المادة كاملة    
إن جميع ما صح عن رسول الله من الشرع والبيان حق يجب التسليم به، خلافاً لأهل البدع الذين أحالوا الناس إلى قضايا وهمية لا صحة لها، فقدموها على نصوص الوحي، فضلوا وأضلوا، ولو أنهم حكموا نصوص الوحي لفازوا بالمعقول الصحيح الموافق للفطرة السليمة.
  1. الرد على المبتدعة الذين يردون الاستدلال بالنصوص

     المرفق    
    ‏الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    فقد قال المؤلف رحمه الله: [وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق].
    يشير الشيخ رحمه الله بذلك إلى الرد على الجهمية و المعطلة و المعتزلة و الرافضة القائلين بأن الأخبار قسمان: متواتر وآحاد، فالمتواتر وإن كان قطعي السند، لكنه غير قطعي الدلالة، فإن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين، وبهذا قدحوا في دلالة القرآن على الصفات. قالوا: والآحاد لا تفيد العلم، ولا يحتج بها من جهة طريقها، ولا من جهة متنها، فسدوا على القلوب معرفة الرب تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله من جهة الرسول، وأحالوا الناس على قضايا وهمية ومقدمات خيالية، سموها قواطع عقلية، وبراهين يقينية، وهي في التحقيق: (( كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ))[النور:39-40].
    قال: (ومن العجب أنهم قدموها على نصوص الوحي، وعزلوا لأجلها النصوص؛ فأقفرت قلوبهم من الاهتداء بالنصوص، ولم يظفروا بقضايا العقول الصحيحة المؤيدة بالفطرة السليمة والنصوص النبوية، ولو حكموا نصوص الوحي لفازوا بالمعقول الصحيح الموافق للفطرة السليمة.
    بل كل فريق من أرباب البدع يعرض النصوص على بدعته وما ظنه معقولاً، فما وافقه قال: إنه محكم، وقبله واحتج به، وما خالفه قال: إنه متشابه، ثم رده وسمى رده تفويضاً، أو حرفه وسمى تحريفه تأويلاً! فلذلك اشتد إنكار أهل السنة عليهم).
    1. ذكر من رد الأخبار الصحيحة عن رسول الله من الطوائف

      يقول الشيخ رحمه الله: إن قول الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: (وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق) عبارة عظيمة، والعطف في قوله: (والبيان) له حكمة ذكرناها وستأتي في آخر البيان إن شاء الله.
      والإمام الطحاوي رحمه الله بهذه العبارة يرد على الجهمية و المعطلة و المعتزلة و الرافضة ، وذكره لهذه الفرق الأربع فقط هو على سبيل التمثيل.
      قال: (بل كل فريق من أرباب البدع...) أي: فالواقع أن كل أهل البدع لا بد أن يردوا شيئاً من الأحاديث إن لم يردوا الأحاديث الصحيحة كلها وهذا على سبيل التمثيل، وأشهر أولئك هم المتكلمون الذين يشملهم كلامه، وقوله: (الجهمية و المعطلة و المعتزلة) يجمعهم كلمة: المتكلمون، ويضاف إلى ذلك الأشعرية و الماتريدية ، إذ إنهم أيضاً من جملة المتكلمين، فالرادون للنصوص على هذا المنهج، وبهذه الاعتبارات التي ذكرها هنا الشيخ، يجمعهم في الحقيقة طائفتان: الفلاسفة أو المتكلمون، فهذان طائفتان أو منهجان كبيران تحت كل منهج من الطوائف والأفراد ما لا يعلم عدده إلا الله تعالى.
      فالطائفة الأولى: من اتخذ أهلها سبيل المعقول كما يدعون، وهؤلاء هم المتكلمون والفلاسفة .
      الطائفة الثانية: التي اتخذ أهلها سبيل الكشف والوجد والذوق وما أشبه ذلك مما يعبرون عنه أحياناً بالعلم اللدني أو العلم الباطن، وهؤلاء هم معاشر وطوائف الصوفية على اختلاف درجاتهم ومراتبهم من أهل الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، إلى من كان دون ذلك من طرق كثيرة لا تحصى.
      فهذان هما الطرفان في هذه الأمة.
    2. مشابهة من رد الأخبار الصحيحة عن رسول الله لليهود والنصارى

      وهما في هذه الملة يشبهان الطرفين اللذين ذكرهما الله سبحانه وتعالى عن أهل الكتاب قبلنا، عن الأمتين اللتين أوتيتا الكتاب قبلنا، وهما: اليهود والنصارى، حيث يأمرنا الله تبارك وتعالى في كل ركعة من صلواتنا -سواءٌ كانت نافلة أو فريضة- أن نقرأ بأم الكتاب، وأن نقول: (( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ))[الفاتحة:6-7]، فالمغضوب عليهم في الأمم هم اليهود ، ثم من اتبع نهجهم وطريقتهم ممن عرف الحق ولكنه لم يعمل به ولم يتبعه، كما قال عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه وسفيان بن عيينة وغيرهما: [من ضل من علمائنا ففيه شبه من اليهود ، ومن ضل من عبادنا ففيه شبه من النصارى].
      وبالتالي فـأهل تحكيم العقل والمعقولات هم أقرب إلى اليهود ومن نحا نحوهم في هذه الأمة من أهل القبلة لأنهم يطلعون على النصوص ثم يعارضونها بما يقولون: إنه قواعد عقلية وبراهين يقينية، وهذا هو الانحراف والعياذ بالله، إذ إنهم عرفوا الحق ولكنهم أعرضوا عنه وتحاكموا إلى غيره.
      والطائفة الأخرى في الأمم: هم الذين عبدوا الله تعالى على جهل، وتقربوا إليه بما لم يأذن به الله ولم يشرعه، وهؤلاء هم النصارى ، ومن نحا نحوهم كـ البوذيين وغيرهم؛ فإنهم قد تدينوا لله تبارك وتعالى بالرهبانية والانقطاع عن الدنيا وترك شهواتها، ومع ذلك فعملهم حابط وخاسر.
      وهم أصحاب الوجوه التي ذكرها الله تبارك وتعالى: (( عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً ))[الغاشية:3-4]؛ لأن كدحها لم يوافق ما جاء عن الله، وما شرعه الله، وهذا في الأمم السابقة، أما في أهل القبلة أو أهل هذه الأمة فالذي يمثل هذا المنهج هم أولئك الذي أيضاً تصوفوا وتركوا الدنيا، وانقطع كثير منهم إلى التعبد وإلى الإذكار وإلى معالجة أمراض القلوب وإلى ما يسمونه: المقامات والأحوال وما أشبه ذلك، ولكنهم يعملون ويكدحون في غير ما شرع الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ).
    3. تخبط من حكموا العقل والكشف على الآثار والنصوص

      إذاً: أولئك الذين حكموا الكشف أو العلم الباطل أو منهج التصوف وما أشبهه، قد كفونا مئونة أنفسهم بما وقع بينهم من الجهل والاضطراب والتخبط الكبير؛ لأنهم يرجعون معرفة الحق إلى أمر غير منضبط، فهذا أبو حامد الغزالي وهو ممن يمثل هذا الاتجاه، وهو من خيرتهم وأمثلهم، يقول في كتابه الإحياء: (معرفة ما يؤول وما لا يؤول من الصفات لا يمكن إلا عن طريق الكشف) لكن هذا الكشف من أين يأتي؟ إنه يأتي من عند الله تعالى، فإذاً أحال إلى أمر غير منضبط، فقد يقول أحدهم: وقع في قلبي أن أءول صفة اليد، والآخر يقول: كشف لي أو وقع في قلبي أني لا أءولها، وإنما أءول القدم مثلاً، فما الذي يجعلنا نعرف الحق من الباطل؟ أو إلى شيء نتحاكم؟ لقد أحال إلى أمر غير منضبط، والمقصود أن هذا المنهج كله وأهله هذا ديدنهم، لكن أهل الكلام أو علماء الكلام -وهم ليسوا بعلماء إلا كما نقول: علماء، ونعني به من علم شيئاً سواء كان حقاً أو باطلاً- يقولون: نحن نحاكم إلى قواعد يقينية وقواطع وبراهين عقلية، سواء كان ذلك في باب الصفات، أو في باب القدر، أو في باب الإيمان، أو في أي باب من أبواب العقيدة الأخرى، كما في كلام الرازي فيما نسميه: القانون الكلي للتعارض، ومن هنا لبسوا على كثير من الناس أنهم أصحاب العقول، ولو تأمل الواحد في دوائر المعارف كما تسمى أو ما أشبهها مما يتعرض له الفكر الإسلامي كما يسمى، أو الفكر الفلسفي في الإسلام إلى غير ذلك من التسميات، لوجد أنه يجزم أو يحكم بأن أهل الكلام وأهل الاعتزال -وأشهرهم المعتزلة كما قال عبد الله بن المبارك - يمثلون حرية العقل، وحرية التفكير، واستخدام العقل والمنطق والحجج والبراهين.
      أما أهل الحديث فهم الذين يأخذون النصوص مجردة من غير فهم، قد يقال وقد لا يقال، المقصود كأنهم حرفيون، يأخذون مجرد العبارات دون فهمها ويقولون: آمنا وتمسكنا بها وانتهى الأمر، وهذا يؤدي إلى أن يعتقد أو يظن البعض أن الكتاب والسنة إنما هي مجرد أخبار أو نصوص، وليست قواعد ولا حججاً ولا بيانات ولا براهين تفيد اليقين، وهذا ما صرح به المتكلمون، وهذا ما يجب أن يبطل وأن يدحض؛ لأن هذا الدين -كما وضح ذلك شيخ الإسلام رحمه الله بأطول وأجود البيان- أو هذا القرآن، أو هذا الرسول صلى الله عليه وسلم بعثه الله تبارك وتعالى بالحجة والبيان والبرهان.
      ولهذا يضرب الله تعالى الأمثال الحسية العقلية؛ ليبين أن هذا الدين حق، وأن كل قضية من قضايا العقيدة حق يضرب الله مثلاً حسياً على البعث، وهو النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون، الذي عجب العرب وأكثر الأمم اليوم في الأرض كيف أن الله يبعث الناس بعد موتهم ويحاسبهم ويجازيهم؟
      إن هذه القضية مهمة، إذ إن كثيراً من الخلق يؤمن بأن الله حق موجود، لكن المشكلة أنه لا يؤمن بالآخرة، فيضرب الله تعالى مثلاً حسياً بالأرض أو بالزرع أو بالنبات، وذلك في مواضع كثيرة، وهو مثل حسي يشاهده أي إنسان، إذ إنه يرى الأرض هامدة أو خاشعة، فإذا أنزل الله تعالى عليها الماء اهتزت وأنبتت من كل زوج بهيج، وأصبح فيها كذا وكذا مما ذكر الله سبحانه وتعالى في سورة الأنعام وغيرها من الحب المتراكب والنخل الصنوان وغير الصنوان وأصناف أخرى، كل ذلك جعله الله تعالى آيات شاهدات يراها كل أحد من الناس، وكذلك المثل العقلي أو الدلالة العقلية التي لا يشك فيها عاقل، فعندما يتساءل المشركون: كيف يبعثنا الله سبحانه وتعالى؟ من يحيي العظام وهي رميم؟ فيأتي البيان والبرهان العقلي القاطع بقوله: (( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ))[يس:79]، فهذا برهان عقلي وليس مجرد خبر أن الله يحييها مثلاً، إذ لو كان كذلك للزم منه الدليل العقلي، لكن المقصود ليس مجرد الخبر، بل هو حجة عقلية ملزمة مفحمة، فإن الناس جميعاً يعلمون أن من صنع آلة معينة، ثم وجدت مفككة متحللة فإنه قادر على أن يعيد تركيبها؛ لأنه هو الذي صنعها أول مرة أو ركبها.
      وكذلك دعوى النبوة، إذ إنها أعظم القضايا التي يترتب عليها ما بعدها، فإن من أقر بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم لزمه أن يقر بما بعدها، فكيف جاءت النبوة أو إثبات النبوة؟ هل هي مجرد خبر أو دعوى أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم أو أي نبي كان: أنا نبي فقط؟ أم يعطيهم الله تبارك وتعالى من الآيات والبينات والبراهين والمناظرة ما يفحمون به خصومهم، وتقوم عليهم الحجة به؟
      إن الله سبحانه وتعالى جعلهم حجة على عباده، وأعطاهم الآيات والبراهين كما أعطى موسى عليه السلام تسع آيات، وأعطاه تلك الحجة العقلية في مناظرته مع فرعون، وإلزامه إياه في كل قضية كما في سورة الشعراء مثلاً.
      وأما النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه من المعجزات أو الآيات الحسية وحدها ما يزيد أو يقارب ألف آية، وأما ما عداها وهو أعظم منها فأعطاه الله عز وجل ما لا يدخل تحت الحصر، ولو تأملته العقول إلى قيام الساعة لعجبت منه، ولما انتهى عجبها من هذه الآيات البينات، وأعظمها هو القرآن والذكر الحكيم، وما نشأ وما يتفرع عنه من أخبار وأحكام وقصص وأمور لو اجتمع أهل الكتاب كلهم فإنهم لا يستطيعون أن يأتوا بشيء منها، فهذه أعظم أدلة على أنه صلى الله عليه وسلم صادق، وهي أدلة واضحة على ذلك.
      فـ المؤرخ إذا أراد أن يعرف صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فإنه يستطيع من خلال علمه بالتاريخ والمشرع كما يسمونه -كما كان يشرع الرومان وغيرهم- يستطيع أن يستدل على أن هذا الشرع من عند الله من خلال معرفته بالتشريع وضوابطه وقواعده إذا اطلع على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، بل حتى اللغوي أو الشاعر المتعمق في اللغة يستطيع أن يجزم بأن هذا الكلام ليس كلام بشر ولا شاعر، وهكذا كل إنسان.
      ويكفي أن نعلم -مثلاً- أن الله قص علينا خبر أمتين من أعظم الأمم، وهما عاد وثمود، وهما من أكثر الأمم وروداً وذكراً في القرآن، وما جاء في غير القرآن أيضاً، فهذا الحديث لا نجده في كل كتب أهل الكتاب، فإذا راجع أحد كتب أهل الكتاب كلها؛ فإنه لا يجد فيها ذكراً لعاد وثمود، وهما كانتا قبل إبراهيم عليه السلام، كما نجد ذلك ظاهراً في سياق القرآن كما في سورة هود أو يونس أو غيرها لمن تأمل السياق.
      فالشاهد أن هاتين الأمتين العظيمتين بعد نوح وقبل إبراهيم عليهما السلام ما كان الناس يعرفونهما، مع أن أكبر أمة الآن تشغل بال الباحثين في التاريخ والآثار هي عاد، فأين عاد؟ وما هي حضارتها؟ وما هي ديانتها؟
      كل المؤرخين ممن لم يقرءوا ولم يعرفوا شيئاً عن الدين فإنهم يهمهم أمر هذه الأمة، ويريدون أن يصلوا إلى الحق فيها، وهم لم يجدوا لها ذكراً وفي توراتهم وأناجيلهم، ومع ذلك فهي مذكورة في القرآن.
      وهكذا فالأمثلة كثيرة جداً على أن هذا الدين حق، والشواهد الدالة على صدقه في الأنفس والآفاق أكثر وأعظم من أن تحصر.
  2. نتيجة تحكيم نصوص الوحي على أوهام المتكلمين

     المرفق    
    يقول رحمه الله: (ولو حكموا نصوص الوحي لفازوا بالمعقول الصحيح الموافق للفطرة السليمة).
    إذاً: مصادر المعرفة الصحيحة ثلاثة:
    أولاً: الوحي الذي هو الكتاب والسنة.
    ثانياً: العقل الصحيح السليم.
    ثالثاً: الفطرة السليمة التي لو تركت لعرفت الحق كما قال صلى الله عليه وسلم: ( كل مولود يولد على الفطرة -وفي رواية: على هذه الملة- فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة البهيمة جمعاء، فهل ترون فيها من جدعاء؟ )، لا تولد بهيمة جدعاء في الدنيا كلها، فمن الذي يضع عليها العلامة؟ من الذي يشق الأذن ويجعل علامة أن هذه لفلان أو من قبيلة فلان، أو أنها تشعر لتذبح لله تعالى هدياً، أو تذبح لغير الله مثلاً؟ البشر، أما هي فتولد جمعاء سليمة مكتملة الخلقة.
    وبالتالي لما حرموا المصدر الأول حرموا ما عداه، لما حرموا الاهتداء بالكتاب والسنة -وهما مصدرا الهدى الكامل- حرموا بعد ذلك من العقل الصحيح، وطمسوا وشوهوا فطرهم، فمن أخذ بالكتاب والسنة وفهمهما أعطاه الله تعالى مع النقل: العقل، وحفظ له الفطرة، ومن أضاع الكتاب والسنة فإنه يضيع ما عداهم.
    وفي واقعنا المعاصر قد يقال: لا نأخذ شيئاً -مثلاً- من صفات الله من كلام هؤلاء الفلاسفة وأمثالهم، مع أن هذا أيضاً موجود إلى حد ما، لكن نقول: انظروا إلى ما يسمونه علم الاجتماع وعلم النفس وعلم الاقتصاد وعلم التشريع -القانون- وعلم السياسة ومناهج التاريخ إلى غير ذلك، إذا اهتدى أصحابها بالوحي واستناروا به سلم لهم المنهج العلمي الصحيح في هذه العلوم، وعرفوا الحق فيها من الباطل، وحتى الذي يسمونه: علم القانون، فنحن عندنا الاجتهاد، وليس عندنا تشريع، إذ إن المشرع هو الله وحده، كذلك في علم السياسة يستطيع الإنسان إذا عرف الكتاب والسنة، ثم قرأ هذا العلم أن يهتدي إلى الحق فيه من الباطل، أو أي علم من هذه العلوم، لكن انظروا إلى مجرد اجتماع علماء يتناظرون، فتجدهم يتجادلون ويتخاصمون، ويرد بعضهم على بعض، ويسفه بعضهم رأي بعض، ولا يصلون إلى نهاية أبداً، مع أنه يوجد عشرات المدارس في علم الاجتماع، كم منهج في علم الاجتماع؟ كم مناهج في علم النفس؟ كثيرة جداً، وبعضها يكذب بعضاً، وبعضها يسفه بعضاً، فمن يحكم بين هؤلاء؟ وكيف نعرف الحق الذي عند هذا من الحق الذي عند هذا، والباطل الذي عند هذا من الباطل عند هذا؟ من لم يعرف ويتعلم إلا هذه العلوم فقط فإنه يتخبط أكثر، فلو أراد أن يعرف الحق، أو يحكم بهذه العلوم لخرج بمذهب جديد، وهذه عادتهم، فكل إنسان يتعلم أي علم من هذه العلوم ولديه عقل واجتهاد فالنتيجة أن يخرج برأي جديد ومذهب جديد، فلو جمعنا عباقرة الدنيا، وكان عددهم -مثلاً- عشرة آلاف، ودرسوا علم الاجتماع لخرجنا بعشرة آلاف نظرية في علم الاجتماع، والسبب أنه ليس هناك معايير محددة، إذ إن كل واحد يجتهد، لكن لو قلنا لهم: تعالوا تعلموا الكتاب والسنة، وانظروا ما فيهما في هذا الجانب، ثم اقرءوا هذا العلم، ثم احكموا، فنجد أننا لو طلبنا منهم كتابة بحوث لاستطعنا أن نخرج -مثلاً- بعشرة مذاهب، وليس هناك مشكلة لو أن عندنا عشرة آراء، أو أربعة مذاهب: حنفي وحنبلي وشافعي ومالكي، وإنما المشكلة هذا الاختلاف الذي لا يلتقي فيه اثنان، وعليه فالكتاب والسنة يهدي الله تبارك وتعالى بهما صاحب العقل؛ ليكون أقوم ما يكون، وليكون عقله نيراً متحرراً ناضجاً مهتدياً بإذن الله تبارك وتعالى، ولذلك سماه الله تبارك وتعالى نوراً فقال: (( وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ))[النور:40]، أي: يتخبط في الظلمات، ولو مشى في الظلام ألف أو عشرة آلاف لأمكن أن يكون عندنا ألف أو عشرة آلاف طريق؛ لأنه تخبط في الظلام، أما في النور فحتى ولو كان في الطريق أربعة مسارات أو عشرة مسارات، فالطريق كله طريق واحد؛ لأنه مضيء، فكلهم يهتدون بهدي هذا النور، وهذا هو الفرق بين هؤلاء وأولئك.
  3. شبهة من زعم بأن القرآن والسنة مجرد أدلة لفظية وليست أدلة عقلية

     المرفق    
    فلذلك عندما يظن المتكلمون أو الفلاسفة أن هذا الدين مجرد أخبار، ويحيلون ويحاكمون إلى القواعد العقلية والبراهين اليقينية كما يزعمون، يكون منهم الضلال الذي أشرنا إليه، فهذه الطوائف كلها تقول: إن الأخبار التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمان: متواتر وآحاد، والقسمة لا تختص بهم وحدهم، بل يشاركهم فيها كذلك علماء الحديث وعلماء المصطلح، لكن اختصوا هم بما بعد ذلك، وهو قولهم: (فالمتواتر وإن كان قطعي السند غير قطعي الدلالة)، وبالتالي لا تؤخذ منه الأحكام؛ لأنه غير قطعي الدلالة، وإن كان قطعي الثبوت، وشبهتهم: (أن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين)، وهذا ما ذكرنا النقل عليه من كلام الإيحي وشيخه الرازي ، فهم يتصورون أن القرآن والسنة مجرد أدلة لفظية وليست أدلة عقلية، ومن هنا جاء الخلل، وبالتالي فشبهتهم أنهم قالوا: الألفاظ تحتمل عشرة أوجه، أو يعللون بأنها لا تفيد اليقين من عشرة أوجه:
    الإضمار، أي: قد يضمر كلمة، والتخصيص، والتقييد، والنسخ، والاشتراك، إلى آخر ذلك من الشبهات التي يرون أنها تتعلق بالألفاظ، مع أن العاقل لو تأمل لوجد أن أي قاعدة عقلية، وأي معادلة رياضية -مثلاً- تجزم أنها صحيحة، لا بد أن تصوغها في ألفاظ، وعليه فالمشكلة ليست في كونها دلالةً، أو في كونها براهين لفظية أو غير لفظية، وإنما قد يكون الإشكال في أصل اللغة واللفظ والمتكلم.
    أحياناً يكون التقصير في اللغة، فمثلاً: اللغات غير العربية تأتي لمعان كثيرة، وبالتالي لا تستطيع أن توجد لها معنىً بنفس الدقة في اللغة الأخرى، إذاً فالإشكال جاء من ذات اللغة، وأحياناً يكون من ذات المتكلم، مثل أن يكون لدي معنى، لكني لا أستطيع أن أعبر عنه، وإلا فهو له وجود في اللغة، فلو جاء من هو أقدر مني في اللغة لعبر عنه بما يجعلني أقول: نعم، هذا الذي أردت وقصدت.
    إذاً: المشكلة ليست مشكلة الألفاظ، وإنما مشكلة اللغة أو المتكلم، فأما اللغة العربية فهي أوسع اللغات وتشمل كل شيء، والله سبحانه وتعالى اختارها وجعلها لغة لكتابه؛ لأن هذه الميزة فيها بلا ريب.
    فإذا كان القرآن فالمتكلم هو الله، وإن كانت السنة فالمتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يمكن أن يكون أعظم من بيان الله بيان، أو من بيان رسوله صلى الله عليه وسلم بيان حتى نقول: هذه عبارة ينقصها البيان؟! لا يمكن أبداً، وعليه فيمكن أن يطرأ الإضمار أو التخصيص أو التقييد أو الاشتراك على أي كلام يقال، ولكن مع ذلك يظل كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فوق كل كلام يقوله أي أحد، فهو الذي لا يمكن أن يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبهذا قدحوا في دلالة القرآن الكريم على الصفات وعلى غير الصفات، لكن موضوع الصفات هو أهمها وأوضحها.
    1. الرد على من قدم العقل على النقل ورد نصوص الوحي

      يقول رحمه الله: (ومن العجب أنهم قدموها على نصوص الوحي).
      ففي القانون الكلي: إذا تعارض العقل والنقل فيقدم مقتضى العقل، وقالوا: إنما عرفنا صحة النقل بدليل العقل، فالعقل هو الذي دلنا على أن النقل صحيح، فلو أننا حكمنا مقتضى النقل في تعارضه مع العقل لأبطلنا دلالة العقل، وإذا بطلت دلالة العقل بطل النقل؛ لأنه مبني على دلالته، وما بني على شيء يبطل ببطلانه، وهذه هي شبهتهم، والرد عليها: أن صدق الدليل في دلالته لا يستلزم تحكيمه أو تقديمه، مثل: دلالة الدليل العامي إذا دلل على عالم، فهو في دلالته لا يستلزم تحكيمه وتقديمه، كأن يأتي رجل يسأل عن عالم فيجد عامياً فيدله على عالم، فيتعلم منه العلم النافع الغزير، ثم عند العودة إلى بلاده قال له ذلك العامي: اعرض علي ما تعلمت؛ حتى أقر لك ما أشاء وأرد ما أشاء، فنقول له: لماذا؟ فيقول: أنا الذي دللتك عليه، فلولاي ما عرفته، ولو أنك قدمت كلامه عليَّ لكان ذلك قدحاً في دلالتي، وإذا بطلت دلالتي لك عليه بطل المدلول، وهذا نفس كلامهم، فيقال لكل عاقل: لا يلزم من صدقك في الدلالة على العالم أن تقدَّم عليه أو تحكم فيه، وإلالزام أن تكون أنت العالم، وإذا كنت سأذهب إلى مدينة لأتعلم، وطبقت هذا الدليل وحكمته في كل ما أتعلم، وعملت بقوله: خذ هذا واترك هذا، فنصف العلم الذي سوف أتعلمه عند الشيخ قد يرده، وقد يرد ثلثيه أو ثلاثة أرباعه كما ردوا المتواتر والآحاد، وما السنة إلا المتواتر والآحاد، فرد السنة وهي أكثر من ثلاثة أرباع العلم، أو على الأقل هي الثلثين مثلاً، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه )، فلتكن السنة النصف أو الثلثين، وعليه فالقرآن وفهم القرآن ونفس الدلالة دلالة القرآن والسنة، وبالتالي عندما أحكم هذا العامي في كلام العالم إذاً سأتعلم على يديه مباشرة.
      ومعنى ذلك: أنه يلزم من كلامكم أن نحكم العقول رأساً، فإذا أراد أحد أن يتعلم الصفات، أو يريد عقيدةً حقاً يعتقدها ويدين الله تعالى بها في الصفات، فقالوا: لابد من تعلم القرآن والسنة، وبعد أن تأتي يقولون لك: هذه الآية لا بد أن تؤولها، وهذا الحديث ترده، وهذه الآية كذا، وهذا الكلام احذفه، وكلام الإمام أحمد هذا احذفه.
      إذاً: من بداية الأمر علموني أنتم، ثم إن لازم ذلك أن بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت تعطيلاً ووبالاً وضياعاً للعقول والأوقات والعياذ بالله؛ لأنه جاء فأخبرهم عن الله بأحاديث كثيرة، في الصفات وفي القدر وفي الرؤية وفي الصراط وفي الميزان وفي يوم القيامة وغيرها، وأخذ عليه الصلاة والسلام يعلمهم وهو في المسجد، وفي غزواته صلى الله عليه وسلم، وبين لهم ما جاء في القرآن، وحارب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس من أجله، فقتل من قتل، وسبي من سبي، ثم في النهاية نحكم العقل، والذي يعتمد على القواعد من كلام أرسطو و أفلاطون ، وغيرهم من علماء المنطق، وأكثر أسمائهم مجهولة، وبالتالي فهذه العقول موجودة من قبل البعثة، وكتبهم موجودة من قبل البعثة، والقواعد التي قرروها موجودة من قبل البعثة، فإذا كان الدين الحق هو فيها، فلماذا يبعث الله هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، وتكون هذه الأحداث العظيمة، ثم في النهاية نأتي في القرن الثاني ونرجع إلى قول أرسطو وأفلاطون ؟! وما فائدة إنزال هذا القرآن العظيم على النبي عليه الصلاة والسلام؟
      يقول رحمه الله: (ومن العجب أنهم قدموها على نصوص الوحي، وعزلوا لأجلها النصوص، فأقفرت قلوبهم من الاهتداء بالنصوص، ولم يظفروا بقضايا العقول الصحيحة المؤيدة بالفطرة السليمة والنصوص النبوية).
      والمسألة أن القلب كالإناء، إن ملأته بالماء أو بالعسل أو بأي شيء طيب فخير، وإلا فإنه سيمتلئ بضده وخلافه فهؤلاء لما لم يتعلموا دينهم، ولم يأخذوا عقيدتهم في الله تبارك وتعالى من الكتاب والسنة، ومما جاء في الوحي، بل عزلوها وقالوا: لا تفيد اليقين، وأخذوا من كلام هؤلاء الفلاسفة الضلال والمتكلمين، المتأخر يأخذ عن المتقدم، وجعلوا مكان هذا هذا، وأحلوا هذا الباطل والغثاء والأوهام والركام والخلافات والضلالات كما قال شاعرهم: قيل وقالوا، فأحلوها محل كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فأقفرت القلوب من النصوص، وحشيت بهذا، وعندما يأتي الموت لا تنفع هذه شيئاً أبداً، لا في القبر ولا يوم القيامة، وإنما هي حيره وتخبط وضلال.
    2. حجة المبتدعة في ردهم لحديث الآحاد وعدم الاستدلال به

      (قالوا: والآحاد لا تفيد العلم، ولا يحتج بها من جهة طريقها) لأنها آحاد، (ولا من جهة متنها) لأنه إذا كان متن المتواتر لا يفيد فكذلك متن الآحاد من باب أولى، (فسدوا على القلوب معرفة الرب تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم)، وهي أعظم وأوجب وأشرف وأجل المعارف، وجعلوا الطريق إليها كما قال رحمه الله: (وأحالوا الناس إلى قضايا وهمية ومقدمات خيالية، سموها قواطع عقلية، وبراهين يقينية).
      وهذا تعبير جيد، إذ إن ما يسمونه قواطع عقلية وبراهين يقينية فهو في الحقيقة قضايا وهمية ومقدمات خيالية، فصاحب العقل إذا قال: عندي أمور عقلية وعارض بها النص، فاحكم بأن هذا ليس عقلاً، وإنما هو وهم أو خيال، وأما صاحب الكشف أو العلم الباطن وما أشبه ذلك إذا جاء وقال: كشفي أو ذوقي أوصلني إلى كذا وكذا، ووجدت أنه ليس في الكتاب ولا في السنة، بل هو معارض له، فاحكم عليه بأنه خرافة؛ لأنه وحي من الشيطان، بينما المسكين يظن أنه كشف من الله في قلبه، وهذا الشيطان ألقى في قلبه خلاف الحق أو خلاف الآية أو خلاف الحديث، وهذا كله من الشيطان، وعليه فهؤلاء المتكلمون وأمثالهم ما يسمونه قواطع عقلية وبراهين يقينيه هي في الحقيقة قضايا وهمية ومقدمات خيالية، ثم استشهد الشيخ بالآية فقال: (وهي في التحقيق: (( كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ))[النور:39]).
      ولذلك يجد الإنسان أول ما يقرأ في كتبهم أنهم يبدءون فيقولون: علم الكلام هو علم يقتدر به على إثبات العقائد الدينية بالبراهين العقلية! وبالتالي قد يقول الإنسان المسكين: إذاً لو عرفته لاستطعت أن أرد وألزم وأفحم كل المناظرين والمجادلين، ولذلك يقولون في التعليل: يا أخي! إذا وجدت يهودياً أو نصرانياً هل تناظره بالقرآن؟! هو كافر بالقرآن، وهل تناقشه بالسنة؟! هو كافر بالسنة، لكن ناظره بالبراهين العقلية فتغلبه -كلام طيب- وهذه البراهين هي علم الكلام، ولذلك كما ذكر الشيخ في الآية أنها كسراب كما ذكر الله تعالى في أعمال الكفار، فاستعار هذا لهذا، والضمآن في الآية: المتعطش، كحال كثير من الناس، إذ إنه متعطش إلى معرفة الله وأسمائه وصفاته، وكيف يرد شبهات المبطلين؟ فيقول لك: الماء أمامك، فإذا ما ذهب وجد السراب، ويظل يجري ويجري من سراب إلى سراب، وفي النهاية عند الموت يدرك أنه لا شيء، كما فعل الرازي و الجويني وغيرهم عندما يأتي الموت فتصبح الحقيقة أمامه واضحة:
      نهاية إقدام العقول عقال            وغاية سعي العالمين ضلال
      ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا            سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
      وقال الغزالي :
      تركت هوى ليلى وسعدى بمعزل            وعدت إلى تصحيح أول منزل
      وهذه قالها لتلميذه أبي بكر بن العربي وهو سالك طريق التصوف، فعندما جاءه الموت كان صحيح البخاري على صدره، فقال العلماء: البيت الذي قاله الغزالي عندما خرج من بغداد ، وأخذ المخلاء، وتزيا بزي الصوفية ، هذا البيت يصلح هنا عند الموت، عندما كان صحيح البخاري على صدره، فهذا هو موضع أن يقول:
      تركت هوى ليلى وسعدى بمعزل            وعدت إلى تصحيح أول منزل
      قوله: أول منزل، أي: الكتاب والسنة، إذ إنها هي الأول، وليس ما قلته من قبل، فهم يدركون أن هذا كان سراباً عند الموت، لكن في أثناء حياتهم يظلون يلهثون وراءه، ويظنون أن هذا هو الذي يعطيهم اليقين.
      فهذا المثال أو المثال الآخر وهو قوله تعالى: (( أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ))[النور:40]، وهذا من أعظم الأمثلة البلاغية في القرآن الكريم على عمل الكفار، وعلى حبوطه، وعلى أنهم لا يظفرون ولا يصلون إلى شيء، والمهم هو ما ختم الله تبارك وتعالى به الآيتين: (( وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ))[النور:40]، أي: من لم يجعل الله له يقيناً فما له من يقين؟ ومن لم يجعل الله له برهاناً فما له من برهان، وهكذا فالحق واليقين والبرهان والعلم إنما يؤخذ من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما ما عارض به هؤلاء فهو أوهام أو سراب أو خيالات.
  4. موقف أهل البدع من نصوص الوحيين

     المرفق    
    ثم قال: (بل كل فريق...) هنا أضرب عن كلامه الأول، وإضرابه عن كلامه الأول يعني ليس ذلك خاصاً بأهل الكلام، أو الفرق التي ذكرها: الجهمية و المعتزلة و المعطلة و الرافضة، (بل كل فريق من أرباب البدع يعرض النصوص على بدعته، وما ظنه معقولاً) وهذا هو حالهم جميعاً، أي: أن أول شيء يقرره صاحب البدعة: منهجه ورأيه وفكره فيقول: أنا أرى أن أؤل -ضرورة التأويل- وأعتقد في القدر -مثلاً- أن أفعال العباد غير مخلوقة، وأعتقد كذا، أي: مما تعلم من كلام الرجال، وخلط ذلك بشيء من الحق الذي قرأه، وهذه عادة أهل البدع، فيقررون النظرية، ثم يعرضون عليها من كلام الوحي أو من كلام المجتهدين أو غيرهم من المخالفين، وبعد ذلك ينظرون فما وافق قبل، وهذه الآية لنا، ونحن أولى بها، وما خالف رد، وقد عبر الشيخ رحمه الله بعبارة أو بمصطلح شرعي عظيم فقال: (فما وافقه قال: إنه محكم).
    وأخذ الشيخ كلمة: محكم، ومتشابه من الآية التي في أول سورة آل عمران: (( مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ))[آل عمران:7]، فهم عكسوا الأمر، فالمحكم ما جعلوه هم قاعدة قطعية برهاناً عقلياً إلى آخره، والمتشابه ما خالفه، وقد مر معنا المثال الذي اعتمده الرازي في الأساس، ونقده أبو مظفر السمعاني رحمه الله في كتابه العظيم: الانتصار لأهل الحديث، والشاهد أنهم في هذه القاعدة أو هذا المثال يجعلون ما رأوه محكماً، فنحن نقول: إن كل آيات الصفات محكمة، فعندما يقول الله تبارك وتعالى: (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ))[الشورى:11]، فهذه آية محكمة، والمقصود بالمحكم: ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً، وقوله: (( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ))[مريم:65]، لا شك أنها آية محكمة، وقوله: (( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ))[الإخلاص:1]، آية محكمة، وقوله تعالى: (( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ))[المائدة:64]، آية محكمة أيضاً لا تحتمل إلا ذلك، وهي واضحة في الدلالة، وليس هناك أي إشكال، وقوله: (( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ))[طه:5]، آية محكمة، والذي جعلوه هو محكماً هم قالوا: الله تعالى يتنزه عن الجسمية والعرضية، أو عن حلول الحوادث، أو صفات الحوادث، فجعلوا هذا الكلام هو القاعدة المحكمة، فإذاً: هو لا يماثل أو لا يشابه الحوادث، وقالوا: إذاً نجعل كل الآيات التي جاءت فيها إثبات الصفات، وتوهم تشبيه الله تعالى بالمحدثات من قبيل المتشابه؛ لأنها تشكل على هذه القاعدة، فقوله: (( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ))[المائدة:64]، وقوله: (( عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ))[طه:5]، وقوله: (( وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ))[طه:39] إلى آخر ذلك من الآيات كلها متشابهات، لكن كيف نردها؟ قالوا: عندنا هذه القاعدة الأصلية، فنجعل المحكم هو فقط قوله تعالى: (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ))[الشورى:11] محكمة، (( وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ))[الشورى:11] مشتبه؛ لأنها تثبت السمع والبصر، وهذا فيه مشابه للمخلوقات، فجعلوا من القرآن ما هو محكم ومتشابه كما يشاءون، وفي الحقيقة أن المحكم هو ما قرروه هم؛ لأن الآية عندما وافقت ما قرروه -في نظرهم- جعلوها من المحكم، وعندما خالفت ما قرروه جعلوها من المتشابه.
    وبالتالي فالمحكم في الحقيقة -حتى يفهم كلام الشيخ- هو البدعة التي أصلها هو، فيظل يعرض النصوص على بدعته وما ظنه معقولاً- في ذهنه، فيجعله هو الأصل، (فما وافقه قال: إنه محكم وقبله واحتج به، وما خالفه قال: إنه متشابه ثم رده) وهما هنا ينقسمان إلى فريقين كما قال شاعرهم:
    وكل نص أوهم التشبيه أوله أو فوض ورم تنزيها
    أي: إما أنه يفوض، وإما أنه يؤول حتى ينزه الله تبارك وتعالى، وفي الحقيقة أن توهمه جاء من عقله هو، وإلا لم يقل الله تبارك وتعالى، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يفهم أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من أهل اللغة العربية، ولم أنه إذا قال الله تعالى: (( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ))[المائدة:64] أن: (يداه) كأيدي المخلوقين، وبالتالي فهو الذي تخيل أو توهم، قال: ثم رده وسمى رده تفويضاً.
    والتفويض هو رد المعنى والمدلول، أي: إذا جردنا أي لفظ عن معناه فما قيمته؟ إذا قلنا: (( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ))[طه:5]، فيقول: أنا مؤمن بها، لكن أفوض معناها إلى الله، أي: لا أستطيع أن أفهم منها أي معنى، وبالتالي فهو يؤمن بأن هنالك حروفاً مكتوبة في المصحف، فهو في الحقيقة ردها؛ لأن الله تعالى خاطبنا، وأنزل هذا القرآن بلسان عربي مبين، لينذر من كان حياً، ونحن يجب أن تحيا به قلوبنا، ونعرف الله سبحانه وتعالى، ونعرف صفاته، ونعرف أحكامه والحلال والحرام وأخباره منه، فإذا قلنا: لا ندري ما معنى هذه، ولا هذه، إذاً ما فائدة وما قيمة ذلك؟! هل القرآن للبركة فقط دون فهمه؟!
    لذلك فإن التفويض رد؛ لأن من رد المعنى فقد رد اللفظ والمعنى، إذ إن اللفظ إذا تجرد عن المعنى فلا قيمة له.
    ثم قال: (أو حرفه وسمى تحريفه تأويلاً) أي: يقول: هذه لابد أن نؤولها، فسبحان الله العظيم! الله تعالى ينزل علينا القرآن العظيم المبين ويحرم التأويل، والمسلم يقول: لابد من التأويل! أيرضى الواحد منا أن يتكلم بكلمة ثم يأتي آخر ويؤولها؟! فيقول: يا أخي! أنا كلامي واضح، وأنا الذي تكلمت، وأنا أقصد كذا وكذا، فكيف تؤول كلامي وترده؟! إن هذا لا يقبله أحد أبداً، فكيف بكلام رب العالمين وفي أمر الغيب؟!
    وعليه فـ التأويل هو في حقيقته تحريف، ولهذا فعندما نعرف مذهب السلف نقول: إثبات ما أثبته الله لنفسه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم نقول: من غير تحريف ولا تكييف ولا تعطيل ولا تمثيل -أربع كلمات- والتمثيل هو التشبيه، والتمثيل أفصح؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ ))[الشورى:11]، فالمثلية هي المنفية، والتعطيل هو النفي والإنكار والجحد.
    وبقي التكييف وهو: ادعاء معرفة الكيفية، أو تفسير الكيفية، والتحريف هو التأويل، وقال السلف: التحريف ولم يقولوا: التأويل؛ لأن التأويل في كلام السلف له معانٍ عدة، منها ما هو حق، ومنها ما هو باطل بالاصطلاح، أي: أدخلوه في الاصطلاح وجعلوه معنى من معاني التأويل، وهو صرف اللفظ أو العدول به عن ظاهره الراجح إلى معنى مرجوح لقرينة، فهو في حقيقته تحريف.
  5. بعض الأمثلة على تحريف أهل البدع لنصوص الوحي

     المرفق    
    مثال ذلك: (( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ))[طه:5]، فقالوا: (استوى) بمعنى: (استولى)، مع أن (استوى) في كلام العرب معروفة، ولهذا قال الإمام مالك: [الاستواء معلوم] أي عربي يفهم معناه، بمعنى: علا وارتفع، إذا كان غير متعدي بـ(على)، فإن كان متعدياً بالواو فالمراد: المساواة، يقال: استوى الماء والخشبة، أي: استوى الماء مع الخشبة، وذكر الخليل أو غيره فقال: (إنا إذا ذهبنا إلى أعرابي -وهذا مذكور في أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي وغيره- فأطل من السطح وقال: استووا إلي) أي: إما أن تأتي (استوى) من غير تعدي أو تتعدى بـ(على) أو بالـ(واو) كما في مختصر الصواعق .
    بينما هؤلاء جعلوها بمعنى استولى، فزادوا لاماً فتحرف المعنى، ولذلك لو قلت لأعرابي: استوليت على كذا، يفهم أنك قد غالبت ونازعت غيرك حتى استوليت عليه، وأخذته وحزته وملكته، وإلى الآن الناس يقولون: استولى على الأرض التي هي لفلان، فأين هذا من استوى على؟
    إذاً: هذا تحريف للكلم عن مواضعه، وهذا الذي أخذه الله تعالى على اليهود ، إذ إنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، قال تعالى: (( يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ))[المائدة:41].
    ولهذا شبه ابن القيم رحمه الله لام الجهمية بنون اليهود ؛ لأن الله تعالى قال: (( وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ ))[البقرة:58]، فجاء اليهود وقالوا: (حنطة)، فزادوا النون فتغير المعنى، وأما لام المعطلة و الجهمية فهي أن الله تعالى يقول: (( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ))[طه:5]، وهؤلاء زادوا اللام، فقالوا: (استولى)، ومثله حديث: ( يضع الجبار قدمه أو رجله في النار ... )، فقالوا: الذي يضع هو: ملك، أو الرجل بمعنى الجماعة، أي: أنهم يخرجون عن المعنى المراد.
    كذلك قوله تعالى: (( أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ))[الملك:16]، قالوا: أمره أو جبريل أو ملك العذاب.
    أيضاً: قوله عليه الصلاة والسلام: ( ينزل الله في كل ليلة إذا كان الثلث الأخير )، فقالوا: تنزل رحمته، فيرد عليهم: بأنه إن كان المقصود: الرحمة لقال: تنزل رحمة الله، ولا إشكال حينئذٍ، لكن هذا دليل على أنهم يتعمدون التحريف، أي: إخراج النص عن دلالته الظاهرة الجلية وتحريفها، ويسمون ذلك تأويلاً، وكل هذا قد تقدم وليس هذا موضعه، وإنما المقصود أن أهل البدع يضعون أصلاً من الأصول ويسمونه: المعقول أو القاعدة، ثم يجعلون هذا هو المعيار أو الحكم، ويحاكمون إليه الأدلة فما وافقها قبلوه وإن كان آحاداً، وإن كان ضعيفاً، بل ربما كان موضوعاً، فمثلاً: حديث معاوية بن الحكم السلمي في صحيح مسلم و مسند الإمام أحمد رضي الله تعالى عنهما وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للجارية: ( أين الله؟ ... )، فهو الذي سأل، والجارية تجيب فتقول: (في السماء)، لكن قال هؤلاء: إن هذا الحديث آحاد، ويخالف القواطع والقواعد العقلية، والحل: أنهم عثروا على كلام لـعلي رضي لله تعالى عنه، وهو حجة لنا بأنه ليس لله تعالى مكان وليس له جهة، والكلام هو: [ أن علياً رضي الله تعالى عنه لقيه رجل فقال له: أين الله؟ فقال علي : لا يقال لمن أيَّنَ الأينَ أينُ ]. أي: من جعل المكان مكاناً لا يقال له: أين، واعتمدوا على هذا، فنقول: أنتم رددتم الحديث الثابت الذي في صحيح مسلم و المسند ، وأخذتم بكلام لا أصل له، لا عن علي رضي الله عنه ولا عن غيره، ولو ثبت فرضاً عن صحابي مثل هذا الكلام لرد؛ لأننا مأمورون عند التنازع أن نرد إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، حتى ولو كان المنازع صحابياً، فكيف تقولون هذا؟ أي: أنكم لا تأخذون بالمحكم الصريح الثابت، فكيف تأخذون بمثل هذا؟ فهم في الحقيقة يردون أو يقررون بحسب أهوائهم وبحسب عقولهم.
  6. موقف أهل السنة من النصوص الصحيحة

     المرفق    
    ثم قال: (فلذلك اشتد إنكار أهل السنة عليهم).
    قوله: (فلذلك) إشارة إلى هذا التأصيل، أي كونهم يجعلون ما يقررونه هو الأصل، ويحاكمون الأدلة الشريعة إليه، (فلذلك اشتد إنكار أهل السنة عليهم).
    ثم قال: [وطريق أهل السنة: ألا يعدلوا عن النص الصحيح، ولا يعارضوه بمعقول ولا قول فلان، كما أشار إليه الشيخ. وكما قال البخاري رحمه الله: سمعت الحميدي يقول: كنا عند الشافعي رحمه الله فأتاه رجل فسأله عن مسألة] هذا أيضاً تقدم في الصواعق قال: [فقال: قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا] أي: حكم النبي صلى الله عليه وسلم بكذا، وسكت الشافعي ؛ لأن الموضوع واضح، فهو يقول فيها بعلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، [فقال رجل للشافعي : ما تقول أنت؟!] أي: أنه بعد أن ذكر الحديث قال له: ما تقول أنت؟! لأنه ما قال: وأنا أرى هذا، أو أنا أقول به، وإنما أورد الحديث وسكت، قال: [فقال الشافعي : [ سبحان الله! تراني في كنيسة؟ ترى على وسطي زناراً؟] ] أي: هل أنا يهودي أم نصراني؟! [ [أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت تقول: ما رأيك أنت؟! ] ]، فمن الذي يكون له رأي يخالف ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! لا شك أنهم اليهود و النصارى الذين لا يؤمنون بنبوته صلى الله عليه وسلم، أما من يؤمن بنبوته ويثبتها؛ فإنه يسلِّم لذلك، قال تعالى: (( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ))[الأحزاب:36]، أي: ليس هناك اختيار، ثم قال: [ونظائر ذلك في كلام السلف كثير، وقال تعالى: ((وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ))[الأحزاب:36]].
    والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.