المادة كاملة    
من المسائل التي اختلف فيها السلف في باب الإيمان: معنى الإيمان والإسلام، والذي يترجح أن الإسلام والإيمان متغايران، فإذا اجتمعا في النظم اختلفا في المعنى، وإذا افترقا في النظم شمل أحدهما معنى الآخر.
  1. معنى الإيمان والإسلام والعلاقة بينهما

     المرفق    
    ‏الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    قال الشارح رحمه الله: [وقد صار الناس في مسمى الإسلام على ثلاثة أقوال: فطائفة جعلت الإسلام هو الكلمة، وطائفة أجابوا بما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الإسلام والإيمان؛ حيث فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالأصول الخمسة، وطائفة جعلوا الإسلام مرادفاً للإيمان، وجعلوا معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( الإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة.. ) الحديث؛ شعائر الإسلام، والأصل عدم التقدير، مع أنهم قالوا: إن الإيمان هو التصديق بالقلب، ثم قالوا: الإسلام والإيمان شيء واحد، فيكون الإسلام هو التصديق، وهذا لم يقله أحد من أهل اللغة، وإنما هو الانقياد والطاعة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اللهم لك أسلمت، وبك آمنت )، وفسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالإيمان بالأصول الخمسة، فليس لنا إذا جمعنا بينهما أن نجيب بغير ما أجاب النبي صلى الله عليه وسلم.
    وأما إذا أفرد اسم الإيمان فإنه يتضمن الإسلام، وإذا أفرد الإسلام فقد يكون مع الإسلام مؤمناً بلا نزاع، وهذا هو الواجب، وهل يكون مسلماً ولا يقال له مؤمن؟ وقد تقدم الكلام فيه، وكذلك هل يستلزم الإسلام الإيمان؟ فيه النزاع المذكور، وإنما وعد الله بالجنة في القرآن وبالنجاة من النار باسم الإيمان، كما قال تعالى: (( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ))[يونس:62-63]
    ، وقال تعالى: (( سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ))[الحديد:21]، وما اسم الإسلام مجرداً كما عُلِّق به في القرآن دخول الجنة، لكنه فرضه، وأخبر أنه دينه الذي لا يقبل من أحد سواه، وبه بعث النبيين، (( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ))[آل عمران:85].
    فالحاصل: أن حالة اقتران الإسلام بالإيمان غير حالة إفراد أحدهم عن الآخر، فمثل الإسلام من الإيمان كمثل الشهادتين من الأخرى، فشهادة الرسالة غير شهادة الوحدانية، فهما شيئان في الأعيان، وإحداهما مرتبطة بالأخرى في المعنى والحكم كشيء واحد، كذلك الإسلام والإيمان، لا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له؛ إذ لا يخلوا المؤمن من إسلام به يتحقق إيمانه، ولا يخلو المسلم من إيمان به يصح إسلامه، ونظائر ذلك في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، في كلام الناس كثيرة، أعني في الإفراد والاقتران منها: لفظ الكفر والنفاق فالكفر إذا ذكر مفرداً في وعيد الآخرة دخل فيه المنافقون، كقوله تعالى: (( وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ))[المائدة:5]، ونظائره كثيرة، وإذا قرن بينهما كان الكافر من أظهر كفره، والمنافق من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه، وكذلك لفظ البر والتقوى، ولفظ الإثم والعدوان، ولفظ التوبة والاستغفار، ولفظ الفقير والمسكين وأمثال ذلك] انتهى.
    1. تعقيب على ترتيب ابن أبي العز لمسائل الإيمان

      لم يرتب الشارح رحمه الله تعالى الموضوعات والمباحث بحيث يكون عرضها أكثر سهولة على القارئ، فلو أنه رحمه الله تعالى ابتدأ بذكر معنى الإيمان عند السلف، ثم قعد لمسألة الألفاظ، واختلاف دلالتها بحسب الإفراد والاقتران، ثم عقب ذلك بالعلاقة بين الإسلام والإيمان؛ لكان هذا أسهل وأوضح كما فعلنا نحن، وكلامه رحمه الله تعالى هنا هو موجز ومختصر لكلام الإمام أحمد ، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقد ذكر شيخ الإسلام كلام الإمام أحمد وغيره وشرحه في كتاب الإيمان ، فالموجود هنا في الشرح هو مختصر من كلام شيخ الإسلام في كتاب الإيمان الكبير ، وهو موجود في الجزء السابع من الفتاوى ، وكذلك نجد شيخ الإسلام رحمه الله فرق الكلام ونثره أيضاً في هذه المسألة، فما هو موجود هنا بعضه موجود بعد (ص:242) عند الكلام على الفاسق، وزوال اسم الإيمان، وزوال اسم الإسلام، ويقول شيخ الإسلام في (ص:246): وقد صار الناس في مسمى الإسلام على ثلاثة أقوال، وهو الذي ذكره الشيخ هنا بلفظه تقريباً، ثم ينتقل الشيخ فيذكر بعد ذلك في (ص:344) -أي: بعد مائة صفحة- الكلام على حديث جبريل وما بعده، ويذكر فيه الإسلام والإيمان وما يتناوله كل منهما، ويستمر (ص:347) وما بعد ذلك، ولعلنا نأتي على شيء منه إن شاء الله تعالى، إلى أن يقول مثلاً في (ص:351): والناس في الإيمان والإسلام على ثلاث مراتب. وهذا هو الذي تعرضنا له في الدرس الماضي، فأكثر من مائة صفحة، بين أول الموضوع وآخره، فالكتاب كله في قضية الإيمان، لذلك لم يرتبه رحمه الله تعالى؛ لذا ينبغي أن يلخص منه بقدر المستطاع.
  2. التلازم بين الإيمان والإسلام

     المرفق    
    ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في (ص:240) قال: (قال إسماعيل بن سعيد : سألت أحمد عن الإيمان والإسلام، فقال: الإيمان قول وعمل، والإسلام إقرار، قال: وبه قال أبو خيثمة وقال ابن أبي شيبة : لا يكون إسلام إلا بإيمان، ولا إيمان إلا بإسلام، وإذا كان على المخاطبة فقال: قد قبلت الإيمان؛ فهو داخل في الإسلام، وإذا قال قد قبلت الإسلام؛ فهو داخل في الإيمان) فهذا هو التلازم الذي ذكره الشيخ رحمه الله.
    وقد أوضحنا فيما مضى: أن التلازم بينهما واضح جلي، فليس المقصود من تحقيق الإيمان الباطن: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، أن تدع الأعمال الظاهرة، وليس المقصود من كون الإسلام هو الأعمال الظاهرة: الشهادتان، والصلاة، والزكاة؛ ألا يأتي الإنسان بالإيمان الباطن، وكون الإسلام درجة والإيمان درجة أعلى لا يقتضي أن المسلم ليس عنده شيء من الإيمان أبداً، بل لديه قدر من الإيمان الباطن الذي هو أصل الدين، ولا بد منه، لكنه لم يرتق فيه بحيث يصبح مؤمناً الإيمان الذي هو الدرجة، فهو كما مثل الشارح رحمه الله تعالى مثل الشهادتين، فإذا قال العبد: أشهد أن لا إله إلا الله؛ فإنه يدخل في ذلك ضمناً وتبعاً: أنه يشهد بأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا قال أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله؛ قلنا: إنه أقر لله تبارك وتعالى بالألوهية، ووحده بذلك، وأقر لرسوله صلى الله عليه وسلم بالرسالة، ولو كان العكس فقال رجل: أشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أشهد أنك رسول الله، وآمن به؛ لعلمنا أنه أيضاً قد آمن بأن الله واحد، وهو المعبود وحده، فهما متلازمان كالشهادتين، فالسلف نصوا على التفريق، ونصوا على أنهما متلازمان، فلا ينبغي أن يفهم أحد أن الإمام أحمد ، أو الزهري ، أو ابن أبي شيبة أو غيرهم من الأئمة أن منهم من كان يفرق مطلقاً بحيث إنه لا يجعل بينهما أي تلازم، وأن من يقول أنهما مترادفان مطلقاً؛ فإنه أيضاً لا بد أن يخرِّج النصوص الواردة بخلاف ذلك؛ بحيث يستقيم له مذهبه أو رأيه.
  3. أدلة القائلين بأن الإسلام والإيمان شيء واحد

     المرفق    
    إلى أن يقول: (سمعت أبا عبد الله -وهو الإمام أحمد - يقول: الإيمان قول وعمل، قلت لـأبي عبد الله : فالحديث الذي يروى: ( أعتقها؛ فإنها مؤمنة ) ) يعني: الذين يقولون: الإيمان هو الإسلام، والإسلام هو الإيمان؛ يستدلون ببعض الأدلة منها ما قد أوردناه، فمثلاً يقولون: إن الإيمان هو نقيض الكفر، والله تبارك وتعالى يقول: (( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ ))[آل عمران:19]، ويقول: (( وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ))[المائدة:5].
    إذاً فالإسلام هو الإيمان، وهما شيء واحد، فمثلاً قال الله تبارك وتعالى في سورة الذاريات وقد تقدم إيضاحها، والدلالة منها، قال تعالى: (( فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ))[الذاريات:35-36]، وقلنا: إن هذا لا يقتضي الترادف، فهذا أحد الأدلة.
    ومن الأدلة التي يستدلون بها على الترادف أيضاً: حديث الجارية التي جاءت قصتها في صحيح مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله تعالى عنه وأرضاه: ( أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لي جارية ترعى الغنم، فعدى الذئب على واحدة منها فأخذها، وأنا امرؤ أغضب كما يغضب الناس فصككتها صكة، ثم قال: يا رسول الله! إني أريد أن أعتقها، فجيء بالجارية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألها النبي صلى الله عليه وسلم: أين الله؟ قالت: في السماء، فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال لها: من أنا؟ قالت: رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أعتقها؛ فإنها مؤمنة )، ففهم الذين يقولون: إن الإيمان والإسلام مترادفان؛ فهموا من ذلك أن قوله: إنها مؤمنة؛ أي: مسلمة؛ لأنها لم تعمل، وإنما هي أقرت إقراراً، إذاً فالمقر مؤمن، والمؤمن هو المسلم، والمسلم هو مؤمن، فوقع الإشكال في هذا الحديث عند المرجئة ، فـالمرجئة عندهم أن الإيمان هو التصديق، وإذا أعلن هذا الإقرار بلسانه فهو مؤمن أيضاً، فجعلوا هذه الجارية مؤمنة، أي: في مرتبة الإيمان، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: إنها مؤمنة بقصد أنها من المؤمنين أصحاب مرتبة الإيمان؛ الذين مدحهم الله، وأثنى عليهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ولا من الذين ذكروا في أول (سورة المؤمنون)، أو في آية الحجرات: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا ))[الحجرات:15] الآية وغير ذلك مما تقدم؛ ليس هذا المقصود، وإنما المقصود: مسلمة، أي: مجزئة تجزئ في العتق، هذا الذي فهموه، وفهم المرجئة واضح البطلان، وقد سبق أن نقضناه، والآخرون فهموا من الحديث: ( أعتقها فإنها مؤمنة ) أي: مسلمة، إذاً فالإسلام والإيمان مترادفان، فكما أن الإيمان قول وعمل؛ فالإسلام قول وعمل، فهما مترادفان، والإمام أحمد رحمه الله له في ذلك عدة أجوبة، وله -من ورعه رحمه الله- عدة مواقف أحياناً، كما في حديث: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن )، فمرة يقول: ليس مؤمناً ولكنه مسلم، ومرة يتوقف ويقول: تظل أحاديث الوعيد على ظواهرها.
    وفي الخلال: قلت لـأبي عبد الله : فالحديث الذي يروى: ( أعتقها فإنها مؤمنة )، قال: ليس كل أحد يقول: إنها مؤمنة؛ يقولون: (أعتقها)، قال: ومالك سمعه من هذا الشيخ - هلال بن علي - لا يقول: (فإنها مؤمنة)، وقد قال بعضهم: (فإنها مؤمنة)، فهي حين تقول بذلك فحكمها حكم المؤمنة، هذا معناه، وكلام الإمام أحمد هنا نفيس وعظيم، فقوله: ليس كل أحد يقول: إنها مؤمنة، أي: ليس كل الرواة الثقات يقولون: إنه قال: ( أعتقها؛ فإنها مؤمنة )، وإنما في بعضها: (أعتقها) فقط ولم يقل: إنها مؤمنة.
    الشيء الثاني: قال: وقد قال بعضهم: لأنها مؤمنة، أي: ورد أيضاً من قال: لأنها مؤمنة، فهي حين تقر للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وبوحدانية الله ومعرفة الله المتمثلة في جوابها وقولها: في السماء؛ فحكمها حكم المؤمنة، أي: أنها مؤمنة حكماً، أي: في الدنيا، فيجزئ عتقها، وليس المقصود: أنها مؤمنة من أهل مرتبة الإيمان والفضل، لكن هي رقبة مؤمنة، إذاً فتجزئك أن تعتقها، والمقصود في هذا هو أي رقبة مسلمة، ولم يقل أحد من علماء الأمة، وليس من شرط ذلك أن تكون المعتقة رقبة مؤمنة من درجة أهل الإيمان، وإنما المقصود غير كافرة، أي: مسلمة.
    والشيخ الألباني رحمه الله علق على قول الإمام أحمد ومالك سمعه من هذا الشيخ - هلال بن علي - ولا يقول: إنها مؤمنة، فقال: قلت قد رواه يحيى بن أبي كثير عن هلال بن علي - وهو: ابن أبي ميمونة - بزيادة: (فإنها مؤمنة)، أخرجه مسلم وأحمد وغيرهما، ويحيى ثقة حجة، فزيادته مقبولة، وقد جاءت من طرق أخرى عن جماعة من الصحابة؛ ساق أحاديثهم الذهبي في أول كتاب العلو ، فهي زيادة صحيحة مقطوع بثبوتها، فلا وجه للتردد في ذلك.
    كلام الشيخ الألباني رحمه الله تعالى هذا صحيح من حيث إن الزيادة مقبولة؛ فهي زيادة ثقة، لكن الإمام أحمد يقصد شيئاً آخر، فإن الجواب قد جاء من طريقين ورجالهما ثقات؛ لا سيما هنا ويحيى بن أبي كثير أو غيره لا يداني منزلة الإمام مالك ، فـمالك في الدرجة والطبقة الأولى؛ أوثق من هؤلاء الثقات، فإذا جاء الحديث من طريقين إحداهما فيها الزيادة، والأخرى ليست فيها الزيادة؛ فالقول بأن الرواية التي لا زيادة فيها كافٍ في الجواب لا يعني الطعن في الزيادة، فالزيادة مقبولة، وهي لا تتعارض مع المعنى الصحيح الذي يقول به من يرى أن الحديث بدون الزيادة كاف، فلما قال صلى الله عليه وسلم (أعتقها) فهو كافٍ في الجواب، وقوله: (فإنها مؤمنة) زيادة في الإيضاح؛ فهي مقبولة، وقد جاءت من طريق ثقة، ولا تعارض الرواية الأخرى، فهي فقط للإيضاح وليست للمعارضة.
    هذا الذي يريد الإمام أحمد أن يقوله، فيقول: ما دام أن الذي قاله مالك وغيره: (أعتقها) ولم يقل: إنها مؤمنة؛ فهذا دليل على اكتفاء القول وانتهائه، وأن الصحابي معاوية رضي الله تعالى عنه اكتفى من النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في هذه الرواية: (أعتقها)، فعلم من ذلك أنها مجزئة، فهو إنما جاء يسأله: أتجزئ أم لا تجزئ؟ ولم يأت ليسأل النبي صلى الله عليه وسلم أهي مؤمنة أم مسلمة؟ فهذا هو الفرق.
  4. التفريق بين الإيمان والإسلام وأدلة ذلك

     المرفق    
    ولذلك لما ذكر الإمام البخاري رحمه الله -وهو من الذين يقولون بأن الإيمان والإسلام مترادفان- باب: إذا كان الإسلام على الاستسلام ولم يكن على الحقيقة، وذكر آية الحجرات، وحديث سعد في الصحيح: ( عندما كان جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم ويعطي رهطاً من الناس مالاً، فقال سعد : يا رسول الله! أعط فلاناً؛ فإني لأراه مؤمناً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو مسلماً، قال فلم أصبر فأعدت عليه ثلاث مرات، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: أو مسلماً، ثم قال: إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه؛ خشية أن يكبه الله على وجهه في النار ) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، رواه البخاري و مسلم و أحمد وغيرهم.
    إذاً: فالنبي صلى الله عليه وسلم يفرق وخاصة في مقام التزكية، فيقول: (أو مسلماً) يعني: لِمَ لم تقل: إني أراه مسلماً؛ فلا أنازعك، فيرشده إلى أن يقول القول المقتصد في ذلك: (أو مسلماً).
    فالصحابي معاوية رضي الله تعالى عنه لما جاء بالأمة إن كان يريد أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: أهذه الجارية مؤمنة أو مسلمة؟ فإنه يكون مثل حديث سعد ، وإن كان إنما جاء ليسأله: أتجزئ أو لا تجزئ؛ فإن الجواب بقوله: (أعتقها) كافٍ؛ لأنها تجزئ، فما هو المراد بالاتفاق -وهذا واضح من نص الحديث- أنه إنما جاء ليسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإجزاء لا عن الإيمان، فعلى هذا يكون كلام الإمام أحمد رحمه الله لا اعتراض عليه، وكلام الشيخ الألباني صحيح، لكن قد يفهم القارئ منه أنه يستدرك على الإمام أحمد ويعترض على كلامه، فنقول: لا، فكلام الإمام رحمه الله واضح، فلم يطعن في الرواية الأخرى، ولم يقل: هي غير صحيحة، وإنما ذكر الرواية التي هي مقتصرة على الجواب بالحكم، وأوضح ذلك فقال: وقد قال بعضهم بأنها مؤمنة، فهي حين تقر بذلك فحكمها حكم المؤمنة، هذا معناه، أي: فليس صحيحاً ما تقوله المرجئة من أن الإيمان هو القول فقط.
    وأيضاً ليس شرطاً أن يكون صحيحاً ما يقوله بعضهم: إن الإسلام والإيمان مترادفان، قال الراوي: قلت لـأبي عبد الله : تفرق بين الإيمان والإسلام؟ قال: قد اختلف الناس فيه، وكان حماد بن زيد -زعموا- يفرق بين الإيمان والإسلام. قيل له: من المرجئة ؟ قال: الذين يقولون: الإيمان قول بلا عمل.
    قلت -القائل شيخ الإسلام -: فـأحمد بن حنبل لم يرد قط أنه سُلب جميع الإيمان؛ فلم يبق معه منه شيء، والشيخ ذكر هذا هنا في حكم الفاسق الملي، وهو رحمه الله يفرق بين الإيمان والإسلام، فالفاسق مرتكب الكبيرة هو عند الإمام أحمد رحمه الله تعالى مسلم وليس مؤمناً، وهذا الكلام هو في الناحية الحكمية.
    1. توضيح شيخ الإسلام لمسألة التفريق بين الإسلام والإيمان

      وكلام شيخ الإسلام رحمه الله في (ص:44) يوضح ذلك، فيقول: (قلت: تفريق النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل؛ وإن اقتضى أن الأعلى هو الإحسان، والإحسان يتضمن الإيمان، والإيمان يتضمن الإسلام؛ فلا يدل على العكس، ولو قدر أنه دل على التلازم فهو صريح؛ لأن مسمى هذا ليس مسمى هذا) فالتلازم يكون بين شيئين مختلفين، ففرق بين التلازم وبين الترادف، فنحن نقول: إن القول المرجوح هو القول بأن الإيمان والإسلام مترادفان، وأما من يقول: إنهما متلازمان؛ فهذا حق.
      يقول: (لكن التحقيق أن الدلالة تختلف بالتجريد والاقتران كما قد بيناه، ومن فهم هذا انحلت عنه إشكالات كثيرة في كثير من المواضع حادت عنها طوائف في مسألة الإيمان وغيرها).
      هذا كلامه رحمه الله، وفعلاً كما أوضحنا من قبل أن هذا الموضوع مهم، وقد ذكره الشيخ رحمه الله في الأول، ثم أخذ ينتقد بعض الكلام الذي قاله ابن الصلاح ، و محمد بن نصر المروزي رحمهم الله وغيرهم من العلماء الذين تكلموا في موضوع الإسلام وفي أركانه.
      قال شيخ الإسلام : واسم الإسلام يتناول أيضاً ما هو أصل الإيمان وهو التصديق، ويتناول أصل الطاعات؛ فإن ذلك كله استسلام.
      فخرج مما ذكرناه وحققناه أن الإسلام والإيمان يجتمعان ويفترقان، هذا الكلام لـابن الصلاح .
      وأن كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً، فهذا تحقيق واف بالتوفيق بين متفرقات النصوص الواردة في الإيمان والإسلام؛ التي طالما غلط فيها الخائضون، وما حققناه من ذلك موافق لمذاهب جماهير العلماء من أهل الحديث وغيرهم.
      قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعد هذا: (فيقال: هذا الذي ذكره رحمه اللّه فيه من الموافقة لما قد بين من أقوال الأئمة، وما دل عليه الكتاب والسنة ما يظهر به أن الجمهور يقولون: كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً.
      وقوله: إن الحديث ذكر فيه أصل الإيمان وأصل الإسلام؛ قد يورد عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب عن الإيمان والإسلام بما هو من جنس الجواب بالحد عن المحدود، فيكون ما ذكره مطابقاً لهما لا لأصلهما فقط، فالإيمان هو الإيمان بما ذكره باطناً وظاهراً، لكن ما ذكره من الإيمان تضمن الإسلام، كما أن الإحسان تضمن الإيمان).
      أي: أنه عندما أراد الشيخ ابن الصلاح رحمه الله وغيره أن يوفقوا بين الأقوال؛ فقالوا: إن الإسلام يطلق على أصل الدين، والإيمان أيضاً يطلق على أصل الدين، فكأنهم يقولون: أنهما أحياناً يكونان مترادفين، وأحياناً ينفصلان.
      وأما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقد بنا كتابه هذا كله ورأيه في المسألة على حديث جبريل عليه السلام، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب عن الإيمان، وعن الإسلام، وعن الإحسان بما يجاب به في علم المنطق، وفي علم التعريف، وهو: الجواب بالحد عن المحدود، والحد: هو التعريف الجامع المانع المنضبط، فهو صلى الله عليه وسلم لما قال له جبريل: أخبرني عن الإسلام؟ قال: الإسلام كذا، فأجاب بالحد الجامع المانع عن المحدود، فعلى هذا لا ينبغي لنا أن نفسر ذلك بتفسير آخر، فهو يرى الوقوف عند هذا، وأما ما قاله من التلازم بينهما كذلك فهو حق، وهو قول جمهور الأئمة.
    2. قول الزهري في التفريق بين الإسلام والإيمان

      ثم ينقل نقلاً، وهذا قد نقله الإمام أحمد رحمه الله بسند صحيح، وكذلك نقله عبد الرزاق عن معمر عن الزهري ، وهذا من أقدم ما ورد عن السلف في التفريق بينهما.
      قال الزهري : الإسلام الكلمة، والإيمان العمل.
      وقد جاءت هذه الكلمة من الزهري رحمه الله في آخر حديث سعد بن أبي وقاص الذي تقدم ذكره، وهو في صحيح البخاري ، وذكر الحافظ رحمه الله أنه في إحدى الروايات قال الزهري بعد أن روى الحديث السابق قال: فنرى الإسلام الكلمة، والإيمان العمل.
      فعلى كلامه رحمه الله يكون الإسلام هو الإقرار، ويكون الإيمان هو العمل، أي: أن تحقيق هذا الإقرار يكون بالعمل، ولا يعني هذا: أن السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم كانوا يسمون الإنسان إذا أقر وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، ولم يعمل؛ أنهم يسمونه مسلماً بدون أي اعتراض، فلابد من النظر إلى التلازم، فمهما اختلفت العبارات فالجميع يعلم أن التلازم بينهما لا بد منه.
      فـالزهري رحمه الله هنا: يعبر عن فهمه، وهذا الفهم وافقه عليه غيره، وهو: أن الإسلام هو الإقرار، فمن أقر قيل: أسلم، ودخل في الإسلام، وأن الإيمان هو العمل، وهذا دليل على أن الإسلام مرتبة أدنى، والإيمان مرتبة أعلى، وأن التلازم بينهما وارد؛ فهو لم يفهم أن أحداً يقر ولا يعمل، فهذا الكلام من الزهري لا يترك على إطلاقه؛ خشية أن يفهم منه بعض الناس أن من السلف من يظن أن الإسلام يكفي فيه أن يقول الإنسان: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وقد ظهر هذا مع الأسف كما تعلمون، فأما المرجئة فقد أظهروا ذلك وأعلنوه، وبعض من ينتمي أيضاً إلى عقيدة أهل السنة والجماعة قد يقع في هذا الخطأ، وربما دفعهم هذا إلى القول بأنه ليس شيء من الأعمال تركه كفر، أي: أن الإنسان مهما ترك من الأعمال فهو يظل مسلماً ولا يكون كافراً، وهذا غير صحيح أبداً؛ لأن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعوا على كفر تارك الصلاة الترك المطلق المستبين الذي يأبى صاحبه معه أن يصلي لله تبارك وتعالى، فهذه الحالة هي في الترك المطلق، وهذا التارك للصلاة تركاً مطلقاً هو أيضاً يكون تاركاً للصيام، فلو صام لا يصح منه، ويكون تاركاً لبقية الأعمال.
      فهذا الذي ترك العمل كلية ولم يعمل عملاً من أعمال الإسلام قط؛ إلا أنه يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، ويقول: أنا مسلم؛ لا يصح أن نحمل كلام الزهري عليه، ولا نقول: إنه قد جاء بالإسلام ولم يأت بالإيمان فهو مسلم! لا، فالتلازم موجود، والسلف الصالح رضي الله تعالى عنهم كلهم يعتقدون هذا التلازم، فـسعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه كان يعلم ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم لما قال له: (أو مسلماً) لم يكن يقصد أنه فقط لديه الإقرار الظاهر وليس لديه من الإيمان شيء أبداً؛ لأنه إذا كان مسلماً فلا بد أن يكون لديه أصل الإيمان، وكذلك الزهري لما فسر الحديث بهذا، وهكذا الصحابة رضوان الله تعالى عليهم والسلف أجمعون.
      ولهذا نجد أن شيخ الإسلام رحمه الله بعد أن ذكر هذا انتقل ليذكر الخلاف فيمن ترك الأركان الخمسة أو بعضها.
    3. قول الإمام أحمد في التفريق بين الإسلام والإيمان

      ثم ذكر شيخ الإسلام رواية مهمة جداً عن الإمام أحمد رحمه الله، يقول: (قال إسماعيل بن سعيد : سألت أحمد عن الإسلام والإيمان، فقال: الإيمان: قول وعمل، والإسلام: الإقرار.
      وقال: وسألت أحمد عمن قال في الذي قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم حين سأله عن الإسلام فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ فقال: نعم، فقال قائل: وإن لم يفعل الذي قاله جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم فهو مسلم أيضاً؟ فقال: هذا معاند للحديث).
      وحديث جبريل المعروف له عدة روايات صحيحة، فيقول فيها جبريل عليه السلام بعد أن سأله: ( يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت ).
      إلى أن قال: ( فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ قال: نعم، ثم قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر ) إلى أن قال: ( فإذا فعلت ذلك فأنا مؤمن؟ قال: نعم ).
      ويعني الإمام أحمد: لو أن أحداً لم يفعل هذا الأمور، ويقول: أنا مقر ومصدق بالإسلام؛ فإنه يكون معانداً للحديث؛ لأن الحديث قال: ( فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ قال: نعم ) أي: أنه لو لم يفعل ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول له: نعم.
      (وقال الحسن بن علي: سألت أحمد بن حنبل عن الإيمان: الإيمان أوكد أو الإسلام؟
      قال: جاء حديث عمر هذا -يعني: حديث جبريل عليه السلام-، وحديث سعد أحب إلي) لأنه أكثر إيضاحاً في الفرق بينهما، فالنبي صلى الله عليه وسلم ينبه سعداً ويقول له: اعدل عن هذا القول إلى ذاك، أي: لا تقل: مؤمناً، وإنما قل: مسلماً، فهو أحب إليه من جهة أنه أوضح في الدلالة على أن الإيمان أوكد، فهو الأهم والمرتبة الأعلى.
      وكأنه فهم أن حديث عمر يدل على أن الأعمال هي مسمى الإسلام، فيكون مسماه أفضل، وحديث سعد يدل على أن مسمى الإيمان أفضل، ولكن حديث عمر لم يذكر الإسلام إلا بالأعمال الظاهرة فقط، وهذه لا تكون إيماناً إلا مع الإيمان الذي في القلب بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، أي بتحقيق الإيمان الذي هو حديث جبريل.
      قال: فيكون مسمى الإيمان أفضل كما دل عليه حديث سعد ، فلا منافاة بين الحديثين.
      قال: (وأما تفريق أحمد بين الإسلام والإيمان فكان يقوله تارة، وتارة يحكي الخلاف ولا يجزم به، وكان إذا قرن بينهما تارة يقول: الإسلام: الكلمة، وتارة لا يقول ذلك، وكذلك التكفير بترك المباني).
      والمقصود بالمباني: الأركان الأربعة وليس الخمسة؛ لأن من ترك الشهادة فهو كافر بالإجماع، وهذا قبل أن يشذ المرجئة ، فبعض المرجئة يقولون: لا يكون كافراً إذا عرف بقلبه، والصحيح: أنه لا يكون مؤمناً لا في الدنيا ولا في الآخرة، لا في الظاهر ولا في الباطن إذا لم يشهد: أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.
      (قال الميموني: قلت: يا أبا عبد الله ! تفرق بين الإسلام والإيمان؟ قال: نعم. قلت: بأي شيء تحتج؟ قال: عامة الأحاديث تدل على هذا، ثم قال: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ) ).
      إذاً: فالإمام أحمد يريد أن يقول: إن السارق والزاني ومرتكب الكبيرة لا يفعل ذلك وهو مؤمن، لكنه يظل مسلماً، فهو يفرق بين الإسلام وبين الإيمان.
      ثم قال رحمه الله: (وقال الله تعالى: (( قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ))[الحجرات:14]).
      فهنا صرح الإمام أحمد بالتفريق، واستدل بالآية.
      قال: (و حماد بن زيد يفرق بين الإسلام والإيمان).
      وهذا 4من دقة الإمام أحمد رحمه الله، وحرصه على ألا ينسب له قول، وورعه في ذلك، فهو مرة يقول بالفرق، ومرة يحكي الخلاف ولا يجزم، ومرة يقول: قال الزهري : الإسلام: الكلمة، والإيمان العمل، ومرة يقول: كان حماد بن زيد لا يفرق، فهو رحمه الله يتورع أن يخطِّئ أحداً من السلف، فهذا من ورع العلماء.
      وقد جمع الإمام أحمد رحمه الله من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن علم الصحابة والتابعين ومن بعدهم؛ في المنقول، وفي المعقول أيضاً، وفي الآراء والاستنباط ما لم يتوفر لأحد في عصره -رحمه الله- بإجماع الأمة، فلم يكن أحد في عهد الإمام أحمد رحمه الله أعلم منه، وقد اجتمعت لديه المزايا والفضائل العظيمة في طلب العلم، وفي الفقه والاستنباط، فقد ورث علم مالك ، وورث علم الشافعي رضي الله تعالى عنهما، واستطاع أن يفصل وأن يميز بين مذهب أهل العراق ومذهب أهل المدينة ، وفصل هذا على هذا بأصول، وأخذ من الشافعي رحمه الله تعالى الأصول والدقة في النظر، وفي الاستدلال، والفهم اللغوي الصحيح، كما أخذ أيضاً الحديث بالأسانيد العالية، وهو جبل في هذا الشأن لا يشق له غبار، ومع ذلك كله نراه عندما يذكر عالماً إماماً كـحماد بن زيد لا يستطيع أن يجزم بأنه أخطأ، وإنما يقول: زعموا، ومرة يقول: حماد بن زيد يفرق بين الإسلام والإيمان.
    4. المفرقون من السلف بين الإيمان والإسلام

      يقول شيخ الإسلام في (ص:243): (كان حماد بن زيد -زعموا- يفرق بين الإيمان والإسلام، وهنا قال: و حماد بن زيد يفرق بين الإسلام والإيمان).
      وسبب التردد والشك هنا أن أئمة وفقهاء الكوفة كانوا موضع الإرجاء، فلعل هذا هو السبب، فكانوا لا يفرقون بينهما، فهو ينسب هذا إلى هذا الإمام منهم.
      قال: (وقال مالك و شريك -وذكر قولهم، وقول حماد بن زيد-: فرق بين الإسلام والإيمان.
      قال أحمد : قال لي رجل: لو لم يجئنا في الإيمان إلا هذا لكان حسناً.
      قلت لـأبي عبد الله : فتذهب إلى ظاهر الكتاب مع السنن؟ قال: نعم. قلت: فإذا كانت المرجئة يقولون: إن الإسلام هو القول؟
      قال: هم يصيّرون هذا كله واحداً).
      أي: أن المرجئة يجعلون الإسلام والإيمان شيئاً واحداً.
      قال: (ويجعلونه مسلماً ومؤمناً شيئاً واحداً على إيمان جبريل، ومستكمل الإيمان.
      قلت: فمن هاهنا حجتنا عليهم؟ قال: نعم)، فقد ذكر عنه الفرق مطلقاً، واحتجاجه بالنصوص.
      فهذه رواية، وهناك رواية أخرى أيضاً ذكرها ابنه صالح .
      (قال صالح بن أحمد : سئل أبي عن الإسلام والإيمان، قال: قال ابن أبي ذئب : الإسلام: القول، والإيمان: العمل).
      فانظر إلى الورع، فهذه الكلمة التي قالها الزهري قالها أيضاً الإمام المشهور القوال بالحق: ابن أبي ذئب رحمه الله، وأجاب الإمام أحمد عمن سأله بما قال ابن أبي ذئب، ولم يقل شيئاً من عنده، فقال: قال ابن أبي ذئب : الإسلام: القول، والإيمان: العمل.
      و الزهري يقول: فنرى الإسلام: الكلمة، والإيمان: العمل.
      قال: (قيل له: ما تقول أنت؟ قال: الإسلام غير الإيمان، وذكر حديث سعد ؛ لأنه أوضح في الدلالة على التفريق بينهما، فهو لم يختر قول من قال: إن الإسلام: القول، بل أجاب بأن الإسلام غير الإيمان، كما دل عليه الحديث الصحيح والقرآن الكريم).
      هذا هو كلام الإمام ابن تيمية رحمه الله تعقيباً على ذلك.
    5. ترجيح شيخ الإسلام وحكمه على الأقوال في معنى الإسلام والإيمان

      يقول شيخ الإسلام رحمه الله في (ص:359): (والمقصود: أن هنا قولين متطرفين -يعني: أن كلاً منهما على طرف- قول من يقول: الإسلام مجرد الكلمة فقط، والأعمال الظاهرة ليست داخلة في مسمى الاسم، وقول من يقول: مسمى الإسلام والإيمان واحد، فهما مترادفان، وكلاهما قول ضعيف مخالف لحديث جبريل وسائر أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم).
      إذاً: هذان القولان ضعيفان، وهما: قول من فهم ذلك من كلام السلف، فيجعل الإسلام، هو الكلمة فقط، أو الإقرار باللسان، ولا يجعل الأعمال الظاهرة داخلة فيه، وهذا قول شاذ، فعنده أن إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان هي من الإيمان، وأما الإسلام فهو شهادة أن لا إله إلا الله على ما فهم من كلام الزهري ، أو كلام ابن أبي ذئب أو غيره من السلف، وهذا خطأ.
      والقول الثاني: إن الإسلام والإيمان شيء واحد أينما وردا، والمقصود منهما واحد، وهذا أيضاً خطأ.
      والقول الصحيح: هو القول بالتلازم بينهما، وأن المعنى يختلف فيما بينهما بحسب الإفراد والاقتران كما بين الشيخ رحمه الله تعالى بعد ذلك ورجح وهو -كما ذكرنا- مختصر من كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى هنا.
      فالشيخ رحمه الله ذكر اختلاف الأسماء بحسب الدلالة والاقتران، ثم عقب ذلك بإيضاح المثال الذي تقدم ذكره وهو: أن الإسلام والإيمان مثلهما كمثل الشهادتين، فلا تغني إحداهما عن الأخرى إذا اقترنتا، وأينما ذكرت إحداهما دخلت فيها الأخرى، ومثل أيضاً بالنبي والرسول، والتمثيل بالشهادتين أوضح وأبعد عن الخلاف.
      فقد قلنا: إن العبد المؤمن إذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله؛ فمعنى ذلك أنه مقر بأن محمداً رسول الله، فكذلك إذا قال العبد: أنا مسلم، فمعنى ذلك: أنه مقر بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وليس معنى ذلك أنه ملتزم بالأعمال والأركان الظاهرة فقط.
      وإذا قال: أنا مؤمن؛ فمعنى ذلك أنه يؤدي أيضاً الأركان الظاهرة العملية، وهي التي فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بالإسلام.
      فتبين لنا من ذلك صحة ووضوح ما سبق وهو: أن هذه الثلاثة الأسماء مثل الدوائر، فدائرة الإحسان أوسع الدوائر جميعاً؛ لأنها تشمل الأركان، والواجبات، والنوافل المستحبة، ثم دائرة الإيمان، وهي أقل منها؛ لأنها لا يدخل فيها الكمالات والمستحبات التي تدخل في دائرة الإحسان، ثم دائرة الإسلام، وهي: الإتيان بالأركان الظاهرة.
      فالعبد إن أتى بالأركان الظاهرة -ولا بد في ذلك من أصل الإيمان الباطن -فهو مسلم، لكن لا يكون مؤمناً حتى يأتي بالواجبات، ويدع المحرمات، فإن تعدى ذلك- أي: أتى بالواجبات مع الأركان، وترك المحرمات مع ترك الشرك- إلى الإتيان بالنوافل والمستحبات، ومراقبة الله تبارك وتعالى في السر والعلن، والخشوع، والإخبات، والإنابة.. وغير ذلك من الأعمال فهو في مرتبة أهل الإحسان.
      نسأل الله الكريم، رب العرش العظيم أن يجعلنا وإياكم من المحسنين، إنه سميع مجيب.
      والحمد لله رب العالمين.