المادة كاملة    
إن خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول عملاً به وتصديقاً يفيد العلم اليقيني عند جماهير الأمة، وأهل الحديث هم شهداء الله في أرضه، وهم أعلم الناس بأحوال وسيرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وقد حفظ الله حججه وبيناته على خلقه، وفضح كل من كذب على رسوله في حياته وبعد وفاته.
  1. خبر الآحاد إذا تلقته الأمة بالقبول

     المرفق    
    ‏الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    فيقول رحمه الله: [وخبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول عملاً به وتصديقاً له يفيد العلم اليقيني عند جماهير الأمة ولم يكن بين سلف الأمة في ذلك نزاع].
    فقوله: (خبر الواحد) لم يجعله مطلقاً، وقد تقدم في كلام ابن القيم رحمه الله تعالى وشيخ الإسلام أن ظنهم أن أهل الحديث أو أهل السنة والجماعة يقبلون خبر الواحد أي واحد أو أي مسألة خطأ، وإنما يقبلون خبر الواحد بالنسبة للحديث إذا كانت الشروط متوفرة فيه، ثم في نفس الوقت ليس أي خبر واحد هو عندنا مقبول بإطلاق، وإنما قيده بقوله: (إذا تلقته الأمة بالقبول) أي: فليس هو عندنا يفيد اليقين بإطلاق؛ لأنه قد يكون خبر واحد وهو ثقة، ولكن قد يكون شاذاً إذا خالف الثقات، وقد يكون فيه علة من العلل، فليس مجرد أنه خبر واحد يقبل ولو كان هذا الواحد ثقة، ثم متى يفيد العلم اليقيني؟ نص هنا على أنه يفيد اليقين (إذا تلقته الأمة بالقبول عملاً به وتصديقاً له) والمقصود بالأمة: أهل الاختصاص، وهم علماء الحديث الذين يميزون وينقلون وينقدون بين صحيح الأخبار وسقيمها؛ ولذلك أعلى درجات أحاديث الآحاد هي: ما اتفق عليه الشيخان: البخاري و مسلم ؛ لأن الأمة تلقت الصحيحين بالقبول إلا بعض ألفاظ في الصحيحين غير ثابتة، لكن في الجملة فالكتابان ثابتان متلقيان بالقبول، وما انتقد في الصحيحين منازع فيه، ولكن بعضه وهو القليل نقول: هذا اللفظ بذاته قد نوافقكم على أنه غير ثابت، لكن لا يعني ذلك رد أحاديث الكتابين جملة، وأنهما قد تلقيا بالقبول منذ أن ألفا إلى آخر الزمان، فخبر الواحد هذا -قيده الذي ذكره- (يفيد العلم اليقيني عند جماهير الأمة) وقد سبقت الإشارة إلى أقوال العلماء، وأنه يفيد العلم اليقيني، كالإمام الشافعي والإمام أحمد ، وذكرنا أقوال الحنفية والظاهرية، ولـابن حزم كلام طويل في هذا، فكل المذاهب متفقة على ذلك، لكن نقل عن الشافعي والإمام أحمد رواية قد تشعر بأن خبر الواحد لا يفيد اليقين، وبينا هنالك أيضاً أن هذا الكلام غير ثابت، إذ إن ما نقل عن الشافعي رحمه الله لا يقتضي أن خبر الواحد لا يفيد اليقين، وأما ما نقل عن الإمام أحمد فهو مردود بالرواية الأصح والأشهر عنه، وهي أنه يفيد العلم، ومع أن كونه لا يفيد العلم اليقيني لا يعني أنه يرد؛ لأن الذين يقولون: إن خبر الواحد لا يفيد العلم اليقيني يقولون: إنه وإن كان مظنوناً فإنه يجب علينا العمل بالظن، لكن يفرق بعضهم بين الأحكام العملية وبين الأمور الخبرية العلمية، فأهل البدع وأهل الكلام وأمثالهم يقولون: لا نأخذ به في الخبريات، أي: في العلميات أو الاعتقاديات.
    أما في الأحكام العملية أو في الفروع كما يسمونها فهم يجيزون ذلك؛ ولهذا ناقش الشيخ رحمه الله مسالة التفريق بين الفروع والأصول، ونقد هذه المسألة عموماً عندهم، قال: [وهو أحد قسمي المتواتر] أي: إذا كان متواتراً تواتراً معنوياً؛ لأن التواتر إما أن يكون لفظياً وإما أن يكون معنوياً، فإذا تواتر تواتراً لفظياً فلا إشكال فيه عند الجميع نظرياً، وإلا فإن أهل البدع يردونه ولو كان متواتراً، حتى لو كان آية من كتاب الله فيؤولونها والعياذ بالله، لكن المقصود أنه سواء تواتر لفظه أو تواتر معناه، فهذا الذي أجمعت الأمة على قبوله، وأنه يفيد اليقين، وهذا هو أحد أنواع التواتر، أي: التواتر المعنوي الذي اتفقت الأمة على معناه وإن لم تتفق على رواية لفظه، ولم يكن بين سلف الأمة فيه نزاع.
    1. أمثلة على الأخبار المتواترة معنوياً المتلقاه بالقبول

      ثم مثل للأخبار -المتواترة تواتراً معنوياً- التي هي عند الأمة متلقاة بالقبول قال: [كخبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ( إنما الأعمال بالنيات ... )]، فإنه في أصله حديث آحاد، لكن منذ أن استقر العلم في عصر تابعي التابعين إلى الآن وهذا الخبر مجمع على معناه وصحته ومتلقىً بالقبول، وهو يدخل في كل أبواب العبادات الاعتقادي منها والعملي [وخبر ابن عمر رضي الله عنهما: (نهي عن بيع الولاء وهبته) ] وهو حديث رواه البخاري و مسلم وغيرهما، وهو مما اتفقت الأمة عليه وعلى معناه، [وخبر أبي هريرة رضي الله: ( لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ) ]. وهذا أيضاً متفق عليه، وأطبق عليه جماهير العلماء، فهو مكمل لما في كتاب الله تبارك وتعالى من المحرمات، [وكقوله: ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) وأمثال ذلك] وهذا أيضاً مما أطبق عليه جماهير العلماء، بل وهو إجماع، وغير ذلك من الأمثلة الأخرى.
    2. عمل الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة بخبر الآحاد

      قال رحمه الله: [وهو نظير خبر الذي أتى مسجد قباء وأخبر أن القبلة تحولت إلى الكعبة فاستداروا إليها].
      والحديث أيضاً متفق عليه، وهو مما ذكره ابن القيم رحمه الله في الأخير دليلاً على أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يعملون بخبر الواحد ولا يردونه، فقد عملوا رضي الله تعالى عنهم بخبر هذا الواحد الذي أخبرهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتحولوا من بيت المقدس إلى الكعبة، [وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل رسله آحاداً ويرسل كتبه مع الآحاد]، ومن ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم لما بعث الكتب إلى ملوك الأرض: كسرى و هرقل عظيم الروم وملك القبط وغيرهم في جزيرة العرب وخارجها؛ فإنه صلى الله عليه وسلم إنما أرسل آحاداً، حتى أن كتاب كسرى إنما وصل إليه وجادةً، أي: ما بلَّغه دحية الكلبي رضي الله تعالى عنه مباشرة، وإنما دفعه إلى عامله ومن عامله، على بصرى إليه في حمص، فما كان الرسول قد وصل إليه أيضاً، ومع ذلك فإنه قبله، يقول: [ولم يكن المرسل إليهم يقولون: لا نقبله؛ لأنه خبر واحد]. فقد كان الذين أرسل إليهم أعقل من أن يقولوا ذلك، وكما ذكرنا أنه ليس لأنه كتاب أتانا، فهذا يأتي في الخبر ويأتي في الكتاب وفي أي شيء، بل قلنا: هناك مسالة أخرى وهي: القرائن إذا حفت بأي شيء، فهذا ليس لأن الكتاب وقع في يد كسرى أو قيصر فقال: هذا الكتاب حق وآمن به، بل لأن هناك القرائن التي تحف بالشيء فتجعله يقيناً، فإن قيصر لو جاءه كتاب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم -مثلاً- قد لا ينظر إليه، ولا يأبه به، ولا يدري من الذي أرسله؟ ولماذا؟ لكن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث، وأخباره وأصداء دينه قد بلغت الآفاق، وقد تسامع عنه الناس، وأصبح الكذب عليه أو نسبة شيء إليه أمراً عظيماً وجلياً، فهناك قرائن معينة ونحن نقر بذلك، ولا نقول: لمجرد أنه كتاب، ولكن نقول: إن هذه القرائن مع هذا الكتاب جعلت المرسل إليهم يجزمون بصدقه، وأنه حق ممن أرسله، وكذلك نحن في علم الحديث ليس مجرد أي خبر يفيد العلم واليقين، وإنما له شروط معتبرة.
      ثم قال: [وقد قال تعالى: (( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ))[التوبة:33]
      فلا بد أن يحفظ الله حججه وبيناته على خلقه؛ لئلا تبطل حججه وبيناته]
      وهذا قد تقدم في بيان أن >حكمة الله تبارك وتعالى، وما وعد به من إظهار دينه، وإقامة الحجج على الخلق تقتضي القبول والتصديق بخبر الواحد الذي هذا شأنه؛ لأن أكثر السنة آحاد، فلو قال قائل: لا نقبل خبر الواحد لكان ذلك إبطالاً لحجة الله على خلقه، ولم تقم الحجة على أحد إلا بأن يرسل إليه العدد المتواتر الذي اختلفوا فيه: هل يكون سبعين أو أربعين أو عشرين أو اثنى عشر؟ فكل يرى المتواتر كما يريد، وهذا لم يقع أبداً، بل قامت حجة الله تبارك وتعالى على خلقه بهذا الدين، مع أن أكثره آحاد، ونعني به السنة.
  2. فضح الله لمن كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم

     المرفق    
    قال رحمه الله: [ولهذا فضح الله من كذب على رسوله في حياته وبعد وفاته] أي: الفضيحة التي ينالها من كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته هي من الأدلة على هذه الحكمة لله تبارك وتعالى، وأن الله عز وجل حافظ دينه، ثم قال رحمه الله: [وبين حاله للناس].
    1. قول سفيان بن عيينة: (ما ستر الله أحداً...)

      قال: [قال سفيان بن عيينة رحمه الله: [ما ستر الله أحداً يكذب في الحديث] ]. فالمشاهد في أحوال الناس أن رجلاً قد يكذب على ملك من الملوك، أو عظيم من العظماء، ويمكن له أن يعيش ويذكر ويحمد، وربما ظل ذلك قروناً قد يعلم وقد لا يعلم، وإذا علم يعلم بعد انقضاء الأمر وانتهائه، فلا يفيد ذلك شيئاً، أما من كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله تبارك وتعالى يفضحه في الدنيا والآخرة؛ لأنه كما قال صلى الله عليه وسلم: ( إن كذباً عليَّ ليس ككذب على غيري )؛ لأن كلامه صلى الله عليه وسلم بلاغ عن الله عز وجل، فمن كذب على رسول الله فقد نسب إلى الله ما لم يشرعه، وما لم يأذن به، وما لم يأمر به؛ فلذلك الله تبارك وتعالى بنفسه يفضح ويبين كذب هذا المفتري على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالوضاعون من أشهر الناس، وأعرف الناس، وإذا تأمل الإنسان، الكتب الذي تعرضت للأحاديث الموضوعة أو تعرضت للرجال مثل: كتاب المجروحين أو غيره يعجب مما يصف به بعض العلماء كذب هؤلاء الكذابين، إذ إنهم كانوا غاية في الكذب والعياذ بالله، وقد أخزاهم الله تعالى، وفضحهم في الدنيا وكذلك هم في الآخرة.
    2. قول عبد الله بن المبارك: (لو هم رجل في السحر أن يكذب في الحديث...)

      قال: [وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله: [ لو هم رجل في السحر أن يكذب في الحديث ] ] أي: قال: سأكذب غداً، سأجلس ضحىً أو بعد صلاة الفجر، وأقول للناس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، قال: [ [لأصبح والناس يقولون: فلان كذاب ] ]<\m> فانظر إلى حكمة الله عز وجل، لو هم أن يكذب في السحر قبل أن يصبح فينشر الحديث الذي يضعه على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصبح الناس يقولون: فلان كذاب. إذ إن الله في قلوب أهل الصنعة وأهل الخبرة أن هذا كذاب؛ ولذلك يوجد ممن يوصف بالكذب والوضع في الحديث أئمة في الزهد وفي العبادة وفي الصلاح وفي الذكر لكن كان بعضهم يقول: أنا أضع الحديث للرسول عليه الصلاة والسلام لا عليه! أي: أنه يضع الحديث لمصلحة الدين أو لمصلحة الرسول، ومن ذلك: الأحاديث الموضوعة التي توردها بعض كتب التفسير في فضائل سور القرآن سورةً سورة، فهذه من الموضوعات المعروفة عند أهل الفن، فهؤلاء يقولون: رأينا الناس قد انصرفوا عن كتاب الله، فوضعنا هذه الأحاديث حتى يقبل الناس على القرآن، ومع ذلك لم يشفع لهم هذا المقصد، وإن كانوا يظنون أنه حسن فهو خبيث، بل ولم يشفع لهم زهدهم وعبادتهم وتنسكهم وتبتلهم، وإنما يقال: عابد وزاهد ولكنه يضع الحديث، وهذا مشهور جداً في كتب الرجال كما في الميزان و لسان الميزان و المجروحين وغير ذلك.
  3. المرجعية في التفريق بين صحيح الأخبار وسقيمها

     المرفق    
    يقول رحمه الله: [وخبر الواحد وإن كان يحتمل الصدق والكذب] أي: مجرداً أو في ذاته.
    وليس معنى ذلك أن أي حديث أو سند يأتينا نقبله، أو أي خبر واحد نقبله حتى في غير الحديث، وإنما نرجع إلى من يميز، وأهل كل فن هم الذين يميزون فيما يتعلق بفنهم فعندما نقول: قاعدة مطلقة -مثلاً-: أنه لا يقبل في الطب ولا في الكيمياء ولا في الجغرافيا خبر الواحد فهذا خطأ، وإذا قلنا: يقبل خبر الواحد مطلقاً في هذا العلوم. أيضاً خطأ؛ لأن المرجع إلى أهل الفن، فأهل الفن قد يقبلون خبر الواحد وقد لا يقبلونه؛ لأنه شاذ، أي: أنه ثقة لكنه خالف الثقات، وعرفنا ذلك حينما تتبعنا واستقصينا أحاديث الثقات فوجدنا هذا قد خالفها، وبالتالي فالذي يدرك هذا، ويعرف أن هؤلاء ثقات، وأن الحديث خالف: أهل الفن والخبرة، وكما تقدم أن أهل الكلام أو أهل البدع من أجهل الناس بعلم الحديث فمثلاً: الجويني واضح جداً في كتبه، أيضاً المعتزلة من أبعد الناس عن الحديث، وكذلك الغزالي مع أنه فقيه، واشتغل بالأحكام كثيراً، إلا أن الذي يطالع الإحياء يجد فيه من الموضوعات والواهيات ما يعلم به أن الرجل غير متمكن في الحديث، بل ليس من أهله ولا من رجاله، وعليه فالذي يؤخذ كلامه في هذا هو الناقد الخبير، وهذا العلم قال: [ولكن التفريق بين صحيح الأخبار وسقيمها لا يناله أحد إلا بعد أن يكون معظم أوقاته مشتغلاً بالحديث، والبحث عن سيرة الرواة ليقف على أحوالهم وأقوالهم، وشدة حذرهم من الطغيان والزلل] ولو أن أحداً قرأ في التهذيب مثلاً: قال الإمام أحمد عن فلان: ثقة، وقال البخاري : ثقة، فالكلمة هذه كأنها شيء عادي جداً، لكن كيف حكم الإمام أحمد عليه بأنه ثقة؟ كيف حكم البخاري في أنه ثقة أو أنه صدوق يخطئ أو أن له أوهاماً أو غير ذلك؟ لقد جاء هذا الحكم بعد التتبع الدقيق لأحاديثه، وعرضها أحاديث الثقات من أمثاله، والمقارنة والنقد والتمحيص والتمييز، وبالتالي فكلمة (ثقة، أو ضعيف، أو له أوهام) خلاصة بحث طويل مظني، فـأبو داود يسأل الإمام أحمد ، و مسلم يسأل البخاري ، وهكذا قد يكون الرجل تتبع أو سأل من تتبع، وكل هذه تدل على أن المسألة تحري وشدة دقة ومعرفة، وليس مجرد حكم مطلق أن يقال: إنه ثقة أو غير ثقة.
    1. فضل أهل الحديث وكونهم شهداء الله في أرضه

      فهؤلاء رضي الله تعالى عنهم كانوا من شدة حذرهم من الطغيان والزلل، ومن شدة عنايتهم وتجنبهم للطغيان حقاً، أنهم كانوا شهداء لله تعالى في أرضه، عدولاً فيما ينقلون وما يقولون، وهكذا أئمة الرجال وعلماء الحديث كانوا في غاية العدل، فيذكرون عبادتهم إن كان له عبادة، ويذكرون حفظه إن كان حافظاً متقناً، ومع ذلك يذكرون صدقه إن كان -مثلاً- صادقاً أو في صدقه شيء، ثم مع ذلك يقولون: كان فيه البدعة الفلانية، فلا يحيفون ولا يجيرون عليه، وإنما ينقلون الحقيقة كاملة، فيبينون ما له وما عليه، فيأتي الذي بعدهم وقد استطاع بهذا الميزان الدقيق أن يأخذ الرواية أو أن يردها؛ لأن الأمر أمامه واضح؛ ولذلك حتى لو كان الرجل ممن يكذب في الحديث لا يكتفون بأن يقولوا: إنه يكذب، وينتهي الأمر، بل إن كان له فضل في جانب آخر، كالزهد أو في أي عبادة، فإنهم يقولون: كان صاحب عبادة، ولكنه يضع الحديث، فهم أناس تجردوا عن أي نيل أو هوى أو تعصب، ولا يعني ذلك أن عبادته تنفعه مع كونه وضاع، لكن تنقل الحقيقة، ولا يعني ذلك أن صاحب البدعة ينفعه ثناء الناس عليه بالحفظ والعلم والإتقان عند الله تعالى، لكن ينقل أنه كان صاحب علم، أما إذا قيل: إنه لا خير فيه مطلقاً؛ لأنه صاحب بدعة أو ليس لديه علم، فلا، حتى لو كان شاعراً، فهذا الخطيب البغدادي والحافظ ابن حجر رحمهما الله تعالى يذكرون بعض الشعراء، كـأبي نواس و أبي تمام و الفرزدق وغيرهم، فيذكرون أن شعرهم في القمة، وكان في غاية الجودة، لكن يقولون: وكان قاذفاً -مثلاً- للمحصنات، أو كان فاسقاً، أو كان سكيراً، أو كان كذا، فما يظلمون أحداً شيئاً أبداً، فهؤلاء هم ميزان الأمة، إذ تستطيع أن تعرف حقيقة الأمة: مبتدعها وسنيها من كلامهم، بدون أي حيف ولا جور، فلا يأتون على إمام من أئمة أهل السنة فيقولون: كان إماماً من أئمة أهل السنة ، محارباً للبدع، وبالتالي فهو ثقة ثبت، وكل حديثه صحيح، لا؛ لأنه قد يكون من أئمة أهل السنة ، من المدافعين عنها، من المحاربين للبدع، لكن عنده أخطاء أيضاً، كأن يكون ضعيف الحديث مع إمامته، فيقال: ضعيف في الحديث، وهكذا ميزان لا نظير له على الإطلاق، ولذلك نحن نحاكم رجال الشيعة و المعتزلة و الخوارج و أهل السنة إلى هذا الميزان، نحاكمهم إلى ميزان علماء الجرح والتعديل من أئمة أهل السنة والجماعة ، لكن لو أننا تركنا هذا الميزان وجئنا إلى ميزان أهل البدع والعياذ بالله، فماذا نجد؟ الشيعي إذا كان رافضياً، وروى أحاديث في فضائل أهل البيت غريبة وشاذة، وفيها مبالغات وتهاويل، عظموه وقدسوه وبجلوه من أجل هذه الروايات!
      ولهذا قال بعض الأئمة: لو أنني أطعت الشيعة لملئوا بيتي ذهباً وفضة. أي: يقولون له: ضع أحاديث في فضل علي وإمامته، في فضل أهل البيت وغدير خم ، في سب الشيخين، فإذا فعل ذلك ملئوا بيته ذهباً وفضة، لكن حاشا أن يكون أحد من أئمة السنة كذلك [وكانوا بحيث لو قتلوا لم يسامحوا أحداً في كلمة يتقولها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا فعلوا هم بأنفسهم ذلك] فلو قتل أحدهم قتلاً على أن يقول: إن هذا الكلمة موضوعة، لا يقبل أبداً، ولا يمكن أن يتسامح في كلمة توضع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أن يقولها بنفسه ويزيدها من عنده وينسبها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم [وقد نقلوا هذا الدين إلينا كما نقل إليهم] وبالتالي هم الذين تحملوه وسمعوه فأدوه كما سمعوه، فنظر الله تبارك وتعالى وجوههم [فهم تزك الإسلام]، واليزك -كما ذكر المعلق- هي كلمة فارسية، وأظنها والله أعلم منقولة من كتاب حادي الأرواح ، وقد كانوا يرتبون الجيش منذ أيام المعتصم ، وأصبح القيادة للفرس، أي: تمكنوا من أيام المأمون ، ثم أيام المعتصم تمكنوا جداً، وأصبح الجيش بكل أنظمته على الطريقة الفارسية، وأسماء القادة والمراتب والعطايا والهبات وغير ذلك مأخوذة من الطريقة الفارسية، ومنها هذه الكلمة، فاليزك هم الطلائع والقادة المدافعون عنه، أي: كأنك قلت: هم حماة الدين، [وعصابة الإيمان، وهم نقاد الأخبار، وصيارفة الحديث، فإذا وقف المرء على هذا من شأنهم، وعرف حالهم، وخَبَر -بفتح الباء- صدقهم وورعهم وأمانتهم ظهر له العلم فيما نقلوه ورووه].
    2. علم أهل الحديث بأحوال وسيرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم

      قال رحمه الله: [ومن له عقل ومعرفة يعلم أن أهل الحديث لهم من العلم بأحوال نبيهم صلى الله عليه وسلم وسيرته وأخباره ما ليس لغيرهم به شعور] ولذلك مجرد أن يأتيهم أحد ويقول: النبي صلى الله عليه وسلم وقع له كذا أو حصل له كذا، فإنهم يكذبونه، لماذا؟ لعلمهم واطلاعهم على سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله؛ ولهذا كتب كثيرة من الموضوعات في السير على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه، بعض الفتوحات التي تروى في فتوح الشام و اليمن وغيرها لا يحتاج أحد من علماء السنة والسيرة أن يمحص ويدقق ليحكم أنها موضوعة، بل أول ما يراها يحكم أنها موضوعة؛ لأنه واضح أن فيها أموراً معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلها، ولم تكن في عهده صلى الله عليه وسلم؛ لدقة وشدة معرفتهم بأحواله صلى الله عليه وسلم، فيجزمون بأن هذا الشيء لم يكن ويردونه، بل ربما أخذ أو كان مما انتقد على بعض الثقات الأثبات في حديثهم أنه نقل أمراً وهو مخالف لما هو معلوم متواتر من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، كاختلاف بعض الروايات مثلاً، مثل: متى كانت غزوة الأحزاب - الخندق - أو ما أشبه ذلك؟ فترد بعضها بناءً على المعرفة اليقينية القطعية بأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل هؤلاء الرجال، الأئمة المتحرين المتثبتين من وقائع حياته صلى الله عليه وسلم وكذلك حديثه، يقول: ما ليس لغيرهم به شعور، [فضلاً أن يكون معلوماً لهم أو مظنوناً]. أي: لديهم من اليقين ما لا يشعر به غيرهم، فضلاً أن يكون معلوماً أو مظنوناً لديه، ثم قال رحمه الله: [كما أن النحاة عندهم من أخبار سيبويه والخليل وأقوالهما ما ليس عند غيرهم] فلو أنك قلت بيتاً من الشعر لـأبي العلاء المعري أو المتنبي وقلت: هذا البيت ذكره سيبويه في الكتاب ؛ فإن أي عالم من علماء النحو يقول مباشرة: هذا البيت لا يمكن أن يكون موجوداً في كتاب سيبويه ، ولو جئت إلى مسألة من مسائل النحو المتأخرة بعد سيبويه بمائة سنة وقلت: هذه المسألة ربما تكون في الكتاب ، يقول: هذه لا يمكن أن تكون في كتاب سيبويه، ويجزم بذلك؛ لأنه واثق، فقد عرف الكتاب وخبره، وعرف سيبويه ونقله، وكذلك الخليل بن أحمد ، وهو كما هو معلوم من أئمة اللغة، وكان أئمة اللغة الأوائل على مذهب أهل السنة والجماعة والحمد لله، مثل: الخليل و الكسائي و النضر بن شميل وغيرهم كثير، ثم بعد ذلك قع فيهم ما وقع، حتى أبو عبيدة صاحب مجاز القرآن لم يكن على مذهبهم، إنما المجاز عنده معنى من معاني القرآن وليس مجازاً بالمعنى الذي وضعه المعتزلة.
      فالمقصود: أن النحاة يعلمون أخبار أئمتهم من شدة قراءتهم وتحريهم لأخبارهم، وهكذا أهل كل علم، [وعند الأطباء من كلام بقراط و جالينوس ما ليس عند غيرهم]، وهما من أطباء اليونان ، فالأطباء من العرب ومن المسلمين حتى من المعاصرين الآن من كان لديه خبرة بهذا الطب وقلت له: هذا الكلام نقله بقراط ، أو قاله جالينوس ، يستطيع أن يجزم أن هذا الكلام لم يقله، ويستطيع أن يميز هل هو من كلامه أم ليس من كلامه؛ لخبرته في مجال الطب، وهكذا في الجغرافيا أو الكيمياء أو الفيزياء أو الهندسة أو أي فن آخر؛ ولذلك من عرف الفن، وعرف أهله، وتتبع أقوال أئمته، يستطيع أن يجزم بأن هذا ثابت، أو هذا غير ثابت، فنقول: فكذلك أئمة الحديث. أي: لا نأخذ كلامنا من إمام في البلاغة مثلاً، وإن كان في هذا الفن إماماً أو عالماً، فلا نأخذ كلامه في الحديث؛ لأنه ليس من أهله، فلا يصح أن يؤخذ كلام أهل الكلام في أهل الحديث ولو كانوا تقاةً صالحين، فكيف وهم المبتدعة المذمومون الذين توعدهم الأئمة بما توعدوا به، وردوا كلامهم؟ يقول: [وكل ذي صنعة هو أخبر بها من غيره، فلو سألت البقال عن أمر العطر، أو العطار عن البز، ونحو ذلك.. لعد ذلك جهلاً كثيراً] وهذا أمر معروف في حياة الناس، إذ إنما يسأل الناس بحسب ما يطلعون عليه وما يعلمونه وما يفقهونه، فلا يؤخذ كلام أحد منهم في غير مجاله وفنه كما ذكر من الأمثلة وهي واضحة.
  4. تعامل النفاة مع الأحاديث الصحيحة

     المرفق    
    يقول: [ولكن النفاة قد جعلوا قوله تعالى: (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ))[الشورى:11]: مستنداً لهم في رد الأحاديث الصحيحة] فالمقصود بالنفاة: نفاة الصفات أو نفاة الأسماء والصفات، وهذا كما ذكرنا منهم رد أو ضرب لكتاب الله بعضه ببعض، فيجعلون بعضه محكماً كما يشاءون، ويجعلون بعضه متشابهاً كما يشاءون، بل ربما جعلوا المتشابه هو المحكم والمحكم هو المتشابه، فكل آيات الصفات محكمة، لكن جعلوا ثلاث آيات أو أربع هي المحكمة فقط، وما عداها جعلوه متشابهاً، الأولى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، والثانية: (( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ))[الإخلاص:4]، والثالثة: (( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ))[مريم:65]، فهذه عندهم محكمة، وهي كذلك، لكن ما أرادوا بإحكامها إلا أن يردوا غيرها من الآيات التي فيها الصفات، فمثلاً فخر الدين الرازي صاحب كتاب أساس التقديس؛ فإنه بنى أصوله في رد الصفات على مثل ذلك، أي: على القواطع العقلية، وعلى مثل هذه الآية، يقول رحمه الله: [فكلما جاءهم حديث يخالف قواعدهم وآراءهم، وما وضعته خواطرهم وأفكارهم ردوه بـ (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ))[الشورى:11]].
    فإذا قلت لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر -وهو حديث متواتر- أن الله عز وجل ينزل إذا كان الثلث الأخير من كل ليلة، ويقول كذا وكذا، قالوا: هذا لا يصح، أو لا نثبت ذلك؛ لأن الله تعالى يقول: (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ))[الشورى:11]، فنقول: وما الاختلاف أو ما التعارض؟ فهو ليس كمثله شيء، ونزوله سبحانه وتعالى ليس كنزولنا، كما أن ذاته ليس كذواتنا، وهكذا فلا إشكال، لكن هم يردونه، وهكذا حتى في أبواب أخرى كأبواب القدر مثلاً، يقول رحمه الله: [تلبيساً منهم وتدليساً على من هو أعمى قلباً منهم، وتحريفاً لمعنى الآيه عن مواضعه] وهذا كما فعلت اليهود ، إذ إنهم يحرفون الكلم عن مواضعه.
    1. كيفية فهم النفاة لأحاديث الصفات

      قال رحمه الله: [ففهموا من أخبار الصفات ما لم يرده الله ولا رسوله] وذكر النفاة والصفات لأن أصل المشكلة في رد خبر الواحد هي الصفات كما في كلام الرازي وغيره، إذ كيف ننسب إلى الله هذه الأمور التي تنافي العقل ونقول: رواها فلان وذكرها فلان؟ فاضطروا عياذاً بالله من تحكيمهم لهذه الآراء والأهواء أن يردوا الأحاديث الصحيحة، وهذه القضية ليست وحدها في أبواب الإيمان، بل في أبواب القدر وغيرها يردون أيضاً الأحاديث، لكن ذكر الصفة لأنها هي الأصل عندهم، وهي الأهم، فيفهمون منها ما لم يرده الله ولا رسوله [ولا فهمه أحد من أئمة الإسلام، أنه يقتضي إثباتها التمثيل بما للمخلوقين] وهذا لا يمكن، فالله عز وجل عندما ذكر أن له عيناً، وأن له يدين سبحانه وتعالى، أو أنه ينزل إلى سماء الدنيا، ما كان أحد يظن من الصحابة أن ذلك كصفات المخلوقين أبداً، لكن جاء هؤلاء فقالوا: النزول لا يعقل إلا بانتقال الجسم من حيز إلى حيز، فنقول: هذا بالنسبة للمخلوقين، أما الله تعالى فليس كمثله شيء، وليس كشيء من خلقه، فأنتم تتوهمون وتظنون أن هذا الحديث فيه تمثيل أو تشبيه، وهكذا في كل الأحاديث التي ردوها؛ لأنه في ذهنهم أن هذه تفيد التشبيه كما في قولهم: وكل نص أوهم التشبيه! فسبحان الله! هل يمكن أن يأتي نص عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويوهم التشبيه؟! إن العقول الضعيفة تتوهم ذلك، أما النصوص فإنها لا توهم ذلك؛ ولذلك فإن أئمة الإسلام وفقهائه وعلمائه، بل حتى العامي من المسلمين، لا يخطر بباله ذلك إلا إذا عُلِّم من شبههم، أو ألقى الشيطان في نفسه شبهة لضعف يقينه، ثم يقول رحمه الله: [ثم استدلوا على بطلان ذلك بـ(( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ))[الشورى:11] تحريفاً للنصين] أي: أنهم حرفوا الآية، ولنفرض مثلاً قوله تعالى: (( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ))[المائدة:64]، فإذا ردوا هذه الآية بقوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فقد حرفوا معنى الآيتين، أما آية إثبات اليدين فإنها لم يرد الله تبارك وتعالى بها إثبات أن له يدين كأيدي المخلوقين، تعالى وتبارك عن ذلك وتقدس، فهم فهموا هذا، ثم إن هذه الآية: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) لم يرد بها إبطال آية أخرى في كتاب الله، فهم في الحقيقة حرفوا الآيتين معاً أو النصين معاً، ثم قال: [ويصنفون الكتب، ويقولون: هذا أصول دين الإسلام الذي أمر الله به، وجاء من عنده] كما يسمون كتبهم (الأصول)، مثل: الأربعين في أصول الدين للرازي [ويقرءون كثيراً من القرآن ويفوضون معناه إلى الله تعالى من غير تدبر لمعناه الذي بينه الرسول، وأخبر أنه معناه الذي أراده الله] والفرق بين أهل السنة وبينهم: أن أهل السنة والجماعة يفوضون الكيفية، أما المعنى فيثبتونها، فمثلاً: يثبتون معنى استوى، ومعنى العين، ومعنى اليد، ومعنى النزول وغير ذلك في القرآن أو في السنة، أما أولئك فإنهم يفوضون المعنى، فيصبح الحال أن الكلام لا مفهوم له، فيقرءون حروفاً ليس لها أي معنى، وبالتالي فما قيمتها؟! وما فائدة القراءة؟ هل للتبرك فقط؟!
  5. طريقة أهل الكتاب في تعاملهم مع كلام الله

     المرفق    
    قال رحمه الله: [وقد ذم الله تعالى أهل الكتاب الأول على هذه الصفات الثلاث، وقص علينا ذلك من خبرهم؛ لنعتبر وننزجر عن مثل طريقتهم، فقال تعالى: (( أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ))[البقرة:75]]. فهذا هو الأول، وهو تحريف الكلم عن معناه بعد أن عقل معناه وعرفه، فحرفه وصرفه إلى معنى آخر، ثم قال: [إلى أن قال: (( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ))[البقرة:78]. والأماني: التلاوة المجردة ..] الأمنية في اللغة هي القراءة، يقال: تمنى، أي: قرأ وهذه تفسر لنا قوله تعالى: (( إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ))[الحج:52]، أي: إذا قرأ ألقى في قراءته، وبالتالي فالأماني قراءة.
    إذاً: النوع الأول: من أهل الكتاب من يحرف الكلام أو الكلم بعدما عقلوه.
    النوع الثاني: من لا يعرف إلا القراءة فقط، ولا يدري ما معناها، وهؤلاء هم المفوضة ، فهو يقرأ قراءة ليس لها معنى، وهذا أيضاً فيه شبه بأهل الكتاب، وهو متابع وموافق لأهل الكتاب.
    ثم قال رحمه الله: [ثم قال تعالى: (( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ))[البقرة:79]].
    النوع الثالث: أن يكتب أو أن يكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ويقول: هذا هو دين الله، وهذا من عند الله، وهذا الذي أمر الله به، والله تعالى لم يأمر به، ولم يأذن به، ولم ينزله، ولم يشرعه، يقول: [فذمهم على نسبة ما كذبوه إلى الله وعلى اكتسابهم بذلك، فكلا الوصفين ذميم: أن ينسب إلى الله ما ليس من عنده، وأن يأخذ بذلك عوضاً من الدنيا مالاً أو رياسة، نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الزلل في القول والعمل بمنه وكرمه]. أي: يقول: الوصفان كلاهما ذميم من أن ينسب إلى الله تعالى ما ليس من عنده، ثم يقول: هذا من عند الله؛ لأنه جاء الذم الآخر: (( لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ))[البقرة:79].
    1. ذم من حرف النصوص طلباً للدنيا

      ولذلك يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (كل من آثر الدنيا على الآخرة فلا بد أن يقول على الله ورسوله بغير علم) أي: كل عالم أو مفت آثر الدنيا على الآخرة كلياً أو جزئياً لا بد أن يقول على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم بغير علم؛ لأنه يقول: إن أهواء الناس وأحوالهم ومطالبهم وشهواتهم -وهذا معنى كلامه- لا توافق الحق والشرع والدين كما نزل من عند الله. وهذا معلوم، إذ إن ما أنزله الله ضد الشهوات وضد الشبهات وضد الظلم وضد التسلط وضد الطغيان، كثير من الأنفس عندها هذه النزعات وهذه الرغبات تريد أن تحققها، وما أنزل الله يحول بينها وبين ذلك، فإذا جاء العالم أو المفتي وهو من أهل الدنيا -الدنيا عند أصحاب الرغبات وأصحاب الشهوات من الملوك أو الكبراء أو التجار- فلا بد أن يقول على الله بغير علم؛ لأن عنده الرغبة والأمنية والشهوة والعياذ بالله، وذلك على الأقل من باب التحريف وترك بعض ما أنزل الله، وإظهار البعض الآخر، فلا يظهر الدين كله سواء، فإذا جاء إليه ووجده -مثلاً- ينفق أو يتصدق حدثه أو أخبره بما وعده الله تعالى للمنفقين والمتصدقين والمزكين، ويسكت عن الآيات أو الأحاديث التي فيها حرمة أكل الربا؛ لأنه يعلم أن هذا في الربا، لكن يقول: لا، فنأتي له بهذه التي توافقه؛ لأنا لو قلنا: الربا، وقعنا في مشكلة، هكذا والعياذ بالله؛ ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى في حق مثل هؤلاء: (( وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ))[الأعراف:176] أي: بهذا الدين، بهذه الآيات، ثم قال تعالى: (( وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ))[الأعراف:176]، أي: لو أن الله سبحانه وتعالى شاء له العصمة من هذه الذنوب، والهداية والتوفيق، ومن أن يطلب الدنيا بهذا العلم، لرفعه الله تعالى بها فصار أعز وأفضل وأشرف من أهل الدنيا، وما أهل الدنيا وما ملكهم وما ترفهم بالنسبة لمن شرفه الله تبارك وتعالى، وأعطاه هذا العلم، وهذا النور، وهذا الدين؟ لا شيء، من الذين استشهد بهم الله سبحانه وتعالى على أعظم قضية، وقرنهم مع ذاته الشريفة سبحانه وتعالى؟ العلماء، فقال تعالى: (( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ))[آل عمران:18]، فالشهداء أفضل أهل الأرض، وأشرفهم هم الذين استشهد بهم الله على أفضل وأعظم وأشرف قضية وهي ألوهيته تبارك وتعالى، فإذا عمل العالم للآخرة وترك الدنيا رفعه الله بها، فصار أعلى من أهل الدنيا، ولذلك الإمام أحمد رحمه الله في أثناء امتحانه بخلق القرآن لو طلب منهم ما شاء من الدنيا لأعطوه حتى يقول: القرآن مخلوق، وتنتهي القضية ويرتاح من المشكلة، لكنه أبى إلا أن يقول الحق، فلما صبر أظهره الله سبحانه وتعالى عليهم، وجاء المتوكل فرفع المحنة وأعاد السنة، وكان حال الإمام أحمد رحمه الله أنه كان يأتيه بعض التجار من بغداد بعشرة آلاف دينار أو بمائة ألف دينار ويردها ويتصدق بها ويقول: أما إنا لو طلبناها لم تأتنا، لكن لما لم يطلبها تأتيه وهي راغمة، والذي أعطاه يتمنى أن يقبلها ويفرح أنه أعطاه، ويفرح أنه قبلها، فبعد أن كان المعتصم يؤذيه ويعذبه صار المتوكل يتمنى أن يأكل عنده فقط، فكتب إلى الإمام أحمد من بغداد أن يأتي إليه، فشق ذلك عليه، لكن قال: هذا ولي أمر المسلمين، وأعز الله تعالى به الدين، وأظهر به السنة، وقمع به البدعة، فما وجد بداً إلا أن يستجيب، فذهب إلى سامراء وهنالك طلب منه أن يعفيه أن يأكل معه، أي: أنه لا يريد أن يجلس في مجلسه، والمتوكل يهمه فقط أن الناس يعلمون أنه يعظم الإمام أحمد ، وأنه دعا الإمام أحمد ، وأن الإمام أحمد جاء وأكل عنده، لكن الإمام أحمد لما جاء إليه أبى، فكان أبناؤه ومن معه يأتون الإمام أحمد بالطعام فلا يأكل، حتى ذكروا أنه بقي أياماً مواصلاً الصيام، ثم كان يفطر على ماء حتى لا يأكل عندهم، ثم عاد ففرح بعودته، وكأنه خرج من السجن، أو كان أشد فرحاً من خروجه من السجن: (( وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ))[الأعراف:176]؛ لأنه أراد الآخرة، وتعلم العلم للآخرة، ويفتي ويقول الحق لا يريد إلا الله والدار الآخرة، ولهذا رفعه الله تبارك وتعالى بها، فأصبح أعز وأشرف وأفضل من أهل الدنيا قاطبة، تذهب أموالهم وتذهب مناصبهم وتذهب دنياهم وذكره وعلمه باق، والثناء عليه عند الله عز وجل في الملأ الأعلى وعند الخلق لا يزال إلى قيام الساعة.
      وبالتالي فأين هذا من هذا؟
      أما الآخرون الذين أرادوا بعلمهم وبفتاويهم وبكتبهم وبتآليفهم الدنيا أو الحظوة عند السلاطين أو الملوك أو أهل المال؛ فإنهم قلما يبارك لهم فيها، حتى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: إن بعض أهل الكلام ألفوا الكتب للملوك، فتجد أن اسم الكتاب على اسم الخليفة! فهذا من تنزيل مقدار العلم أن يكتب من أجل الدنيا، أو أن ينسب إلى أهل الدنيا، ولو كانوا أهل عقيدة حقة وصحيحة وصادقة ما نسبوا تلك الكتب ولا ألفوها لهؤلاء؛ لأن العلم أعز وأشرف من المال أو المنصب أو من أي شيء، لكن هذه سنة الله تعالى في هذه الأمة، أنها لابد أن يكون فيها مثل أهل الكتاب، أمة قائمة بالقسط، وكذلك يكون فيهم مثل هؤلاء الذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون: هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً والعياذ بالله، وإن كانوا والحمد لله في هذه الأمة أقل من أهل الكتاب، ثم هم مفضوحون في هذه الأمة؛ لأن الله سبحانه وتعالى تأذن وتكفل أن لا تزال طائفة من هذه الأمة منصورة ظاهرة على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله، وهذه الفئة الطائفة المنصورة الظاهرة بالحجة والبيان وأيضاً بالسيف والسنان، يفضح الله تعالى بها أولئك الذين يريدون الدنيا، وينافقون ويقولون على الله تبارك وتعالى غير الحق، ويفترون عليه، وينسبون إلى دينه وشرعه ما لم ينزله وما لم يأذن به، وهذا كثير في الناس إلا ما رحم الله.
  6. أنواع ما صح عن النبي من الشرع

     المرفق    
    يقول رحمه الله: [ويشير الشيخ الطحاوي رحمه الله تعالى بقوله: (من الشرع والبيان) إلى أن ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدين على نوعين: شرع ابتدائي] أي: المبتدأ الذي شرعه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وقوله: (وبيان) أي: البياني الذي هو [بيان لما شرعه الله تعالى في كتابه العزيز، وجميع ذلك حق واجب الاتباع] لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوتي القرآن ومثله معه كما ثبت ذلك عنه، فإذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً، أو أخبر بشيء زيادة عن ما جاء في القرآن، فهو شرع ابتدائي يقبل ويؤخذ، سواء ذلك في الأخبار أو الأحكام، فمثل الأحكام: ( لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها )، وكذلك: ( تحريم كل ذي ناب من السباع )، وكذلك: ( يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب ) وغير ذلك من الأحكام التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم ولو لم تكن في القرآن، مثل: التغريب، إذ إن حد الزنى في كتاب الله: الجلد، فزاد النبي صلى الله عليه وسلم: التغريب، وهكذا فما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الأحكام -وهو كثير- فهو حق ابتداءً، وما جاء به من الأخبار مثل: الدجال ، ونزول عيسى، وفيه إشارة في القرآن، والمهدي ، وطلوع الشمس من مغربها، وإن كان أيضاً فيه إشارة، قال تعالى: (( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ))[الأنعام:158]، ونار عدن ، وذكر أيضاً من أخبار عذاب القبر في القرآن، لكن التفصيل في عذاب القبر، وتفصيل ما يكون في المحشر، وأحوال أهل الجنة، وأحوال أهل النار في السنة كثير.
    والشرع البياني مثل: الصلاة، فقد أمرنا الله تعالى في القرآن بالصلاة، والذي بين لنا كيفية الصلاة، وأن هذه ثلاث أو أربع أو ركعتان، وهذه فريضة، وهذه نافلة، كل ذلك بينته السنة النبوية، ومثله الزكاة، فقد شرعها الله تعالى علينا، والذي بين لنا المقادير والأنصبة وأحكامها الأخرى هو النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الحج، فقد أمرنا الله تعالى به فقال: (( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ))[آل عمران:97]، والذي بين لنا كيفية الحج هو النبي صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: (( لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ))[النحل:44]، وأيضاً حرم الله الربا، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أحكامه، بل زاد أيضاً في السنة أنواعاً من الربا ليست في القرآن، أو مما ذكره القرآن؛ لأن القرآن ذكر ربا الجاهلية المشهور، وهكذا كل ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء كان شرعاً ابتدائياً، أو كان بياناً، فهو حق واجب الإيمان والاتباع، قال تعالى: (( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ))[النساء:80]، وقال: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ))[النساء:59]، وقال: (( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ))[الحشر:7]، ويقول في آية الأحزاب: (( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ))[الأحزاب:36]، فسواء جاء من عند الله، أو جاء من عند الرسول صلى الله عليه وسلم، ما كان لمؤمن يبلغه ذلك أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، بل إنما حاله التسليم المطلق، والإذعان والانقياد الكامل، وهذا نعلم به أن ما يفرق به بعض المبتدعة الآن في هذا الزمان ظهرت فرقة خبيثة في القرن الماضي الهجري من يسمون: (أهل القرآن)، إذ يقولون: لا نؤمن إلا بالقرآن، ولا نحتاج إلى السنة، وهؤلاء في الحقيقة كفار بالقرآن، ولو كانوا يؤمنون به لآمنوا بما ذكرنا من الآيات الدالة على وجوب اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن بعضهم لا يصرح بهذا واضحاً جلياً، وأنه من القرآنيين، إنما يوجد بعض طوائف يشبهون هؤلاء كما قد تقدم، فيقولون: نردها إن كانت آحاداً، ونقبلها إن كانت متواترة، وهذا نوع من التفريق، فبعضهم يقول: لا نرد السنة إذا كانت متواترة عملية أو كانت بيانية، وإذا جئت تناظره وتقول له: لابد أن نؤمن بالسنة؛ لأننا إن طالبناه بالدليل على أن صلاة الظهر أربع ركعات؛ فإنه يفحم ويحرج، ويضطر أن يقول: نحن نؤمن بالسنة إذا كانت بيانية، أي: تبين شيئاً في القرآن، أما إذا كان ابتدائية، أي: شرع ابتدائي فلا نؤمن بها، وهذا كله ضلال؛ ولذلك إشارة الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى هنا إشارة عظيمة ورائعة؛ لأنه قال: كل ما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق يجب الإيمان به، وليس كما يقول هؤلاء: نفرق بين السنة البيانية من الابتدائية، أو إن كانت عملية تواترت تواتراً عملياً كالصلوات، فهذه نؤمن بها؛ لأن الأمة تواترت بفعلها، أما غير ذلك فنرده، وهكذا من أسباب الضلال، ونحن قلنا عندما تعرضنا لهذه الفقرة المتعلقة بخبر الآحاد جاءت مدخلة في موضوع الإيمان، بين الكلام عن أول موضوع الإيمان وتعريفه والاستثناء فيه، وبين العبارات الأخيرة التي قالها، وقوله: (وأهله في أصله سواء) وقوله: (والمؤمنون كلهم أولياء الرحمن)، فيكون هذا مثالاً كما نبهنا إلى أن الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى لم يكتب على طريقة المتأخرين في الفصول والأبواب والتنظيم، وإنما كان علماء السلف رضي الله تعالى عنهم يسترسلون استرسالاً، ويكتب كل ما يرى أنه حق، ولا يشترط فيه التبويب كالذي يفعله المتأخرون.
    والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.