المادة    
قد سبق معنا ذكر الدليل العقلي على علو الله على خلقه، وذلك أن الله سبحانه وتعالى إما أن يكون خلق الخلق في ذاته، أو خارج ذاته، فإن كان خلقهم خارج ذاته، فإما أن يكون خلقهم فوقه أو هو فوقهم وهم تحته.
قال المصنف: "وقد اعترض على الدليل العقلي بإنكار بداهته، قالوا: لأنه أنكره جمهور العقلاء، فلو كان بديهياً لما كان مختلفاً فيه بين العقلاء، بل هو قضية وهمية خيالية"، فأنتم تقولون: هذا الكلام دليل عقلي، فلو كان ثم دليل عقلي فعلاً لما اختلفنا فيه معكم، ونحن من العقلاء نخالفكم فيه، وهناك عقلاء غيرنا وغيركم يخالفونكم فيه.
والجواب باختصار: "أن يقال: إن العقل إن قبل قولكم فهو لقولنا أقبل، وإن رد قولنا فهو لقولكم أعظم رداً"، وتوضيح ذلك: أننا إذا رجعنا إلى العقل وقبل العقل قولكم -فرضاً- بأن الله تعالى لا داخل العالم ولا خارجه، أو أنه في كل مكان، فقبوله لقولنا أنه فوق العالمين أقوى، وإن رد قولنا فهو لقولكم أعظم رداً، فيمكن أن نجعل العقل -في أقل الأحوال- محايداً، بل هو إلينا أقرب، فلو كان يقبل كلامكم لقبل كلامنا، وإن كان يرد كلامنا فهو لكلامكم أشد رداً.
يقول المصنف رحمه الله: "وإن كان قولكم حقاً مقبولاً في العقل فقولنا أولى أن يكون مقبولاً في العقل؛ فإن دعوى الضرورة مشتركة" أي: أن الادعاء بأن هذا علم ضروري دعوى مشتركة بيننا وبينكم، "فإنا نقول: نعلم بالضرورة بطلان قولكم، وأنتم تقولون كذلك" تقولون أنكم تعلمون بالضرورة بطلان قولنا، "فإذا قلتم: تلك الضرورة التي تحكم ببطلان قولنا هي من الوهم لا من حكم العقل، قابلناكم بنظير قولكم" وقلنا: إن كلامكم هو المردود بالفطرة وبالضرورة، "وعامة فطر الناس -ليسوا منكم ولا منا- موافقون لنا على هذا؛ فإن كان حكم فطر بني آدم مقبولاً؛ ترجحنا عليكم، وإن كان مردوداً غير مقبول؛ بطل قولكم بالكلية" يعني: إذا كان لا داعي لاستشهاد العقول واستشهاد الفطر التي من غيرنا وغيركم بالمرة، فإن قولكم يبطل بالكلية، فإذا قلنا: إن العقل والفطرة محايدان، لا يصح الاحتجاج بهما لا لنا ولا لكم، فنحن عندنا غيرهما؛ عندنا الكتاب والسنة وإجماع السلف، وأنتم لا دليل لكم إلا ما أبطلتموه، مع أن كل خلق الله إذا دعوا الله يرفعون أيديهم إلى جهة العلو، وإذا سئلوا؟ قالوا: إن الله في السماء.
وقد سأل أخ لنا رجلاً من عباد البقر: أين الله؟ قال: إن الله في السماء!
فالمصنف يقول: "وعامة فطر الناس -ليسوا منكم ولا منا- موافقون لنا على هذا؛ فإن كان حكم فطر بني آدم مقبولاً؛ ترجحنا عليكم، وإن كان مردوداً غير مقبول؛ بطل قولكم بالكلية؛ فإنكم إنما بنيتم قولكم على ما تدعون أنه مقدمات معلومة بالفطرة الآدمية، وبطلت عقلياتنا أيضاً، وكان السمع الذي جاءت به الأنبياء معنا لا معكم، فنحن مختصون بالسمع دونكم، والعقل مشترك بيننا وبينكم" يعني نحن نؤمن بعلو الله سبحانه وتعالى، وكل الخلق يقولون هذا.
وقد أقررتم أن تلك الأقوال العقلية إنما تبنى على المقدمات الفطرية المشتركة بيننا وبينكم، فإذا ألغيتم أنتم هذه الفطرة؛ فإن الأدلة العقلية تكون باطلة؛ لأن الأدلة العقلية إنما تبنى في الأصل على مقدمات فطرية بدهية، فإذا ألغيت الفطر ألغيت البدائه تبعاً لها الأحكام العقلية، وإذا ألغينا ذلك فإنه يبطل كلامكم كله، لأنه مركب على العقل، وتبطل عقلياتنا أيضاً، فبطل العقل عندنا وعندكم، وكان الدليل السمعي من الوحي الذي جاءت به الأنبياء معنا لا معكم، قال: "فنحن مختصون بالسمع دونكم" أي: بالأدلة السمعية (القرآن والسنة)، أما أنتم فلا دليل على الإطلاق يدل على قولكم من كتاب أو سنة.
ثم يقول المصنف:
[فإن قلتم: أكثر العقلاء يقولون بقولنا، قيل: ليس الأمر كذلك؛ فإن الذين يصرحون بأن صانع العالم شيء موجود ليس فوق العالم وأنه لا مباين للعالم ولا حال في العالم: طائفة من النُّظَّار، وأول من عرف عنه ذلك في الإسلام: جهم بن صفوان وأتباعه.
واعترض على الدليل الفطري أن ذلك إنما كان لكون السماء قبلة للدعاء، كما أن الكعبة قبلة للصلاة، ثم هو منقوض بوضع الجبهة على الأرض مع أنه ليس في جهة الأرض، وأجيب عن هذا الاعتراض من وجوه:
أحدها: أن قولكم: إن السماء قبلة الدعاء لم يقله أحد من سلف الأمة، ولا أنزل الله به من سلطان، وهذا من الأمور الشرعية الدينية، فلا يجوز أن يخفى على جميع سلف الأمة وعلمائها.
الثاني: أن قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة، فإنه يستحب للداعي أن يستقبل القبلة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستقبل القبلة في دعائه في مواطن كثيرة، فمن قال: إن للدعاء قبلة غير قبلة الصلاة، أو إن له قبلتين: إحداهما الكعبة، والأخرى السماء، فقد ابتدع في الدين، وخالف جماعة المسلمين.
الثالث: أن القبلة هي ما يستقبله العابد بوجهه، كما تستقبل الكعبة في الصلاة والدعاء والذكر والذبح، وكما يوجه المحتضر والمدفون، ولذلك سميت وجهة، والاستقبال خلاف الاستدبار، فالاستقبال بالوجه، والاستدبار بالدبر، فأما ما حاذاه الإنسان برأسه أو يديه أو جنبه، فهذا لا يسمى قبلة، لا حقيقة ولا مجازاً، فلو كانت السماء قبلة الدعاء، لكان المشروع أن يوجه الداعي وجهه إليها، وهذا لم يشرع، والموضع الذي ترفع اليد إليه لا يسمى قبلة، لا حقيقة ولا مجازاً، ولأن القبلة في الدعاء أمر شرعي تتبع فيه الشرائع، ولم تأمر الرسل أن الداعي يستقبل السماء بوجهه، بل نهوا عن ذلك، ومعلوم أن التوجه بالقلب، واللجأ والطلب الذي يجده الدَّاعي من نفسه أمرٌ فطري، يفعله المسلم والكافر، والعالم والجاهل، وأكثر ما يفعله المضطر والمستغيث بالله، كما فطر على أنه إذا مسه الضر يدعو الله، مع أن أمر القبلة مما يقبل النسخ والتحويل، كما تحولت القبلة من الصخرة إلى الكعبة.
وأمر التوجه في الدعاء إلى الجهة العلوية مركوز في الفطر، والمستقبل للكعبة يعلم أن الله تعالى ليس هناك، بخلاف الداعي، فإنه يتوجه إلى ربه وخالقه، ويرجو الرحمة أن تنزل من عنده.
وأما النقض بوضع الجبهة، فما أفسده من نقض فإن واضع الجبهة إنما قصده الخضوع لمن فوقه بالذل له، لا بأن يميل إليه إذ هو تحته، هذا لا يخطر في قلب ساجد، لكن يحكى عن بشر المريسي أنه سمع وهو يقول في سجوده: سبحان ربي الأسفل!! تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً. وإن من أفضى به النفي إلى هذه الحال لحري أن يتزندق، إن لم يتداركه الله برحمته، وبعيد من مثله الصلاح، قال تعالى: (( وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ))[الأنعام:110]. وقال تعالى: (( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ))[الصف:5]. فمن لم يطلب الاهتداء من مظانه، يعاقب بالحرمان، نسأل الله العفو والعافية.
وقوله: "وقد أعجز عن الإحاطة خلقه" أي: لا يحيطون به علماً ولا رؤية، ولا غير ذلك من وجوه الإحاطة بل هو سبحانه محيط بكل شيء، ولا يحيط به شيء]
.
الشرح:
وأكثر العقلاء في الدنيا على إثبات علو الله سبحانه وتعالى ليسوا معكم، فإن الصحابة الذين هم أعقل الناس معنا وكبار المتكلمين؛ هم معنا، مثل: أبي الحسن الأشعري كما في الإبانة ؛ فقد صرح بإثبات الاستواء والعلو، والجويني أبو محمد وقد رأينا كلامه، والابن أبو المعالي أيضاً رأينا كلامه الآن، وكذلك النظار الكبار، مثل الرازي، وهو أعظم من ألف في إبطال عقيدة السلف، وتقرير عقيدة الخلف في كتاب أساس التقديس، ثم رجع في آخر الأمر -وقد تبين لكم ذلك والحمد لله- إذاً لا أحد معكم؛ فمن أنكر علو الله فهو متبع لفرعون وهامان، حين جحدوا الله وفطرهم تُقِرُّ به، والمؤمن بعلو الله سبحانه وتعالى متبع لموسى وهارون ومحمد عليهم صلوات الله وسلامه، والقضية واضحة ليس فيها مجال للمماحكة.
بل إن فرعون طلب من هامان أن يبني له صرحاً: (( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ ))[غافر:36-37] فكأنه يقول: لو كان إله موسى حقاً لكان في الأعلى.
وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى -الأجزاء الثالث والرابع والخامس- بعض النصوص الواردة في الكتب السابقة، مما يدل على علو الله سبحانه وتعالى، وما يزال اليهود والنصارى يقرءون ذلك إلى اليوم.
فتبين من هذا: أن قول المتكلمين: (إن أكثر العقلاء هم معنا لا معكم) قول باطل، وليس معهم إلا شواذ الفلاسفة، أما أهل الملل والأديان والفطر السليمة، فهم معنا وليسوا معهم، فبطل بذلك اعتراضهم على الدليل العقلي.