المادة كاملة    
إن مسألة الاستثناء في الإيمان من المسائل التي وقع فيها الخلاف بين السلف، فمنهم من أوجبه وله في ذلك أدلة، ومنهم من حرمه وله أدلة كذلك، ومنهم من قال بجوازه وتركه، وهؤلاء أسعد بالدليل من الفريقين، وهو القول الصحيح، والله تعالى أعلم.
  1. المأخذ الثاني للسلف الذين يرون الاستثناء في الإيمان

     المرفق    
    ‏الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    فقد قال رحمه الله -مأخذ السلف الذين يرون الاستثناء-: (المأخذ الثاني: أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله، وترك ما نهاه عنه كله) أي: أن السلف نظر بعضهم إلى أن الإيمان إذا أطلق ولم يقيد بالاستثناء أو بغيره؛ فإنه يتضمن فعل كل ما أمر الله به، وترك كل ما نهى عنه، وعلى هذا فلا يستطيع أن يدعي لنفسه هذا فيقول: أنا مؤمن ولا يستثني، فكأنه زكى نفسه؛ لأنه فعل كل ما أمر الله به، وترك كل ما نهى الله عنه، إذ من المعلوم أن كل شعب الإيمان هي داخلة في الإيمان، وأن الإيمان بضع وستون، أو بضع وسبعون شعبة، فكل الأعمال التي أمر الله تبارك وتعالى بها، وكذلك إيمان العبد واجتنابه لما نهى الله تبارك وتعالى عنه، كل ذلك من شعب الإيمان، ومن نظر إلى هذا قال: كيف أقول: أنا مؤمن بإطلاق ولا أستثني.
    ثم قال: (فإذا قال الرجل: أنا مؤمن، بهذا الاعتبار فقد شهد لنفسه أنه من الأبرار المتقين القائمين بجميع ما أمروا به، وترك كل ما نهوا عنه، فيكون من أولياء الله المقربين، وهذا من تزكية الإنسان لنفسه، ولو كانت هذه الشهادة صحيحة، لكان ينبغي أن يشهد لنفسه بالجنة إن مات على هذا الحال).
    وقوله: (وهذا من تزكية الإنسان لنفسه) يفهم النهي؛ لأن الله تعالى يقول: (( فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ))[النجم:32]، ويقول: (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ ))[النساء:49]، فإذاً: بالمفهوم يدل على أن هذا منهي عنه.
    ثم قال: (ولو كانت هذه الشهادة صحيحة -وهذه جملة مستأنفة- لكان ينبغي أن يشهد لنفسه بالجنة إن مات على هذه الحال) وهذا ما قاله عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه كما في الروايات التي أوردناها سابقاً، أي: أنه رأى أن هذه لازمة لتلك فقال: لو قلت بإحداهما لأتبعتها الأخرى، أي: إذا قلت: أنا مؤمن، فيلزم منه أن أقول: أنا من أهل الجنة؛ لأن المؤمن الذي استكمل شرائط الإيمان وشعبه وأركانه وواجباته لا ريب أنه من أهل الجنة، وكما أن الإنسان يتورع أن يقول: إني من أهل الجنة، فكذلك لا يقول عن نفسه: إنه مؤمن؛ لأن هذا لازم لهذا، وهذه وجهة نظر هؤلاء.
    ثم يقول: (وهذا مأخذ عامة السلف الذين كانوا يستثنون). وهؤلاء يختلفون عن الأشعرية في المأخذ، فهذا مأخذهم، وليس مأخذهم الموافاة والقبول، ثم قال: (وإن جوزوا ترك الاستثناء بمعنى آخر) والمقصود بـ(جوزوا): بعضهم، وليس أن الذين قالوا بالاستثناء جوزوه؛ لأنه يتكلم الآن عن السلف، فإذا قال: السلف جوزوا، والسلف منعوا، فالمقصود: أن بعضهم جوز، وبعضهم منع، ثم يقول: كما سنذكره إن شاء الله تعالى. أي: من جوز تركه فلمعنىً آخر.
  2. أدلة من أجاز الاستثناء في الإيمان

     المرفق    
    ثم قال: (ويحتجون أيضاً بجواز الاستثناء فيما لا شك فيه) وهنا نبدأ بمناقشة أدلة من أجاز أو ندب إلى الاستثناء فيقول: إنه ليس شكاً -كما يزعم الذين يحرمونه- ولا يقتضي الشك. ‏
    قال: (ويحتجون بجواز الاستثناء فيما لا شك فيه، كما قال تعالى: (( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ))[الفتح:27]) وهذا هو الدليل الأول.
    والدليل الثاني: قال رحمه الله: [وقال صلى الله عليه وسلم حين وقف على المقابر: ( وإنا إن شاء الله بكم لاحقون )، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله )، ونظائر هذا]. أي: أن له نظائر.
    1. الدليل الأول: قوله تعالى: (لتدخن المسجد الحرام...)

      أما الآية فواضحة في الاستدلال بها، وذلك أنها من كلام الله تبارك وتعالى، وهو الذي وعد رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك: (( لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ ))[الفتح:27]، فهذا من الله، والله تعالى علام الغيوب، والله تعالى يعلم أنهم سيدخلون المسجد الحرام، وأنهم سيدخلون بهذه الصفات، ومع تأكيده سبحانه لهذا إلا أنه علقه بالمشيئة: (إن شاء الله)، مع تحقق وقوعه وعلمه عز وجل بذلك، ونحن نعلم أن الله سبحانه وتعالى يعلم كل شيء، فهو يعلم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، وهو كتب في الذكر كل شيء كما في الحديث الصحيح من حديث عمران بن حصين : ( إنه كتب كل شيء قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة )، وفي صحيح مسلم أيضاً من حديث عبد الله بن عمر : ( قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة كتب في الذكر كل شيء، وأول ما خلق القلم... )، أي: أن أول ما خلقه الله تعالى: القلم، ثم أمره أن يكتب فكتب كل ما هو كائن إلى قيام الساعة، فإذا أخبر الله تبارك وتعالى عن أمر أو خبر تضمن المشيئة، أو قول: إن شاء الله، فلا يمكن أن يحمل ذلك على الشك؛ لأن الشك إنما هو نتيجة تردد وضعف العلم وعدم اليقين، أي: أن عنده ظن لكن غير مستيقن، وهذا هو الشك، والإنسان يشك لأنه غير موقن، أما الله تبارك وتعالى الذي صفته وعلمه -كما ذكرنا- لا يمكن أن يتطرق إلى خبره الشك، فهذا دليل واضح على جواز أن يقال: إن شاء الله فيما لا شك في وقوعه.
    2. الدليل الثاني: قوله عليه الصلاة والسلام: (وإنا إن شاء الله...)

      وأما قوله صلى الله عليه وسلم في دعائه عند زيارة المقابر: ( وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ) مثل ذلك، إذ ما من حي إلا وهو واثق أنه يوماً ما سيلقى الله عز وجل، وسيلحق بهؤلاء المقبورين، قال الشاعر:
      كل ابن أنثى وإن طالت سلامته            يوماً على آلة حدباء محمول
      فالكافر والمؤمن، والبر والفاجر، الكل يوقن بذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر الناس يقيناً بالآخرة وما أعد الله تبارك وتعالى فيها للمؤمنين الأبرار من النعيم، وللكافرين الفجار من الجحيم والعياذ بالله، فعندما يخبر النبي صلى الله عليه وسلم في كلامه لأهل المقابر من المؤمنين ويقول: ( وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ) فلا يكون معنى الاستثناء هنا: الشك مطلقاً، ولا يصح أن يفسر به، ومع ذلك فقد ورد.
      إذاً يجوز قول: إن شاء الله، أو يجوز الاستثناء فيما لا شك فيه، وحتى إذا نظرنا من الناحية اللغوية البلاغية فلا شك أن كلام الله تبارك وتعالى هو أبين الكلام وأبلغه وأعلاه وأعظمه وأشرفه، وكذلك فإن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أفصح كلام البشر وأبينه وأعظمه، فلا يمكن أن يقع في كلامه ما يقل أو ينزل عن مرتبة الفصاحة والبلاغة والبيان.
    3. الدليل الثالث: قوله عليه الصلاة والسلام: (إني لأرجو أن أكون...)

      ثم قوله صلى الله عليه وسلم أيضاً في الحديث الذي رواه الإمام مسلم رحمه الله، وكذلك البخاري رحمه الله من وجه آخر: ( إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله )، وهذا في قصة سؤال النفر الثلاثة عن عبادته صلى الله عليه وسلم، إذ إنهم تقالوها، ثم في نهاية الحديث قال عليه الصلاة والسلام: ( إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأتقاكم له ) كما في الرواية الأخرى، فهل كلمة: (أرجو) هنا للتردد أو للشك؟ إنها بمعنى الاستثناء، ولذلك ورد من جملة كلام السلف: أنه إذا قيل لأحد: أمؤمن أنت؟ قال: أرجو، وهذا جعلناه في قسم الذين يستثنون؛ لأنه قال: أرجو، وما جزم بأن قال: نعم، وبالتالي فمن يوجب الاستثناء يقول: هذا دليل لنا، والشاهد أن قوله صلى الله عليه وسلم: (أرجو) ليس فيما هو محل الشك، إذ لا شك ولا ريب أنه صلى الله عليه وسلم أخشى الأمة وأتقاهم وأعرفهم بالله، وليس في ذلك شك، ونحن لا نقصد بكلامنا هنا الاستثناء اللغوي الذي يكون بإلا أو بغير أو خلا أو عدا أو حاشا إلى غير ذلك من الحروف أو أفعال الاستثناء، لكن نقصد الاستثناء بمعناه المعنوي البلاغي وليس النحوي، وكما ذكر الطبري رحمه الله فقال: أي صلة يوصل بها قول العبد: أنا مؤمن، فهي استثناء، أي: إذا قال: أنا مؤمن فيما أرجو، وفيما أحسب، أرجو أن أكون مؤمناً، أنا مؤمن إن شاء الله، أنا مؤمن إن سلمت من المعاصي والذنوب، أنا مؤمن إن تقبل مني عملي، فكل هذه استثناء.
      إذاً: فهذه ثلاثة أدلة لمن يرون الاستثناء ويقولون: إن ذلك لا يقتضي الشك.
  3. حجة من يقول بحرمة الاستثناء في الإيمان

     المرفق    
    ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى: (وأما من يحرمه، فكل من جعل الإيمان شيئاً واحداً) وهم الخوارج و المرجئة ، لكن كيف يمكن التوفيق بين كلام الشارح (كل) وبين أن الأشاعرة وهم مرجئة وعندهم أن الإيمان شيء واحد، وهم يقولون: بوجوب الاستثناء؟
    والجواب: أن المقصود ما عدا من تقدم، وهم أهل القول الأول، فقول الشارح: (وأما من يحرمه) عكس من يوجبه، ولا بد أن يخرج من يوجبه، ثم قال: (فيقول: أنا أعلم أني مؤمن، كما أعلم..) وأصل كلام الشيخ مأخوذ من كلام شيخ الإسلام في آخر الإيمان الكبير ، إذ يقول رحمه الله: (وأما من يحرمه فهم المرجئة والجهمية ونحوهم) وهم في الحقيقة كما تقدم ما عدا الأشعرية الكلابية ، فهؤلاء مأخذهم أن الإيمان شيء واحد، أي: أنهم بنوا على الأصل الذي قالوا به: لا يزيد لا ينقص، لا يتركب لا يتبعض، وإنما هو شيء واحد وهو التصديق القلبي.
    إذاً فهؤلاء يقولون: يحرم الاستثناء، ومعهم المعتزلة -كما ذكر الشيخ- والخوارج ، لكن هؤلاء لهم مأخذ وأولئك لهم مأخذ، مع أن الجميع يقولون: إنه شيء واحد، فالخارجي والمعتزلي يقول: إنه شيء واحد، وهو كل أعمال الطاعات -ولهذا يحرم الاستثناء- ولو نقص منها شيء كفر العبد، فإذا قال العبد: إن شاء الله كفر، والمرجئ الجهمي يقول: هو شيء واحد وهو مجرد التصديق، فإذا كان لديه التصديق فقط ويقيده ويقول: إن شاء الله، فإنه ما بقي عنده شيء من الإيمان، وبالتالي فيكفر؛ ولذلك حرموا الاستثناء فيه، وهذا له نظره، مع اختلافهما نظراً أو تبعاً لاتفاقهما في الأصل، وهو أنه شيء واحد، وهذا يؤكد ما قلنا: إن أصل ضلال الفرق كلها في الإيمان هو اعتقادهم أنه شيء واحد، ولو أنهم اعتقدوا كما اعتقد السلف الصالح، وكما هو صريح القرآن وصريح السنة: أن الإيمان يزيد وينقص، يتبعض ويتجزأ إلى شعب وأمور وشرائع، وله سنن وواجبات وأركان، لأراحوا أنفسهم من هذا العمل، ثم يقول: [فيقول: أنا أعلم أني مؤمن، كما أعلم أني تكلمت بالشهادتين] أي: إن كان خارجياً أو معتزلياً يقول: أنا أعلم أني مؤمن، كما أعلم أني قلت: لا إله إلا الله، فكيف أقول: إن شاء الله، وأنا أقول: بكفر من فعل كبيرة من الكبائر؟ إذاً: لا أستثني في إيماني فأكفر، وأيضاً المرجئ يقول: الإيمان عندي هو مجرد التصديق، فيكفي أن أقول: أشهد أن لا إله إلا الله، فلماذا أستثني؟ وإذا كان شيئاً واحداً واستثنيت فيه فما بقي عندي شيء، يقول على لسان الجميع: (فقولي: أنا مؤمن، كقولي: أنا مسلم) فهم - المرجئة - لا يفرقون بين الإسلام والإيمان، وناقشناهم في ذلك عما قريب، قال: (فقولي: أنا مؤمن، كقولي: أنا مسلم، فمن استثنى في إيمانه فهو شاك فيه، وسموا الذين يستثنون في إيمانهم الشكاكة) وتطور الخلاف والتعصب المذهبي المقيت الذي فرق الأمة -ولا يرضى به الأئمة الأربعة- حتى أفضى ببعضهم إلى أن يقول في بعض: إنه يحرم الزواج من الآخر، مثل أن تقول الحنفية: إنه يحرم الزواج من الشافعية؛ لأنها تشك في إيمانها، والآخر يقول: ويحرم أيضاً الزواج من الحنفية؛ لأنها إذا قالت: أنا مؤمنة، فقد جزمت بغير علم، وتكلمت في الموافاة والقبول، ولا علم لها بالموافاة والقبول.
    ولو نظرنا إلى سيرة السلف الصالح، فهذا معاذ من جهة، وعبد الله بن مسعود من جهة، ومع ذلك ما شنع أحدهم على الآخر، ولا لامه ولا عابه، ولا قال فيه -ولا قريب- من هذا القول، ولا شيء يؤدي إلى هذا القول؛ ولذلك كما يقول شيخ الإسلام رحمه الله: (العلماء يخطِّئون، وأهل الأهواء يكفِّرون أو يبدِّعون) أي: فيما بينهم البين، فيقولون: هذا خطأ والصواب كذا، ولكن أهل الأهواء المخطئ عندهم كافر ومبتدع، مع أنه لا معصوم من الخطأ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يبلغ عن الله، والسلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم اختلفوا في بعض الأحكام، واجتهدوا في بعض الأمور، حتى ما يتعلق بالعقيدة، مثل: هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء أم لم يره؟ ومع ذلك ما قال أحد منهم: هذا مبتدع أو كافر أو ضال، وإنما كل منهم يقول: أخطأ فلان، حتى العبارة الشديدة التي نقلت: كذب ابن عمر ، فالمقصود: أخطأ ابن عمر ، أي: أنه خالف الواقع والصواب فقط، لا كذب بمعنى افترى، وهذه أشد ما ورد من بعضهم لبعض رضي الله تعالى عنهم، وهذا هو منهج العلماء، وكما قال عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله كلمة عظيمة: (العلماء يكتبون مالهم وما عليهم). أي: أنهم يذكرون أدلة التحريم وأدلة الجواز، ثم يختارون ما يرون أنه أقرب لمرضاة الله، لا لشهوة ولا لهوى -هذا منهج العلماء- وأهل الأهواء يكتبون ما لهم فقط. مثل: المنافقين، قال الله فيهم: (( وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ))[النور:49]، أي: أن من علامات المنافقين: أنهم إذا علموا في خصوماتهم أن الحق لهم في الشرع قالوا: نحن مسلمون، ولا نريد إلا حكم الله، وإن كان عليهم تهربوا من حكم الله وقالوا: العادات، النظام.. وهذا مرض في قلوبهم، قال تعالى: (( أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ ))[النور:50]، والمرض والريبة والشك والظلم موجود في أهل الأهواء، قال تعالى: (( بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ))[النور:50]، فهي كلها موجودة في أتباعهم، وهم أهل الأهواء أعاذنا الله وإياكم منها، وهم دائماً هكذا، فإذا جاء أحد هؤلاء الشكاكة أو المرجئة ، وقرأ أو سمع عن أحد من الصحابة ما يوافق الاستثناء أشاعه وقال به، وترك الآخر، والآخر بالعكس، فإذا وجد ضد ذلك مما يؤيد كلامه نشره وأذاعه، وترك الآخر، مع أن هذا في سطر وذاك في سطر، كما رأينا الإمام أبا بكر بن أبي شيبة رحمه الله يذكر قول من يقول بالاستثناء، وبعده يعقب فيقول: أحد غير ذلك، وهكذا دون أن يفصل هذا عن هذا، وإنما يروي بالسند إلى كل أحد من السلف، فمنهم من يقول: أستثني، ومنهم من يقول: لا أستثني. ‏
  4. جواب الذين يحرمون الاستثناء في الإيمان على من قال به

     المرفق    
    ثم ذكر الشارح جواب الذين يحرمون الاستثناء فقال: (وأجابوا عن الاستثناء الذي في قوله تعالى: (( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ ))[الفتح:27] بأنه يعود إلى الأمن والخوف، فأما الدخول فلا شك فيه، وقيل: لتدخلن جميعكم أو بعضكم؛ لأنه علم أن بعضهم سيموت) وهذا قد يكون له وجهة في بادئ الأمر، أي: أنه ما دام الله تعالى وعدهم في هذه السنة مثلاً ولم يدخلوا إلا في العام القادم مثلاً، أو ما بين الوعد وحلول الأجل قد يموت منهم من يموت.
    إذاً: الاستثناء في الآية استثناء مقصود، أي: أنه للشك، ومقصود الاستثناء: أن بعضهم سيموت، فهو استثناء على حقيقته، أي: أنه تعليقاً وليس تحقيقاً، فالأمر معلق بدخول البعض، أو أن الأمر معلق بالأمن وليس بالدخول.
    ثم يقول: [وفي كلا الجوابين نظر] بل نقول: وكلا الجوابين خطأ، قال: [فإنهم وقعوا فيما فروا منه] أي: في الحالين [فأما الأمن والخوف فقد أخبر أنهم يدخلون آمنين، مع علمه بذلك، فلا شك في الدخول، ولا في الأمن] أي: أنه كما يعلم أنهم يدخلون، يعلم أنهم يدخلون آمنين [ولا في دخول الجميع أو البعض، فإن الله قد علم من يدخل فلا شك فيه أيضاً] أي: أنهم وقعوا فيما فروا منه، فالله تعالى يعلم فيمن يدخل ممن لا يدخل، ومع ذلك قال: (إن شاء الله)، ثم قال: [فكان قول: (إن شاء الله) هنا تحقيقاً للدخول، كما يقول الرجل فيما عزم على أن يفعله لا محالة: والله لأفعلن كذا إن شاء الله] فالرجل من المسلمين إذا عزم على أن يفعل شيئاً مهما كان عازماً جازماً يقول: إن شاء الله، وليس هذا جائزاً فحسب، بل هو مندوب، وربما كان واجباً، والله يقول: (( وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ))[الكهف:23-24]، فهذا أقل ما يقال فيه: الندب إن لم يكن واجباً، ولا ينبغي للمسلم أن يتركه؛ لأن كل شيء معلق بإرادة الله، وفيه من الفوائد الجليلة، ومنها: أن تعليق ذلك بإرادة الله تبارك وتعالى، ورد كل شيء إليه: (( وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ))[الإنسان:30].
    ومنها: أن العبد إذا عجز لسبب من الأسباب، وكان السبب خارجاً عن إرادته؛ فإنه لا يحنث إذا قال: إن شاء الله، وهذا مخرج وخير للمؤمن، والنبي صلى الله عليه وسلم جاءنا بالحنيفية السمحة الميسرة السهلة، و(ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن حراماً)، فالإنسان يقول: إن شاء الله ولو كان عازماً؛ فإن حيل بينه وبين ما أراد فعله لم يحنث ولم يأثم، ثم يقول الشارح: (كما يقول الرجل فيما عزم على شيء أن يفعله لا محالة: والله لأفعلن كذا إن شاء الله)، قال: [لا يقولها لشك في إرادته وعزمه، ولكن إنما لا يحنث الحالف في مثل هذه اليمين] وهنا مسألة: لماذا قال الفقهاء: إن الحالف لا يحنث إذا علق؟ لأن الحلف لا يجوز بغير الله، فلو حلف بالطلاق لا يجوز، لكن لو علق الطلاق، كأن قال: لو فعلت كذا فأنتِ طالق إن شاء الله؛ فإنه لا يحنث كما قال الشارح رحمه الله: [لأنه لا يجزم بحصول مراده] وليس لأنه لم يعزم لفعل المراد، وإنما لا يجزم بحصول المراد، فهو عازم، فإذا قلت: آتيك غداً الظهر إن شاء الله، وأنا عازم أن آتيك، فقولي: إن شاء الله ليس إضعافاً للعزيمة والإرادة، لكن لأنني لا أعلم، فقد يتحقق لي ذلك أو لا يتحقق، أي: من عند الله، أما من عند نفسي فأنا عازم وجازم. فإذاً: الاستثناء يكون للتحقيق وليس للتعليق.
    ثم يقول رحمه الله: [وأجيب بجواب آخر لا بأس به] أي: أن الشارح رحمه الله يقول: هذا الجواب يحتمل، وهو أن الله تبارك وتعالى عندما قال: (( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ))[الفتح:27] قال رحمه الله: [وهو أنه إنما قال ذلك تعليماً لنا كيف نستثني إذا أخبرنا عن مستقبل] أي: أن الله عز وجل لا يتكلم بذلك، وهو مراده عز وجل ما عنده ما في نفسه عز وجل، إنما مراده التعليم لنا، فهي تدل أو تؤيد ما جاء في آية الكهف: (( وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ))[الكهف:23-24] فكذلك إذا أخبرت عن أمر وأنت متأكد من وقوعه فقل: إن شاء الله؛ لأن الله تبارك وتعالى الذي يعلم السر وأخفى قد أخبر عن أمر هو أعلم بوقوعه وقال: إن شاء الله، وقول الشيخ: (لا بأس به) هنا؛ لأن عليه شيء من الاعتراض، لكن المعنى في ذاته مقبول، ثم يقول رحمه الله: [وفي كون هذا المعنى مراداً من النص نظر] أي: أن الله تبارك وتعالى أراد بقول: (إن شاء الله) في الآية أن يعلمنا أن يكون هذا هو المراد في ذلك نظر، قال: [فإنه ما سيق الكلام له إلا أن يكون مراداً من إشارة النص] أي: لم يورد هذا الكلام لغرض التعليم، لكن يؤخذ من دلالة الإشارة أو من دلالة الفحوى، يقول الشيخ المعلق هنا: (إشارة النص هو ما يدل عليه اللفظ بغير عبارته، ولكنه يجيء نتيجة لهذه العبارة، فهو يفهم من الكلام، ولكن لا يستفاد من العبارة ذاتها) أي: المدلول الذي يدل عليه النص أو الدليل من خارج العبارة، وليس من العبارة ذاتها، مثلوا له بقوله تعالى: (( وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ))[البقرة:233] فهذا النص أفاد بعبارته: أن نفقه المولود على والده، وأفاد بإشارته: أن الولد تابع لأبيه منسوب إليه، أي: ما دام هو الذي ينفق عليه فهو تابع له منسوب إليه، يقول: وفي إدراك إشارة النص.. أي: أن المقصود إشارة النص، فهذه أشياء استنباطية يفهمها بعض الناس ولا يفهمها البعض الآخر، وهنا مثالاً لعله أوضح من هذا، وهو: ما فهمه عمر رضي الله تعالى عنه بعلمه وفهمه وتمكنه، فقد كان يجالسه كبار الصحابة، وكان يدني إليه من ليس من كبارهم في السن، كـعبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه، وقد سألهم رضي الله تعالى عنه عن قول الله تبارك وتعالى: (( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ))[النصر:1-3] ما المراد منها؟ فأجاب كثير منهم فقالوا: أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم إذا فتح الله عليه أن يسبح ويستغفر، وهذا هو اللفظ، وليس فيه شيء أكثر من ذلك، لكن ابن عباس رضي الله تعالى عنه فطن إلى دلالة الإشارة أو إشارة النص فقال: هذا إشعار من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بدنو أجله، أي: أن رسول الله قد أدى المهمة بالفتح، واكتمل الدين، واكتمل الواجب الذي عليك، فبقي عليك الاستغفار، ونحن نعلم أن أي عمل نهايته الاستغفار، فإذا سلم العبد من الصلاة يستغفر؛ لأنه انتهى من العمل، ومن هنا نفهم أن النص له دلالة، وهناك دلالة إشارية بالإشارة أو بالفحوى خارج ألفاظ، وخارج عبارات النص يفهمها ويستنبطها من شاء الله ومن فتح الله عليه، وهذا كما هو أسلوب الشيخ الهروي الأنصاري في كتاب مدارج السالكين ؛ فإنه يذكر كثيراً من الأمور هي من باب الإشارة وليست من باب النص، كما أخذ من قوله تعالى: (( أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ))[الفرقان:45] فأخذ منها مقام البسط، والظل ليس له علاقة بالبسط الذي هو حالة نفسية عند الإنسان، وهكذا فهو نوع من الاستنباط، ولذلك نجد التفسير الصوفي للقرآن يسمى: التفسير الإشاري؛ لأنهم يستنبطون ويأخذون من الإشارة لا من فحوى النص، فلما يجد آية حتى لو كانت من آيات الرضاع، حتى لو كانت من آيات الطلاق، يستنبط ويأتي بمعنى إشارة، وبعضها حق وبعضها باطل، فمثلاً يقول الله تبارك وتعالى: (( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ))[المائدة:18]، فقالت الصوفية : الحبيب لا يعذب الحبيب، فهم دائماً يزعمون حب الله، ويتغنمون وينشدون ويقولون: هذا كله في حب الله، فإذا قيل: هذا خطأ، قالوا: الحبيب لا يعذب الحبيب أبداً؛ لأنه قال: (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ..)، أي: لو كنتم أحباؤه ما عذبكم، وها نحن نحبه، فيستدلون بها خطأ، مع أنه فيها فحوى ومفهوم وإشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى لو كانوا كذلك ما عذبهم، لكن لا يكونون أحباء الله إلا إذا استقاموا على طاعة الله، قال تعالى: (( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ))[آل عمران:31] وهكذا حتى يأتون بغرائب في هذا القبيل.
    وقوله تعالى: (( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ))[البقرة:222] فالآية واضحة الدلالة في الحيض، ولا يوجد أي تفسير غير هذا التفسير، فيقول الصوفية : المقصود به ما يخرج من القلوب من الغثاء والأكدار، وهذا كلام تجدونه في روح المعاني وأمثاله، وهو كلام لا حقيقة له من جهة اللغة ولا من جهة الشرع، وإنما هو كما يقولون: بالإشارة، أي: أشار إلى كذا، إذاً: التفسير الإشاري أو الاستنباط الإشاري منه ما هو حق، ومنه ما هو باطل، وليس المقصود من الآية ذلك؛ لأنها لو كانت كذلك لما قلنا: إنه من النوع الإشاري.
  5. جواب الزمخشري على جواب من يحرمون الاستثناء في الإيمان

     المرفق    
    قال رحمه الله تعالى: [وأجاب الزمخشري بجوابين آخرين باطلين] وهذا من التكلف -والعياذ بالله- الذي ذمه الله: (( وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ))[ص:86]، والزمخشري إمام من أئمة المعتزلة، لقب بجار الله؛ لأنه جاور بـمكة حتى توفي بها، ولهذا رثوه الشعراء فقالوا:
    وأرض مكة تذر الدمع مقلتها            حزناً لفرقة جار الله محمود
    واسمه: جار الله محمود بن عمر الزمخشري ، وتفسيره المعروف: الكشاف ، فقد ذكر فيه الاعتزال، وذكر هذا الكلام في الجزء الثالث من الكشاف، فيقول الزمخشري رحمه الله جواباً عن هذه الآية: [وهما أن يكون الملك قد قاله!] ونعوذ بالله من هذا التكلف، أي: أن الله تعالى يقول: (( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ))[الفتح:27] فقال الملك: (إن شاء الله)، [فأثبت قرآناً] قال: [أو أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي قاله] فأثبت قرآناً؛ لا يمكن أن يقول الله: إن شاء الله، إذ إن الله عالم، وبالتالي تكون هذه من كلام الملك، أو من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس بلازم أنه أراد أن غير القرآن أدخل في القرآن، فيمكن أن يقول: إن الله أقره فأصبحت قرآناً، كما في قول عمر رضي الله عنه: (( فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ))[المؤمنون:14]، لكن لم نخرج من المشكلة، ويلزم من هذا باطل عظيم، وهو أن يكون من القرآن ما ليس منه، وهذا هو ما ذكره الشارح رحمه الله -في نسخة أخرى- بعد هذا فقال: [فعند هذا المسكين يكون من القرآن ما هو غير كلام الله، فيدخل في وعيد من قال: (( إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ))[المدثر:25] نسأل الله العافية] فهذا الكلام مذكور في بعض النسخ أنه من كلام المؤلف، وفي بعض النسخ أنه من تعليق بعض النساخ، وهي عبارة واضحة.
    وهناك طوائف تقول: إن كلام الله هو القائم بنفسه، وأما هذا الذي نقرأه ونسمعه فهو عبارة أو حكاية عن كلام الله، وهذا قول أكثر الأشعرية ، أي: أنهم يقولون: إن كلام الله هو المعنى القائم بالنفس، أما الألفاظ أو الحروف أو الأصوات فهي حكاية أو عبارة عنه، فقيل: من الحاكي؟ ومن المعبر؟ قالوا: إما جبريل، وإما محمد صلى الله عليه وسلم، فيكون الله خلق الحروف والأصوات في جبريل أو في محمد؛ فلهذا يجمعون بين كلام السلف وكلام المعتزلة فيقولون: مخلوق وغير مخلوق! كيف؟ قالوا: إذا أردنا المعنى القائم بنفسه فغير مخلوق، وإذا أردنا المكتوب في الصحف المحفوظ في الصدور فهو مخلوق؛ لأنه حكاية أو عبارة، والكلام عندهم: هو الكلام النفسي كما قال الشاعر -كما يزعمون-:
    إن الكلام لفي الفؤاد وإنما            جعل اللسان على الفؤاد دليلاً
    فقالوا: هذا البيت يدل على أن الكلام هو ما في النفس، وأن ألفاظه مجرد تعبير، فكذلك كلام الله، وهذا قياس الخالق على المخلوق. فإذاً: كلام الله هو المعنى القائم بنفسه، وأما ما يقرأه القراء ويكتبوه ونسمعه، فهذا كما قال الله تبارك وتعالى: (( وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ))[التوبة:6]، أي: يسمع حكاية عن كلام الله، أو عبارة عن كلام الله، والدليل على أنه من كلام جبريل أو محمد صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا: الله تعالى يقول: (( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ))[الحاقة:40]، ففي إحدى الآيتين أنه جبريل، وفي الأخرى أنه محمد صلى الله عليه وسلم، وبالتالي فإما هذا وإما هذا، أو هما معاً، وقالوا: إن معنى قوله تعالى: (( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ))[الحاقة:40] أي: أن الذي أوحاه أو بلغه ليس كاهناً ولا شاعراً ولا شيطاناً، قال تعالى: (( هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ))[الشعراء:221-222]، إنما هو قول رسول كريم، فالذي ألقاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو الرسول الكريم، وكونه رسولاً وكونه كريماً وكونه ملكاً وكونه الروح القدس يستحيل أن يكذب، وأن يفتري على الله، وما جاء جبريل يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: هذا كلامي، وإنما يقول: هذا كلام الله، وكلامهم هذا باطل وواضح -إن شاء الله- التناقض والبطلان في غير هذا كما قد أوضحناه سابقاً، إنما المراد هنا بيان مناقضتهم لعقيدة السلف، عقيدة أهل السنة والجماعة ، وخروجهم عن حد المنقول والمعقول، فهذا هو القول الذي قالوه، ووافقهم عليه الزمخشري ، ولكن من وجه آخر.
  6. جواز الاستثناء في الإيمان وتركه

     المرفق    
    ثم قال الشارح رحمه الله: [وأما من يجوز الاستثناء وتركه فهم أسعد بالدليل من الفريقين، وخير الأمور أوسطها، فإن أراد المستثني الشك في أصل إيمانه منع من الاستثناء، وهذا مما لا خلاف فيه، وإن أراد أنه مؤمن من المؤمنين الذين وصفهم الله في قوله: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ))[الأنفال:2-4]، وفي قوله تعالى: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ))[الحجرات:15] فالاستثناء حينئذ جائز، وكذلك من استثنى وأراد عدم علمه بالعاقبة، وكذلك من استثنى تعليقاً للأمر بمشيئة الله، لا شكاً في إيمانه، وهذا القول في القوة كما ترى].
    إذاً: من يجوز الاستثناء وتركه باعتبارات معينة، فهو أسعد الفريقين، وهذا هو القول الصحيح، وهو ما عليه السلف، ويكون عندنا أربع فقرات:
    الأولى: إن أراد المستثني بالاستثناء الشك في أصل إيمانه، أي: يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، فهو لا يدري أهو مؤمن أم لا؟ فهذا يمنع منه، وهذا مما لا خلاف فيه بين السلف أو من غيرهم.
    الثانية: إن أراد أنه من المؤمنين الذين وصفهم الله تعالى في القرآن، كما في آيات الأنفال أو آيات الحجرات أو آيات المؤمنون، فالاستثناء حينئذ جائز.
    الثالثة: أن من استثنى وأراد عدم علمه بالعاقبة، لكن يدعو الله أن يثبته، ويرجو الله أن يلقاه على الإيمان إن شاء الله، وهذا غير الموافاة، مع أنهما قريبان في المعنى، لكن لا ننسى أن الذين قالوا: بالموافاة يوجبون الاستثناء، وهذا الكلام له علاقة بالصفات، فـالأشاعرة الذين يوجبون الاستثناء يقولون: قد أعمل صالحات، وأجتهد في كل أعمال الطاعات، ومع ذلك ربما لا يتقبل مني، وربما يجعلني في النار، فلابد أن تقول: إن شاء الله، بل حتى تقول: هذا ثوب إن شاء الله، هذا حديد إن شاء الله؛ لأنه يقول: ما ندري عن شيء، فربما أدخل الجنة أعدى أعدائه، وربما أدخل النار أحب أحبابه، وهذا لا يجوز، أما المؤمن فهو يخاف على نفسه من سوء الخاتمة، ففرق بين هذا وذاك، لكن يقول: لا، فأنا لو مت على خاتمة حسنة أكون بإذن الله من المؤمنين من أهل الجنة، وليس فقط بذلك الاعتبار، وهناك قدر مشترك بين الطائفتين، لكن أيضاً هناك زيادة غلو عند الذين يوجبون الاستثناء.
    الرابعة: كذلك من استثنى تعليقاً للأمر بمشيئة الله لا شكاً في إيمانه، فهو يقول: أنا مؤمن إن شاء الله من باب أن الأمور كلها توكل إلى الله، فيكون من عادته أن يكل الأمر إلى الله، حتى فيما هو جازم متيقن به كما مثل الشيخ: أن يقول الواحد: أنا آتيك غداً إن شاء الله، أنا سآخذ كذا إن شاء الله، أنا أترك كذا إن شاء الله، فهذا من باب إيكال الأمور وتفويضها إلى الله، وليس من باب ترك الجزم أو عدم الجزم أو عدم القطع للإيمان لا شكاً في إيمانه، يقول: وهذا القول في القوة كما ترى؛ لأن الأوجه تجمع، وهذا القول واضح القوة والحمد لله، فلا نقول بالوجوب مطلقاً، ولا بالتحريم مطلقاً، وإنما نقول: كل له اعتبار، فإذا جمعنا هذه الأقوال وخلصنا بهذه الأربع النقاط فهذا قول قوي وراجح وواضح إن شاء الله تبارك وتعالى، وتزكية النفس منها داخل في الثاني؛ لأنه قلنا: وإن أراد أنه من المؤمنين الذين وصفهم الله فإنه ينبغي أن يزكي نفسه، لكن نقول: أنا مسلم، وهنا قصة عظيمة نافعة عن الحسن أنه قال له رجل: [ أيها الحسن ! أنت من المؤمنين؟ قال: إن كنت تريد: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ.. ))[الأنفال:2] لا، وأما إن كنت تريد قول الله تعالى: (( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا ))[التوبة:102] فأنا منهم ].
    والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.