المادة كاملة    
إن جميع ما صح عن رسول الله من الشرع والبيان كله حق، فيجب التسليم والانقياد والإذعان له، والتحاكم إليه أصل عظيم من أصول الدين، لا إلى المقاييس العقلية الباطلة، إذ إن العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح أبداً.
  1. مصدر العقيدة بين العقل والنقل

     المرفق    
    ‏الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    فإن الموضوع الذي نشرع فيه مهم وخطير وجدير بنا جميعاً أن نعيه وندركه، وإن كان فيه شيء من الصعوبة أو الغموض في بعض مسائله؛ لأنه قضايا عقلية أو نقاش لأناس يجادلون بالعقل بزعمهم، لكن لا بد أن نستشعر أهميته، وأن ندرك ضرورته، وأنه لا ينبغي لطالب علم يريد أن يذب ويذود عن عقيدة السلف الصالح، فيدفع شبهات المتكلمين والمبتدعة إلا ويكون لديه الحظ الوافر من معرفة هذه القضايا التي سوف نتحدث عنها بإذن الله تبارك وتعالى، فأساس موضوعنا هو موضوع العقل والنقل، أو مصدر التلقي، أو مصدر المعرفة، أو مصدر العقيدة بين العقل -كما يزعمون- وبين النقل، فهي قضية فكرية عظيمة، والخلاف فيها قديم، وأكثر ضلال من خرج عن الصراط المستقيم من هذه الأمة هو بسببها، لا سيما بعد القرن الثاني عندما ترجمت كتب الفلسفة والمنطق، وركن الناس إليها، وتركوا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إلا من حفظهم الله تبارك وتعالى وهم أهل السنة والجماعة الذين جعلهم الله عز وجل ظاهرين، قائمين بالحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله، وكل ما نعلمه من أحداث تاريخية كبرى عقدية فإنما موضوعها أو أصلها أو مرجعها هذه المسألة، فمثلاً: قضية خلق القرآن، والفتنة الكبرى التي حدثت به، وامتحان الأمة به، وتعذيب الإمام أحمد رحمه الله تعالى، أصلها هذه القضية، كذلك ما حدث بعد ذلك من قيام دول الروافض و الباطنية ، فقد قامت على أساس عقلي، فـالباطنية بكل طوائفها قامت على أساس عقلي -كما تزعم- أو أساس فلسفي، ولذلك كتبوا كتابهم المعروف: رسائل إخوان الصفا ؛ ليحل محل القرآن، وليأخذوا منه بدل الأخذ من الوحي: القرآن والسنة، وشيخ الإسلام رحمه الله إنما أوذي وجاهد وصابر من أجل هذا الأمر، فهو يريد من الناس أن يأخذوا دينهم من الكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح، وأما أولئك فيقررون هذه المناهج العقلية البدعية التي ما أنزل الله بها من سلطان، وإذا تتبعنا تاريخ المعتزلة أو الأشعرية أو الماتريدية فإنا نجد هذا واضحاً أيضاً، وكذلك الفرق الأخرى كـالرافضة الشيعة على اختلاف طوائفها، وكذلك الخوارج ومن بقي منهم على مذهب المعتزلة ، فهم في هذا الباب أيضاً يرجعون إلى نفس الأصل العقلي المزعوم، حيث يعارضون كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم بما يدعون أنه عقليات، أو قواعد عقلية، أو براهين قطعية أو قواطع عقلية أحياناً، إلى آخر هذه الألفاظ والمصطلحات.
  2. الرد على الطوائف القائلة: بأن الأخبار متواتر وآحاد

     المرفق    
    قال رحمه الله: (قوله: وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق).
    يشير الشيخ رحمه الله بذلك إلى الرد على الجهمية و المعطلة و المعتزلة و الرافضة القائلين: بأن الأخبار قسمان: متواتر وآحاد، فالمتواتر -وإن كان قطعي السند- لكنه غير قطعي الدلالة، فإن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين، ولهذا قدموا دلالة القرآن على الصفات. قالوا: والآحاد لا تفيد العلم، ولا يحتج بها من جهة طريقها، ومن جهة متنها، فسدوا على القلوب معرفة الرب تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله من جهة الرسول، وأحالوا الناس على قضايا وهمية ومقدمات خيالية، سموها قواطع عقلية، وبراهين يقينية وهي في التحقيق: (( كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ))[النور:39-40].
    ومن العجب أنهم قدموها على نصوص الوحي، وعزلوا لأجلها النصوص، فأقفرت قلوبهم من الاهتداء بالنصوص، ولم يظفروا بالعقول الصحيحة المؤيدة بالفطرة السليمة والنصوص النبوية، ولو حكموا نصوص الوحي لفازوا بالمعقول الصحيح، الموافق للفطرة السليمة.
    بل كل فريق من أرباب البدع يعرض النصوص على بدعته، وما ظنه معقولاً فما وافقه قال: إنه محكم وقبله واحتج به، وما خالفه قال: إنه متشابه، ثم رده، وسمى رده تفويضاً أو حرفه، وسمى تحريفه تأويلاً! فلذلك اشتد إنكار أهل السنة عليهم.
    تكلم الشيخ رحمه الله تعالى -كما ترون- عن تقسيم المبتدعة للنصوص الصحيحة من السنة: إلى متواتر وآحاد، ثم يشتغلون في المتواتر بتأويله وإضعاف دلالته، وفي الآحاد برده بزعم أنه لا يثبت به عقيدة ولا يحصل به العلم اليقيني، لكن الأصل الكلي الذي نريد أن نرجع إليه هو مسألة الاتباع لمن تكون؟ والاحتكام إلى أي شيء يكون؟ والاستمداد من أي مصدر يكون؟ إن هذه القضية مبثوثة في الكتاب؛ لأنه كما أشرنا مراراً إلى أن الإمام أبا جعفر الطحاوي رحمه الله تعالى كان يكتب عقيدته كتابة عامة، فلم يلتزم فيها بالأبواب أو الفصول المعروفة، ولذلك جاء الكلام عن بعض القضايا متناثراً في الأول، وفي الوسط، وفي الأخير، ولأهمية هذه المسألة المهمة العظيمة؛ فإنه أول ما افتتح هذه العقيدة، وشرح الشارح رحمه الله تعالى ذلك، افتتحه بها، ثم انتقل عنها، ثم عاد إليها في موضوع الإسلام والتسليم، وأنه لا يثبت إسلام العبد إلا على التسليم والانقياد، وقد شرحنا ذلك في مكانه، وأشرنا إلى شيء من هذه الأمور، ثم جاء هنا وعرضها جزئية وهي: التفريق بين المتواتر والآحاد، ثم في آخر هذه العقيدة سيتكلم عن أقسام الطوائف المبتدعة الخارجة عن منهج السلف الصالح، وكيف أنهم ردوا النصوص باعتبارات كثيرة: أهل التخيل، وأهل التمثيل، وأهل التعطيل، إلى آخر ما سنلاحظه في هذا الكتاب، لكن نحن هنا نرى أن هذا الموضوع بالذات مهم جداً في بيان أصل هذه القضية الخطيرة، وهي قضية المصدر والتلقي، من أين تتلقى العقائد؟ ومن أين يؤخذ العلم بالله؟ والعلم عن الله تبارك وتعالى؟ والمؤمنون جميعاً، وكذلك كانت القرون الثلاثة المفضلة، لا ينتهجون في هذا الباب، ولا يتلقون إلا مما جاء عن الوحي: الكتاب والسنة، الوحي الابتدائي وهو الكتاب، والوحي البياني وهو السنة التي جاءت بياناً للكتاب، كما في عبارة الشيخ رحمه الله: (ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان) أي: ما جاء ابتداءً وهو القرآن، أو بياناً وهو السنة، فكله حق، فـأهل السنة والجماعة لديهم شرط واحد فقط: وهو صحة ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر عن الله، أو عن الإيمان بالغيب في أي حكم من الأحكام، فلا تقديم بين يدي الله ورسوله، ولا ينظرون إلى كون هذا متواتراً أو آحاداً، بل إن عامة ما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو منقول عنه في الصحيحين وغيرهما هو من قبيل الآحاد لا من قبيل المتواتر، وإن شاء الله سوف نفصل مأخذ السلف في هذا بإذن الله تعالى، لكن المقصود أن نبين الأصل العقدي: وهو أن المؤمن ما عليه إلا أن يسلم لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا مقتضى ودلالة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أعظم ما يؤخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العلم بالله.
    ولذلك فإن أشرف العلوم وأعظمها وأعلاها درجة لا تناله العقول ولا ترتقي ولا تصل إليه مطلقاً إلا من طريق الوحي هو: معرفة الله تعالى، والعلم بصفات الله سبحانه وتعالى وأفعاله، وهذا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، إما بالقرآن الذي نقله إلينا كما أوحاه إليه ربه عز وجل، وإما بالسنة وهي الوحي الآخر: ( ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه )، ففسر النبي صلى الله عليه وسلم بها ما جاء في القرآن، ولا تعارض على الإطلاق بين ما جاء في السنة وبين ما جاء في القرآن في هذا الباب أبداً.
  3. منهج السلف في التلقي في باب العقائد

     المرفق    
    وأما ما يثار من معارضات فلها ردودها ومناقشاتها، وهي من ضيق فهم كثير من المبتدعة، أو من تمسكهم بأصول باطلة، فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم كان هذا منهجهم، فقد كانوا يعلمون أن الإيمان بالله، والإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، والشهادة بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، يعني أن لا يتلقى، وأن لا يؤخذ هذا الدين إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر واضح، الأمر الآخر: أن الصحابة لم يكونوا يعارضون أو يضاربون بين كلام الله أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فيضربون بعضه ببعض، بل طريقتهم -كما بين الله- هي اتباع المحكم وترك معارضته بالمتشابه، وأما أهل البدع فإن مذهبهم ومنهجهم اتباع ما تشابه منه؛ ليضربوا به وليعارضوا المحكم، وهذا ما فعله الخوارج في أول الأمر من غير ضوابط عقلية معينة، ثم جاءت الفلسفات، وجاء علماء الكلام فجعلوه أصولاً قطعية كلية، ولما عم الفساد وطم وانتشر وكثرت الكتب في هذا، حتى دخلت في معظم المذاهب الأربعة وأكثر علماء الأمة، ظهر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فنصر الله به الدين، وقمع به الملحدين، وألف الكتاب الذي ما طرق العالم في بابه مثله أبداً، وهو كتاب: درء تعارض العقل والنقل، وقد كتبه رحمه الله من هذه المجلدات الضخمة في هذه القضية، بل هو في أصل هذه القضية وهي التحاكم إلى القرآن والسنة لا إلى المقاييس العقلية أو القواعد القطعية إلى آخر ما ذكر، ومن جملة ما أبطله رحمه الله: قولهم: إن أحاديث الآحاد لا تفيد اليقين، أو أن النصوص جميعاً لا تفيد العلم اليقيني، وإنما تفيد الظن فقط، وأن الذي يفيد اليقين هو القواعد العقلية المزعومة، ونحن نعرض إن شاء الله تعالى لهذا من كلام الإمام العظيم ابن القيم رحمه الله، فقد أجاد وأفاد، وذلك إذا أردنا أن نتحدث عن هذا الأصل، أو القانون الذي ردوا به أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ردوا به الوحي قاطبة، فلا بد أن نسنده إلى أهله، وهذا لا بد منه؛ لأن من منهج السلف الصالح رضوان الله تبارك وتعالى عليهم أن لا ينسبوا لأحد قولاً لم يقله، فإذا أردتم أن تحيلوا فلا بأس أن تحيلوا إلى أصل هذه المسألة وأصل هذا القول، وهو في كتاب فخر الدين الرازي المعروف بـأساس التقديس ، والكتاب مطبوع -وإن كان غير منتشر والحمد لله كثيراً- لكنه موجود فيه في الفصل الثاني والثلاثين، وهو الذي ذكره شيخ الإسلام في أول درء التعارض، وأيضاً الرازي ذكر مثله في كتاب آخر له اسمه: نهاية العقول ، وذكر نحواً منه أيضاً في كتابه: الأربعين ، وكلها موجودة مطبوعة، ثم من جاء بعد الرازي لم يكتب عنه شيخ الإسلام؛ لأنه ناقل له فقط، وهو تلميذه والمتلقي عنه الذي نقل هذا الكلام وأشاعه وهو: عضد الدين الإيجي صاحب المواقف، وهو موجود في صفحة أربعين الطبعة الموجودة من غير شرح، والتي طبعت لتكون مقرراً لكلية أصول الدين في الأزهر، وسننقله كاملاً بإذن الله تعالى، وإنما نحن الآن نحيل فقط، والكلام الذي ذكره الشارح هنا مأخوذ ومنقول من كلام الإمام العلامة ابن القيم ، وهو في مختصر الصواعق الطبعة القديمة في الجزء الثاني، ويمكن أن نبدأ بكلام ابن القيم رحمه الله لأهميته في تأصيل المسألة، ثم ننتقل إلى كلام الرازي والإيجي وأتباعهما، ثم نأتي بكلام المتقدمين أيضاً وكلام الجويني و الغزالي والمتأخرين كـالسنوسي ، بل حتى الأقدم منهم كـالبغدادي وغيره، ولعل الأفضل أن نبدأ بكلام ابن القيم في تأصيل هذا الأمر، ثم بعد ذلك نأتي بكلامهم بعد أن تكون القضية قد اتضحت ونرد عليه.
  4. كلام ابن القيم رحمه الله في الرد على الذين لا يحتجون بخبر الآحاد

     المرفق    
    يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في هذا الموضع: (فصل في الاحتجاج بالأحاديث النبوية على الصفات المقدسة العلية، وكسر طاغوت أهل التعطيل الذين قالوا: لا يحتج بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء من صفات ذي الجلال والإكرام) وهؤلاء هم: الرازي والمتكلمون وأتباعهم.
    قال رحمه الله: (وقالوا: الأخبار قسمان: متواتر وآحاد. فالأخبار عندهم هي: ما نقل أو روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو حتى عن غيره) أي: أن الخبر عندهم هو ما لا يقتضي العقل ثبوته أو نفيه، فهو قابل من الناحية العقلية للورود وعدم الورود، يقول: (فالمتواتر وإن كان قطعي السند لكنه غير قطعي الدلالة) حتى آيات القرآن التي لا شك في ثبوتها، ومن أنكرها كفر، يشككون في دلالاتها فيقولون: كون الله تبارك وتعالى فوق العالم كما أخبر في آيٍ كثيرة، أو كون الله تبارك وتعالى له يد أو عين أو سمع أو بصر عند كثير منهم أيضاً، أو يتكلم أو غير ذلك كله مردود لا بد أن يؤول، فظاهره -أي: دلالته- غير قطعية، أي: لا تدل هذه الآيات دلالة قطعية على أن الله تعالى متصف بهذه الصفات، وبالتالي فالقرآن ثابت، لكن دلالته في نظرهم غير قطعية وإنما ظنية، ويريدون بقولهم: ظنية: إبطال دلالته بالكلية، ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله تعالى -وهو محق في ذلك-: (إن هذا يؤدي إلى إبطال دين الإسلام بالكلية)؛ لأن الإسلام ما هو إلا القرآن والسنة، فإذا قلنا: إن القرآن والأحاديث المتواترة -وهي تلحق بالقرآن في الثبوت- دلالتها ظنية فلا تفيد العلم، والآحاد ترد فلا تفيد العلم، وعليه فما بقي من الدين شيء، وبالتالي فتؤخذ معرفتنا عن الله، وعن الغيب، وعن اليوم الآخر، وعن غيرها من الأمور الأخرى تؤخذ مما يقال: إنه براهين عقلية، أي: نأتي إلى كلام الفلاسفة والمتكلمين وأشباههم فنأخذ العقيدة منهم، وبالتالي فلا حاجة إلى بعث رسول، فهذا مما ألزمهم به شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وإذا كنا لا بد أن نأخذ عقيدتنا، أو لا يجوز أن نأخذها إلا عن طريق هذه العقول -كما يسمونها- والآراء والأفكار والقوانين والقواعد الكلية التي وضعوها، وإذا جاءتنا الآيات والأحاديث اشتغلنا بتأويلها أو تفويضها حتى لا تتعارض مع هذه القواعد والأصول العقلية إذا كان كذلك فإن الأرحم بالناس أن لا ينزل القرآن وأن لا تأتي السنة؛ لأن العقول موجودة، وكتب اليونان موجودة، والفلاسفة موجودون، فيرجع إليها في معرفة الحق، ولا تضيع الأوقات في الاشتغال بكتاب يأتي من عند الله، وبكلام يأتي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرد أو تبحث له التأويلات حتى يوافق تلك القواعد السابقة، وحينئذ كان الأرحم بالبشرية أن يقال لهم: ارجعوا إلى عقولكم، وإلى آرائكم، وإلى كلام الفلاسفة، وإلى قواعدهم واعملوا بها، ولا تجهدوا أنفسكم بالتأويلات والتكلفات والتخريجات التي بها تردون هذه الأدلة، ولذلك فإن العلماء قالوا -وهذا مثال ذكره ابن تيمية رحمه الله ثم من بعده-: إن مثل الوحي والعقل كمثل العالم المتمكن المجتهد مع العامي الذي يدل الناس على هذا العالم، كيف هذا؟
    عندما قال أهل البدع: إن العقل والنقل يتعارضان، وإذا تعارضا فالواجب أن نرد النقل، وأن لا نأخذ به، ولا نعمل به وأن نقدم العقل؛ لأن العقل هو الذي دل على ثبوت النقل، فلم تثبت النبوة، ولم يثبت الوحي إلا عن طريق العقل، فإذا قدحنا في الدليل بطل المدلول.
    فنحن عندما نثبت العقل ونوطده نكون قد ثبتنا الفرع وهو المدلول أو النقل، أما لو ألغينا العقل وقدمنا عليه النقل -هذا على كلامهم- فنكون قد أبطلنا الأصل والدليل، وإذا بطل الأصل بطل الفرع والمدلول، فيرد عليهم العلماء بردود كثيرة، منها هذا المثال، وهو أننا لا ننكر أن العقول تدل على صحة النقل؛ فإن العقل يدل على أن الوحي حق ولا شك في ذلك، بل إن الله سبحانه وتعالى إنما أنزل هذا القرآن لقوم يعقلون، ولقوم يتفكرون، ولقوم يتذكرون، وضرب لهم الأمثال، بل إن الأدلة القرآنية والنبوية هي في الحقيقة أدلة عقلية، ولكن ألفاظها وثبوتها نقلي، لكن هي أدلة عقلية تخاطب العقل السليم، فلا يستطيع أن يجد منها مناصاً، بل يلتزمها ويؤمن بها، فنقول: نعم العقول دلت على صحة النقل والوحي وثبوت النبوة، وثبوت النبوة يتفرع عنه القرآن والسنة وكل شيء.
    1. محاكمة النقل إلى العقل

      لكن هل يقتضي ذلك أن يحاكم الوحي إلى العقل أو هذا الدليل؟ لا، ونضرب لهم هذا المثل للإيضاح فنقول: إذا جاء جماعة من الناس يريدون العلم، والخير في بلد ما، وقالوا: نريد من يدلنا على عالم نأخذ عنه الدين والفتوى، فدلهم رجل عامي من أهل القرية على العالم، فتعلموا ما شاء الله أن يتعلموا، فلما أرادوا العودة قابلهم الدليل وهو العامي، فقال: اعرضوا عليَّ كل ما تعلمتم حتى أميز لكم الصحيح من الضعيف، والحق من الباطل، فإن قالوا له: ما حجتك؟ فيقول: ألم أدلكم على الشيخ العالم المجتهد فتعلمتم منه؟ فيقولون: بلى، فيقول: إذاً من حقي أن أتحكم فيما أخذتم عنه من علم، فيقال له: أما دلالتك على العالم فحق، ونحن لا ننكر ذلك، بل نثني عليك بذلك، وأما أن تكون الحكم فيما يقول العالم، وتصبح فوق العالم لمجرد أنك دللت عليه؛ فهذا لا يصلح أبداً، وبالتالي فالعقل الصادق الصحيح هو مثل العامي الصادق، فهو يدل على العالم -ولهذا تجد بعض العوام لا علم لديه، لكنه يستطيع أن يميز بين العلماء، وبين الناس، وبين الكتب؛ لأن عنده بصيرة يعرف بها الحق- لكن هل يعني ذلك أنه يحكَّم في كلام العلماء؟ لا يمكن ذلك، فهذا هو المثال الذي ضربه العلماء في هذا، بالإضافة إلى المقدمة المهمة التي لا بد أن لا تفوتنا أيضاً في هذا الباب، وهي أنه لو افترضنا أن جماعة قدموا إلى هذا العالم وقالوا له: نحن نأخذ عنك العلم، فأخذوا عنه العلم بالدين أصولاً وفروعاً، ثم قالوا: سنرجع إلى شيخ قبيلتنا الذي بعثنا من هناك ونحكمه في هذا، فهل يكونون فعلاً واثقين في علم هذا العالم، مصدقين له؟ لا، بل سيكونون غير واثقين، وإلا فكيف تتعلمون عنده هذه السنين الطويلة، ثم يتوقف قبولكم لعلمه على إقرار شيخ القبيلة الذي بعثكم؟ ولو فرض أن هذا العالم هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد جاءه صلى الله عليه وسلم بعض الوفود في المواسم، مثل: وفد بني تميم، وبني عامر وأمثالهم، فقابلهم وعرض عليهم ما عنده، فما وجدوا في الكلام أي مطعن، بل هو حق مفيد عظيم تشهد له العقول وتقر به القلوب، فلو قالوا: لا بد أن نرجع إلى قبيلتنا، وما آمنوا ولا انقادوا كما فعل الأنصار رضي الله تعالى عنهم، بل بنو تميم مثلاً رجعوا إلى أكثم بن صيفي أحد حكماء العرب في الجاهلية وأخبروه بالخبر، فلامهم وعاتبهم، فهؤلاء لا يعدون مؤمنين؛ لأنهم لم يأخذوا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم مأخذ الإيمان والإذعان والانقياد والتسليم، وإنما حفظوه ثم أخذوا يعرضونه على من يؤيده أو يرفضه، فنقول: كذلك الحال فيمن يقولون: لا بد من تحكيم العقل -بزعمهم- فالعقل هو شيخ القبيلة كتطبيق لهذا المثال، والذين يقولون: نحن مسلمون، نحن مؤمنون، ثم يقرءون الآيات ويسمعون ما جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من أحاديث، ثم يقولون: لا نؤمن بها حتى نعرضها على ما قرره علماء الكلام من القواعد العقلية؛ فإن وافقتها أثبتنا مقتضاها وآمنا بهذه الصفات والقدر وغيرهما، وإن خالفتها رددناها، فنقول: أنتم مثل هؤلاء، إلا أنهم تحاكموا إلى شيخ القبيلة، وأنتم أرجعتم الأمر إلى أهواء وآراء المتكلمين والحكماء وغيرهم، فما الفرق إذا قلتم: إن أولئك ليسوا مؤمنين؟! فكذلك أنتم في الحقيقة لستم بمؤمنين ومذعنين ومصدقين برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن مقتضى الإيمان به هو التسليم الكامل القطعي في كل ما جاء به.
    2. إفادة الدلالة اللفظية لليقين

      ولهذا يقول الشيخ رحمه الله: (الأخبار قسمان: متواتر وآحاد، فالمتواتر وإن كان قطعي السند لكنه غير قطعي الدلالة؛ فإن الدلالة اللفظية لا تفيد اليقين) أي: أن الألفاظ لا تفيد اليقين، وهذا من أغرب الأقوال، أي القول بأن الدلالة اللفظية لا تفيد اليقين، وإنما يفيدها القضايا العقلية المجردة؛ وذلك لأنهم يقولون: لأن الكلمة تحتمل احتمالات، فتحتمل من ناحية الوضع، هل وضعت الكلمة لهذا أم لا؟ فمثلاً: كلمة: اليد، يقولون: ليس هناك دليل قاطع على أن اليد التي في القرآن تعني أن نثبت لله تبارك وتعالى يداً على الحقيقة؛ لأنه لابد أن نعلم: هل واضع اللغة أراد باليد الشيء الحقيقي أو أراد أشياء أخرى؟ ونحتمل أيضاً إرادة المتكلم، فربما قال المتكلم: اليد ويريد شيئاً آخر غير الحقيقة، كأن يريد المجاز كما يزعمون، وكذلك معرفة الاشتراك والإضمار والمجاز والتخصيص والتقديم والتأخير، ويذكرون عشرة أمور أو عقبات جعلوها حتى لا تدل الألفاظ على المعاني، وهذا من أبطل الباطل، إذ معنى هذا أن تصبح نصوص القرآن والسنة مجرد رسوم، فلا تدل على شيء، والنبي صلى الله عليه وسلم علمها وعلّمها أصحابه، وعلمها أصحابه التابعين، وكلهم -والحمد لله- فقهوا معانيها ظاهراً وباطناً، قولاً وعملاً، وليس هذا من شأن العرب فضلاً عن أن يكون من شأن أذكى العرب، وأفهم العرب، وأعظم الناس إيماناً وفقهاً وعلماً، وأكملهم عقولاً ورأياً وفطنة، وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا أصلاً قدح في اللغة العربية وفي كل لغة، ولهذا قال رحمه الله: (وبهذا قدحوا في دلالة القرآن على الصفات. قالوا: والآحاد لا تفيد العلم، فسدوا على القلوب معرفة الرب تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأحالوا الناس على قضايا وهمية ومقدمات خيالية، سموها عقلية وبراهين نقلية وهي في التحقيق: (( كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً ))[النور:39]) إلى آخر الآيات كما هو منقول هنا.
    3. العشر المقامات في إثبات وجوب الاحتجاج بأحاديث الآحاد

      ثم يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (والكلام على ذلك في عشر مقامات) أي: أن الكلام في إثبات وجوب التحاكم إلى الأحاديث والاحتجاج بها، وأخذ العقيدة عنها متى ما صحت، سواء كانت متواترةً أو آحاداً في عشر مقامات، وهذا من تبحره في العلم رحمه الله تعالى، وحقيقة أنه كما عبر ابن القيم في هذا الكتاب أنه قال: ما أتي به في هذا الكتاب أو غيره فهو من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فكلنا من بحره نغترف، وبالتالي فهذه العشرة المقامات مأخوذة من كلام الإمام ابن تيمية رحمه الله.
      يقول رحمه الله: (أحدها: في بيان إفادة النصوص الدلالة القطعية على مراد المتكلم) أي: أن الألفاظ تدل على المراد، وأن نصوص الكتاب والسنة تدل على مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم منها.
      ثم قال: (وقد تقدم الكلام في ذلك) أي: عندما تكلم عن موضوع طاغوت المجاز، وطاغوت التأويل، فمثلاً: صفة اليد، يقولون -بزعمهم-: إما أنها مجاز، وإما أن نؤولها, ولذلك ابن القيم لما هدم هذين الطاغوتين علمنا أن الألفاظ تدل على اليقين، ويعني هذا: إنكار المجاز والتأويل.
      قال: (والثاني: أن هذه الأخبار -الصحيحة- التي زعموا أنها آحاد، موافقة للقرآن، مفسرة لما جاء فيه، مفصلة لما أجمل، وهي أيضاً موافقة للأحاديث المتواترة، وبالتالي إذا قبلنا الآية فنقبل الحديث الذي جاء موافقاً لها، ولا تعارض والحمد لله بين هذه الأحاديث وبين الآيات، وهذا ذكر له الشيخ باباً وأطال فيه، ولعلنا نأتي على شيء منه.
      قال: (الثالث: بيان وجوب تلقيها بالقبول) أي: أن نبين أنه يجب على كل مؤمن أن يتلقى ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبول، ولا يسعه إلا ذلك، ولا يجوز له أن يرد أي حديث يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأي علة من العلل، والمقصود بالرد: الرفض، وليس المراد ألا يعمل به؛ لأنه رجح رواية أخرى أو حديثاً آخر.
      قال: (الرابع: إفادتها للعلم واليقين) أي: بيان أن هذه الأخبار الآحادية تفيد العلم واليقين.
      قال: (الخامس: بيان أنها لو لم تفد اليقين فأقل درجاتها أنها تفيد الظن الراجح، ولا يمتنع ثبوت الصفات والأفعال به) وهذا نقوله تنزلاً فقط.
      قال: (السادس: أن الظن الحاصل بها أقوى من الجزم المستند إلى القضايا الوهمية الخيالية التي يسمونها: عقلية).
      قال: (السابع: بيان أن كون الشيء قطعياً أو ظنياً أمر نسبي إضافي) أي: ما يكون قطعياً عندك يكون ظنياً عند غيرك والعكس.
      قال: (الثامن: بيان الإجماع المعلوم على قبولها وتلقيها) أي: فيكون أهل البدع شاذين خارجين عن الإجماع وعن الأمة.
      قال: (التاسع: بيان أن قولهم: إن خبر الواحد لا يفيد العلم قضية كاذبة باتفاق العقلاء).
      قال: (العاشر: جواز الشهادة لله سبحانه وتعالى بما دلت عليه هذه الأخبار، والشهادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بها عن الله، وهذا يرجع إلى تلقيها بالقبول).
      إذاً: القضية الأولى: أنها تفيد اليقين، فهذه في الرد على المجاز وعلى التأويل.
      القضية الثانية: موافقة أحاديث الآحاد للقرآن، وكمثال لذلك حديث: ( قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن )، وحديث الجارية: ( أين الله؟ قالت: في السماء )، وحديث القدم، إلى آخر هذه الأحاديث؛ فإنها لا تتعارض مع القرآن، بل هي موافقة له، مفسرة موضحة، فمثلاً: إذا قال الله تبارك وتعالى: (( أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ ))[الملك:16]، فإن أهل البدع يؤولونها فيقولون: ملكه أو سلطانه أو أمره أو عقوبته؛ حتى لا يثبتوا لله العلو، فنقول: الآية تدل على أنه تبارك وتعالى في السماء، أي: فوق العالم، وحديث الجارية حديث آحاد، فاتفقت الآية والحديث، والحديث بين وفصل، بمعنى: أنه لو جاء واحد وقال: إن المعنى أأمنتم من في السماء ملكه أو سلطانه أو عقوبته، نقول: لا، إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم ما قال: أين عقوبة الله؟ أو: أين أمر الله؟ أو: أين رحمة الله؟ وإنما قال: أين الله؟ فالمسئول عنه هو الله، وذات الله تبارك وتعالى، والجواب: كان (في السماء) كما في الآية، وبالتالي فلا تعارض بين هذا الحديث والآية، وابن القيم رحمه الله تعالى يقول: انظروا إلى موافقة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة أهل الكتاب لما جاء في التوراة و الإنجيل ، فما بالكم بموافقة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الحكمة ومن السنة لما جاء في القرآن؟ ونذكر دليلين على ذلك:
      الدليل الأول: النجاشي رضي الله تعالى عنه عندما سمع ما قرأه عليه الصحابة من صدر سورة مريم، فقال: [إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة] فإذاً اتفق ما جاء في القرآن مع ما جاء في التوراة وكذلك ما جاء في الإنجيل.
      الدليل الثاني: قال ورقة بن نوفل: [هذا هو الناموس الذي أنزل على موسى] إذاً اتفق القرآن مع هذه الكتب (( مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ ))[المائدة:48]، أي: مصدقاً لما معكم، فكيف بالتطابق والتوافق بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي الوحي الثاني أو الوحي الآخر الشارح المبين المفسر لما جاء به القرآن؟ لا بد أن تكون متطابقة وهكذا.
      ومثله أيضاً ما جاء في الصحيح وهو آحاد: ( أحل عليكم رضواني )، فأثبت الرضوان، وجاء في القرآن: (( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ))[المائدة:119]، وفي حديث الاستخارة: ( اللهم إني أستخيرك بعملك واستقدرك بقدرتك )، وقد جاء العلم والقدرة في القرآن، فهذه أحاديث الصفات جاءت في القرآن، وإن كان بعض الصفات لم يثبت إلا من خلال الأحاديث، فهو لا يتعارض مع ما جاء في القرآن.
  5. وجوب قبول خبر الآحاد والاحتجاج به

     المرفق    
    وننتقل بعده إلى الشاهد الذي نريده، وهو ما يتعلق بوجوب تلقي أحاديث الآحاد بالقبول، وأن هذا أصل عظيم من أصول عقيدة أهل السنة والجماعة .
    يقول رحمه الله: (قال البخاري : سمعت الحميدي يقول: كنا عند الشافعي) ابن القيم رحمه الله يبدأ بـالشافعي ويكثر النقل عنه؛ لأن أصل المشكلة: أن صاحب القانون الكلي الرازي شافعي، والأشاعرة أكثرهم شافعية، فعلم الكلام الذي يدَّعونه مخالف لما كان عليه ولما قرره وقعده الإمام الشافعي رحمه الله، وأذكر لكم كلمة عظيمة يجب أن تحفظوها عن غير الشافعي، وهي في بابها من أعظم ما قيل؛ لكن لم نقدمها لأنها لا تخدم هنا مثل ما تخدمه كلمات الشافعي ، وهي قول يزيد بن هارون -وهو من قرناء الشافعي - الإمام المحدث المشهور رحمه الله تعالى، معلماً تلاميذه -بأبسط عبارة- كيف يردون على أهل البدع المتكلمين، فيقول: قولوا لهم: نحن أخذنا ديننا عن أتباع التابعين، عن التابعين، عن الصحابة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنتم عمن أخذتم؟ فسيقول عن العقل، عن اليونان أو عن النظام أو العلاف أو عمرو بن عبيد أو واصل بن عطاء. إذاً هم أخذوا دينهم عن أهل الإفك والباطل والانحراف والزيغ والضلال، أما نحن فأخذنا عن المصدر الأساس الذي لا يمكن أن يكون أحد أعلم بالله تبارك وتعالى منه.
    قال رحمه الله: (فأتاه رجل فسأله عن مسألة، فقال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا، فقال الرجل للشافعي : ما تقول أنت؟ فقال الشافعي رحمه الله: [سبحان الله! تراني في كنيسة؟! تراني في بيعة؟! -أي: هل أنا يهودي أو نصراني؟ ترى وسطي زناراً؟!] وأهل الذمة كانوا يلزمون بأن يضعوا الزنانير، فهذا في العصور الوسطى كما يسمونها، وهي عصور خير بالنسبة لنا والحمد لله، ما كان عند الناس هويات يكتبون فيها الدين، ولهذا كان أهل الذمة يلزمون أن تكون الهوية في ملبسهم، وفي دوابهم، وهذا موجود في كتاب أحكام أهل الذمة، ومن ذلك لبس الزنار على الوسط، فيعرف الناس أنه ليس بمسلم، فيتعاملون معه على أنه كافر، فيقصد الشافعي أن هذا القول لا يقال إلا لمن كان يهودياً أو نصرانياً، أو لمن كان على غير ملة الإسلام، ثم قال ابن القيم: (وقال المزني وحرملة عن الشافعي: [إذا وجدتم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعوها ولا تلتفتوا إلى أحد] ولا تقل: ماذا قال فلان أو علان؟
    وقال الربيع عن الشافعي: [ليس لأحد قول مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الربيع : وسمعته روى حديثاً فقال له رجل: أتأخذ بهذا يا أبا عبد الله ؟ فقال: متى رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً صحيحاً -وهذا هو الشرط- فلم آخذ به فأشهدكم أن عقلي قد ذهب؟].
    إذاً ليس هناك عقل يعارض الوحي أبداً، ثم يقول: (وتذاكر الشافعي و إسحاق ابن إبراهيم الحنظلي بـمكة و أحمد بن حنبل حاضر، فقال الشافعي : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وهل ترك لنا عقيل من دار؟ )، أي: كان الكلام في دور مكة ، فقال إسحاق : حدثنا يزيد عن الحسن (ح) وأخبرنا أبو نعيم و عبدة عن سفيان عن منصور عن إبراهيم أنهما لم يكونا يريانه، أي: بيع رباع أو دور مكة ، بينما الحديث الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وهل ترك لنا عقيل من دار؟ )، أي: لو ترك لنا لملكناها، ولو ملكناها لبعناها، قال: فقال الشافعي لبعض من عرفه: من هذا؟ قالوا: إسحاق بن إبراهيم الحنظلي : فقال الشافعي : أنت الذي يزعم أهل خراسان أنك فقيههم؟ -وكان إماماً عظيماً رحمه الله تعالى- ما أحوجني أن يكون غيرك في موضعك -أي: أنا أقدرك، فأنت إمام- لو كان غيرك في موضعك لكنت آمر بفرك أذنيه، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول أنت: عطاء و طاوس و منصور عن إبراهيم و الحسن ، وهل لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قول؟ ثم ذكر كلاماً للشافعي رحمه الله تعالى مفاده: لم أسمع أحداً يقال عنه: إنه عالم، أو يقول عن نفسه: إنه عالم، يخالف في أن الله سبحانه وتعالى فرض اتباع أثر رسوله صلى الله عليه وسلم والتسليم لحكمه؛ لأن الله لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه، وإنما فرض الله علينا وعلى من قبلنا وبعدنا قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يختلف فيه أحد أن قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض وواجب.
    والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.