المادة كاملة    
إن موضوع الولاية والأولياء من أهم مواضيع العقيدة الإسلامية، لا سيما في العصور المتأخرة، حيث اختلط الحق بالباطل، وارتكبت كثير من الكبائر الاعتقادية أو العملية باسم الولاية.
  1. ولاية الله في ضوء الكتاب والسنة

     المرفق    
    ‏الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    فقد قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال تعالى: (( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ))[يونس:62-63]، الآية، الولي: من الولاية -بفتح الواو- التي هي ضد العداوة، وقد قرأ حمزة (مَا لَكُمْ مِنْ وِلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)، بكسر الواو، والباقون بفتحها، فقيل: هما لغتان. وقيل: بالفتح النصرة، وبالكسر الإمارة، قال الزجاج : وجاز الكسر؛ لأن في تولي بعض القوم بعضاً جنساً من الصناعة والعمل، وكل ما كان كذلك مكسور، مثل: الخياطة ونحوها. فالمؤمنون أولياء الله، والله تعالى وليهم، قال تعالى: (( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ))[البقرة:257]، الآية، وقال تعالى: (( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ ))[محمد:11]، والمؤمنون بعضهم أولياء بعض، قال تعالى: (( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ))[التوبة:71] الآية، وقال تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ))[الأنفال:72] إلى آخر السورة، وقال تعالى: (( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ))[المائدة:55-56].
    فهذه النصوص كلها ثبت فيها موالاة المؤمنين بعضهم لبعض، وأنهم أولياء لله، وأن الله وليهم ومولاهم، فالله يتولى عباده المؤمنين، فيحبهم ويحبونه، ويرضى عنهم ويرضون عنه، ومن عادى له ولياً فقد بارزه بالمحاربة، وهذه الولاية من رحمته وإحسانه ليست كولاية المخلوق للمخلوق لحاجته إليه، قال تعالى: (( وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ))[الإسراء:111]. فالله تعالى ليس له ولي من الذل، بل لله العزة جميعاً، خلاف الملوك وغيرهم ممن يتولاه لذله وحاجته إلى ولي ينصره]
    .
    إن موضوع الولاية والأولياء موضوع مهم جداً، ولا سيما في العصور المتأخرة، حيث اختلط الحق بالباطل، أو التبس الحق على الناس، وارتكبت كثير من الكبائر الاعتقادية أو العملية باسم الولاية، وخرج كثير عن الصراط المستقيم كلية أو جزئياً بدعوى الولاية، ولو أن أحداً رحل إلى أرجاء العالم الإسلامي وطاف بأنحائه لرأى البدع والقباب المشيدة على القبور والأضرحة التي يدعى أهلها، ويعظمون ويقدسون من دون الله، وغير ذلك من مظاهر الشرك أو ذرائعه، ثم أراد أن يجمل سبب ذلك كما يسمعه من أفواه من يترددون إليها أو ممن يعظمونهم، لكان من أوفى وأجمع العبارات أو الكلمات أو الدعاوى: دعوى الولاية، حتى أنه لو قيل لك: إن في القرية الفلانية ولي، فستفهم أن هناك قبراً يزار ويعبد ويعظم على غير ما شرع الله تبارك وتعالى.
    وكلمة (الولي) اليوم أصبحت علماً على الشرك والضلال والبدعة والعياذ بالله، وأصبح من يدعو إلى توحيد الله، ونبذ عبادة ما سوى الله تبارك وتعالى، وإرشاد الناس إلى التوحيد الذي هو حق الله تبارك وتعالى على العبيد، وتحذيرهم من أعظم الظلم وأكبر الكبائر وأشد الموبقات وهو الشرك بالله تعالى، أو من الذرائع المفضية والموصلة إلى ارتكابه؛ فإنه سرعان ما ينبذ وينبز، ويقال: إنه يكره الأولياء، وإنه ضد الأولياء، وإنه لا يحب الأولياء، وينكر ولاية الله، بل وتجد العامي من المسلمين الذي يجهل كثيراً من أمور دينه، وقد لا يحفظ من كتاب الله تعالى ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم شيئاً، إذا حذرته من هذه الضلالات وقلت له: كيف تفعلون هذا؟! تجده يقول لك: ألم تسمع قول الله: (( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ))[يونس:62-63]! ويظن أنه إذا قرأ عليك هذه الآية فهي جواب كاف مقنع، فتسكت وتقره على ما هو عليه؛ لأنه يقول: هؤلاء أولياء الله، وكما تقدم في موضوع التوسل فهم يقولون: ما دام أن هذا ولي، وأنا لا أستطيع أن أصل إلى الله تعالى، أو أدعو الله بمفردي لكثرة ذنوبي ومعاصي، فأنا أتوسل إلى الله بالولي، وبالتالي فيفسرون كل هذه الشركيات بأنها توسل أو وسيلة، وهكذا باسم الولاية والتوسل بالأولياء يبررون الشرك الأكبر الذي يحبط العمل؛ بل يخرج صاحبه من الملة فيخسر الدنيا والآخرة والعياذ بالله؛ ولذلك فمن المهم جداً أن نعرف حقيقة الولاية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفهم السلف الصالح، ومن هو الولي؟ وهل الولاية تطلق على شيء يختلف عن النبوة أم هي من صفات أتباع الأنبياء، أو الأنبياء وأتباعهم؟ وهل الناس درجات في الولاية أم أن الولاية تختص بأقوام معينين؟ ومن هم الذين لا يمكن أن يكونوا أولياء وإن كانوا في عداد المسلمين، بل في عداد المعذورين الذين رفع عنهم التكليف ونحو ذلك؟ وسنضرب الأمثلة مع الأدلة الشرعية على الأمور التي لا بد من بيان الأدلة فيها من كلام هؤلاء الصوفية المعظمين بفهمهم للأولياء الذين يعبدونهم ويدعونهم من دون الله، ويضفون عليهم صفات الألوهية وخصائص الربوبية، وسنأتي بشواهد من كلامهم وأحوالهم ونظرتهم إلى أوليائهم؛ ليتبين للعاقل الذي يريد الحق، وبه يهدي ويعدل وينصف من نفسه من أن هؤلاء ليسوا من هذا الدين في شيء والعياذ بالله، وأن عبادتهم أو تهجدهم أو تنسكهم أو صيامهم أو ترهبهم ليس على شيء؛ لأنهم أخلوا بالأساس الذي لا يمكن أن يصح أي عمل بدونه، ألا وهو توحيد الله تبارك وتعالى، وإخلاص العبودية له ظاهراً وباطناً، ودون هؤلاء من خلط الحق بالباطل، والبدعة بالسنة، وإلى ذلك أشار الشيخ رحمه الله في هذا الموضوع، فالولاية شبيهة بالإيمان؛ لأن موضوع الإيمان والولاية وكل أعمال القلب -كما تقدم- متقارب، فهي شبيهة بالإيمان من جهة أن الرجل قد يكون فيه ما يوالي له من جانب، وما يعادى له من جانب، فيجتمع فيه كونه ولياً وكونه غير ولي على ما سنبين إن شاء الله.
    1. معنى الولاية

      ذكر الشارح رحمه الله تعالى (أن الولي: من الولاية) -يريد أن يعرفها لغة- (بفتح الواو، التي هي ضد العداوة، وقد قرأ حمزة: (ما لكم من وِلايتهم من شيء) بكسر الواو، والباقون -أي: بقية القراء- بفتحها، فقيل: هما لغتان) وهذا كثير ما تفسر القراءات به، فتكون القراءة على لغة من لغات العرب، وعلى هذا تصح كلا القراءتين أو كلا المعنيين لغة، فيجوز لك لغةً أن تجعل إحداهما مكان الأخرى، فتقول: ولاية -بفتح الواو- وولاية -بكسر الواو الثانية- لكن إذا كنت ممن يقرأ بقراءة معينة فتلتزم بها، وإن كان يجوز لك أن تلتزم قراءة قارئ آخر، فتقرأ بها وإن خالفت قراءة ذاك.
      وعليه؛ فإن أصل الخلاف في القراءة إنما هو في اللغة وهذا واقع، فإن الله سبحانه وتعالى يسر القرآن للذكر فأنزله على سبعة أحرف، فتكون قراءتان كل منهما تدل على نفس المعنى، وذلك إذا كانت الكلمة في سياق واحد؛ فإنه غالباً يكون المعنى الذي يفسر به واحد، وما دام تفسيرها واحداً مع الاختلاف في الحركة -الفتح أو الكسر أو غيرها- فإن المعنى واحد، فهما لغتان تدلان على معنى واحد، وإن كان أحياناً يكون اختلاف اللغة أو اختلاف القراءة يسبب اختلافاً في التفسير وفي المعنى، يقول: وقيل: (بالفتح النصرة، وبالكسر الإمارة) أي: أن من أعظم معاني الولاية النصرة، فإذا قلت: فلان ولي فلان، أي: نصيره ينصره ويؤيده، إذا قالت العرب: الولاية -بالفتح- فتعني بها النصرة والتأييد، وإذا قيل: الولاية -بالكسر- فيعنون بها الإمارة، كما إذا قيل: فلان عين فلاناً على ولاية الشام ، أو تولى فلان ولاية الشام أو ولاية العراق، أي: تولى إمارتها. قال: (وقال الزجاج) -وهو من أئمة اللغة المعروفين المشهورين-: (وجاز الكسر) أي: كأنه يرى أن الأصل هو الفتح، ثم قال: (لأن في تولي بعض القوم بعضاً جنساً من الصناعة والعمل، وكل ما كان كذلك فمكسور، مثل: الخياطة ونحوها) أي: أن عادة العرب أن تجعل كثيراً من الصنائع على وزن فعالة -بكسر الفاء- فتقول: الأصل في الصناعة أن تكون على زنة فعالة، فنقول: الحرافة الزراعة الحياكة الخياطة التجارة الصناعة الطبابة النجارة الحدادة الطباعة، وهذا قياس في اللغة، وعلى كل حال فهذا تخريج فلسفي -إن صح التعبير- من الزجاج رحمه الله، فهو من المتأخرين وقد حاول أن يفلسف ورودها أو يخرجها بهذا الشكل، فالأصل الفتح، لكن جاءت على زنة (فعالة) لما فيها من جنس الصناعة، أي: كان هذا المتولي للآخر اتخذ ذلك حرفة أو مهنة له من جنس الصناعة والعمل، يقول: (الولي: من الولاية التي هي ضد العداوة) وهذا الموضوع غير مترابط، لكن لا بأس، فـشيخ الإسلام رحمه الله في الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان كعادته يسترسل في الكلام، وتتداخل النصوص والأدلة مع اعتراضات الخصوم ورد الشبهة، ثم يرجع إلى المعنى الأصل، ثم يستطرد أحياناً، ثم يرجع وهكذا، فهو رحمه الله مثل البحر أو النهر المتدفق من كل جهة، فيتكلم عن مسائل حديثية ولغوية وأصولية، وما يقوله أهل وحدة الوجود والحلول والاتحاد والفقراء والصوفية ، وكل ذلك بعضه يمكن مع بعض.
      قوله: والولي. مشتق من الولي -بفتح الواو- وهو الدنو والقرب، يقال: وَلي يلي، قال ابن مالك في المصادر:
      فَعلٌ قياس مصدر المعَدَّى             من ذي ثلاثة كعدَّ عدَّ
      فالفعل الثلاثي المتعدي دائماً مصدره -فعل القياس- على وزن فعل، وفي هذا دليل على أن الشذوذ كثير في اللغة العربية خاصة في المصادر، وبالتالي يكون وزن فعل من وَلي: ولي، وليس الولاء أو الموالاة أو الولاية، وإن كانت أيضاً هي مصادر، لكن أصل الكلمة ثلاثي: ولي.
      فإذاً: (وَلِي) على وزن (فَعِل) إذا كان مشتقاً من الوَلْي -بفتح الواو- وهو الدنو والقرب، وهذا الذي نحن نستخدمه، فنقول: فلان يلي فلاناً، أي: قريب منه، و(ولي الله) هو من والى الله بموافقته في محبوباته، و(الولي) أو المتقرب إلى الله تبارك وتعالى هو الذي يطلب أو يرغب بعبادته ولاية الله؛ ولهذا تكون كلمة (الولي) من معانيها: الداني المتقرب، والنصير والمؤيد؛ ولذلك يطلق على الله تبارك وتعالى في القرآن أنه (ولي) ويطلق على العبد أنه (ولي) فهما من الأضداد، فهي في حق الله باعتبار كذا، وفي حق المخلوق باعتبار آخر، فإذا قرأنا قوله تعالى: (( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا ))[البقرة:257]، أي: ناصرهم ومؤيدهم ومعينهم، وقوله: (( وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ ))[محمد:11]، أي: لا ينصرهم ولا يؤيدهم، وإن كان قد يقال: لم ينف عنهم الولاة مع أن الشيطان وليهم؟ وهل ينصر الشيطان أولياءه على الحقيقة؟ لا، وإنما يزين ويوسوس لهم، ويعدهم ويغرهم ويمنيهم، وهو في الحقيقة لا ينصرهم ولا يملك ذلك، أما الله تبارك وتعالى فإنه مالك الملك، وبيده النصر والتأييد، فهو الذي يؤيد بنصره من يشاء، وهو ولي الذين آمنوا وناصرهم.
  2. اختلاف الفرق قديماً وحديثاً في إثبات العداوة والولاية المطلقة والنسبية

     المرفق    
    قال: (وقوله تعالى: (( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ ))[يونس:62] أولياء: جمع ولي، فالمؤمنون أولياء الله) والله ولي المؤمنين، وكلا المعنيين حق، ومعنى أن المؤمنين أولياء الله: أي: المتقربون إليه والمحبون المطيعون له، وتأتي بمعنى النصرة، لكن بمعنى الناصرون لدينه ولأنبيائه، وإلا فهو سبحانه وتعالى غير محتاج إلى نصرة أحد، لكن كما قال الله تعالى: (( وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ ))[الحج:40] أي: ينتصر لدينه ولهداه ولوحيه وما بعث به رسله، يقول الشيخ: (فالمؤمنون أولياء الله) وبناء على هذا يكون هناك المؤمنون أولياء الله، والله تعالى وليهم، والكفار أعداء الله، وهذا الكلام تحت أصل وهو: أن هناك ولاية وعداوة ثابتة، لكن هل يمكن أن نثبت ولاية أو عداوة على الإطلاق أم أنها نسبية؟ يمكن أن تكون على الإطلاق ويمكن أن تكون نسبية، لكن موضع الإشكال هو: هل نثبت ولياً مطلقاً وعدواً مطلقاً أم لا؟ أولياء الله بإطلاق: الأنبياء وحواريهم ومن كان من المقربين، وأعداء الله بإطلاق: الطواغيت والكفار والشيطان وأولياؤه، وقلنا: بإطلاق؛ لأن هناك من يحاول أن ينفي هذا في القديم وفي الحديث، فمن القديم: الجبرية الذين يقولون: إن الإنسان مجبور وليس له إرادة! فهو يعتذر لصاحب الذنب بالقدر، فإذا سئل: لماذا تعصي الله؟ يقول: قدر الله! وهذه الدرجة الدنيا من الجبر، وهي عامة على أفواه المسلمين العوام إلا من وفقه الله، فتجد أن أسهل ما يكون أن يحتج بأنه ما أراد الله وما قدر الله، وهذا الاحتجاج خطأ إن كان على المعصية، وذلك أنه إنما يحتج بالقدر على المصائب لا على المعايب، فهذا درجة، ويليه من ازداد ويقول: العباد ليس لهم إرادة كما قال الجهمية ، فجعلوا العبد مثل الريشة في مهب الريح ليس له إرادة مطلقاً بحال من الأحوال، ونحن نجد أن العباد يفعلون أو يعملون الشر، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال: ( أصدق الأسماء: حارث وهمام ) فلا يمكن أن تمر على العبد لحظة في حياته إلا وهو حارث أو همام، فإما أن يعمل أو يفكر في شيء وهكذا خلق الله البشر، ومذهب الأشاعرة -مذهب معروف- يقول: بالكسب والقدر، فيقولون: إن الفاعل الحقيقي هو الله، ومهما فعل البشر شيئاً فهم على الحقيقة لم يفعلوا شيئاً، ونحن عندما ننسب الفعل إلى العبد فهذا مجاز عندهم؛ لأن العبد لا يملك قدرة ولا إرادة ولا أي شيء، وبالتالي فـالقدرية الجبرية غلبوا جانب القدر، والقدرية النفاة الذين قالوا: إن الله تعالى ليس له أي دخل في أفعال العباد، غلبوا جانب الأمر والنهي والثواب والعقاب، فيقولون: الله تعالى لا دخل له إذا فعل العبد الذنب، فيجب أن يعاقب وأن يتحمل مسئولية فعله؛ لأنه فعل مريداً مختاراً راغباً غير راهب، فغلبوا جانب أمر الله ونهيه وشرعه ودينه وثوابه وعقابه ووعده ووعيده، مع أن الإيمان بها حق، لكن عندما تغلب فينسى القدر فهذا باطل وبدعة وضلال والعياذ بالله، والجبرية عكسوا ذلك فغلبوا جانب الصفات فقالوا: إن الله تعالى هو الفاعل والخالق، والمخلوق ليس له أي شيء؛ لأن الذي خلق فيه الإرادة والقدرة وأعطاه الأعضاء هو الله تعالى، إذاً: الفاعل هو الله، وهذا ضلال مبين، بل ربما يكون من بعض الوجوه -كما سنبين إن شاء الله- أشد ضلالاً من مذهب القدرية النفاة ، وإن كان كلاهما ضلالاً لا ريب.
    إذاً: يأتي درجة من يقول: إن الفاعل هو الله، وتأتي بعدهم درجة أو دركة -لأنها في الحضيض- من يرون أن الأمر أعمق من ذلك، وليس فقط القول: إن الفاعل هو الله، وإنما يقولون: إن العاصي مطيع لله إلا بسبب أنه أتى بما أراد الله كوناً، أي: إن كان قد عصاه شرعاً فقد أطاعه كوناً، وهؤلاء في الحقيقة يصل بهم الحال إلى ما يسمى: شهود الحقيقة الكونية، ومن قرأ كتاب العبودية لـشيخ الإسلام يجد ذلك، إذ إنه من شدة أو من عظيم إيمانه وتعظيمه وإجلاله لله، وإيمانه بأفعال الله وصفاته، وأن الخالق والمتصرف هو الله، وصل في نظره إلى إثبات الحقيقة الكونية وهو: إن كل ما يفعله البشر فهو من عند الله وبرضا الله وطاعة الله، وفي النهاية يقولون: لا موجود إلا الله! فانظر كيف تدرجت وانتقلت من: لا فاعل إلا الله، وأصبح يقول: ما دام ليس بفاعل إذاً ما قيمة أنه موجود؟! وهكذا البدع يؤدي بعضها إلى بعض، ويجر بعضها بعضاً؛ ولهذا قال أحد السلف: يحذر من صغار البدع؛ فإن صغار البدع تغدو كباراً والعياذ بالله، وهذه من البدع التي تكبر ثم تكبر، فإذا كان لا فاعل إلا الله -بزعمهم- فإذاً نصل إلى أن نقول: لا موجود إلا الله، والخلق هؤلاء ليس لهم وجود على الحقيقة، وبالتالي سيقول: أصبحت منفعلاً لما تختاره مني ففعلي كله طاعات؛ لأنه قد شهد الحقيقة الكونية أو وصل إلى درجة اليقين كما يؤولون بتأويلهم الباطل قوله تعالى: (( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ))[الحجر:99] فمتى ما وصل إلى اليقين، ورسخت في ذهنه الحقيقة الكونية يقول: أصبحت كل أعمالي طاعات، ومهما ترك من الواجبات أو ارتكب من المحرمات، وهذا ما يقولونه ويصرحون به.
    والشاهد في موضوع الولاية هنا: كيف تكون المناسبة بين هذا القول والقول: بأنه لا ولاية ولا عداوة مطلقاً؟
    على هذا يصبح الخلق كلهم سواء فمن فعل الطاعة فالفاعل هو الله، ومن فعل المعصية فالفاعل هو الله، فالكل منفعلون له.
    وعليه؛ فعلام تلوم أحداً على كفر أو على ذنب؟ حتى ذكروا في أخبار الحلاج الصوفي المقتول على وحدة الوجود أو الحلول مر برجل من المسلمين يقول لرجل يهودي: يا يهودي! يعيره وهو من أهل الذمة في بغداد ، فغضب عليه الحلاج غضباً شديداً، وعمله هذا مثل كثير من الكتّاب والصحفيين في هذا العصر، فلو سب واحداً من المسلمين لا يهم، لكن لو سب اليهود فهذه مشكلة عظيمة، ثم قال له الحلاج : لا تسبه. فقال له الرجل: ولم؟ فقال له: لأنك إذا قلت: إنه يهودي فقد أثبت له الاختيار، أي: أن اللوم يتوجه إلى من يختار، فإذا عيرته بدينه فقد أثبت له الاختيار، وكأنه هو الذي اختار أن يكون يهودياً، ثم ذكر أبياتاً من الشعر:
    تفكرت في الأديان جداً محققاً            فألفيتها طرقاً إلى شعب شتى
    أي: أن الأديان كلها طرق لها شعب شتى مختلفة، فهي مظاهر لشيء واحد وهو العبودية لله عز وجل، لكن كل يختلف في تعبده على الآخر، فالنصراني يعبد من خلال نصرانيته، واليهودي من خلال يهوديته، والبوذي من خلال بوذيته والعياذ بالله، وهذا من أجلى وأوضح أنواع الكفر، حتى إن ابن عربي قال في قول الله تعالى: (( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ))[طه:5]: ومن الذي استوى، وعلى أي شيء استوى، وما ثم إلا هو، تعالى الله عما يصفون، أي: أن الخالق والمخلوق شيء واحد، حتى أنهم صححوا قول فرعون: (( أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى ))[النازعات:24]، فقالوا: كان ناطقاً بلسان الألوهية بقوله ذلك! فهؤلاء ليس عندهم كفر ولا إيمان، بل لا تقل: فرعون كافر وموسى مؤمن! إذ إن عندهم لا فرق، فعباد الأصنام عبدوها لتجلي الألوهية فيها، ومن يعبد الله يعبده كذلك، ومن يعبد الأولياء والأشخاص فلذلك، ومن عبد الكواكب فمن أجل ذلك، فالكل يريد شيئاً واحداً، وهذه أكثر صور الكفر بشاعة، وأجلى أنواع الكفر في العالم، وهي في الحقيقة ما عليها الديانة الهندوسية ديانة الهندوس، إذ إنهم يعبدون كل شيء؛ لأنهم يعتقدون أن كل شيء هو الله، أو أن الله حال فيه تعالى الله عما يقولون؛ ولذلك حينما كانوا في الهند يعبدون الفيلة والبقر وغيرها، ثم جاء الإنجليز واحتلوا الهند فمدوا القطارات، فصار الهنود يتجمعون ويعبدون القطارات! وأصبحوا يسجدون للقطار، وهكذا كل شيء جديد -في نظرهم- يعبدونه على أساس أن سر الألوهية وحقيقة الربوبية فيه! فهذه العقيدة الهندوسية الباطلة تفشت بين المسلمين، أو من يدعون الإسلام وهم ليسوا في الإسلام في شيء، وذلك بدعوى أن هذه هي حقيقة شهود الحقيقة الكونية والإيمان بالله حق الإيمان.
  3. إثبات أن لله تعالى أولياء وأعداء

     المرفق    
    وعليه؛ فبناء على كلام هؤلاء لا يوجد عدو لله، وإنما الكل يعبدونه وإن اختلفت مظاهر عبادتهم، ومن هنا نحتاج إلى أن نثبت أن لله تعالى أولياء وأعداء، وأنه يوجد له أولياء ولاية مطلقة وأعداء عداوة مطلقة، أما النسبية فهي واردة؛ لأن الولاية كالإيمان، فالأولياء هم المؤمنون المسلمون، فكيف نثبت أن لله تعالى أولياء وأعداء من القرآن؟
    قال الله تبارك وتعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ ))[الممتحنة:1]، فالله تعالى بين أن له أعداء، وخاطب المؤمنين باسم الإيمان ألا يتخذوا أعداءه أولياء، وقال: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ))[المائدة:51].
    فالخطاب واحد؛ لأن بعض من كتب في هذا المقام يفرق ويقول: هنا تولي، وهناك ولاية، والصحيح أن الخطاب واحد، والله تعالى خاطبه باسم الإيمان في الآيتين، فليس فيه فرق إلا أن المقصود بآية الممتحنة: المشركون، وهناك صرح بذكر أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، ثم أخبر أن بعضهم أولياء بعض، ثم أكد فقال: (( وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ))[المائدة:51]، أي: من يتولى الكفار فهو كافر مثلهم، ولا يصح له دعوى الإيمان وإن زعم ذلك وادعاه.
    فإذاً الآية فيها إثبات الولاية، لكن كلمة (العداوة) ليست واردة فيها، بل هي متضمنة لها: (( وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ ))[الممتحنة:4]، وقوله: (( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ))[المائدة:82] والأصرح من ذلك قوله تعالى: (( مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ))[البقرة:98] وأيضاً: (( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ))[الأنفال:60]، فأثبتت الآية -كما في آية الممتحنة- أعداء لله وأعداء المؤمنين، وقال تعالى في سورة فصلت: (( وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ))[فصلت:19] وهذا دليل على -كما في سياق الآيات- أن هؤلاء الكفار هم أعداء الله، وأن مصيرهم إلى النار، كما أن المؤمنين هم أولياء الله ومصيرهم الجنة، فهما طريقان مفترقان تماماً، فهذا ولي بإطلاق، وهذا عدو بإطلاق.
  4. معنى قوله تعالى: (والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت)

     المرفق    
    وإثبات الولاية كما في قوله تعالى في سورة البقرة: (( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ))[البقرة:257]، فهذا دليل على أن من كان ولياً لله فالله تعالى يتولاه ويهديه ويوفقه للطريق المستقيم، والمؤمنون كلهم أولياء الله والله تعالى وليهم، وأما أصحاب الشمال الكفار فقال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) دليل على العداوة المطلقة أيضاً، (أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ)، أي: أن أولياءهم الذين يتولون أمرهم ويوجهونهم ويدلونهم على الباطل هم الطاغوت، فيخرجونهم من النور إلى الظلمات، فاختلفت صيغة الولي بين الإفراد والجمع، فالذين آمنوا وليهم هو الولي كامل الولاية والتصرف وحده لا شريك له، وأما الذين كفروا فلهم أولياء كثيرون، طاغوت للشهوات، وطاغوت في القانون، وطاغوت في السياسة، وطاغوت في الحكم، وطاغوت في العبادة، وطواغيت أخرى كثيرة، منها ما هو حسي كالأشخاص، مثل: فرعون وهامان والنمرود وغيرهم، ومنها ما هو حسي من الجمادات، مثل اللات والعزى وهبل وغيرها مما ينحتون ويعكفون له من التماثيل كما كان قوم إبراهيم عليه السلام ومشركو العرب وغيرهم، ومنها ما هو معنوي كمن اتخذ إلهه هواه، والطواغيت الكثيرة التي ظهرت في هذا الزمان طواغيت معنوية ليست حسية، لكن الطواغيت يوالي ويعادي فيها، بل ويكون فيها أقوى درجات العبودية، كأن يبذل الرجل من أجلها نفسه وماله وعرضه، ويهجر أحب أحبائه، ويوالي أعدى أعدائه، وهي هذه الشعارات، كـالاشتراكية ، و الشيوعية ، و القومية ، والوطنية ، و شيخ الإسلام رحمه الله، والشيخ محمد بن عبد الوهاب وغيرهم، وفي صريح القرآن أن الطاغوت كما ذكر الله تبارك وتعالى بقوله: (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ ))[النساء:60] فكل من حكم بغير شرع الله فهو طاغوت، سواء كان كاهناً أو مستشاراً -كما يسمى الآن- أو قاضي نيابة أو وكيل نيابة أو شيخاً لقبيلة أو أياً كان فهو طاغوت، إذ إن الطاغوت عام في كل ما تجاوز به العبد حده؛ لأن أصل الطغيان في اللغة: مجاوزة الحد؛ ولهذا يقول الله تبارك وتعالى: (( إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ))[الحاقة:11] فطغى بمعنى: تجاوز حده، والعادة أن الأمطار والعيون تتفجر إلى قدر معين، لكن لما أراد الله تبارك وتعالى إهلاك قوم نوح، وألا يبقى عليها منهم دياراً، طغى الماء فتجاوز حده، والجارية هي السفينة، وقال الله تبارك وتعالى: (( اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ))[طه:24]، أي: تجاوز حده بالكفر والضلال.
    وقد لا يتجاوز الشيء أحياناً حده، وذلك كشجرة من الأشجار في الطريق، أو ميت من الأموات، أو حجر من الأحجار، فإذا جاء المطر اخضرت، وإذا قل المطر يبست؛ لأنها لا تملك لنفسها شيئاً، ولو فتح قبر لا يوجد فيه إلا تراب، لكن ما الذي يحدث؟ يتجاوز به الناس حده، وقد يقول لك: كل هذه الصخور والحجارة في العالم هي حجارة لا تضر ولا تنفع إلا هذا الحجر، الذي يذبح له ويعظم ويدعى ويتمسح به؛ ولهذا يقول الخليل عليه السلام: (( قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ))[الصافات:95-96]، فأنت بيدك تنحتها؛ ولذلك كانوا إذا أرادوا تعظيم الصنم ذهبوا إلى أفضل نحات وقالوا له: نريد أن تجعل لنا صنماً جميلاً، وإذا كان الذي يريد صناعة الصنم من الطواغيت البشر مثل كسرى أو قسطنطين أو أمثالهم من الملوك؛ فإنه يجعل عيونه من اللؤلؤ أو المرجان، ويجعل فيه من الفضة أحياناً، بل أحياناً يكون الصنم كله من الفضة أو من الذهب.
    إذاً: هم يعبدون ما ينحتون ويصنعون بأيديهم، فسبحان الله كيف يضل الناس عن التوحيد ويقعون في الشرك والعياذ بالله؟! ولو أنهم فكروا وعقلوا ما فعلوا ذلك، فهم تجاوزوا بهذا الحجر، وتجاوزا بهذه الشجرة كما كانت العزى شجرة في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، فقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح الطائف لقلعها، وما تملك إلا أن الجن كانت تأتي إلى هؤلاء عند الأشجار أو الأحجار، وربما خاطبوا أو كلموا من جاء فذبح لها؛ لأنه في الحقيقة إنما يذبح لسيدهم إبليس والعياذ بالله!
    وقد يكون الوطن طاغوتاً، والوطن إلى أن جاءتنا فكرة الوطنية -لا بارك الله فيها ولا في أهلها- في أيام محمد علي باشا والبعثات إلى أوروبا كان في شعر العرب، وفي كلام الناس: المكان الذي عشت فيه فإذا وجدنا في شعر العرب مثلاً:
    ولي وطن آليت ألا أبيعه            وألا أرى غيري له الدهر مالكا
    فوطني: بلادي التي عشت فيها ونشأت فيها، وفيها أترابي وأحبابي، وليس فيه أكثر من هذا، لكن تجاوز به حده، فأصبحت قضية الوطنية، والمعالم الوطنية، والمنهج الوطني، والتربية الوطنية، حتى أصبحت كلمة (الوطنية) كأنها مقدسة والعياذ بالله، وقد جاءتنا من أوروبا فتجاوزوا بها حدها، وإن كان في أوروبا الوطنية والقومية تكاد تكون ممتزجتين، لكن عندنا لا يمكن أن تكون ممتزجتين، إذ إن كلنا عرب، وعندنا عدة أوطان، و أوروبا ما كانت موجودة؛ لأن الألمان يسكنون في ألمانيا ، والفرنسيين يسكنون في فرنسا، والإنجليز في بريطانيا ، فـالقومية هي الوطنية تقريباً، لكن نحن لو قلنا: أين الأمة العربية؟ ميشيل عفلق يصيح في بغداد فيقول: الأمة العربية، والحزب القومي في موريتانيا يقول: الأمة العربية! وبينهما آلاف الأميال، ولذلك عندنا افترق الشعارات أكثر، فجاءت الوطنية باسم الوحدة الوطنية، وعليه فلا تقل: هذا قبطي إن كنت في مصر ، أو أنا مسلم، بل الوحدة الوطنية، أيضاً في لبنان الكل درزي سني شيعي، كله وحدة وطنية، والشرعية هي الوطنية، وإن كنت في السودان فلا تقل: لا بد أن نجاهد النصارى في الجنوب ونقضي على حركة قرنق ؛ لأننا شعب واحد ووطن واحد، وهكذا في بلاد الشام وفي العراق وفي أي بلد فيه شرذمة أو طائفة من الروافض يقولون: لا تتكلموا على الرافضة ؛ لأننا كلنا وحدة وطنية، فرافضينا ومرجئينا وصوفينا وسلفينا كلنا وحدة وطنية والعياذ بالله، إذاً: المسألة ما عادت بالمفهوم القديم، والوطن لم يعد ذلك المفهوم، أي: الأرض التي نعيش عليها، إنما صار معتقداً ومبدأً يوالى ويعادى فيه ومن أجله، وباسمه تحارب العقائد الثابتة بالكتاب والسنة، وقس على ذلك كثيراً من الأمور.
    إذاً: الطاغوت: ما تجاوز به العبد حده، وهم تجاوزوا بكل شيء من هذه الأشياء حدها، فأصبحت طواغيت كثيرة وأولياء كثيرون؛ فلهذا يقول تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ -بالجمع- الطَّاغُوتُ) لكنهم وإن اختلفوا وكثروا وتعددوا فإنهم يتفقون على شيء واحد -وهو المهم- وهو عملهم: أن أولياء الكفار يخرجونهم من النور إلى الظلمات، والنور الذي فيه الكفار هو نور الفطرة، إذ إن كل مولود يولد على الفطرة، فلو ترك الهندوس و النصارى و اليهود والاشتراكيون والشيوعيون والوطنيون والقوميون، ولولا الطواغيت وما يفرضونه من المناهج والأنظمة والأبواق والتقليد والأهواء والعصبيات القبلية إلى غير ذلك، لكانوا موحدين مسلمين، فهم يخرجونهم من نور الفطرة -الإسلام- إلى الكفر وظلماته والعياذ بالله.
  5. حقيقة الحضارة الحديثة وما حوته من مظاهر تمييع الولاء للدين

     المرفق    
    فإذا قال أحد في هذا العصر: هل هناك أحد يقول: ليس هناك عداوة مطلقة؟ فنقول: نعم، والآن في هذا الزمان ما كان يعبر عنه بوحدة الوجود كفر تقليدي، كفر ساذج، كفر سخيف وتافه، كيف تكون كل الموجودات هي الله، فالذي يعبد حجراً يعبد الله، والذي يعبد شجرة يعبد الله؟ إن هذا كفر لا يقره أدنى عقل؛ ولذلك جاءت الحضارة الحديثة بكفر حديث، ومصيبة هذه الحضارة الجديدة أنها حضارة مظاهر وطلاءات وبهرجة وزخرفة، فكل شيء يأتونك به في صورة جديدة مزخرفة مبهرجة، وخذ مثلاً: الخمر، فتوجد اليوم بعض المصانع الوطنية في بعض الأماكن، بينما قديماً كانوا يضعون فواكه وسكر في برميل أو في شيء قديم ويدفنوها في أي شيء، ثم بعد فترة يشربونها بطريقتهم البدائية الساذجة، لكن اليوم في العصر الحديث قد تطورت، فيأتون بقوارير مختومة بشكل فضي أو ذهبي وألوان ودعاية ويقولون: هذا الشراب المفضل! وهي ذو رائحة عفنة وقذرة.
    وكذلك الزنا، فإنه عند الناس العقلاء فاحشة قذرة يترفعون عنها، حتى في الجاهلية، وقد قال عنترة بن شداد :
    وأغض طرفي إن بدت لي جارتي            حتى يواري جارتي مأواها
    فهو يفتخر بأنهم يتعففون عن النظر، فما بالك بالزنا؟!
    وقال الآخر:
    رب حسناء ذات دل قد            دعتني لنفسها فأبيت
    لم يكن طبعي الحياء ولكن            كنت خلاً لبعلها فاستحيت
    أي: استحيت أن أفعل بها الفاحشة مع جمالها؛ لأني كنت خلاً لبعلها؛ ولذلك كان عندهم نوع من الزواجر، لكن الآن أتوا لنا بالصداقة وحرية العلاقات بين الجنسين، والقضاء على التقاليد القديمة، ويأتي بأول فتاة خليجية تترك الحجاب وتتحرر وتتنور وتتوظف وتصبح تعمل كذا، فتقود السيارة، وتعمل مضيفة في الطائرة، وتعمل ممرضة في المستشفى، فيأتي ببهارج هذه الفاحشة والعياذ بالله. فهذه البهرجة والزخارف هي مشكلة الحضارة المعاصرة، ونفس الأمر لم يعودوا يقولون: وحدة الوجود، وإنما قالوا: وحدة الأديان باسم الإنسانية وحقوق الإنسان، فإذا أقررت بدستور أو وثيقة حقوق الإنسان التي أول ما عملوا لها نموذجاً فيما يسمونه مؤتمراً في نادليفيا ، ثم في سان فرانسيسكو ، وكل الدول العربية والإسلامية تفتخر أنها انضمت إلى هذا الميثاق ووقعت عليه، وأحياناً تفتخر إحدى الدول العربية فتقول: نحن من الدول المؤسسة لنظام الأمم المتحدة، ومن السباقين إلى إعلان الوثيقة العالمية لحقوق الإنسان، والمهم أن الإنسان حر، فله أن يعتقد ما يشاء من الأديان، فاليوم هو مسلم وغداً يهودي أو نصراني، وهذا غاية التطور والحرية والحقوق أن يكفر بعد إذ عرفه الله تعالى الإيمان، أن يخرج من النور إلى الظلمات، أن يتمرد على رب العالمين، أن يجحد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، أن يكفر بكتاب الله، هذه هي التي تطورنا إليها ونفتخر أننا وافقنا عليها والعياذ بالله، وهذه هي التي يسمونها: الأمم المتحدة، ومواثيق الأمم المتحدة، والشرعية الدولية، وحقوق الإنسان إلى آخر هذه الشعارات، فأصبحت تسمى وحدة الأديان حق، وليس لأحد الحق أن يعترض على أحد، أو يطعن في دينه، إذ إن الدستور الأمريكي خاصة يحمي أي واحد أو أي دين من النقد أو الطعن أو التشهير، وهو مكتوب في نص الدستور، وعند التطبيق -فعلاً- لو كتبت إحدى الجرائد عن اليهودية أو عن النصرانية سباً أو شتماً في الدين وحوكمت فإنها تعاقب عقوبة رادعة قاسية؛ لأنها ضد الدستور، لكن لو أن الصحافة والإعلام هاجمت الإسلام ليلاً ونهاراً؛ فإن الأمر عادي، ومن أسباب ذلك: أن المسلمين لا يحركون الدستور، لا يدافعون عن دينهم، وليست هذه هي القضية، إنما القضية إقرار المبدأ، ونحن ربما نقول: إن أفضل شيء ألا يسبوا ديننا وألا نسب دينهم! وهل هذا هو المطلب النهائي؟ نعم في بلاد الكفر نقول: هذا مرحلة، أما أنه مطلب نهائي وغاية ما تسعى إليه الإنسانية فلا، إذ إننا لا نكتفي أن نعترض على دينهم، بل لا بد أن نقاتلهم ونجاهدهم ونتقرب إلى الله تبارك وتعالى بذلك، قال تعالى: (( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ))[الأنفال:39]، والفتنة هي الشرك، (( وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ))[الأنفال:39]، أي: أن الدين عند الله هو الإسلام، فنقاتلهم جميعاً حتى يؤمنوا بالله وحده.
  6. ولاء المؤمنين والمؤمنات بعضهم لبعض

     المرفق    
    قال تعالى: (( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ))[التوبة:71]، فأثبتنا الولاية المطلقة، وأثبتا العداوة المطلقة، ثم ما بين أهل الولاية بعضهم مع بعض ثابت، وكذلك ما بين الكفار ثابت، والمؤمنون كما ذكر الله تبارك وتعالى في سورة التوبة، وكما قال عن المنافقين: (( وَالْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ))[التوبة:67]، أي: جنساً واحداً، تقابل واحداً أو تقابل الثاني، فالكلام واحد والفكرة واحدة والرأي واحد نعوذ بالله، أما المؤمنون فإن بعضهم أولياء بعض، فهذا ولي أخيه ينصره ظالماً أو مظلوماً، وأما الكفار فبعضهم من بعض، أي: أن كلهم يداً واحدة على المؤمنين، فلا يرقبون فيهم إلاً ولا ذمة، لكن لو أن مؤمناً أو مسلماً ظلم كافراً؛ فإن إخوانه المسلمين يردونه عن ذلك، بل لو كان كافراً؛ لأن أمتنا هي أمة الحق وأمة العدل، فنحن نهدي بالحق وبه نعدل بما علمنا الله تبارك وتعالى، أما هم فأمة الظلم والجور، والكفر كله ملة واحدة، وقال تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ... ))[الأنفال:72]، فأثبت الله تبارك وتعالى في هذه الآية العظيمة الولاية بين المهاجرين والأنصار الذين هم نواة أمة الإسلام وأسها وقاعدتها، ومنهم وحولهم التفت الأمة المسلمة إلى يوم القيامة، ثم قال: (( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ))[المائدة:55-56]، ففي الدنيا حزبان: حزب الله، وحزب الشيطان، وهذه هي الحزبية الشرعية التي تمدح شرعاً، أي: أن تكون من حزب الله، أي: من أولياء الله المؤمنين المتقين المتعاونين على التوحيد والسنة وطاعة الله تعالى ورسوله والدعوة إلى ذلك، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأهله ممدوحون بإطلاق، والحزب المقابل هو حزب الشيطان الذين اجتمعوا وتحزبوا على الكفر والبدعة والمعصية ومخالفة السنة، والأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، والتعاون على الضلال والفجور والعياذ بالله، وهكذا فهما عدوان، فذاك أولياء الرحمن، وهؤلاء أولياء الشيطان.
    يقول الشيخ: (فهذه النصوص كلها ثبت فيها موالاة المؤمنين بعضهم لبعض، وأنهم أولياء الله، وأن الله وليهم ومولاهم، فالله يتولى عباده المؤمنين فيحبهم ويحبونه) قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ ))[المائدة:54]، فأول شيء أن الله تعالى جعل من صفاتهم: أنه يحبهم ويحبونه، فلا يجاهدون في سبيله ويموتون ويضحون ويهاجرون ويصبرون وينفقون إلا بدافع المحبة، فالمحبة هي أساس كل الأعمال القلبية، وهي أساس العبادة وأصلها، وكل عبادة تجردت عن المحبة فلا أجر فيها، ولا تعد قربة إلى الله تبارك وتعالى، ومن معاني الولاية: المحبة والنصرة، ثم قال: ويرضى عنهم ويرضون عنه، ومن هنا نعرف ضلال وبطلان من نفى الرضا والمحبة عن الله من المتكلمين المعتزلة والأشعرية وأشباههم؛ فإنهم قالوا: إن الله تعالى لا يحب ولا يُحب، ولا يرضى ولا يُرضى عنه، وهذا رد لصريح كتاب الله، لكن بزعمهم يقولون: إن هذا يقتضي التشبيه، فنقول: هذا باطل، فالله تعالى يحب ويبغض، والمؤمنون يحبون الله ويبغضون الكفر والكافرين، والمؤمنون يحبون الله تعالى وهو غاية ما يحبون، ويبغضون إبليس وهو غاية ما يبغضون وهكذا.
    وكذلك فالله تعالى يرضى عن عبادة المؤمنين، ويرضى لهم الإيمان، ويرضى لهم الطاعة، ولا يرضى لعباده الكفر والفسق والفجور والمعصية، ثم قال: (ومن عادى له ولياً فقد بارزه بالمحاربة) وهنا أراد الشيخ رحمه الله الحديث الذي رواه الإمام البخاري و أحمد وغيرهما: ( من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة )، أو قال: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، وهذا الحديث عظيم جليل القدر تكلم فيه العلماء قديماً وحديثاً.
    والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.