المادة كاملة    
لقد عاش المسلمون في ظل نور الوحي في صفاء ونقاء في الاعتقاد والاتباع، ثم جاءت عصور اختلطت فيها الثقافات بعضها ببعض، فانزلق بعض المسلمين في اتباع الفلاسفة والمتكلمين، وأدى ذلك إلى حدوث شرخ عظيم في منهجية الاتباع والاستدلال، ومن مظاهر هذا الانزلاق ما يفيده خبر الآحاد.
  1. استدلال الأشاعرة على عدم إفادة الآحاد العلم مطلقاً والرد عليه

     المرفق    
    ‏الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    فقد سبق أن تحدثنا عما عقده ابن القيم رحمه الله من الكلام عن أحاديث الآحاد، والمتضمن أنها تفيد العلم واليقين، والفصل الذي بعده مهم جداً؛ لأنه رد فيه بإسهاب على الذين يقولون بأن خبر الواحد لا يفيد العلم بإطلاق، فلذلك رأينا قبل أن نشرحه أو نستعرضه -على طول فائدته- أن نأتي بكلام المخالفين؛ لأنه ربما ظن بعض طلبة العلم أن ما نقلناه عن المخالفين لا يقول به أحد، وحقاً أنه لا ينبغي أن يقول به أي مسلم، ولا ينبغي لأي مسلم أن يرد شيئاً من كلام الله أو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوى أنه لا يفيد اليقين أو أنه خبر آحاد لكن حتى يُعْلَمَ أننا عندما نستعرض الردود فإنما هي رد على كلام قد قيل، بل على عقائد ومناهج بدعية أصلت وقررت، وهذه العقائد والمناهج البدعية لا تزال إلى اليوم في الأمة الإسلامية تنخر كيانها وتشوش مسيرتها وتبعثر طريقها، وتريد صرفها عن العودة النقية الصافية الصادقة إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومنهج السلف الصالح، فنذكر بعض ما يستدل به أهل هذه الأقوال التي لا تزال تقرر إلى يومنا هذا في كثير من المعاهد والجامعات في أنحاء شتى من العالم الإسلامي، ولاسيما ما يكتبه الأشاعرة الذين ربما التبس أمرهم لما فيهم من موافقة لـأهل السنة ولوجود علماء التبس عليهم أمرهم فوافقوهم في بعض الأمور، فيحتج علينا الأشاعرة بهؤلاء العلماء المحدثين الذين وافقوا الأشاعرة في بعض الأمور، وهم ليسوا من متكلمي الأشاعرة ، وإنما هم ممن انخدع بهم أو تابعهم في بعض المسائل، ولكنهم ليسوا سائرين أو متبعين للأصول المنهجية للمذهب الأشعري، فعندما يقال: فلان الأشعري فالمقصود به من هو من الفرقة الكلامية المعروفة.
    1. اعتبار الأشاعرة من أهل السنة

      وعندما يقال: الأشعرية فالمقصود بهم الفرقة الكلامية، وطائفة المتكلمين الذين أصلوا هذا المنهج وقرروه وألفوا فيه كتباً كلامية، أما من كان من المحدثين مثلاً، أو من المفسرين، أو من الفقهاء ولكنه نقل عنهم بعض الأمور أو تأثر بهم في بعض المسائل، فإنه لا يمثل حقيقة المذهب، كما أنه يوجد من الفقهاء أو من الأصوليين، من لا يمثل منهج أهل السنة والجماعة ، وإنما يحبهم في الجملة ويوافقهم في الجملة، لكن إذا أردنا أن نأخذ حقيقة عقيدة أهل السنة والجماعة وما كان عليه السلف الصالح فلا نأخذه من هذا، وإنما نأخذه ممن يمثل هذا المنهج ويأخذ بهذا المذهب كاملاً.
      فهذه الحقيقة يجب أن تتضح، ويتبين بها أن هؤلاء الأشعرية ليسوا من أهل السنة والجماعة ، بل هم مخالفون لهم في أصول اعتقادية كثيرة، ويكفي أن تعلموا أن الخوارج لم يخالفوا في الأسماء والصفات، وإنما خالفوا في أصل واحد وهو ما يتعلق بالإيمان، أي: بالحكم على مرتكب الكبيرة، ومع هذا الذي خالفت فيه الخوارج هل يصح أن يكون الخوارج من أهل السنة والجماعة ؟ الجواب: لا.
      إذاً: فكيف بالذي خالف في الإيمان -كـالأشاعرة - وفي الصفات، وخالف في القدر، وغير ذلك؟ هؤلاء المخالفون في أصول كثيرة من أصول أهل السنة والجماعة ليسوا من أهل السنة والجماعة ولا يستقر ويستقيم في العقل السليم اعتبارهم منهم.
      إذاً: لما التبس الأمر وعمت الفتن، واستشرت البدع، وسيطرت على أكثر أنحاء العالم الإسلامي، وأصبح الناس بين رافضي أو باطني كدول العبيديين والقرامطة وأشباههم، وبين من يعظم السنة أو شيئاً منها ويحب الحديث والعلماء الأولين، وهو ينتسب إلى الأشعرية فظن الناس أن هؤلاء هم أهل السنة ، على ما فيهم من بدع، ومن واقع التاريخ أثر على ذلك غربة أهل السنة في بعض العصور -كما حدث في القرن الرابع والخامس الهجريين- حيث قلوا وضعفوا وادعى الأشاعرة أنهم هم أهل السنة والجماعة، وصدق البعض دعواهم في ذلك، وليست الأمور بالدعاوى، وإنما هي بالحقائق والبراهين والإثبات، كما سنوضح إن شاء الله تعالى.
    2. مخالفة الأشاعرة لأهل السنة في نفي العلو عن الله تعالى

      فإذاً: نحن نبين موقف هؤلاء من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، أي: نصوص الوحي، وهل هي عندهم تفيد اليقين أو لا تفيده؟ وما حكم خبر الواحد عندهم؟ ولن نطيل في ذلك ولكننا نستعرض فقط نقلين من نقولهم، ونمثل بمثال واحد من كتاب المواقف .
      إن كتاب المواقف له عدة شروح، وهو الكتاب المعتمد في العصور المتأخرة في المذهب الأشعري، وهو مقرر على طلاب كلية أصول الدين وأمثالها في الجامعة الأزهرية وغيرها من الجامعات، فما فيه ليس كلاماً قد عفا عليه الزمان والفهم، وصاحبه اسمه عضد الدين الإيجي ، وهو متوفى سنة (756هـ)، وقد عاش ما بين (680هـ) و(756هـ) فقد كان مدركاً لزمان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله و ابن القيم وكذلك الحافظ ابن كثير وأمثالهم، وما كان له قيمة تذكر بحيث يذكره شيخ الإسلام ويرد عليه مثلاً، وربما إنه لما توفي شيخ الإسلام كان في الأربعين من عمره، ولم يكن قد ظهر له أي أثر في الأمة.
      يقول في مبحث الصفات: (المرصد الثاني في تنزيهه -يعني: تعالى- وهي الصفات السلبية، وفيه مقاصد:
      المقصد الأول: أنه تعالى ليس في جهة ولا في مكان، وخالف فيه المشبهة).
      يقول: إن العقيدة الحقة التي يدين بها أن الله تعالى ليس في جهة ولا في مكان، ونحن نعلم أن هذه الألفاظ مجملة وتحتاج إلى استفصال، فإن أراد أنه ليس في جهة يعني: لا نثبت له العلو، وأراد بالجهة العلو قلنا: هذا خطأ؛ لأننا نثبت لله تعالى العلو، وإن أراد بالجهة أنها المكان المحدود المخلوق قلنا: نعم وهذا منفي، ونحن لا نثبته لله، لكن يجب أن تفصل وتبين وتصف الله كما وصف نفسه، وتنفي عن الله ما نفى عن نفسه، فتقول: ليس كمثله شيء، ولا تأتي بكلمة مجملة تحتمل الحق وتحتمل الباطل، والمنهج المعروف المقرر في الألفاظ المجملة أننا لا نستخدمها؛ لأن فيها إيهاماً ولأنها تحتمل المعنى الحق والمعنى الباطل، فإذا قالها غيرنا استفسرنا، فإن أراد المعنى الباطل رددنا لفظه ومعناه، وإن أراد المعنى الحق قلنا له: المعنى حق، ولكن عبر كما عبر الكتاب والسنة.
      وهذه القاعدة واضحة إن شاء الله، ولا نطيل فيها؛ لأن موضوعنا ليس فيها.
      يقول: (وخالف فيه المشبهة) والمشبهة عنده هم أهل السنة والجماعة الذين يبتلون في جميع العصور بالألقاب من قبل أهل البدع وأهل الأهواء والحاقدين على الحق والخير، فلا بد أن يلقبونهم بلقب، وعلى أحسن الأحوال إذا لم يلقبوا فيقال عنهم: حنابلة، ويعنون بالحنابلة أنهم أتباع رجل واحد من الأمة وهو الإمام أحمد وأنهم متشددون، فالحنبلي معناها متشدد عند كثير من الناس، مع أنهم في الحقيقة من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهم على ما كانت عليه القرون الثلاثة المفضلة.
      فإذاً: لا تهمنا الألقاب والنبز، فالعبرة بالحقائق، وإذا كان اللقب من أهل البدع والأهواء فحري به قول الشاعر:
      وإذا أتتك مذمتي من ناقص            فهي الشهادة لي بأني كامل
      ولكن بالنسبة لأفراد أهل السنة والجماعة فإنهم لا يكملون، فالكمال لله وحده، وإنما يكمل المنهج، فهو المنهج الكامل، فإذا جاء ذمهم والطعن فيهم من أهل البدع أو من أهل الأهواء فذلك دليل على كمالهم ولله الحمد، والمراد كمال منهجهم.
      يقول: المشبهة خالفوا (وخصصوه بجهة الفوق).
      ومعلوم أن الذي قال: إن الله فوق الخلق ليسوا طائفة من الأمة، بل هو الله تعالى حيث قال: (( يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ))[النحل:50] ولا يلزم منه أي باطل.
      وقد وقعت مناظرة بين محمود بن سبكتكين وبين أحد هؤلاء المتكلمين وهو ابن فورك، فلما قال له: ماذا تقول في صفات الله؟ قال: أقول: إن الله في السماء، قال: إذاً يلزمك أن يكون في جهة، وأن يكون متحيزاً ونحو ذلك، وكان السلطان رجل مجاهد محارب لا يدري ما التفاصيل في هذه الأمور، لكن لديه الفطرة السليمة، قال: أنا لا يلزمني شيء، بل يلزم من قال، والذي قال: إنه فوق الخلق هو الله تبارك وتعالى، هل تستطيع أنت أن تلزم الله بشيء؟ فسكت المبتدع، فنحن لا يلزمنا شيء، وليس أهل السنة هم الذين قالوا: إن الله فوق، بل هو تعالى الذي أخبر أنه فوق العالم بدلالة جملة عظيمة من النصوص الصريحة تقارب الألف أو تزيد.
    3. رد الأشاعرة لأحاديث الآحاد في باب الصفات

      ننتقل إلى إمامه الذي أخذ عنه أكثر الأشاعرة المتأخرين، والأشاعرة لهم إمامان كبيران الأول منهما ليس أبا الحسن الأشعري ؛ لأننا قلنا: إنه ليس على عقيدة هؤلاء الأشاعرة ، فالأول من أئمتهم هو القاضي أبو بكر بن الطيب الباقلاني ، فهذا هو إمامهم المتقدم.
      وأما إمامهم المتأخر فهو فخر الدين الرازي صاحب التفسير الكبير و الأربعين و أصول الدين وغير ذلك، وصاحب الأصول والكلام، والذي تاب عند موته ورجع إلى عقيدة السلف، وقال عبارات عظيمة ينبغي أن لا تفوتنا، وهي اعتراف من هذا الرجل الذي تبحر في كل العلوم حتى علم التنجيم وعبادة الكواكب بل وكتب فيها، وفي النهاية قال: (لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما وجدتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ووجدت أن أفضل الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات: (( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ))[الإخلاص:1] إلى آخره، واقرأ في النفي (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ))[الشورى:11]) فهذه طريقة القرآن، إثبات مفصل واضح جلي لا يحتاج إلى تأويل، ونفي مجمل أيضاً لا يحتاج إلى تفكير، بل هو واضح في تنزيه الله تبارك وتعالى وتقديسه.
      وهذا الرازي له كتاب ضخم جداً، وهو الذي اعتمد عليه الأشعريون وبنوا عليه كلامهم، ومنه قالوا ما قالوه في خبر الآحاد، واسم هذا الكتاب أساس التقديس ، وقد رد على هذا الكتاب شيخ الإسلام ابن تيمية بكتاب بعنوان: درء تعارض العقل والنقل ، وقد رد شيخ الإسلام فيه على كل المتكلمين، وخص الرازي بالذكر وقانونه (القانون الكلي) بالذكر؛ لأنه أشهر قوانينه، والقانون الكلي موجود في أساس التقديس ، ثم نقض فيه ابن تيمية رحمه الله كتاب الرازي نقضاً مفصلاً في كتاب اسمه: بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية ، ويختصر فيسمى: نقض التأسيس ، ودائماً كتب شيخ الإسلام رحمه الله أو غالباً تجد لها اسماً طويلاً واسماً موجزاً.
      إن الإمام الفخر الرازي رحمه الله تاب والحمد لله مما كان يعتقد من الضلالات، وهو قد قرر في أساس التقديس -الذي اعتمدوه وتركوا توبته ووصيته- كلاماً كلياً في أخبار الآحاد، وهذا هو الكلام الذي ينقضه ابن تيمية وينقده بشيء من التفصيل، وبشيء من الإيجاز ابن القيم رحمه الله في الصواعق كما سنقرأ إن شاء الله؛ لأننا سنأتي بكلام الرازي ثم نرد عليه حتى تتضح الأمور.
      قال معنوناً (كلام كلي في الآحاد): (أما التمسك بخبر الواحد في معرفة الله تعالى) يعني: فيما يتعلق بصفات الله فغير جائز، يدل عليه وجوه:
      الأول: أن أخبار الآحاد مظنونة) وهذا هو المحور الذي يدورون حوله: (أن أخبار الآحاد مظنونة؛ وذلك لأننا أجمعنا على أن الرواة ليسوا معصومين، وكيف والروافض لما اتفقوا على عصمة علي رضي الله عنه وحده، فهؤلاء المحدثون كفروهم، فإذا كان القول بعصمة علي كرم الله وجهه يوجب تكفير القائلين بعصمة علي ، فكيف يمكنهم عصمة هؤلاء الرواة؟).
      فهو يقرر أنها غير مظنونة، لأننا أجمعنا على أن الرواة ليسوا معصومين، ثم يقرر أن الروافض لما قالوا: إن علياً معصوم كفرهم المحدثون، فكيف يقول المحدثون بعد ذلك: إن رواتهم معصومون؟
      فاحتمال الخطأ جائز، وهذه الشبهة حول تكفير المحدثين للروافض ؛ لأنهم يقولون بأن علياً معصوم، ومعارضتهم بأنهم يقولون: إن الرواة معصومون هذه الشبهة باطلة، والرد عليها أن نقول: هل قال علماء الجرح والتعديل إن الرواة معصومون؟ الجواب: لا أحد منهم قال ذلك، وقد بينا هذا، فلا مالك ، ولا أحمد ، ولا شعبة ، ولا وكيع ، ولا عبد الرحمن بن مهدي ، ولا يحيى بن سعيد ، ولا عبد الله بن المبارك ، ولا يزيد بن هارون ولا غيرهم من الأئمة الثقات قيل عنه: إنه معصوم أبداً، إنما يقال: ثقة، إمام، ثبت، حافظ، متقن.. إلى آخره، أما كلمة (معصوم) فما قيلت في أحد.
      وقول الرافضة: إن علياً معصوم لا يشابه كلام المحدثين عن الرواة، والفرق بين قول: إن فلاناً معصوم وبين قول: إن فلاناً ثقة وثبت كبير جداً.
      والجواب أن العصمة عند الرافضة معناها أنه لا يخطئ في شيء، وهذا لا يكون لأحد من الخلق، بل إن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم قد يقع منهم الخطأ أو خلاف الأولى في التصرفات لا في التبليغ، ولكنهم لا يقرون عليه، كأن يعملوا عملاً، كان الأولى أن يعملوا غيره، فيعاتبهم الله عليه كقوله تعالى: (( عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى ))[عبس:1-2] وقوله: (( لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ ))[الأنفال:68] في أسرى بدر ، وقوله تعالى: (( عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ))[التوبة:43] وغير ذلك، فهذه أمور وقعت في التعامل، أما في البلاغ عن الله فهم لا يخطئون.
      إذاً: من يقول: إن فلاناً معصوم -وهو كلام الروافض- سببه أن الرافضة في الحقيقة يؤلهون أئمتهم كما فعل النصارى مع بعض الرسل، كيونس وغيره، وإلى الآن يعتقد الكاثوليك أن البابا معصوم، وكل ما يفعله البابا وحي من الله! تعالى الله عما يصفون، وهذا واضح الكذب، وهو باطل وبهتان وليس من دين الإسلام في شيء، وأول من يقر ببطلان وكذب كلام الرافضة هو علي رضي الله تعالى عنه وآل بيته الأئمة، فإنه ما منهم من أحد إلا واعترف أنه أخطأ أو تأسف على ما فعل، فقد تأسف علي رضي الله تعالى عنه على ما وقع مع أهل الشام من قبول التحكيم؛ لأنهم أرغموه عليه، والحسين رضي الله تعالى عنه تأسف أيضاً لأنه قبل كلام أهل العراق لما كتبوا له يعدونه بالنصر فلم ينصروه، فهم يعترفون بخطئهم ويعلمون أنهم بشر، بل لو كانوا معصومين وفعلوا هذه الأفعال لكان ذلك من أكبر الطعن فيهم؛ لأن المعصوم لا يخطئ، والمعصوم -كما تقول الرافضة - يعلم الغيب، فإذا كان يعلم الغيب ولا يخطئ ثم يفعل هذه الأعمال، ثم يندم عليها، فهذا دليل على أنه لا يستحق الإمامة مطلقاً أو أنه غير معصوم، وكلاهما باطل.
      إذاً: فكلام الأئمة المحدثين ليس شبيهاً ولا قريباً من كلام الروافض، فهم لم يقولوا: إن أحداً من الرواة معصوم أبداً، وإنما يقولون: ثقة ثبت إلى آخره.
    4. استدلال المتكلمين من الأشاعرة بأن الآحاد يفيد الظن فقط

      ومن استدلالات المتكلمين قولهم: إنه إذا لم يكن الراوي معصوماً كان الخطأ عليه جائزاً فحينئذ لا يكون صدقهم مقطوعاً بل مظنوناً؛ فثبت أن خبر الواحد مظنون فوجب أن لا يجوز التمسك به؛ لقوله تعالى: (( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ))[يونس:36] ولقوله تعالى في صفة الكفار: (( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ))[الأنعام:116] ولقوله: (( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ))[الإسراء:36] ولقوله: (( وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ))[البقرة:169] وقد ترك العمل بهذه العمومات في فروع الشريعة؛ لأن المطلوب فيها الظن، فوجب أن يبقى الأمر في مسائل الأصول على هذا الأصل وهو العمل باليقين.
      إذاً: ترك العمل بهذه العمومات في فروع الشريعة؛ لأن المطلوب فيها الظن، فوجب في فروع الشريعة أن نعمل بهذه الأحاديث، لأن الفروع يجوز العمل فيها بالظن، أما في الأصول فلابد من اليقين، فلهذا نأخذ بأخبار الآحاد في الفروع -أي في الأحكام- ولا نأخذ بها في العقائد، وموجز الكلام أنهم إذا كانوا غير معصومين فإن الخطأ وارد على كل واحد منهم وعلى كل رواياتهم، فيكون اتباعهم من اتباع الظن؛ لأن خبرهم ظنياً.
      والرد عليهم أن احتمال الخطأ عقلاً لا يجوز أن يبنى عليه وجوداً وواقعاً، ولهذا قلنا: لو عملنا بالاحتمالات العقلية ما ثبت لبني آدم أمر، أليس كل طبيب يمكن أن يخطئ؟ فلا أحد يقول: إن الطبيب الفلاني معصوم! فهل نغلق جميع المستشفيات والعيادات؛ لأنها من العمل بالظن على كلام الرازي ، وكذلك البناءون أليس منهم من يخطئ؟ فهل نهدم جميع البيوت ولا نسكن في بيت قط لاحتمال سقوط البيت بسبب احتمال خطأ البناء في بنائه؟ ومثل ذلك القاضي، فالقضاة ليسوا معصومين، فهل نغلق المحاكم ولا يبقى في الدنيا محكمة؛ لأن هذا من الظن؟ وعندما يأتي شاهدان ويحكم القاضي وقد يخطئ، فلا داعي لوجود المحاكم، والله يقول: (( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ))[يونس:36] وهل يستدل بالآيات على هذا؟ وكذا أصحاب المطاعم لا يؤكل عندهم؛ لأن خطأهم وارد، فربما دسوا السم؟ وعلى هذا لا يستقر لبني آدم حقيقة قط، فنقول: فرق بين مجرد احتمال الخطأ وبين أن يكون الخطأ واقعاً، فإذا جاءنا من يقول: أخطأ مالك في حديث كذا قلنا من أين لك هذا؟ هذا من عندكم أيها المتكلمون، ومن أنتم حتى يكون لكم عند، فالمتكلمون ليسوا بحجة في علم الحديث.
      إذاً: من قال: أخطأ الراوي الفلاني، قلنا له: كيف عرفت أنه أخطأ؟ يقول: لأنه يعارض القرآن، نقول: لا يعارض القرآن إلا بدليل، فلا بد أن يبين دليله لادعاء خطأ الراوي، أما الاحتجاج فقط بأنه يجوز عليه الخطأ بالذهن المجرد فهذا يمكن أن يرد به كل شيء، ولو عمل به أحد لأصبح في عداد المجانين، ولما مشى في أي شارع لاحتمال حدوث الصدام له فلا يعمل في الحياة أحد، ولا يستقر فيها أحد، وهذا هو الفرق بين الظن الذي نهى الله تعالى عنه أو القول على الله بغير علم وبين هذا، أما المحدث الثقة فإذا حدث فيجوز له أنه يخطئ لكن هل أخطأ في هذا الحديث؟
      الجواب: إذا لم يثبت عندنا ما يدعو إلى احتمال الخطأ فلا شك في صحة روايته، والقول بالخطأ دون دليل قول بلا علم، واتباع للظن، وقد قال تعالى: (( لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ))[النحل:35] وهؤلاء يرد الله عليهم بقوله: (( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ))[الأنعام:116] فالذين يقولون على الله تعالى ما لم يقله ولا أنزله ولا أوحى به مفترون على الله، وقائلون بالظن، وقد قال تعالى: (( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ))[يونس:36] فلو أن رجلاً حفظ حديثاً وأتقنه ولم يجرب عليه غير ذلك، ولو قطع وقتل لم يكذب على رسول الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجب تصديقه، ومن يكذبه نقول له: هل أنت واحد أم أنتم عشرة أم ثلاثمائة أم سبعين أم أربعين؟ أنتم آحاد على بعض الأقوال، والآحاد ظني إذاً: لا نقبل كلامكم، بل يبعد تصديقكم بُعد المشرقين، لأنكم تريدون تحكيم الظن في سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
    5. استدلال المتكلمين من الأشاعرة بمنع التأويل على الآحاد

      يقول الرازي في تكملة كلامه: (والعجب من الحشوية أنهم يقولون: الاشتغال بتأويل الآيات المتشابهات غير جائز؛ لأن تعيين ذلك التأويل مظنون والقول بالظن في القرآن لا يجوز)، أي: من الأدلة على أن التأويل لا يجوز أنه ظني بإجماع المؤولين؛ لأنه خلاف دلالة اللفظ وفرق بين أن تقول: (( وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ ))[الفجر:22] بمعنى: (وَجَاءَ رَبُّكَ) على ظاهرها، وبين أن تقول: جاء أمره أو رحمته أو عذابه بلا جزم، فهو ظني بالنسبة للمتكلمين، أما نص القائل المتكلم فإنه إذا ترك على ظاهره فإنه واضح ظاهر المراد، أما عمل الإنسان في إخراجه عن ظاهره فلا شك أنه ظني بدليل الاختلاف في التأويلات، فقوله: (إن الحشوية ) يعني: أهل السنة والجماعة يقولون: لا يجوز تأويل الآيات تأويلاً ظنياً، فنبقى على الأصل وهو العمل بالظاهر، يقول: فما دام ذلك كذلك فكيف يتكلمون في ذات الله تعالى وصفاته في أخبار الآحاد مع أنها في غاية البعد من القطع واليقين؟ فكيف تنفون الظن هنا ولا تنفونه هنا، وهذا فيه تلبيس وفيه تدليس كبير لأننا نقول: ما ثبت عن الله تبارك وتعالى من القرآن فالخلاف إنما يكون في قطعيته من جهة الدلالة، أما الثبوت فلا نقاش فيه، وأما الأحاديث فكلامنا فيها أولاً من جهة قطعية الثبوت، فإذا ثبت الحديث قطعاً، فإن دلالته إما أن تثبت أيضاً قطعاً فلا نقاش في ذلك، وإن كان خبر واحد، وهذا ما عمله الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، حيث قبلوا أحاديث الصفات مع أنهم ترددوا في أحاديث الفروع وطلبوا التثبت، فالصحابة رضي الله تعالى عنهم منهجهم عكس ما قرر الرازي، وهم أفقه وأعلم الناس وأذكى الناس، فهم فيما يتعلق بصفات الله يقبلون الحديث على ظاهره؛ لأنه خبر عن غيب، ولأن قائله صادق أخذه عن غيب، أما ما يتعلق بالأحكام مثل: هل ترث الجدة أو لا ترث؟ وهل المبتوتة لها سكنى ولها نفقة على مطلقها أو لا؟ فنجدهم هنا يتثبتون ويتحرون فيه وغير ذلك مما سنذكر إن شاء الله؛ لأنها أحكام يمكن أن يخطئ الإنسان فيها، أما إذا قيل عن الله شيء فإن القائل عن الله ما دام صادقاً فالواجب على المؤمن أن يؤمن بالغيب وأن يسلم به، واعتناء الصحابة رضي الله تعالى عليهم بآيات الصفات وأخبار الصفات أعظم من اعتنائهم بالأحكام، ولذلك كانوا يتثبتون في الأحكام؛ لأنهم يعلمون أن القائل فيها لا يقول إلا عن يقين، وإذا شك أخبر بالشك.
      والمراد أن الرازي يكيل هذه الشبهات فيخلط بين قطعية الدلالة وقطعية الثبوت، ثم يقول: (وإذا لم يجوزوا تفسير ألفاظ القرآن بالطريق المظنون فلأن يمتنعوا عن الكلام في ذات الحق تعالى أو صفاته بمجرد الروايات الضعيفة أولى) ونقول: هذا الكلام صحيح لكن نحن إنما نتكلم في الصفات بالروايات الصحيحة، فمن قال: إن تلك الروايات ضعيفة، لو أنها ضعيفة ما أخذنا بها، ولكن كلامنا وخلافنا معك في الصحيحة لا في الضعيفة، فلا تلزمنا بما لا نقول به، فإن هذا تناقض.
    6. استدلال الأشاعرة بطعن بعض الرواة في بعض على رد الآحاد

      يقول الرازي: (الدليل الثاني: أن أجل طبقات الرواة قدراً وأعلاهم منصباً الصحابة رضي الله عنهم، ثم إنا نعلم أن روايتهم لا تفيد القطع واليقين، والدليل عليه أن هؤلاء المحدثين رووا عنهم أن كل واحد منهم طعن في الآخر ونسبه إلى ما لا ينبغي).
      إنه يمكن أن يتركب من كلامه هذا أعظم أنواع النفاق والزندقة كما فعلت الأئمة مع الرافضة ، بل يكفرونهم أحياناً، ولكن كل كلامه هنا إنما هو حتى لا يثبت صفات الله، ودخولاً منه وخوضاً في الجدل الكلامي، فيقول: (أعلى الطبقات هم الصحابة ومع ذلك لا تفيد روايتهم القطع واليقين) وعلل ذلك بأنه ورد عن بعضهم الطعن في البعض الآخر -والعياذ بالله- وذكر أمثلة لا داعي لها؛ لأن بعضها باطل وبعضها صحيح، لكنها جميعاً ليست طعناً في عدالة الصحابة ولا في صدقهم، وما صح منها إنما هو على سبيل مخالفة بعض الصحابة لبعضهم في اجتهاده والتثبت لا على سبيل التكذيب، وهذه الآثار ذكرها ابن القيم رحمه الله، وبعضها أصلاً لا علاقة له هنا، فمنها أن عمر طعن في خالد بن الوليد ، وأن أبا ذر طعن في عثمان، وهذا أصلاً ليس له علاقة بالرواية وليس طعناً؛ لأن عمر إنما ولَّى أبا عبيدة لسبب، وعزل خالداً لسبب، وليس ذلك للطعن في روايته، وأبو ذر كان له رأي أيام عثمان وليس هذا طعناً في عثمان ، إنما كان أبو ذر رضي الله عنه مجتهداً بأن لا يكنز أي مال، وهذا خطأ فإجماع الصحابة مقدم على رأي الفرد منهم، لكن الرازي يريد أن يجمع كل هذا ليستدل به على مراده، وأما التمثيل بأن أبا هريرة رضي الله عنه رد بعض الصحابة بعض أحاديثه وكذلك أثر ابن عمر فهذا أيضاً إنما هو من باب الاجتهاد.
      وحديث أبي هريرة في الطهارة الذي يشير إليه الرازي هو حديث: ( إذا أصبح أحدكم فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً ) فما هو الطعن فيه؟ وقوله: ( فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده ) العلة فيه واضحة وهذا الحديث حديث ثابت صحيح قد اعترض عليه من اعترض بأن قال: إذا كنت تتوضأ من بركة أو من حوض ولا إناء -كما قالت عائشة رضي الله عنها- فماذا تصنع؟ يعني: أن الحديث إنما هو فيما إذا كان لديك إناء فلا تدخل يديك فيه بل اغسلها ثلاثاً ثم أدخلها فيه، فإذا كان الوضوء من حوض أو بركة فماذا تفعل؟ لابد أن تدخل يدك، فهل هذا اعتراض وجيه؟
      الجواب: لا؛ لأن الماء الكثير لا يتأثر حتى ولو كان في اليد شيء فهذه كلها اجتهادات وخلافات بسيطة.
      وأما حديث ابن عمر : [ إن الميت ليعذب ببكاء أهله ]، فما الطعن فيه؟
      الجواب: أنه يحمل على الكافر؛ لأن الله يقول: (( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ))[الأنعام:164] فمن مات وأهله يبكون عليه، فكيف يعذب ببكاء أهله عليه؟
      إذاً: هذا اجتهاد مقابل اجتهاد، كأنهم يقولون: لعلك يا ابن عمر ما حفظت الحديث وما أتقنت الحديث، فهو مقبول، لكن كيف يكون هذا والله تعالى يقول: (( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ))[الأنعام:164]؟ ومع هذا فالصحيح هو كلام ابن عمر، لكن يحمل على ما إذا لم ينههم وكان يعلم أنهم ينوحون عليه فأقرهم، بل كان بعض العرب يوصي بالنياحة:
      إذا مت فانعيني بما أنا أهله            وشقي عليَّ الجيب يا ابنة معبد
      هذه من معلقة طرفة بن العبد ، فكانوا يرون النياحة على الميت، وكما فعل صخر أخو الخنساء حين قال:
      والله لا أمنعها خيارها             وإن أمت تمزقت خمارها
      وجعلت من شعر صدارها
      فهو هنا يفتخر أنه يجب أن يعطيها كل شيء؛ لأنها لو مات لناحت عليه وبكت وفعلت، وهكذا كان حال العرب، وهذا احتمال في معنى الحديث، والاحتمال الثاني: أنه حتى ولو لم يوصهم ونهاهم ولكنه كان مؤمناً بذلك، ثم ناحوا عليه فإنه في قبره يتأذى ويتألم: أنني أوصيتهم بترك ذلك فلم يفعلوا بوصيتي، وهذا معنى يعذب.
      فإذاً لا ينبغي لأولياء الميت أن يفعلوا ما يؤذيه وما يعذبه وما يؤلمه، وبهذا يظهر المراد من قوله تعالى: (( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ))[الأنعام:164] فلا يكون العذاب بمعنى أنه يتحمل إثمهم، إنما هو يتألم منهم بسبب عملهم.
      إذاً: لا تعارض والحمد لله، وهكذا كل المسائل التي هي مثل هذا النوع، وسيأتي بعضاً منها إن شاء الله في كلام ابن القيم ، ومنها خبر الاستئذان وخبر فاطمة بنت قيس وغيرها.
      يقول ابن القيم رحمه الله: (واعلم أنك إذا طالعت كتب الحديث وجدت من هذا الباب ما لا يعد ولا يحصى).
      وصحيح أنه يوجد استدراك واختلاف، ولهذا نحن نقول: إن روايات الصحابة وروايات العلماء والحمد لله متقنة وموثقة ومدققة؛ لأنهم إذا سمعوا روايةً واستغربوها أو خالفت ما حفظوا اعترضوا عليها، وقالوا: كيف هذا؟ ولماذا هذا؟ ومن قال بهذا؟ فهذا دليل على أن ما لم يتثبتوا فيه فهو ثابت، وأن ما تثبتوا فيه فهو قليل جداً بالنسبة لكثرة الأحاديث فالمسألة إذاً خلاف في اجتهاد، منه ما يخطئ ومنه ما يصيب، والذي يهمنا هنا هو الأول، وهو أن ما لم يختلفوا فيه فهو عندهم ثابت، وثبت أنهم في أحاديث الصفات لم يختلفوا، بل قبلوها كما هي والحمد لله.
      قال الرازي: (إذا ثبت هذا فنقول: الطاعن وإن صدق فقد توجه الطعن على المطعون، وإن كذب فقد توجه على الطاعن)، وهذا كلام خطأ؛ لأنه لا يلزم من صدق الطاعن أن المطعون فيه مطعون مطلقاً؛ لأن الصحابي فمن دونه ربما يروي ألفاً أو ألفين أو ثلاثة آلاف حديث، فيعترض عليه معترض في حديث واحد فيكون قد أخطأ فيه، ونحن قلنا: إنهم ليسوا بمعصومين، فالخطأ في حديث لا يعني أن الطعن متوجه مطلقاً في حق المطعون فيه، وإن لم يتوجه فلا يعني أيضاً أن الطاعن كاذب ومتحامل ومفترٍ يرد كلامه مطلقاً، وإنما قد ينتقد عليه ويكون مخطئاً في انتقاده، وهو مع ذلك مصيب في أقوال وأراء أخرى، وهذا الأمر يؤخذ منه قاعدة واضحة جداً في مسألة الحكم على الرجال، وهي أن كل أحد من الصحابة -أو غيرهم من باب أولى- لا يجوز أن يؤخذ كلامه بجملته وبكليته، فيجعل معصوماً أو فوق الخطأ وفوق النقد، ولا يعني هذا أيضاً أنه إذا أخطأ مرة فإنه مخطئ في كل شيء ويتوجه إليه الطعن فيرد كلامه مطلقاً، كما هو كلام أهل الأهواء ومذهبهم، ولهذا نجد أهل الأهواء يكفرون أو يضللون، وأهل السنة يخطئون ولا يضللون ولا يبدعون المخالف المجتهد، وإنما يبدعون أهل الأهواء وأهل البدع، والمخالف المجتهد يكفره أهل الأهواء؛ لأنه خالف في حديث أو آية أو مسألة، فيقولون: كافر ضال زنديق، وهذا من مبالغة وغلو أهل الأهواء والعياذ بالله، وأما أهل السنة فيقولون: أخطأ في هذا القول، فالأمر عند أهل السنة بين الخطأ والصواب في الأمور الاجتهادية ولا يبنون عليها إيماناً أو كفراً.
    7. استدلال الأشاعرة على رد الآحاد باشتهار وضع الحديث

      قال الرازي: (فكيف يمكن بناء العقيدة على هذه الروايات الضعيفة)، وجوابه: أنها إذا كانت ضعيفة فإننا لا نبني عليها شيئاً.
      وهذا وجه مهم جداً في استدلالاتهم، حيث يقرر الرازي وأمثاله أنه اشتهر بين الأمة أن جماعة من الملاحدة وضعوا أخباراً منكرة واحتالوا في ترويجها على المحدثين، والمحدثون لسلامة قلوبهم ما عرفوها بل قبلوها، وأي منكر فوق وصف الله تعالى بما يقدح في الإلهية ويبطل الربوبية؟! فوجب القطع في أمثال هذه الأخبار بأنها موضوعة.
      ونعم إذا كانت الأخبار تقدح في الربوبية وتقدح في الألوهية فنقطع بأنها موضوعة لكن الرازي يقصد أحاديث العلو ويعني أنها تقدح عنده في الربوبية والألوهية والملاحدة هم من أدخلها، والمحدثون لسلامة قلوبهم ما عرفوها، وهذا الكلام غير صحيح، وإن صح أو صدق على بعض المحدثين ممن يلتزم مجرد الرواية دون التمحيص والتدقيق أو قد يتساهل في تصحيح الأحاديث فإنه لا يصدق على الكل؛ فإن المحدثين هم أعرف الناس بكذب الكاذبين وافتراء المفترين، وسنذكر إن شاء الله أمثلة من كلامهم توضح ذلك، ولهذا لما قال ذلك الزنديق الوضاع لـهارون الرشيد : قد وضعت في دينكم أربعة آلاف حديث، فقال له: يا عدو الله عندي عبد الله بن المبارك وفلان وفلان يمحصونها حديثاً حديثاً، فكانت الأمة واثقة -والحمد لله- أنه مهما كذب وافترى الوضاعون؛ فإن من المحدثين من يمحصها ويخرجها حديثاً حديثاً.
      وقوله: بأن المحدثين لسلامة قلوبهم إن كان يعني من الغش فنعم قلوبهم سليمة من الخيانة والكذب والظلم، أما إن كان يعني بسلامة قلوبهم أنهم مغفلون لا يفرقون بين الحديث الموضوع والحديث الصحيح فهذا الكلام باطل، بل هم صيارفة الرجال وصيارفة الروايات ونقادها.
      قال الرازي : (وأما البخاري والقشيري مسلم فهما ما كانا عالمين بالغيوب)، ومن الذي قال: إنهما يعلمان الغيب، وهل قال أحد من أهل السنة ذلك؟
      الجواب: لا، بل هما اجتهدا واحتاطا بمقدار طاقتها، فأما اعتقاد أنهما علما جميع الأحوال الواقعة في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم إلى زماننا فلا يقوله عاقل، ولا قاله أحد من العلماء، فمن قال: إن البخاري و مسلم يعلمان الغيب ويعلمان الأحوال من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى زمانه فهو مخطئ، وأهل السنة إنما يقولون: إن كتابيهما أصح الكتب بعد كتاب الله، وإن الأمة أجمعت على تلقيهما بالقبول.
      قال الرازي : (غاية ما في الباب أننا نحسن الظن بهما، وبالذي رويا عنهم، إلا أنا إذا شاهدنا خبراً مشتملاً على منكر لا يمكن إسناده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قطعنا أنه من أوضاع الملاحدة ومن ترويجاتهم على أولئك المحدثين).
      وجوابه: أنه لا يمكن أن يكون في كتابي البخاري و مسلم حديث موضوع أبداً، لكن هل يمكن أن أن نجد فيهما ما فيه خطأ أم لا؟ الجواب: نعم. هذا هو الفرق بين عدل أهل السنة وجور أهل الأهواء والبدع، فأهل الأهواء والبدع يقولون: إنا وجدنا في البخاري مائة وعشرين حديثاً منتقدة فنرد الصحيح كله، وهذا جور وإجحاف، فكفى المرء فضلاً أن تعد معايبه، والحمد لله فـالبخاري لم يُنتقد عليه إلا مائة وعشرون حديثاً، ومع ذلك فأكثرها الحق فيها مع البخاري ، لكن هل يعني ذلك أنه لا يوجد رواية في الصحيح نجزم أنها خطأ؟
      الجواب: لا. إذاً: فهل بكلام الرازي وأمثاله بقواعده وقوانينه العقلية يجزم بأن بعض الروايات غير صحيحة؟
      الجواب: لا. بل نجزم بوجود رواية خاطئة في الصحيحين بدليل الروايات الأخرى الصحيحة في الصحيحين أو خارجهما أو فيما هو أجل من ذلك وهو القرآن، فنعلم أن هذه الرواية أخطأ فيها أحد الرواة؛ لأنا نجد مثلاً في بعض ما في البخاري يكون للقصة الواحدة أو الحادثه الواحدة ثلاث روايات أو أربع، ونجزم أن رواية منها هي الصحيحة وما سواها هي الخطأ، ومع ذلك فعملنا هذا ظني، فما صححه البعض قد يكون هو الخطأ عند الآخر، ولا شيء في هذا، وهذا أكثر ما يوجد في مسلم كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله، وأقلها في البخاري ، ولا يقدح ذلك ولا يطعن فيهما، فانحصار الأخطاء في روايات معينة معروفة نقدها النقاد ومحصوها وأجاب عنها الحافظ ابن حجر رحمه الله وغيره وردوا كلام الدارقطني وغيره ودافعوا وبينوا وسلموا بعض الأمور هذا نفسه دليل على أن هذا الحديث محفوظ ولله الحمد، فإنه بعد التمحيص والتدقيق علمنا أن الرواية الفلانية فيها خطأ وأما غيرها فهو حق وصواب والحمد لله، فهذه هي نتيجة التمحيص والتدقيق والبحث والتنقيب والحمد لله، إذاً: فليس بسلامة قلب -كما يقول الرازي - قبلت الأحاديث وأخذت من الملاحدة الذين وضعوا ما شاءوا وقبلناها منهم.
    8. الاستدلال لرد الآحاد بجرح المحدثين للرواة بأقل العلل

      الدليل الرابع عند الرازي أن هؤلاء المحدثين يجرحون الرواة بأقل العلل؛ فبمجرد أن الراوي كان مائلاً إلى علي ترد روايته، وهذا غير صحيح؛ لأن العلماء لا يقولون هذا، بل يقولون: إذا كان رافضياً ترد روايته أما مجرد أنه كان مائلاً لـعلي فلا يردون روايته، وكان معبد الجهني يقول بالقدر فلا تقبل رويته، ثم قال الرازي -بتعبير سيء-: (فما كان فيهم عاقل يقول: إنه وصف الله تعالى بما يبطل إلاهيته وربوبيته فلا تقبل روايته، إن هذا لمن العجائب) يعني أنه إذا أتى واحد بحديث كحديث ( ينزل ربنا…) إلى آخره. فيجب أن نقول عند الرازي : هذا مثل معبد الجهني ؛ لأنك تروي شيئاً منفياً عن الله في ربوبيته؛ لأنه يلزم من النزول التحيز والفراغ والانتقال والأشياء التي في ذهن الرازي وأمثاله، فإذا روى الراوي حديثاً في هذه الأمور فإننا نرده مثل ما نرد حديث معبد الجهني الذي يقول في القدر ما لا يليق بالله تعالى، فانظر كيف تُركب الشبهة، والجواب عليها سهل، وهو أن يقول القائل: أنا لا أثبت شيئاً مما تلزمني به، فإنما أنا ناقل، وهذا الإلزام إنما يلزم به المتكلم بهذه النصوص وهو الله ورسوله، فالطعن في النصوص إنما هو طعن في الله وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    9. رد الآحاد بحجة تباعد وقتي السماع والأداء

      واحتج هؤلاء بوجه خامس وهو أن الرواة الذين سمعوا هذه الأخبار من الرسول صلى الله عليه وسلم ما كتبوها عن لفظ الرسول بل سمعوا شيئاً في مجلس، ثم رووا تلك الأشياء بعد عشرين سنة أو أكثر، ومن سمع شيئاً في مجلس واحد مرة واحدة، ثم رواه بعد العشرين والثلاثين لا يمكنه رواية تلك الألفاظ بأعيانها وهذا كالمعلوم بالضرورة إلى آخر كلامه، وهذه الشبهة هي من جنس شبهات المستشرقين، ولهذا يجب أن نصفي ونغربل وننقي التراث الموجود لدينا قبل أن نتحدث عن المستشرقين ونرد عليهم وأمثالهم، فكيف نرد على المستشرقين ثم نجد أئمة الأشاعرة يقولون هذا الكلام؟ إن ذلك يوجب الرد عليهم أولاً، فما يقوله جولد زيهر وأمثاله من المستشرقين هو نفس قول الأشاعرة وهو أن محمداً صلى الله عليه وسلم سمعه الصحابة ولم يكونوا يكتبون إلا بعد عشرين سنة فربما يحدث الخطأ ويضعف الحفظ، وعليه فالحديث لا يقبل ولا يعتمد، فيردون بذلك السنة كلها، والرد عليه والحمد لله من أسهل ما يكون، وهو كما يلي:
      أولاً: إنه قد ورد أن من الصحابة من كان يكتب الحديث، وهذا يطول شرحه، لكن وقوع الكتابة من بعض الصحابة أمر معلوم.
      ثانياً: لنفرض أنهم لم يكونوا يكتبون فإن ميزة هذه الأمة أنها أمة أمية لا تكتب ولا تحسب، فمن ميزتها قوة الحفظ ودقته، فالله تبارك وتعالى أعطاها من الحفظ ما كانت تحفظ به المعلقات في الجاهلية، فكيف بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أفصح العرب وصحابته أحفظ الناس وأتقى الناس؟ ولا عقل كعقلهم، ولا فكر كفكرهم، ولا أمانة كأمانتهم، ولا إخلاص كإخلاصهم ولا تلقي كتلقيهم، فإنهم كانوا ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نظراً لا يشبهه نظر أي أحد؛ لأنهم كانوا يرون أن نظرتهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هي مصدر الخير، والنور، والإيمان، والمعرفة، واليقين، والهدى، والنجاة، والفلاح فيحفظون القول كما يحفظ الواحد منا أعظم كلمة تهمه، كما أن أحدنا لو جلس مع من يقول له كلاماً خطيراً جداً في قضية تهمه فإنه يستمع منصتاً ويقول: قال لي فلان كذا وكذا بالنص للاهتمام بنص العبارة، والصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا أكثر الناس حرصاً على طلب الحق واهتماماً به مما نراه مهماً لنا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرص الناس على أن يوضح لهم، فكان يخاطبهم بلغتهم وبلهجتهم، وربما كان النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً يعيد الحديث المرة والمرتين والثلاث حتى يفهم عنه الكلام ويحفظ، وكان صلى الله عليه وسلم لا يعجل ولا يسرع في الكلام بل كان يتأنى فيه، وهذه كلها قرائن عظيمة على ضبط الحديث، بل ومن حكمة الله سبحانه وتعالى أنه اختار هذا الجيل الذي لا نظير له، واختاره من الشباب المتقنين الحافظين، وأعطاهم هذه الصفات وهذه المؤهلات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاشوا بعده عشرات السنين ينقلون عنه هذا العلم، ولو أنهم رضي الله تعالى عنهم كانوا كباراً لكان موتهم قريباً من موته صلى الله عليه وسلم فلم ينقل العلم إلى أكبر قدر من الأجيال، لكننا نجد منهم من عاش إلى حوالي المائة وإن كان هذا قليلاً لكن كثيراً من الصحابة عاشوا إلى ما بعد الخمسين من هجرة الرسول صلى الله عليه سلم أو إلى الستين، فكان هذا الجيل بعد خمسين سنة من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم يقول للناس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا فحفظت الأمة ذلك حفظاً عظيماً ولله الحمد، فهذه القرائن الكثيرة مجتمعة لا يمكن أن تكون إلا بعناية ربانية وتدبير إلهي في اختيار هذا الجيل المطهر الخالص الذين هم حواريي وأصحاب أفضل رسل الله تبارك وتعالى، فلا شك أن الله تعالى اختارهم واصطفاهم، فنقلوا هذا الدين بكل أمانة وبكل دقة.
      إذاً: فالطعن في السنن هو كلام المستشرقين وأشباههم، وقول الرازي بأن الظاهر أنه نسي منه شيئاً كثيراً أو تشوش عليه نظم الكلام وتركيبه .. إلخ لا يعني شيئاً في أرض الواقع، إنما هو مجرد احتمالات، ولو كان هذا الاحتمال حقاً أو وارداً كما قلنا في حق أحد منهم فهو فيما يتعلق بذات الله أبعد؛ لأن الصحابة رضي الله تعالى عرف عنهم عنايتهم بما يتعلق بالله وبأخبار الغيب أشد، والحاجة إليها أعظم، ولذلك لا يأتي ولا يرد مثل هذا الاحتمال فيها.
      قال الرازي في خاتمة كلامه -وهنا الشاهد-: (واعلم أن هذا الباب كثير الكلام -نعم والله إنه كثير، ولكنه باطل- وأن القدر الذي أوردناه كاف في بيان أنه لا يجوز التمسك في أصل الدين بخبر الآحاد والله أعلم).
      وهذه خاتمة كلامه التي قرر فيها بعد هذه الخمسة الأوجه أنها كافية في نظره بأن أصول الدين والعقيدة لا يؤخذ فيها بخبر الآحاد، وهذا هو القانون الكلي أو القاعدة الكلية التي وضعها في هذا الباب وبني عليها غيره ممن قال بكلامه كصاحب المواقف وغيره، وهو كلام في غاية التهافت والبطلان، وقد ظهر من الرد عليهم أن الاحتجاج باختلاف الصحابة في الرواية ورد بعضهم على بعض، أو طلب التثبت والاحتجاج لا عبرة به، وأضرب مثالاً على ذلك بإمام التراويح في رمضان حيث يقرأ فيها القرآن وخلفه حافظ آخر يرد عليه أحياناً، فهذا دليل على أن كلاً منهما حافظ، فإذا أخطأ الإمام في آية أو آيتين فهذا أيضاً دليل على أنه حافظ، فعندما يأتي من يقول: هذا الإمام لا يؤخذ عنه ولا آية، لأن فلاناً قد رد عليه في إحدى الصلوات فكلامه غير صحيح، ونقول له: يا أخي! إن كون فلان رد عليه تلك الليلة ليس دليلاً على أنه ليس حافظاً، بل هو دليل على أنه حافظ، فكلام الرازي عكس الحقيقة والواقع، فالطعن من أهل الأهواء والبدع وأهل الضلال على المحدثين لا يقبل؛ لأنهم أمام المحدثين كمثل العامي الذي لا يحفظ شيئاً من القرآن ولكنه يرد على الإمام، فعلى الإمام أن يستمر في قراءته ولا يأبه به؛ لأنه غير حافظ، فكلام الرازي أشد وأكثر بطلاناً وتهافتاً من رد العامي على الإمام؛ لأن العامي ربما يحفظ الآية أو الحديث أما الرازي وأمثاله، فإن شبهتهم ومصيبتهم مركبة من أمرين: من جهلهم بالحديث ومن هذه الشبهات الباطلة التي تعلموها في رد الحديث وإن كان صحيحاً، بل عندهم استعداد أن يردوا الحديث ولو كان صحيحاً، وفي نفس الوقت هم جاهلون بالحديث وبطرق تصحيحه وتضعيفه، فيمكن أن يردوا أي شيء؛ لأن جهلهم مركب، وأما العامي فجهله جهل بسيط.
      إذاً: سماعك لهذا الإمام وهو يقرأ كتاب الله كاملاً، وقد قرأ ستة آلاف وستمائة آية وأكثر دليل على أنه حافظ ولو وجدته أخطأ في عشرين أو مائة آية فهذه شهادة له بأنه حافظ متقن مقارنة بالقرآن كاملاً، وهو قد يخطئ ولا شك في ذلك، ولكن كونه أخطأ لا يعني أن كل القراء أيضاً يخطئون، فإن بعض القراء لا يؤخذ عليهم في الشهر كله خطأ واحد والحمد لله، وهذا لا شك أنه دليل على التفرد والتميز في الحفظ وليس دليلاً على الطعن في الحفاظ الآخرين، بل هو دليل على تفرد وتميز هذا الذي لم يخطئ، وفي هذا رد على هذه الشبهة الباطلة، والحمد لله رب العالمين.
      والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
    10. مناقشة الأشاعرة لأهل السنة في إثبات صفة العلو

      قال: (واحتج الخصم بوجوه) وذكر أربعة وجوه عقلية ربما أنه لم يذكرها بعض العلماء أو أكثرهم، لكن ليس ذلك بمهم، بل المهم هي الأدلة والنصوص.
      قال: (الخامس: الاستدلال بالظواهر الموهمة للتجسيم من الآيات والأحاديث) وهنا نراه جعل ظاهر الآيات والأحاديث موهمة بزعمه للتجسيم، والتجسيم أحد الكلمات البدعية التي ابتدعها أولئك، وحكمها أنها من جملة الألفاظ المجملة التي لا نثبتها نحن، ولكننا نستفسر قائلها عن مراده بها.
      ونحن نعلم أن مقصود هذه الكلمة هو النبز من المبتدعة لـأهل السنة ويقولون: إنهم مشبهة أو إنهم مجسمة.
      قال: (نحو قوله تعالى: (( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ))[طه:5]) فهذه من الظواهر عندهم، مع أن الآية صريحة قطعية الدلالة ولكنه قرر بأن هذه مجرد ظواهر.
      قال: (وقوله تعالى: (( وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ))[الفجر:22]، وقوله تعالى: (( فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ ))[فصلت:38]، وقوله تعالى: (( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ))[فاطر:10]، وقوله تعالى: (( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ))[المعارج:4]، وقوله تعالى: (( هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ ))[البقرة:210]، وقوله تعالى: (( أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ ))[الملك:16]، وقوله تعالى: (( ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ))[النجم:8-9]).
      وهذه الآية كما تعلمون نزلت في جبريل عليه السلام، الذي دنا فتدلى، ولكن صاحب المواقف ذكرها على أساس أنها وردت في صفة العلو في بعض الروايات التي أخطأ فيها راويها كما بينا ذلك في حديث الإسراء والمعراج، وبينا أنه بمجرد أن بعض أهل السنة أخطأ فيها مثلاً فإنهم يجعلونها حجة عليهم جملة.
      ثم قال: (وحديث النزول، وقوله صلى الله عليه وسلم للجارية الخرساء: ( أين الله؟ ) ) وهم يذكرون أنها كانت خرساء ليقولوا: إن الإشارة أضعف أنواع الدلالة، فلا تكون الإشارة نطقاً.
      ثم يقول: (فأشارت فقررها، والسؤال والتقرير يشعران بالجهة)، وبعد انظر كيف يجيب الأشاعرة على هذه الآيات والأحاديث؟
      قال: (والجواب: أنها ظواهر ظنية لا تعارض اليقينيات).
      انظر -والعياذ بالله- كيف يرد هذه الجملة الكثيرة من الأدلة من الآيات والأحاديث الثابتة بكلمة واحدة ويقول: إنها ظواهر ولا تعارض اليقينيات، فهي ظواهر ظنية تفيد الظن، ولا تعارض اليقينيات، وهي أنه تعالى بزعمهم لا فوق العالم، ولا تحته، ولا يمينه، ولا يساره، ولا قدامه، ولا وراءه، ولا داخله، ولا خارجه، فهذا هو اليقين عندهم والعياذ بالله!!
      ولهذا فإن التفتازاني وبعض المتأخرين ممن هو على مذهبه يتعجبون من كلام ابن تيمية رحمه الله حتى كادوا أن يقروه، ويقولوا: هذا هو الحق، أو عبارة قريب من هذا، وذلك عندما قال ابن تيمية رحمه الله: (إن قولنا: إنه تعالى لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته ولا قدامه إلى آخر ذلك، إنه وقولنا: غير موجود سواء).
      أي: هذان القولان سواء، وهذا واضح لكل عاقل، فلو تأمل أي إنسان فإنه يدرك بالعقل أنه إذا كان الشيء يوصف بهذا النفي وهذا السلب المطلق وأنه لا داخل ولا خارج ولا فوق ولا تحت، فمعناه أنه غير موجود، ولهذا إذا أراد أحدنا أن يعبر بنفي مطلق، كما لو سئل: هل رأيت فلاناً؟ أو هل تعلم أن فلاناً موجود؟ وهو لا يعتقد وجود أحد بهذا الاسم، فإنه يقول: هذا الرجل لا يوجد لا داخل المملكة ولا خارجها، ولا في أمريكا ، ولا في الشرق، ولا في الغرب، فكثرة النفي دليل على أنه لا وجود له، بل هو معدوم مطلقاً، فهذان التعبيران في القوة سواء، أي: أن تقول هذه العبارات، أو تقول: هو غير موجود سواء.
      وهذه هي اليقينيات عندهم والعياذ بالله، وبهذا اليقين المزعوم يردون آيات الكتاب، وما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
      قال: (ومهما تعارض دليلان وجب العمل بهما ما أمكن، فتؤول الظواهر إما إجمالاً ويفوض تفصيلها إلى الله) أي: لو وردت آية أو حديث فإننا نؤولها إجمالاً ونفوض تفصيلها، يعني: كلها نقول: إن الله أعلم بمراده بها، ولا نثبت معناها، وكأنها كلام يكتب ويقرأ ولا يفهم معناه كما يقول بعضهم في مثل قوله تعالى: (( الم ))[البقرة:1] إنها حروف مقطعة لا ندرك معناها، وعند هؤلاء أن قوله تعالى: (( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ))[طه:5] لا يدرك معناها أيضاً. ويفوض الأمر فيها إلى الله!
      وهذا بزعمهم هو التأويل الكلي مع التفويض، وهو أن الآية تؤول وليست على ظاهرها، بل نفوضها أو نعمل بالتأويل التفصيلي، فنقول: (استوى) معناها: استولى وقوله تعالى: (( أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ))[الملك:16] أي: ملكه مثلاً! وقوله صلى الله عليه وسلم: ( ينزل ربنا ) أي: رحمته وهكذا، أي: فيؤول كل نص على حدة، وهذا هو التأويل التفصيلي وهو بدعة، وكذلك التأويل الإجمالي هو بدعة كذلك.
      فصارت النصوص كلها ظواهر ظنية ولا تفيد اليقين، وهذا هو كلام ورأي صاحب المواقف، وبهذا يرد كل ما جاء عن الله ورسوله في باب الصفات، من جهة أنها لا تفيد اليقين.