المادة    
إذا رجعنا إلى كتاب مختصر العلو الذي اختصره وحققه الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله نجد ترجمة إمام الحرمين أبي المعالي تبدأ من صفحة (274)، ونجد هذه القصة، ونجد الحكم على سندها في صفحة (276)، يقول الإمام الذهبي رحمه الله: "قال أبو منصور بن الوليد الحافظ في رسالة له إلى الزنجاني: أنبأنا عبد القادر الحافظ بـحران، أنبأنا الحافظ أبو العلاء، أنبأنا أبو جعفر بن أبي علي الحافظ فقال: سمعت أبا المعالي الجويني وقد سئل عن قوله: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5] فقال: كان الله ولا عرش، وجعل يتخبط في الكلام" والقصة مشهورة، ذكرها الحافظ الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء، وذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في أكثر من موضعٍ من الفتاوى، وهناك نجد ما يبين أنه كان على المنبر يتكلم، ويعلم الناس الصفات وما يعتقدون في ذات الله سبحانه وتعالى، فسئل عن معنى قوله تعالى: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5] فأخذ يفسر ذلك فقال: كان الله ولا عرش، وجعل يتخبط في الكلام، وهذا كما يقول المتكلمون: (كان الله ولا عرش، وهو الآن على ما عليه كان) وبعض المتكلمين يجعلون هذه الجملة حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا كذب موضوع لم يقله الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما الثابت عنه، فقوله: {كان الله ولا شيء قبله} وقد تحدثنا عن ذلك فيما مضى، ولفظة: (وهو الآن على ما عليه كان) أيضاً ليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هي من كلام المتكلمين.
إذاً ننظر إلى هذا الكلام الذي تخبط أبو المعالي فيه؛ الله سبحانه وتعالى كان ولا عرش، فلما خلق العرش استوى عليه.
يا ترى! ألم يكلم الله تعالى موسى؟! هل كلمه قبل أن يخلق؟! وقبل أن أخلق أنا وأنت أكان الله يرزقنا؟ وقبل أن يتزوج أبو أحدنا أمه أكان الله يرزقنا حينها؟
هذا غير ممكن، بل لما خلقنا رزقنا، ولا إشكال في هذا، وأهل الكلام يوافقوننا في كثير من هذا في مواضع أخرى، وعلى هذا فلا إشكال أبداً في أنه بعد أن خلق العرش استوى عليه، وهنا يقول أهل الكلام: هذا يدل على التغير وعلى الطروء، ونقول: إن هذه من الأمور الإضافية، فنثبت لله تعالى من الصفات ما هو إضافي، أي: بالنسبة إلى المخلوق، فهي ليست تغيراً؛ لأنهم يقولون: إن القول بأنه (لم يكن مستوياً ثم استوى) فيه إثبات التغير في حق الله، وهذا لا يجوز.
وهذا كلام باطل يدل على أن العقول نفسها متهافتة لا تعرف الحق، ولذا نتج عنها هذا التخبط، كقولهم: كان الله ولا عرش.
قال أبو جعفر الحافظ الهمذاني رحمه الله: "فقلت: قد علمنا ما أشرت إليه، فهل عندك للضرورات من حيلة؟" والضرورات: هي العلم الضروري الذي يقع في النفس ضرورة، من غير نظر ولا مقدمات ولا استدلال، ضرورة لا يستطيع الإنسان أن يدفعها، فكل إنسان موقن ومؤمن بأشياء من الضرورة أن يؤمن بها، ولا يستطيع أبداً أن يدفعها.
"فقال: ما تريد بهذا القول؟ وما تعني بهذه الإشارة؟ فقلت: ما قال عارفٌ قط: (يا رباه) إلا قبل أن يتحرك لسانه، قام من باطنه قصد لا يلتفت يمنةً ولا يسرة، يقصد الفوق؛ فهل لهذا القصد الضروري عندك من حيلة؟ فنبئنا نتخلص من الفوق والتحت".
"فهل لهذا القصد الضروري عندك من حيلة؟" كيف ندفع هذا الشيء؟ فهل عندك دليل كلامي يدفع هذا القول، أم تريد أن تعتقد شيئاً جاء به دليل كلامي وقلوبنا تقر بشيء آخر ينقضه؟! "وبكيت وبكى الخلق، فضرب الأستاذ بكمه على السرير، وصاح: يا للحيرة! وخرق ما كان عليه وانخلع، وصارت قيامة في المسجد، ونزل، ولم يجبني إلا: (يا حبيبي الحيرة الحيرة! والدهشة الدهشة!)
فسمعت بعد ذلك أصحابه يقولون: سمعناه يقول: حيرني الهمذاني!"
  1. صحة إسناد القصة

  2. رجوع إمام الحرمين عن التأويل

  3. شبه حال إمام الحرمين بحال أبيه في الرجوع عن التأويل

  4. العبرة من حياة إمام الحرمين الجويني