المادة كاملة    
اختلف الناس في مسألة الاستثناء في الإيمان، فمنهم من أوجبه، ومنهم من منعه، وقد جاء عن السلف قولان: المنع والجواز، وعند التأمل تجد أنهم لم يختلفوا، وإنما تكلم كل باعتبار يختلف عن اعتبار القول الآخر، ومرجع القولين إلى قول واحد، وهو القول الحق.
  1. تخريج حديث عمرو بن عبسة: (ما الإسلام؟...) وبيان خطأ بعض العلماء في تخريجه

     المرفق    
    ‏الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    ... والحديث كما تقدم أخرجه الإمام العلامة المصنف عبد الرزاق الصنعاني ، وكذلك أخرجه الإمام -تلميذه- أحمد رضي الله تعالى عنهما، والحديث رجاله ثقات بلا ريب؛ فقد رواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن عمرو بن عبسة ، والمأخذ الوحيد الذي ربما يؤدي إلى الحكم عليه بالضعف هو الانقطاع، فيحتمل أن يكون التابعي أبو قلابة لم يلق الصحابي عمرو بن عبسة رضي الله تعالى عنه، وأما رجاله فكلهم أئمة معروفون، ولهذا قال الهيثمي في مجمع الزوائد : رجاله ثقات، لكن هذا القول لا يتضمن نفي الانقطاع.
    وهنا تنبيه: ذكر الشيخ الأرناؤوط والدكتور عبد الله التركي أن الشيخ الألباني رحمه الله قال فيه: (متفق عليه من حديث أبي موسى)، مع أن الحديث المتفق عليه هو قوله صلى الله عليه وسلم: ( أي الإسلام أفضل؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده ) فقط، فالشيخ الألباني رحمه الله ربما نقل له أول الحديث وخرجه ولم يتنبه إلى آخره، والمقصود هنا في قصة الإمام أبي حنيفة ليس هذا فقط، وإنما المقصود الحديث الطويل الذي قال في آخره: (قال بعض الأصحاب لـأبي حنيفة : ألا تجيبه يا أبا حنيفة ؟! فقال: بم أجيبه وهو يحدثني بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!) والحديث في أوله: ( ما الإسلام؟ قال: أن تسلم قلبك لله عز وجل، وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك ).
    وهذا قريب من رواية الصحيحين ، ثم قال: ( فأي الإسلام أفضل؟ قال: الإيمان )، وهذا بخلاف الحديث الذي في الصحيحين من رواية أبي موسى ؛ لأن فيه: ( أي الإسلام أفضل؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده )، ثم أكمل بعد ذلك فقال: ( ما الإيمان؟ )، ثم قال: ( أي الإيمان أفضل؟ ) .. إلخ الحديث، وقد مر.
  2. رجوع أبي حنيفة عن قوله بما يوافق المرجئة في الإيمان

     المرفق    
    قال الشيخ بعد ذلك: (ومن ثمرات هذا الاختلاف)، وبقوله: ومن ثمرات هذا الاختلاف يكون قد أنهى الموضوع المتعلق بالخلاف بين أهل السنة والجماعة وبين مرجئة الفقهاء أو مرجئة الحنفية ، وختمه بما يشعر ويوحي بأن الإمام أبا حنيفة رحمه الله قد رجع عن مذهبه، وهذا هو اللائق به؛ أن يرجع عن مذهبه المشهور باسمه إلى قول أهل السنة والجماعة من التفريق بين الإسلام والإيمان، والقول بزيادة الإيمان ونقصانه، وأن الإيمان قول وعمل، هذا هو اللائق به وبكل أئمة الإسلام فلا يقدمون بين يدي الله ورسوله، ولا يعارضون شيئاً ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيهم؛ ولهذا قال: (بم أجيبه وهو يحدثني بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!) أي: لا يوجد جواب، وهذا كما قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى لما سئل فأجاب بحديث، فقيل له: (فما رأيك أنت؟ قال: أتراني في كنيسة! أترى عليَّ زنار! أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: فما رأيك أنت؟!) أي: أنه لا يمكن أن يكون لأحد من الأئمة رأي مع الحديث إذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا نكون قد انتهينا من هذه المسألة.
  3. الاستثناء في الإيمان

     المرفق    
    ثم يبدأ الشارح رحمه الله تعالى بذكر ثمرة هذا الاختلاف، وهذا دليل على أن الخلاف حقيقي وليس صورياً ولا لفظياً من جميع الوجوه، وإنما هو لفظي أو صوري في حكم مرتكب الكبيرة في الآخرة فقط، وهي القضية التي كان النزاع فيها أول الأمر، وأما في أمور الأخرى من الزيادة والنقصان والاستثناء فإنه يظهر أن الخلاف فيها حقيقي.
    قال رحمه الله:[ ومن ثمرات هذا الاختلاف: مسألة الاستثناء في الإيمان، وهو أن يقول الرجل أنا مؤمن إن شاء الله، والناس فيه على ثلاثة أقوال: طرفان ووسط، فمنهم من يوجبه، ومنهم من يحرمه، ومنهم من يجيزه باعتبار ويمنعه باعتبار، وهذا أصح الأقوال.
    فأما من يوجبه فلهم مأخذان: أحدهما: أن الإيمان هو ما مات عليه الإنسان، والإنسان إنما يكون عند الله مؤمناً أو كافراً باعتبار الموافاة، وأما ما سبق في علم الله أنه يكون عليه وما قبل ذلك فلا عبرة به. قالوا: والإيمان الذي يعقبه الكفر فيموت صاحبه كافراً ليس بإيمان؛ كالصلاة التي أفسدها صاحبها قبل الكمال، والصيام الذي يفطر صاحبه قبل الغروب.
    وهذا مأخذ كثير من الكلابية وغيرهم، وعند هؤلاء أن الله يحب في الأزل من كان كافراً إذا علم منه أنه يموت مؤمناً، فالصحابة ما زالوا محبوبين قبل إسلامهم، وإبليس ومن ارتد عن دينه ما زال الله يبغضهم وإن كانوا لم يكفروا بعد.
    وليس هذا قول السلف، ولا كان يعلل بهذا من يستثني من السلف في إيمانه، وهو فاسد؛ فإن الله تعالى يقول: (( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ))[آل عمران:31]، فأخبر أنه يحبهم إن اتبعوا الرسول، فاتباع الرسول شرط المحبة، والمشروط يتأخر عن الشرط، وغير ذلك من الأدلة، ثم صار إلى هذا القول طائفة غلوا فيه حتى صار الرجل منهم يستثني في الأعمال الصالحة، فيقول أحدهم: صليت إن شاء الله ونحو ذلك -يعني: القبول-، ثم صار كثير منهم يستثنون في كل شيء، فيقول أحدهم: هذا ثوب إن شاء الله، وهذا حبل إن شاء الله، فإذا قيل لهم: هذا لا شك فيه، قالوا: نعم، ولكن إذا شاء الله أن يغيره غيره]
    .
    1. الهوى وتأثيره على مسألة الاستثناء في الإيمان

      مسألة الاستثناء في الإيمان من المسائل التي لو أنها أخذت وطرقت من غير هوى ولا تعصب لما كان فيها هذا الخلاف، والسلف الصالح لهم فيها قولان مرويان، ولعلنا سنأتي على ذكرهما إن شاء الله بالتفصيل، فقد صح عنهم فيها مذهبان، وبكل مذهب قالت طائفة وجملة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم؛ فمنهم من يرى الاستثناء، ومنهم من لا يرى الاستثناء، فلو أن الأمر تجرد عن الهوى والتعصب لما كان فيها كبير إشكال لوضوحها، فإذا عرفت مأخذ من يقول بجواز الاستثناء، ومأخذ من يقول بعدم الجواز؛ فلا إشكال على ما سنبين إن شاء الله، لكنها أخذت مأخذ التعصب والهوى عند كثير من المتأخرين، وما دخل الهوى في شيء إلا أفسده، فما أفسده لدين الإنسان والعياذ بالله! فإذا دخل الهوى، والتعصب، والمشاحنة، والبغضاء في النفوس، ومرضت بذلك؛ فإنها لا تهتدي إلى الحق والعياذ بالله.
      ففي كثير من بلدان العالم الإسلامي؛ ابتداءً من العراق ، إلى خراسان ، إلى بلاد ما وراء النهر ، هذه الأرض العظيمة الكبيرة كانت المعارك تدور فيها بين الحنفية والشافعية في مسائل منها هذه المسألة، فالحنفية كانوا على مذهب الماتريدية ، وعلى ما كان عليه الإمام أبو حنيفة ، أو ما هو مشهور عنه، واللائق به أن يكون قد رجع إن شاء الله، وهو أنه لا استثناء في الإيمان وأن الإيمان لا يزيد، ولا ينقص، ولا يتفاضل، وهذا القول -إن شاء الله- سوف نوضحه فيما بعد.
      فكل من جعل الإيمان شيئاً واحداً -ومنهم مرجئة الفقهاء - يحرمون الاستثناء، ويسمونه شكاً، فإذا قلت: أنا مؤمن إن شاء الله؛ فقد شكيت، والشك كفر، فيقول الحنفية: نحن نجزم ولا نشك، والشافعية صاروا في الغالب أشعرية ، وهم يقولون: لا بد أن نقول: إن شاء الله؛ لأن الأشاعرة كلابية في هذه المسألة، فهؤلاء يوجبونه، وهؤلاء يحرمونه، فصار الحنفية يسمون الشافعية: شُكَّاكاً، حتى قال بعضهم: كيف يصح عقد زواج الحنفية من شافعي وهو يشك في إيمانه، وهذا هو الهوى والعياذ بالله.
      وصار أولئك أيضاً يتهمون هؤلاء، ويطعنون فيهم بأنهم يزكون أنفسهم، وأنهم يجعلون إيمانهم كإيمان جبريل وميكائيل، وهذه دعوى باطلة، وهكذا قام التعصب، وحدث البغي والعدوان بين الطائفتين إلا من هداه الله، وقد وجد علماء أجلاء ترفعوا عن البغي والعدوان، والهوى والتعصب، وعرفوا الحق في هذه المسألة وهو: التفصيل، فهذا ما نريد أن نوضحه في هذه المسألة: أنها إذا أخذت مجردة عن الهوى فلا إشكال فيها.
    2. صورة الاستثناء في الإيمان

      قال: (وهو أن يقول الرجل أنا مؤمن إن شاء الله) أي: أن معنى الاستثناء في الإيمان وتعريفه: أن يقول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله، قال: (والناس فيه على ثلاثة أصناف: طرفان) وهذا الكلام كله مأخوذ من كلام شيخ الإسلام رحمه الله في كتاب الإيمان الكبير وهو في من مجموع الفتاوى (7/429-460)، فالشيخ هنا اقتدى بـشيخ الإسلام رحمه الله في تأخير مبحث الاستثناء إلى آخر الكلام عن الإيمان، وهو كذلك؛ لأن المسألة غير مشكلة لمن تأملها، ومن قال بالاستثناء أو لم يقل به مسبوق في ذلك من السلف الصالح، فإذا عرف الاعتذار والمأخذ فلا بأس بذلك إن شاء الله، فـشيخ الإسلام رحمه الله ذكر هذه المسألة من (ص429) إلى (ص460) تفصيلاً، والإمام الشارح رحمه الله اختصر ذلك وأوجز، وحذف ما يشكل.
    3. إرجاع شيخ الإسلام مسألة الاستثناء إلى أصول تتعلق بصفات الله تعالى

      ومن رجع إلى الأصل فسيجد أن شيخ الإسلام رحمه الله قد فصل وأرجع المسألة إلى أصول تتعلق بصفات الله من الكلام، والإرادة، والقدرة وغير ذلك، ففي كلامه تفصيل سنوجز بعضه؛ وإن كان الشيخ رحمه الله بإيجازه وتفصيله هذا قد أجاد وأفاد بخصوص هذه المسألة.
      فالأقوال ثلاثة: طرفان، ووسط، فالطرفان: من يوجبه، ومن يحرمه، والثالث هو من يجيزه باعتبار، ويمنعه باعتبار، وهذا هو أصح الأقوال، وهو الذي به يجتمع القولان المنقولان عن السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم.
    4. استدلال من يوجبون الاستثناء في الإيمان بأن الإيمان ما وافى العبد ربه به

      قال رحمه الله: (أما من يوجبه فله مأخذان: أحدهما: أن الإيمان هو ما مات عليه الإنسان)، فالإيمان بالنسبة لأي مكلف هو ما مات عليه، وما وافى الله به؛ باعتبار اللحظة الحاضرة، فمن لقيه على الإيمان فهو مؤمن وإن كان اليوم كافراً، ومن لقيه على الكفر والردة -والعياذ بالله- فهو كافر وإن كان اليوم مؤمناً. يقول: (فهو باعتبار الموافاة، وما سبق في علم الله أنه يكونوا عليه، وما قبل ذلك لا عبرة به، والإيمان الذي يتعقبه الكفر فيموت صاحبه كافراً هذا ليس بإيمان) فعلى هذا لا بد أن يقول العبد: إن شاء الله؛ لأنه لا يدري بم يلقى الله، وربما والعياذ بالله يرتد، فيقولون: هذا ليس بإيمان، ويشبهونه -وهذه التشبيهات كثيراً ما تضل فيها الأفهام؛ لأن الفرق في التشبيه دقيقاً أو غامضاً -بالصلاة إذا أفسدها صاحبها قبل الكمال، فمثلاً: صلاة العشاء أربع ركعات، فلو أدى الثلاث الركعات كلها سليمة كاملة الواجبات والأركان والسنن لكنه في الركعة الرابعة ترك ركناً من الأركان متعمداً، فهذه الصلاة باطلة، ولا تسمى صلاة لأنه أبطلها، هذا رأيهم، وكذلك الصيام، فلو صام إنسان في وقت الصيام الشرعي من قبل طلوع الفجر إلى قبيل الأذان ولو بدقائق، ثم أكل عامداً متعمداً وهو يعلم أن الشمس لم تغرب؛ فصيامه باطل، قالوا: فكذلك الإيمان، فإذا ارتد أو كفر فإنه يبطل إيمانه، فكما أنه لا يسمى ذلك مصلياً -على كلامهم-، ولا يسمى هذا صائماً؛ فكذلك لا يسمى العبد مؤمناً، ولا يعد مؤمناً، ولا يستطيع هو أن يحكم على نفسه أنه مؤمن إلا إذا أتم ذلك، وإذا سلم من الصلاة التسليمة الثانية أو الأولى -على خلاف- فصلاته كاملة صحيحة، فهذا نقول عنه: إنه قد صلى، وكذلك إذا أمسك حتى أدبر النهار من هاهنا، وأقبل الليل من هاهنا؛ فهذا الذي يقال: إنه صام، فالإيمان بما أنه مطلوب منك في عمرك كله، وأن تلقى الله تعالى به لا تغيره، ولا ينقطع؛ فلا تستطيع أن تصف نفسك بأنك مؤمن إلا إذا أسلمت الروح وأنت على ذلك.. هذا هو المأخذ الذي يستدلون به.
    5. التعريف بالأشعرية الكلابية ومذهبهم في الاستثناء في الإيمان

      قال: (وهذا مأخذ كثير من الكلابية)، والكلابية نسبه إلى عبد الله بن سعيد بن كلاب ، ولقبه: القطان ، وهو شيخ أبي الحسن الأشعري في المرحلة الثانية، وفي الأولى كان معتزلياً، وكان شيخه في هذه المرحلة أبا علي الجبائي زوج أمه، ثم انتقل فصار كلابياً، وفي مرحلة الكلابية كان أبو الحسن الأشعري أشعرياً؛ لأن المذهب الأشعري هو في الحقيقية مذهب الكلابية ، وبالمناسبة يقال: ابن كلاب: وهو ليس اسماً له، وإنما لقب به لأنه كان في الجدال لا يبارى، فكان ينتزع الكلمة من المناظر من المعتزلة أو غيرهم ويرد عليها كما ينتزع ويختطف الكلاب الشيء، أي: من قوته الجدلية.
      ومذهب ابن كلاب أقرب إلى أهل السنة والجماعة في كثير من الأمور من المعتزلة ، وقد استطاع أن ينقل أبا الحسن الأشعري من مرحلة الاعتزال إلى مرحلة الكلابية، وهي مذهبه الذي تبناه الأشعري وكتب فيه، وظن أنه الحق في المرحلة الثانية من عمره، ثم بعد ذلك انتقل إلى مذهب السلف وعقيدة أهل السنة والجماعة عندما قابل الإمام محدث البصرة في حينه زكريا بن يحيى الساجي رحمه الله، فجاء إليه يقول له: إني تركت الاعتزال، فقال له: تركته إلى ماذا؟ ثم بين له وقال: ليس الأمر كذلك، وإنما العقيدة الحقة هي عقيدة السلف، وأهل الحديث؛ أهل السنة والجماعة .
      فعندما علم الأشعري رحمه الله تعالى -وهو طالب حق- ضرورة أن يتعلم عقيدة السلف؛ انتقل من البصرة إلى بغداد ؛ ليقابل هناك تلاميذ تلاميذ الإمام أحمد رحمه الله؛ ليأخذ عنهم العقيدة كاملة نقية صافية، ثم ينشرها فيما بعد، وهنالك كان شيخ الحنابلة هو الإمام البربهاري ، فذهب إليه وقال له: يا مولاي! لقد رددت على المجوس ، ورددت على النصارى ، ورددت على المعتزلة .. وأخذ يبين له أعماله، وله كتب كثيرة في الردود، فقال البربهاري : لا نعرف هذا كله، وإنما نعرف ما كان عليه الإمام أحمد أي: أن هذه الردود قد تردها لكنك لا تعرف العقيدة الحقة، فالأصل أن يعرف الإنسان الحق ثم يرد على أهل الباطل، وأما من تصدى في الرد على أهل الباطل وهو لا يعرف الحق فقد يقع في شيء من الباطل وهو لا يدري فعند ذلك تفقه في عقيدة السلف، وهي سهلة سلسلة لا تحتاج إلى كثير بحث وخاصة لمثل عقله.
      ثم كتب كتابه الإبانة المعروف للجميع، وهو الذي يصرح فيه بعقيدة السلف، وأنه على مذهب الإمام المبجل أحمد بن حنبل ، فهو الإمام الفاضل، والقدوة الكامل.
  4. الغلو في الاستثناء في الأعمال الصالحة باعتبار القبول

     المرفق    
    وأما القضية الثانية وهي: قضية القبول، وهذا نوع عندهم من الوسوسة الخفية، قال الشيخ: (ثم صار إلى هذا القول طائفة غلو فيه حتى صار الرجل منهم يستثني في الأعمال الصالحة) فالإنسان إذا خرج عن الحق فإنه لا يأمن أن يتوقف عند حد، بل قد يتدهده أكثر، فقالوا: ما دام أننا في الإيمان كله لا ندري بما نلقى الله حتى نموت على الإسلام؛ فكذلك في آحاد الأعمال، فمثلاً إذا قيل لي: صليت، قلت: صليت إن شاء الله؛ لأني لا أدري هل قبلت أو لا حتى أقول صليت؛ لأني إذا قلت صليت؛ فكأني قلت: أنا مؤمن، وكأن صلاتي قد قبلت، مع أنها قد لا تكون قبلت، قالوا: إذاً: لا بد أن تقول: صليت إن شاء الله، وصمت إن شاء الله، وأتيت المسجد إن شاء الله.. وهكذا، صارت وسوسة وهوساً بعد أن كان لها مأخذ.
    ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فالانحراف دائماً يجري بأصحابه، ويجرفهم إلى ما لا نهاية، والقول الثالث من الغلو: قال الشيخ: (ثم صار كثير منهم يستثنون في كل شيء، فيقول أحدهم: هذا ثوب إن شاء الله، وهذا حبل إن شاء الله)، وهذا كتاب إن شاء الله، وهذا مسجد إن شاء الله، فإذا قيل له: هذا أمامك فلماذا تقول: إن شاء الله؟ قال: إن الله قادر على أن يغيره، فنقول: هو قادر؛ لكن هل كلفت أنت أن تتكلم في كون الله هو قادر أن يغير كل شيء وهو قادر على كل شيء؟!
    إنما تتكلم أنت باعتبار الوجود والواقع، فإذا قيل لهم: إن هذا لا شك فيه، قالوا: نعم، لكن إذا أراد الله أن يغيره غيره، ألم تكن العصا في يد موسى ثم صارت حية؟!
    فنقول: إن هذه الاستثناءات الخاصة لا تؤثر في الأحكام العامة، وهذا معلوم لكل عاقل. هذا هو المأخذ الأول، وهذا الغلو الأخير ينسب إلى المرازقة .
    والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
  5. مذهب الأشاعرة في الإيمان

     المرفق    
    1. الأشعرية في باب الإيمان من الغلاة

      إذاً: فهذا مأخذ كثير من الكلابية وغيرهم؛ مع أن الأشعرية في باب الإيمان يعدون من المرجئة الغلاة ، وقد حددنا أن المرجئ الغالي هو الذي يجعل الإيمان شيئاً واحداً، أي: على عضو واحد، فـالكرامية مرجئة غلاة؛ لأن الإيمان عندهم هو قول باللسان فقط.
      ومن المرجئة الغلاة : الأشعرية و الجهمية ؛ فهو عندهم شيء واحد وهو: المعرفة، أو التصديق بالقلب، فمن قال: بالقلب فقط، أو باللسان فقط؛ فهو مرجئ غالٍ؛ فالفقهاء لما قالوا: الإيمان بالقلب مع اللسان؛ صاروا وسطاً، وأهل السنة يقولون: هو القلب واللسان والجوارح، وهذا هو الحق.
      إذاً فـالأشعرية كان المفروض أن يرون تحريم الاستثناء في الإيمان؛ لأنه شيء واحد، لكنهم يقولون بالاستثناء.
    2. تناقضات المذهب الأشعري

      وهناك شيء مهم أرجو أن تتنبهوا له وهو: أن المذاهب الأخرى غير عقيدة أهل السنة والجماعة تتطور وتتغير وتتداخل وتتمازج، كما رأينا في مبحث الصفات وتطور مذهب الأشعرية فيها، وكذلك هذه المسألة، فمن الأشعرية القدامى طائفة خالفت كلام الطائفة المعتمدة -ومنهم أبو الحسن- في موضوع الإيمان، وقالوا: إن الإيمان يزيد وينقص، وهو قول وعمل كما قال السلف، وكان منهم من خالف في بعض النصوص الأصول أيضاً ومنها هذه المسألة التي راعى فيها ابن كلاب موضوع الموافاة، فـالأشعرية في مسألة الموافاة اتبعوا كلام ابن كلاب ، فأوجبوا الاستثناء، مع أنه متناقض وأما الذين بقوا على الأصل من المرجئة فهم الذين قال فيهم الشيخ: (وأما من يحرمه فهم من جعل الإيمان شيئاً واحداً) لكنهم تناقضوا.
      وليس هذا بالتناقض الوحيد في مذهب الأشعرية ؛ لأنه مذهب تركيبـي توفيقي كما يسمونه، فهو مركب من عدة مذاهب، فجملة من مسائله مأخوذة من مذهب المعتزلة ، وجملة مأخوذة من مذهب الجهمية ، وجملة مأخوذة من كلام السلف، فتركب منها المذهب الأشعري فصار متناقضاً، وأما المعتزلة فقد مشوا على منهج واحد معروف ومحدد، وأهل السنة والجماعة في مقابلهم كذلك، فلا تناقض عندهم ولا اضطراب في أي مسألة على الإطلاق أبداً كما سنبين إن شاء الله تعالى؛ وحتى الاختلاف في الاستثناء في الإيمان فإن لكل قول اعتبار وتعليل، وكلاهما على الحق، فلا تناقض ولا اضطراب.
      والأشعرية لما أخذوا من هذا تارة ومن هذا تارة وقعوا في الاضطراب والتناقض، فهم يقولون: إن الإيمان شيء واحد؛ ومع ذلك فهم يوجبون الاستثناء، فإذا قيل لهم: كيف تجعلونه شيئاً واحداً، ثم توجبون الاستثناء؛ فإنه إذا قال: أنا مؤمن إن شاء الله؛ وهو شيء واحد فماذا بقي عنده؟ قالوا: هذا باعتبار الموافاة على الغالب كما في كلام شيخهم أبي بكر الباقلاني ، فإنه يقول: هذا باعتبار الموافاة، فنحن لا ندري بما يوافي به العبد ربه، فعليه أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله؛ لاحتمال أن يموت على غير الإيمان.
    3. قول الأشاعرة: إن الله يحب في الأزل من كان كافراً إذا علم منه أنه سيسلم والعكس

      وهنا تأتي قضية مهمة ينبغي ألا تخفى، وهي قوله: (وعند هؤلاء الذين يوجبون الاستثناء -أي: الأشعرية الكلابية -: أن الله يحب في الأزل من كان كافراً إذا علم منه أنه يموت مؤمناً) وفي المقابل يبغض إبليس ومن ارتد عن دينه وإن كان لا يزال مؤمناً. وهذا يرجعنا إلى حقيقة المحبة عندهم، وقد يدور في ذهن بعضكم ويقول: كيف يقول ابن تيمية: إن الأشعرية الكلابية يقولون: إن الله يحب ويبغض وهم لا يثبتون صفة المحبة، ولا يثبتون صفة البغض!
      إذاً فالمحبة والبغض لهما معنى آخر عندهم، فهذا هو الذي اختصره الشيخ هنا، وأما شيخ الإسلام فأفاض فيه، لكن لغموضه تركه الشيخ رحمه الله، فلم يأتِ به، فالمحبة عندهم هي: إرادة الإنعام، أو إرادة الثواب، والبغض: هو إرادة الانتقام، فإذا كان الأمر كذلك فإن الله ينعم عليه، وينتقم منه باعتبار الموافاة، فإما أن ينعم عليه ويثيبه بالجنة إن وافاه بالإيمان، وختم له بذلك، وإما أن ينتقم ويعذبه على الكفر إن وافاه به، ومن هنا عرفنا العلاقة بين قولهم بالموافاة، وقولهم بأن الله يحب من كان الآن كافراً إذا كان يعلم أنه سوف يموت على الإيمان، ويبغض من كان مؤمناً الآن إذا كان يعلم منه أنه سيموت على الكفر، فالمسألة هي في الإنعام والانتقام، وهذا أمر لا يكون إلا بعد الموافاة، فتعلق الأمر به.
      قال الشيخ: (وعند هؤلاء أن الله يحب في الأزل من كان كافراً إذا علم منه أنه يموت مؤمناً، فالصحابة ما زالوا محبوبين قبل إيمانهم)، أي: حتى من كان يقاتل منهم النبي صلى الله عليه وسلم في بدر ، في أحد ، في حنين ، ولكنه سوف يسلم في آخر عمره فإنه محبوب عند الله؛ لأن الله يعلم أنه سوف يسلم، وإبليس ومن ارتد عن دينه ما زال الله يبغضه وإن كان الآن على الطاعة، فيرون أن الله ينزه عن المحبة وعن البغض، والمحبة والبغض هنا على التأويل الذي ذكرناه سابقاً، أي: أنه يريد إنعامه، أو يريد الانتقام منه، وهناك مبدأ باطل بنى عليه هؤلاء نفيهم لصفات الله الاختيارية، فيقولون: إن المحبة، والرحمة، والانتقام، والغضب هي من صفات المخلوقين، فالرحمة مثلاً: هي انكسار ورقّة، والله تعالى يتنزه عن ذلك، والغضب: هو فوران وغليان الدم.. إلى آخر ما يقولون، والله يتنزه عن ذلك، وحاشى لله -في زعمهم- أن يكون هناك فعل من المخلوق، يؤثر في الخالق.
      فلو فعل العبد طاعة فأحبها الله وأحبه فمعنى هذا -في عقولهم ونظرهم-: أن العبد يفعل أشياء تؤثر في الله، فيقولون: إن الله تعالى أجل وأسمى من أن يتأثر بما يفعله المخلوقون، وانظر إلى هذا الفهم السقيم.
      وهذا يشبه إلى حد ما كلام فلاسفة اليونان ، فـأفلاطون يقول: إن الله تعالى كامل، والكامل لا يهتم بالناقص، أي: أن الله تعالى لا دخل له في هذا الكون أبداً، فالعقول العشرة هي التي تدبر الكون، فهو خلق العقل الأول، والأول خلق الثاني، والثاني خلق الثالث .. إلى العاشر، والعقل الكلي خلق النفس الكلية، والعقل الكلي والنفس الكلية يدبران الكون، وأما هو تعالى فلا يتدخل في ذلك؛ لأنه كامل.
      والرافضة قالوا: إن الإمام المنتظر وغيره قد فوض الله إليهم الكون، والصوفية يقولون: إن الله تعالى أعطى مفاتيح الكون والأقاليم السبعة للشيخ عبد القادر ، والشيخ أحمد البدوي ، والشيخ الرفاعي؛ فكل واحد منهم يدبر الكون، ويدبر إقليم منها، فهؤلاء أرجعوا الفلسفة اليونانية التي تقول: إن الله تعالى كامل، ولا يمكن أن يتأثر، ولا يكون له علاقة بالناقص وهو الكون، فيعطلون الله تعالى عن حكمه وتدبيره وملكه وتصريفه فهو الذي بيده الملك سبحانه وتعالى، والجاهليون كانوا يقولون إن الله هو الذي يدبر الأمر، ويحيي ويميت، وهو الرزاق، وهو الخالق، وجاء هؤلاء بكفر لم يقله أحد من قبل بسبب هذا الأصل الخبيث وهو: أن الخالق لا يتأثر بفعل المخلوق.
    4. الرد على الأشاعرة في نفيهم للصفات الفعلية

      فنقول: إن الله تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، ومن قال لكم: إن رحمته وغضبه وإرادته وسمعه وبصره مثل صفات المخلوقين؟! نحن لا نقول بهذا، والأدلة معنا، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لله أفرح بتوبة عبده إذا تاب من رجل ضلت عليه دابته في أرض فلاة... ) الحديث الذي تقدم إيضاحه، فالله تعالى يفرح بتوبته بعدما يتوب، وفي أثناء المعصية كان الله تعالى غضباناً عليه، فإذا تاب فرح الله تعالى بتوبته، فهذا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم الذي قال: ( أنا أعلمكم بالله، وأتقاكم له )، وهو كذلك صلى الله عليه وسلم، فهو أعلم الخلق بالله، وأتقاهم له، فكيف تزعمون أنكم تنزهون الله تعالى عما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم؟!
      وقولهم هذا ليس هو قول السلف.
    5. القول بأن وجوب الاستثناء في الإيمان هو مذهب السلف

      وقد ذكر شيخ الإسلام أن الذين يوجبون الاستثناء يقولون: إن هذا هو قول السلف، فنقول: نعم هناك من السلف من كان يرى الاستثناء؛ لكن ليس هذا التعليل وهذا المأخذ الذي بنيتم عليه قولكم من كلام السلف، ولا كان هذا هو رأيهم، فقد اشتهر عند هؤلاء المتأخرين من الكلابية الأشعرية : أن السلف يستثنون في الإيمان، وهذا حق وارد عن بعضهم كما ذكرنا، فأرادوا أن ينتصروا لمذهب السلف من غير وجهه؛ ولهذا يقول شيخ الإسلام رحمه الله: إن كثيراً ممن يتصدى لنصرة دين الإسلام لا يكون عليماً ولا عارفاً بمذهب السلف، ولا عارفاً بمأخذه، ولا بوجه استدلاله، فيستدل له من عنده فيكون قد استدل على الحق بدليل باطل، فيؤدي هذا إلى فتنة المخالف، فيأتي المخالف فيقول: هذا الدليل باطل.
      وإلى الآن وهذا الأمر موجود، فكثير من طلبة العلم يعلم أن بعض العلماء في القديم أو الحديث يقولون بكذا، وهذا الأمر واضح، فيرى أن حكم هذا الأمر هو الحرمة أو الوجوب، أو يرى أن هذا الحديث مثلاً صحيح أو ضعيف، ويأتي هذا التابع أو التلميذ فيعلل بتعليل من عنده وليس من تعليل ذلك الشيخ، فيأتي الآخر فيقول: ما دام هذا التعليل كذا فهذا باطل، فيصر على أنه حرام وهو حلال في الحقيقة، أو أن الحديث ضعيف وهو صحيح في الحقيقة؛ لأنه لما رأى ضعف الدليل فإنه استنتج ضعف المدلول، فهذا أصل مهم جداً، فكل منا لا بد أن يهتم وأن يدافع عن عقيدة الإسلام، وعن الحق، ولا ينبغي لشخص أن يدافع عن الحق وهو لا يعرف الاستدلال عليه، وإن كان هو الحق لا شك فيه؛ لأن هذا يؤدي إلى أن يستظهر عليه أهل الباطل، فيظهرون على ضعف الدليل، ويستدلون به على بطلان المدلول والدعوى.
      يقول: (ليس هذا قول السلف، ولا كان يعلل بهذا من يستثني من السلف في إيمانه) إذاً: فليس قول السلف هو وجوب الاستثناء مطلقاً، ولا كان من يستثني من السلف من كان يعلل استثناء بهذه التعليلات التي تزعمون، والكلام فاسد، واستدل على ذلك بآية، هذا الاستدلال وجاهته ظاهرة، وهو قوله تبارك وتعالى: (( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ))[آل عمران:31]، قال الحسن البصري رحمه الله تعالى وغيره من السلف ادعى قوم محبة الله، وممن ادعى ذلك اليهود و النصارى فقد قالوا: (( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ))[المائدة:18] وكذلك المشركون، ويدعون أنهم يعظمون شعائر الله، وكعبة الله، وحرمات الله.. وهكذا، فالدعوى سهلة وكل يدعيها، فأنزل الله آية امتحان: (( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ))[آل عمران:31].
      يقول الشيخ: (فأخبر أنه يحبهم إن اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم، فاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم شرط المحبة، والمشروط يتأخر عن الشرط) عند جميع العقلاء.
      فالآية هذه تبين فساد قولهم؛ فهم يقولون: إن الله الآن يحب هذا الكافر؛ لعلمه أنه سوف يسلم، فنقول نعم، فالله تعالى يقول: (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) فتترتب المحبة على الاتباع، فهو الآن لم يتبع فهو مبغض، فإن اتبع أحبه الله، فإذا وقع منه الاتباع نال المحبة، فدائماً يكون المشروط متأخراً عن الشرط، وغير ذلك من الأدلة كما ذكرنا في حديث الفرح وغيره.
      فالمهم أن قولهم هذا ليس هو مذهب السلف، ولا مأخذ السلف القائلين بالاستثناء، ولا يقولون بوجوبه، فحينما تناقضوا واضطربوا تبين لنا أن هذا ليس من كلام السلف؛ لأن السلف الصالح لا يتناقضون ولا يضطربون أبداً.