عز وجل، وهو أعظم نعيم في الجنة على الإطلاق.
    وترى من تحب من الماضين وإن كانوا قبلك بقرون، فلو أحببت أن ترى آدم عليه السلام، أو نوحاً عليه السلام، أو المؤمنين ممن نجوا مع نوح في السفينة، أو الصحابة، أو الأئمة كالإمام أحمد -مثلاً- وأئمة الإسلام، وكل من تحب أن تراه، وكذلك الذين لم يأتوا بعد؛ ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( وددت لو أنا رأينا إخواننا -كان يتمنى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك- قالوا: يا رسول الله! ألسنا إخوانك؟ قال: لا، أنتم أصحابي، لكن إخواني قوم لم يأتوا ) هم الذين -نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم- الذين وجدوا الكتاب فاتبعوه، ولم يروه صلى الله عليه وسلم.
    فهذا يحصل في الجنة بإذن الله تبارك وتعالى، والشاهد أن المؤمن لا يجد راحة دون لقاء ربه.
    ثم قال: (قال فتح الموصلي : المحب لا يجد مع حب الله للدنيا لذة، ولا يغفل عن ذكر الله طرفة عين).
    وبعض هذه الأقوال والآثار المنهج فيها معروف، فهي قد تحكى ولا يعني أن تلتزم بها بكل دقة.
    ثم قال: (وقال محمد بن النضر الحارثي: ما يكاد يمل القربة إلى الله تعالى محب لله، وما يكاد يسأم من ذلك).
    ولا شك أن من أحب الله تعالى حق المحبة، فإنه لا يمل القربة إلى الله ولا يسأم، ولا يكاد يسأم، لكن النفس البشرية من طبيعتها أنها تمل وتسأم، ولهذا ينبغي للمؤمن أن ينوع في العبادة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ألا يتكلف في العبادة ما لا يطيق: ( فإن الله لا يمل حتى تملوا ) فإذا سئمت أو مللت، أو كدت تسأم أو تمل من قراءة القرآن أو صلاة أو أي عمل فكف عنه فإن الله لا يمل حتى تملوا.
    ثم قال: (وقال بعضهم: المحب لله طائر القلب، كثير الذكر، متسبب إلى رضوانه بكل سبيل يقدر عليها من الوسائل والنوافل، دأباً وشوقاً).
    ولذلك قال تعالى في الحديث القدسي: ( ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه )، فهكذا المحب لله لا يزال يتقرب إلى الله بكل شيء.
    ثم قال: (وأنشد بعضهم:
    وكن لربك ذا حب لتخدمه            إن المحبين للأحباب خدام)
    وهذا أيضاً مما ينبه عليه وهو إطلاق الخدمة على العبادة، وقد تجده أحياناً في كلام بعض العلماء، وأكثر من يستخدم ذلك الصوفية ، والصحيح أن العبادة أجل من الخدمة.
    والأصح في حق الله تبارك وتعالى ألا نستخدم إلا الألفاظ الشرعية، فنقول: عبادته، ولا نقول: خدمته.
    ثم قال: (وأنشد آخر:
    ما للمحب سوى إرادة حبه            إن المحب بكل حال يصرع)
    وهذا أيضاً يؤكد ذلك، فهو كله في محبة الله تبارك وتعالى.
  6. وسائل الحصول على ولاية الله

     المرفق    
    قال رحمه الله: (ومن أعظم ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى من النوافل: كثرة تلاوة القرآن، وسماعه بتفكر وتدبر وتفهم).
    هذا أمر عظيم جداً؛ لأن الكلام عن كيف ننال ولاية الله تبارك وتعالى؟ وكيف ننال محبته عز وجل؟ وكيف نتقرب إلى الله؟
    فالتقرب إلى الله بالصلاة، وهذا قد سبق في قوله رحمه الله: (وأعظم فرائض البدن التي تقرب إليه الصلاة).
    فأعظم الفرائض البدنية للتقرب إلى الله هي الصلاة، وأعظم النوافل قراءة القرآن، وهذا من فقه الإمام ابن رجب رحمه الله أنه جعل أعظم الفرائض الصلاة، وأعظم النوافل قراءة القرآن.
    ثم قال: (قال خباب بن الأرت لرجل: [تقرب إلى الله تعالى ما استطعت، واعلم أنك لن تتقرب إليه بشيء هو أحب إليه من كلامه].
    وفي سنن الترمذي عن أبي أمامة مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما تقرب العبد إلى الله تعالى بمثل ما خرج منه ) يعني: القرآن، لا شيء عند المحبين أحلى من كلام محبوبهم)، كل من تحبه في الدنيا تحب كلامه، وتحب أن تقرأ له، وتحب رسائله، وتحب أن يخاطبك، وهذه حقيقة نفسية.
    إذاً: فالواجب أن يكون أحب شيء إلى العبد ويشغل وقته به، بل ويغتني به عما سواه، أو يتغنى به، كما أن أهل الدنيا تعجبهم الأشعار فيتغنون بها، ويترنمون بها، ويتذكرونها فيكون هو كذلك، بحيث يكون على لسانه، يقرؤه ويتلوه ويتلذذ به هو القرآن كتاب الله تبارك وتعالى.
    ثم قال: (لا شيء عند المحبين أحلى من كلام محبوبهم، فهو لذة قلوبهم، وغاية مطلوبهم، قال عثمان رضي الله تبارك وتعالى عنه: [لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم].
    وهذا معيار عجيب اختبر به قلبك، وقلوب الناس.
    ويوجد كثير من الناس لا يستطيع أن يستمع إلى عشر آيات، ولو قلت له: اجلس نقرأ عشر آيات أو استمع لهذا الشريط، فإنه لا يطيق أبداً، إما أن يقفله، وإما أن يقول لك: أنا مشغول -والعياذ بالله- لأن قلبه مطموس قد أصابه الران، كما قال تعالى: (( كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ))[المطففين:14].
    ومعنى: (ران) أي: مطبوع على قلبه ومختوم عليه أغلف، بحيث لا ينفذ إليه شيء من الحق نعوذ بالله.
    فهؤلاء موجودون والعياذ بالله، واختبر حال هؤلاء لتجد ذلك، ومن أعظم ما يجعل العبد كذلك الإدمان على سماع الأغاني والأشعار الخالية عن ذكر الله، كما جاء في الحديث: ( لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه، خير له من أن يملئ شعراً ) أي: من هذه الأشعار والأغاني، فلو أن مدمناً على سماع الأغاني أو هذه الأشعار الخالية من ذكر الله، قلت له: استمع إلى هذه الآيات، فإنه لا يستطيع أبداً، وإن كانت ذنوبه أقل فإنه يتحمل بقدر أقل.. وهكذا.
    فـعثمان رضي الله عنه يقول: [لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم].
    إذاً: لماذا الإنسان يقرأ ويقرأ، ثم يتعب أو يمل أو يضعف؟ لشيء في قلبه، فهذا هو المعيار، فانظر لنفسك فإذا وجدت نفسك لا تطيق القرآن، أو لا تستمع إليه، فاعلم أن داء ومرضاً وخبثاً يداخلك فاجتنبه، وسارع إلى العلاج وبادر إليه.
    وبهذه المناسبة أذكر أن أحد الشباب أرسل إلي رسالة يشكو يقول فيها: إنني كنت أحب طلبة العلم، وحضور حلقات العلم، وأحب المساجد، وقراءة القرآن، والآن لا أستطيع، حتى أصبحت أتخلف عن الجماعة، وأصبحت كذا نسأل الله أن يرده إلى الحق والصواب.
    1. الحث على المبادرة إلى التوبة وإصلاح النفس

      فأقول: علينا جميعاً أن نبادر إلى العلاج قبل أن يستفحل الداء، انظر كم من مريض يذهب إلى الطبيب، فإذا به بعد فترة قد مات؛ لأن المرض قد انتشر واستشرى في جسده، فما هو الحل؟ تنتظر الموت لقلبك والعياذ بالله.
      ومن فضل الله أن جعل للإنسان -حتى لو كان منغمساً منهمكاً في الذنوب إلى أقصى شيء- فرصة التوبة إليه سبحانه.
      فالمهم أن تتدارك نفسك قبل أن تحاول التوبة فلا تقبل منك عياذاً بالله.
      ثم قال: (وقال ابن مسعود: [من أحب القرآن أحب الله ورسوله].
      قال بعض العارفين لأحد طلابه: أتحفظ القرآن؟ قال: لا، قال: واغوثاه، يا لله! لمريد لا يحفظ القرآن، فبم يتنعم؟! فبم يترنم؟! فبم يناجي ربه تبارك وتعالى؟!).
      وهذا وإن كان من كلام الصوفية ، ولكن هذا القول صحيح، فالذي يريد أن يسلك طريق الله، وأن يتعلم ويتأدب وهو لا يحفظ القرآن فبم يتنعم؟ وبم يترنم؟ وبم يناجي ربه تعالى؟
      ولذلك من أكبر الأخطاء التي ارتكبها الصوفية وغيرهم ممن لا يدري عنهم: أن توضع أدعية وأوراداً وأذكاراً في كتيبات، أو في أوراق، وتنشر بين الناس، ويقال: من قرأها فإن له كذا وكذا، مما لا أصل له في الدين، فاشتغل الناس بها عن القرآن، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى الكفر والعياذ بالله.
      فـالتيجانية يقولون مثلاً: من قرأ صلاة الفاتح خير له من أن يقرأ القرآن ستة آلاف مرة، وهذا كفر لا شك فيه، ما وجدت شيئاً تجعل قراءتها خيراً منه إلا القرآن؟ لماذا لا تكذب كذبة خفيفة وتقول: من قرأها خيراً له من أن يتصدق بألف دينار -مثلاً- لكن تقول: خير من أن يقرأ القرآن؟ هل يعقل هذا؟!
      إنك مهما ابتدعت أو اخترعت واختلقت من أذكار، هل يمكن أن تكون أفضل من القرآن؟ هل تستطيع أن تأتي بشيء أفضل من القرآن؟
      نعم، كثير منهم لا يصل إلى هذه الدرجة من الكفر والعياذ بالله، لكن واقع الحال عندهم أنهم يأتون بأدعية وأوراد يقرءونها في الصباح والمساء، وأحراز منها: الجوشن الكبير، دائماً يوزع في الأسواق وعند الناس، والجوشن الصغير، والحصن الحصين، والحصون المنيعة، والعهود السبعة.. وغيرها، وأشياء كثيرة منها ما لا أصل له، ومنها ما لبعضه أصل، لكن ليس بهذه الكيفية وبهذه الهيئة، ومنها ما يكون جملة من الآيات هذا أخفها، لكن لم يرد الشرع بتحديد هذه الآيات، فيشتغل بهذه الآيات عن بقية القرآن، أو عما فضله الله على الحقيقة، فيكون هذا فضل شيئاً من القرآن على شيء من القرآن من غير دليل الشرع، وجاءت الأدلة الصحيحة أن آية الكرسي أفضل الآيات، وأن (قل هو الله أحد) تعدل ثلث القرآن، وأن الفاتحة أفضل السور..، فنحن بهذه نتبع ولا نبتدع، ونقرأ القرآن ونتنعم ونتلذذ به كله.
    2. ذكر ما يحول بين الناس والخير من أسباب

      فأقول: من أكثر ما يحول بين الناس وبين الخير هو إما صاحب فجور وشهوة، فحال بين الناس وبين القرآن بالغناء، والمزامير، والموسيقى، والأشعار، والقصص وما لا خير فيه، كما تشاهدون القنوات آخر الليل، تجد فيها الغزل والأشعار والهوى والحب -سبحان الله العظيم- لأن قلوب الناس ترق في تلك الساعات، فهم جاءوا إليها يرققونها بشيء رقيق، لكنه شهوة وفتنة، هذا الجانب الأول.
      الجانب الثاني: الذي يأتي ليسد الحاجة لكن بغير الحق، مثله كإنسان جائع فجاءه صاحب الشهوة وحرمه وتركه جائعاً، وأما صاحب الشبهة فلم يتركه جائعاً، لكن أطعمه نشارة خشب مثلاً، أو أطعمه ما لا يغني ولا يشبع.
      فأصحاب الشبهات الذين وجدوا الناس محتاجين إلى الذكر ويريدون المناجاة، أعطوهم هذه الأوراد البدعية، والأذكار غير المشروعة، وقالوا لهم: اقرءوها في الصباح، اقرءوها في المساء، اقرأها إذا قمت في الليل، اقرأها قبل أن تنام...إلى آخره، فأطعموهم ما لا يغذي، بل يضر.
      والحق هو أن القلوب إنما يكون غذاؤها وتنعمها، وترنمها، وحياتها، وروحها، وريحانها، وشفاؤها بقراءة كلام الله عز وجل حتى وإن قل التعبد بشيء من الحق ومن الخير، ولو لم يقم العبد إلا بعشر آيات، ولو لم يقرأ إلا (( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ))[الإخلاص:1] ولو لم يقرأ إلا آية الكرسي فهذا خير، لكن كلما أكثر فهو خير له، ولهذا جعل الشيخ رأس النوافل: قراءة القرآن.
      نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلني وإياكم ممن يتلون القرآن حق تلاوته، ويتلذذون بذكر الله تبارك وتعالى به، وبمناجاته، إنه سميع مجيب.
      والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
  7. أهمية محبة الله ورسوله ولوزامها

     المرفق    
    1. جعل محبة الله ورسوله فوق كل محبة

      هل هناك من يُحَبُ أعظم من الله عز وجل؟ ليس هناك أعظم من الله سبحانه وتعالى، فكل محبوب تحبه أنت فيجب أن يكون الله أحب إليك منه؛ لأنك إن أحببت الوالد، فمن الذي خلق الوالد والوالدة؟ ومن الذي سخرهما لك؟ ومن الذي حفظهما لك حتى ربياك؟ ومن الذي أودع في قلوبهما الرأفة والحنان والشفقة بك؟ إنه الله.
      لو أحببت الزوجة، فمن الذي خلقها؟ من الذي أعطاها الصفات التي أحببتها من أجلها في خَلْقِها أو في خُلُقِها؟ من الذي سخرها لك؟ إنه الله.
      وقد تحب شيخك، أو معلمك، أو أستاذك، فمن الذي أعطاه العلم؟ من الذي سخره ليعلمك؟ من الذي عقد بينك وبينه هذه المحبة؟ إنه الله.
      إذاً: كل من تحبه في هذه الدنيا وتقدره، وتعظمه، فالفضل أولاً وآخراً لله تبارك وتعالى عليك وعليه فوجب أن تحب الله أكثر من محبتك لهؤلاء جميعاً، ولهذا أشد محبة وأعظمها إلى الإنسان هي محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لما قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم: ( والله يا رسول الله! إنك لأحب إلي من كل شيء إلا من نفسي -هل أقره النبي صلى الله عليه وسلم؟ لا- قال: لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من كل شيء، حتى من نفسك، قال: الآن يا رسول الله! أنت أحب إلي من كل شيء حتى نفسي )، وهذه حقيقة الإيمان؛ لأن من كان يريد أن يكون في مثل درجة عمر ، فلا بد أن يصل به الحال إلى هذا المستوى، ألا يحب وألا يؤثر على محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أي شيء؛ حتى نفسه التي بين جنبيه؛ لأن هذه النفس إنما جاءها الخير والصلاح والهدى من غيرها، وإلا فمن أين جاءنا الخير والصلاح والهدى؟ ومن أين الوسيلة التي نصل بها إلى النعيم الأبدي الخالد عند الله سبحانه وتعالى؟ كل ذلك كان من طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    2. من لوازم محبة الله سبحانه وتعالى

      يجب أن يكون الله عز وجل أحب إلينا من أنفسنا؛ إن أردنا أن نكون من أهل الدرجة العليا وهكذا هي محبة الله تبارك وتعالى، والذلة للمؤمنين، والغلظة على الكافرين شرط في حصول ذلك، كما ذكر الشيخ رحمه الله تبارك وتعالى، ولذلك عقب على الغلظة بالجهاد، كما قال تعالى: (( يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ))[المائدة:54].
      يقول: (فإن من تمام المحبة مجاهدة أعداء المحبوب).
      إذا كنا نحب الله، فكيف نرضى ونسكت عمن يقول: إن لله تبارك وتعالى ولداً؟ كما قال ذلك اليهود و النصارى ، وكيف نرضى عن قول اليهود كما حكى الله عنهم: (( يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ))[المائدة:64]، وعندما يقول اليهود : (( إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ))[آل عمران:181] وعندما يكذبون رسل الله، وعندما يدعي النصارى أن لله ولداً، تبارك وتعالى وتنزه عن هذا القول المنكر المفترى العظيم، الذي تكاد السماوات يتفطرن منه، وتنشق الأرض، وتخر الجبال هداً؟! هكذا يقول النصارى و اليهود.
      والمشركون يعبدون من دون الله حجارة وأصناماً، ويظنون أنها تقربهم إلى الله، وأنها واسطة بينهم وبين الله، فحق الله الذي خلقهم ورزقهم يصرفونه إلى هذه الحجارة وهذه الأوثان والأشجار والقبور.. وغير ذلك، هذا أمر عظيم، فمن عرف الله وأحب الله، فإنه يجب أن يتقرب إلى الله بقتال هؤلاء -أعداء الله- الذين تركوا عبادته والإخلاص له الذي أمرهم به، كما قال تعالى: (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ))[البينة:5]، فتركوا ذلك وذهبوا إلى عبادة غير الله، والافتراء على الله، وادعوا لله تبارك وتعالى ما ليس له.
      وأقول -ولله المثل الأعلى-: هل يعقل أن تحب أحداً من الناس وتقول أنا أحبه غاية المحبة، ولا تعادي من يفتري عليه أعظم الافتراء، ويبهته أعظم البهتان؟ مستحيل، حتى إن الواحد من الناس يقال له: ألم يكن فلان حبيبك؟ فيقول: نعم، هو حبيبي وأخي، لكن لما رأيته أبغض فلاناً، وافترى عليه، وكذا وكذا كرهته، فلسان حاله يقول: ليس بيني وبينه أي شيء، لكنه أبغض من أُحب، وكذب على من أُحب، واتهم من أُحب، وأبطل حق من أُحبه محبة عظيمة؛ فكانت العاقبة أن أقطع ما بيني وبينه.
      إذاً: هكذا المؤمنون لو أحبوا الله تبارك وتعالى حق المحبة؛ لعادوا الكافرين أشد العداوة، وأحبوا المؤمنين أشد المحبة ومقتضى هذه العداوة أن يجاهدوا باليد بعد المجاهدة بالبيان، يجاهدون بالسنان مع إقامة الحجة عليهم بالدعوة والبرهان، وينتقلون معهم من حال المجادلة إلى حال المجالدة، وهذا لا بد منه، ولذلك تأتي هذه الصفة كأنها صفة لازمة، فإنك لو تأملتم السياق: (( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ))[المائدة:54] فهل المحبة صفة لازمة أو عارضة للمؤمن؟ لاشك أنها لازمة.
      وكذلك قوله: (( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ))[المائدة:54] هي صفة لازمة وثابتة.
      إذاً: يجاهدون في سبيل الله لازمة؛ لأنه مستحيل أن تكون بهذه الدرجة، وأن تدعو إلى الله ولا تجاهد في سبيل الله؛ فلابد من المجاهدة.
      هذه الأمة في مجموعها لا بد لها أن تجاهد؛ لأن من سنة الله تبارك وتعالى أنه ما قام أحد بأمر هذا الدين إلا عودي، وهذا ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم من ورقة بن نوفل ، فأول ما نزل عليه صلى الله عليه وسلم الوحي لم يكن قد قرأ عن أخبار الأنبياء من قبل، ولا علم ولا عرف ما ابتلوا به، فأتت به خديجة إلى ورقة بن نوفل ، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ( ليتني أكون فيها جذعاً إذ يخرجك قومك، فأنصرك نصراً مؤزراً، فتعجب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أو مخرجي هم؟ ) لماذا يخرجونني؟ هل قوله تعالى: (( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ))[العلق:1] فيها شيء يقتضي الإخراج أو الأذى؟ ما الذي فيها؟
      فقال له ورقة : ( ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي ) وورقة لا يعلم الغيب، ولكنه يعلم أنها قاعدة وسنة ماضية في الرسل من قبل؛ لأنه كان يقرأ عن أهل الكتاب أنه ما جاء نبي من أنبياء الله ودعا إلى الله إلا عودي وحورب وأوذي؛ فمنهم من قتل، ومنهم من طرد، أو أوذي، أو حبس، أو... إلى آخره.
      فلابد من نوع من الأذى والابتلاء يصيب الداعية إلى الله؛ ولهذا يقول الله تبارك وتعالى لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم: (( مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ ))[فصلت:43] فليس فيه جديد، (( كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ))[الذاريات:52] نفس العبارة (( أَتَوَاصَوْا بِهِ ))[الذاريات:53] يعني: هل كتب قوم نوح وثيقة؟ هل كتبت عاد إلى ثمود: إذا جاءكم وبعث فيكم رجل، ودعاكم إلى مثل ما دعانا إليه هود فقولوا له كما قلنا؟
      أبداً. لم يتواصوا به، إنما هي سنة واحدة، الطغيان واحد، والإعراض واحد، والرد واحد؛ لأنه كما قال تعالى: (( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ))[الفرقان:31].
      إذاً: ما دام الأمر كذلك فكل من تصدر لهذا الدين لا بد أن يجاهد.
      والطائفة المنصورة الموعودة بنصر الله تبارك وتعالى من صفاتها: أنهم يجاهدون ويقاتلون في سبيل الله، كما في الروايات الصحيحة ( لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم ).