قال: (فصل: وأولياء الله على طبقتين: سابقون مقربون، وأصحاب يمين مقتصدون)، ذكرهم الله في عدة مواضع من كتابه العزيز في أول سورة الواقعة وآخرها، وفي سورة الإنسان والمطففين، وفي سورة فاطر؛ فإنه سبحانه وتعالى ذكر في الواقعة القيامة الكبرى في أولها، وذكر القيامة الصغرى في آخرها. والقيامة الكبرى إذا أطلقت يوم القيامة، وذلك في قوله تعالى: ((
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ *
لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ))[الواقعة:1-2]، ثم قسمهم فقال: ((
وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً ))[الواقعة:7]، والأزواج الثلاثة هي: أصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة، والسابقون، وفي آخرها ذكر القيامة الصغرى، وهي الموت، إذ إن كل واحد بمفرده سيموت، فقال: ((
فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ))[الواقعة:83]، أي: الروح، ((
وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ ))[الواقعة:84] إلى أن قال: فأما إن كان من المقربين، أو من أصحاب اليمين، أو من الضالين المكذبين.وكذلك في سورة الإنسان قسم الناس إلى: أبرار، وعباد الله، وكفار. وبالتالي فالقسمة في سورة الواقعة والإنسان واحدة، فالكفار الذين قال الله تعالى فيهم: ((
إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالًا وَسَعِيرًا ))[الإنسان:4]، وأما المؤمنون فهم أبرار وعباد الله، وعرفنا أن عباد الله موصوفون بأنهم أعلى درجة من الأبرار؛ بأن أعطاهم الله العين؛ لأن عباد الله يشربونها خالصة من غير مزج، وأما الأبرار فيشربونها ممزوجة، فقال: ((
إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ))[الإنسان:5]، ثم وضح فقال: ((
عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ ))[الإنسان:6] من غير مزج، بل يفجرونها تفجيراً.ثم قسمهم الله في سورة المطففين إلى ثلاثة أصناف: الفجار، والأبرار، والمقربون.فذكر الفجار في قوله تعالى: ((
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ))[المطففين:7]، وذكر أن الأبرار في عليين، في كتاب مرقوم يشهده المقربون، وقال: ((
وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ *
عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ))[المطففين:27-28] فهنا تسنيم وهناك كافور، وهنا أبرار وهناك أبرار، وهنا مقربون وهناك عباد الله، إذاً فالقسمة ثلاثية وإن اختلفت الألفاظ؛ لأنه سماهم في سورة الإنسان: الكفار، وسماهم في سورة المطففين: الفجار، الفجار هم أصحاب الشمال والضالون المكذبون، فكل هؤلاء فئة واحدة، والمقربون هم عباد الله، وهم السابقون، وأما الفئة الثالثة فهم الأبرار هنا والأبرار هناك، وأصحاب اليمين في سورة الواقعة، وآية فاطر الإشكال فيها لو أن أحداً فهم أن الأصناف الثلاثة هم من هذه الأمة؛ لأن الله تعالى يقول: ((
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ ))[فاطر:32].فلو قلنا: إن الثلاثة هي عموم الأمة، فالظالم هو الكافر، والمقتصد هو صاحب اليمين، والسابق هو المقرب، فيحدث الإشكال؛ لأن الكافر ليس من المصطفين الأخيار، وليس من الذين أورثوا الكتاب، بل لا يتفق نظم الآية ومعناها؛ لأن بعد ذلك: جنات عدن يدخلونها، فكيف يدخلونها الثلاثة؟! ثم بعد ذلك تجد أنه قال: ((
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ ))[فاطر:36].إذاً أقسام الناس في سورة فاطر أربعة، وأمة الإسلام أقسامها ثلاثة، لكن في بقية السور
أمة الإسلام أو أمة الاتباع والإجابة قسمان: إما مقربون وإما أبرار، إما عباد الله إما إبرار، إما سابقون وإما أصحاب يمين. أما في سورة فاطر فأقسام هذه الأمة ثلاثة: السابقون بالخيرات، والمقتصدون وهم مقابل أصحاب اليمين هناك، وفضل من الله سبحانه وتعالى ومنة، ولذلك هذه الآية من أرجى الآيات لهذه الأمة، إذ إنه جعل الظالم لنفسه من جملة هذه الأمة المصطفاة؛ لأنهم هم القوم لا يشقى بهم جليسهم، فلذلك هو معدود من أهل الاصطفاء وإن كان قد ظلم نفسه، وأخل بما عاهد الله تبارك وتعالى عليه من الطاعة والاستقامة والإيمان الكامل، وقول الصحابة رضي الله عنهم بعد نزول قول الله تبارك وتعالى: ((
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ))[الأنعام:82]: (
يا رسول الله! وأينا لا يظلم نفسه؟ ) يؤكد ذلك والقائل ليس أي واحد من الصحابة، بل إنه
أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، أفضل الصحابة وأعلاهم درجة في الإيمان، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (
يا أبا بكر ! ألست تنصب؟ ألست تمرض؟ أليس يصيبك اللأواء؟ ) فهذه تكفر هذا الظلم الذي هو الذنوب، ثم قال عليه الصلاة والسلام: إنه ليس بذاك الظلم الذي ذكره الله وأراده في قوله: ((
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ))[الأنعام:82]، إنما هو كما قال العبد الصالح
لقمان : ((
يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ))[لقمان:13]، وعلى هذا يكون معنى الآية: الذين آمنوا ولم يلبسوا توحيدهم بشرك، أولئك لهم مطلق الأمن، لا الأمن التام والاهتداء التام إذا تلبسوا بكبائر الذنوب، لكن لو كان الإنسان من أهل التوحيد ولم يتلبس بالشرك، لكنه أسرف على نفسه في المعاصي، فإنه ينقص أمنه واهتداؤه بمقدار ذلك.إذاً كل المعاني واحدة، فالولاية تقل، والأمن يقل، والاهتداء يقل، والجزاء يقل، والتقوى تقل، والبر يقل، وكلها متفقة، فلا تتعارض الآيات، ومهما اختلفت أو تنوعت الآيات أو الأحكام أو الدلالات نجد في النهاية أن ما يقوله
أهل السنة والجماعة هو الحق الذي يتفق ويتسق مع كل النصوص الواردة من الكتاب والسنة، ولذلك نرى الشيخ
ابن تيمية رحمه الله بعدما جعل فصلاً خاصاً يقول: (وقد ذكر الله تعالى أولياءه المقتصدين والسابقين في سورة فاطر في قوله تعالى: ((
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا... ))[فاطر:32]) قال: (لكن هذه الأصناف الثلاثة في هذه الآية هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة)، ثم قال: (وأمة محمد صلى الله عليه وسلم هم الذين أورثوا الكتاب بعد الأمم المتقدمة، وليس ذلك مختصاً بحفاظ القرآن)؛ لأن أول الآيات: ((
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ ))[فاطر:29]، ثم قال: ((
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا ))[فاطر:32] فلا يفهم أن هذا الفضل وهذه النعمة خاصة بحفاظ القرآن، مع أن من حفظ القرآن مع العمل به، فإنه خير ممن لم يحفظ، لكن ليست مختصة بهم، بل الاصطفاء هو لهذه الأمة جميعاً، ثم قال الشيخ رحمه الله: وإذا كان أولياء الله عز وجل هم المؤمنون المتقون، والناس يتفاضلون في الإيمان والتقوى، فهم متفاضلون في ولاية الله بحسب ذلك، كما أنهم لما كانوا متفاضلين في الكفر والنفاق كانوا متفاضلين في عداوة الله بحسب ذلك.ثم بعد ذلك أخذ يفصل معاني الإيمان المفصل والإيمان المجمل، وتفاوت المؤمنين في الإيمان؛ ليؤكد بذلك تفاوت الناس في درجات الولاية.والمقصود أن الشيخ قال: وهم قسمان، أي: أولياء الله تعالى الذين لهم الولاية حقاً، قال: مقتصدون، وهم الذين يتقربون إلى الله بالفرائض من أعمال القلوب، مثل: الخشية والرغبة والرهبة والرجاء والمحبة والصبر والإخلاص والتوكل واليقين والخشوع إلى آخره، والجوارح أيضاً، ثم الدرجة الأخرى وهي درجة السابقين، ثم استشهد على هذا بنص في الولاية؛ لأن كل الآيات التي ذكرنا تدل على هذا، لكن حديث الولاية أو حديث الولي يدل على أنه جعل الأولياء على درجتين: الدرجة الدنيا: الذين يؤدون ما افترض الله تعالى عليهم، والدرجة الأعلى: الذين يتقربون إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.