المادة كاملة    
إن الناس في أعمالهم وطاعاتهم ليسوا على وزن واحد، بل هم متفاوتون في ذلك كتفاوتهم في الإيمان بالله تعالى، فمنهم السابق، ومنهم المقتصد، ومنهم الظالم لنفسه، وقد زلت بعض الفرق في فهم هذا التفاوت فوقعت في مصادمة ما عليه سلف الأمة، ولتلك الفرق أسباب كان الرد عليها من خلال الفهم للنصوص القرآنية والنبوية مجتمعة.
  1. مراتب الناس في الدين والرد على الخوارج والمعتزلة

     المرفق    
    ‏الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    قال المؤلف رحمه الله: [وفي الصحيح قوله لوفد عبد القيس: (آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا الخمس من المغنم) ومعلوم أنه لم يرد أن هذه الأعمال تكون إيمانا بالله بدون إيمان القلب، لما قد أخبر في مواضع أنه لا بد من إيمان القلب، فعلم أن هذه مع إيمان القلب هو الإيمان وأي دليل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان فوق هذا الدليل؟ فإنه فسر الإيمان بالأعمال ولم يذكر التصديق للعلم بأن هذه الأعمال لا تفيد مع الجحود وفي المسند عن أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الإسلام علانية والإيمان في القلب ) وفي هذا الحديث دليل على المغايرة بين الإسلام والإيمان، ويؤيده قوله في حديث سؤالات جبريل في معنى الإسلام والإيمان، وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ( هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ) فجعل الدين هو الإسلام والإيمان والإحسان، فتبين أن ديننا يجمع الثلاثة؛ لكنه درجات ثلاث: مسلم، ثم مؤمن، ثم محسن، والمراد بالإيمان ما ذكر مع الإسلام قطعاً، كما أنه أريد بالإحسان ما ذكر مع الإيمان والإسلام، لا أن الإحسان يكون مجرداً عن الإيمان؛ هذا محال! وهذا كما قال تعالى: (( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ.. ))[فاطر:32]، والمقتصد والسابق كلاهما يدخل الجنة بلا عقوبة، بخلاف الظالم لنفسه فإنه معرض للوعيد.
    وهكذا من أتى بالإسلام الظاهر مع التصديق بالقلب لكن لم يقم بما يجب عليه من الإيمان الباطن، فإنه معرض للوعيد، فأما الإحسان فهو أعم من جهة نفسه وأخص من جهة أهله، والإيمان أعم من جهة نفسه وأخص من جهة أهله من الإسلام، فالإحسان يدخل فيه الإيمان، والإيمان يدخل فيه الإسلام، والمحسنون أخص من المؤمنين، والمؤمنون أخص من المسلمين.
    وهذا كالرسالة والنبوة؛ فالنبوة داخلة في الرسالة، والرسالة أعم من جهة نفسها وأخص من جهة أهلها، فكل رسول نبي ولا ينعكس]
    . ‏
    1. مراتب الناس في الدين من خلال بعض نصوص القرآن وحديث جبريل

      ما يتعلق بحديث جبريل عليه السلام تقدم إيضاحه، لكن قول الشارح رحمه الله تعالى: (وهذا -أي: ما تقدم من كون حديث جبريل عليه السلام اشتمل على مراتب الدين الثلاث- كما قال تعالى: (( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ))[فاطر:32]) التي يبين الله تبارك وتعالى فيها فضل هذه الأمة؛ لأن الله تعالى قال في أولها: (( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ))[فاطر:32] فبين الله عز وجل أن هذه الأمة أمة مصطفاة، وأنه أورثها الكتاب بعد أن أنزل الكتاب على أمتين قبلها، ولكن الأمتين السابقتين جانبتا الطريق، إحداهما هي الأمة المغضوب عليهم وهم اليهود ، والأخرى هم الأمة الضالة، وهم النصارى ، فإنها بخلاف أمة الإسلام لزمت الصراط المستقيم؛ ولهذا يقول الله تبارك وتعالى فيها: (( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ))[آل عمران:110] فهذه الأمة مفضلة والحمد لله على من قبلها، وهي مصطفاة في جملتها ومجموعها، والظالم لنفسه داخل في جملتها فيكون داخلاً في الاصطفاء، فإن الله تعالى قال: (( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ))[فاطر:32]، وهؤلاء فصلهم الله، فمنهم الظالم لنفسه، فكون الظالم لنفسه يكون من جملة الأمة المصطفاة، فهذا دليل على فضل هذه الأمة، فما بالك بالسابق بالخيرات بإذن الله، فهم أفضل الخلق عند الله تبارك وتعالى.
      وهذه الآية فيها دليل واضح على بطلان مذهب الخوارج وأمثالهم، وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى هذه الآية والاستدلال بها في كتاب الإيمان الأوسط محتجاً على الخوارج ومن تبعهم من المعتزلة الذين يتفقون معهم في الحكم، ويختلفون معهم في الاسم فقط، فالظالم لنفسه أي: المرتكب للمعاصي لا يخرج من النار عند الخوارج ، والصحابة والمفسرون من السلف رضوان الله تعالى عليهم وقع بينهم الخلاف في هذه الأصناف الثلاثة: من هي ومن تكون؟ وهل هي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم التي آمنت به وأذعنت وانقادت؟ أم أن الأقسام الثلاثة هي أقسام الناس عموماً؟ الخلاف القديم، فمن المتقدمين من قال بقول مرجوح سنبينه إن شاء الله، ولم يذهبوا أبداً إلى قول الخوارج و المعتزلة ، و الخوارج و المعتزلة خالفوا السلف الصالح في هذا، وبيان ذلك أن الله سبحانه وتعالى قسم الناس في بعض الآي قسمين: المؤمنون والكافرون، وفي بعض السور ثلاثة أقسام، وقسمهم في هذه الآيات أربعة أقسام، لكن بعض المفسرين فهموا أن الأقسام الأربعة التي في سورة فاطر هي نفس الأقسام التي في سورة الواقعة، في قول الله تبارك وتعالى: (( وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً ))[الواقعة:7] أي: أصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، والسابقون، فهؤلاء ثلاثة أقسام، وهذا تفصيل أكثر من قسمة الناس إلى قسمين كما في سورة البينة وغيرها كثير جداً من القرآن، كما في أول سورة البقرة، فالمؤمن والكافر والمنافق في أول سورة البقرة هو بحسب حقيقة الإيمان، والأقسام الثلاثة التي في سورة الواقعة على اعتبار أن طائفتين في الجنة وطائفة في النار بخلاف ما في أول سورة البقرة، فالتقسيم هناك بحسب البداية، وما في سورة الواقعة فهو بحسب المآل عند الله تبارك وتعالى؛ لأن الكلام فيها عن أزواج الناس وأحوالهم يوم القيامة، وأما في سورة فاطر فالقسمة رباعية، ولهذه القسمة الرباعية ميزة، وهي تبين أن هذه الأمة مفضلة ومصطفاة جميعها حتى أصحاب الكبائر منهم، أما من كان كافراً فلا يدخل في هذا؛ لأنه بلا توحيد ولم يؤمن بالله، وقد يكون أعلن الإيمان بلسانه لكنه كافر باطناً كالمنافقين، فهذا خارج عن الدخول في الأمة المصطفاة، وهنا نبين أن هذه الأمة مفضلة جميعها، وعلى ذلك يكون أصحاب الكبائر داخلين في هذا التفضيل باعتبار معين وهم من أهل الوعيد، لكن باعتبار المآل فسيؤول أمر هذه الأمة إلى حالتين، إما أن يكون أهلها من الصديقين المقربين، وأما أن يكونوا من أصحاب اليمين، ومنهم من يدخل النار؛ ولذلك قررنا القاعدة وهي أن مذهب أهل السنة والجماعة أنه لا بد أن يدخل بعض أهل الكبائر النار، ومنهم من لا يدخل النار، والآيات والأحاديث في هذه واضحة؛ لأن منهم من يعفو الله تبارك وتعالى عنه كما قال: (( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ))[النساء:48] وقول الخوارج و المعتزلة أنه لا يدخل الجنة أحد من أهل الكبائر باطل، وكذلك قول المرجئة بأنه يجوز ألا يدخل كل أهل الكبائر النار، والحق هو عقيدة أهل السنة والجماعة أن بعض أهل الكبائر يدخلون النار، والبعض قد يغفر لهم؛ لأن الله يغفر ما دون الشرك لمن يشاء، فمن شاء غفر له، ومن شاء عذبه وكل ذلك منه عدل، وهو لا يظلم مثقال ذرة.
      فالقسمة الرباعية في سورة فاطر ترجع إلى القسمة الثلاثية بدليل أننا لو قرأنا أول هذه الآيات: (( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ))[فاطر:32] لوجدنا أن مآلهم كلهم ومصيرهم ((جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ))[فاطر:33]، وهم يقولون: الحمد لله (( الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ))[فاطر:35]، وهذا يراد به هذه الأمة المصطفاة بأقسامها الثلاثة، ثم قال تعالى بعد ذلك: (( وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ))[فاطر:36]، وهذا قسم آخر لا يدخل في الاصطفاء، وليس من أهل الجنة.
      إذاً: هذه الآيات تدل على أن الأقسام أربعة، فالقسم الرابع هم الذين كفروا، وليسوا من الذين أورثوا الكتاب، ولا من الذين اصطفاهم الله سبحانه وتعالى، وليسوا ممن يدخلون الجنة ويحلون فيها، وليسوا ممن يقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن؛ لأنهم في غاية الحزن، فسياق الآيات واضح أن الكفار إنما يبدأ الحديث عنهم من قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا).. الآية، فالقسم الأول هو في الذين آمنوا، وأما هؤلاء فهم طائفة أخرى لها حكم آخر وشأن آخر كما في الآية: (لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) والكافر حاله عذاب دائم، وهو خالد مخلد في النار، وفي هذا دليل واضح على بطلان مذهب الخوارج و المعتزلة ؛ لأن الخوارج و المعتزلة يتفقون معنا على أن مرتكب الكبيرة ظالم لنفسه، ولا شك في ذلك؛ لكنهم يقولون: إن مرتكب الكبيرة خالد مخلد في النار، ويجعلونه من الذين لا يقضى عليهم فيموتوا، ولا يخفف عنهم من عذابها.
      فهم قد خالفوا هذه الآيات، وخاصة أننا عندما نقول: إن مرتكب الكبيرة يدخل النار، فليس معناه أنه يخلد في النار، وآيات دخول المؤمنين الجنة هي باعتبار المآل ونهاية الأمر، فكل هذه الأمة مآلها الدخول في الجنة، وأما السابقون فهم يدخلون الجنة ابتداءً، ولهم الدرجات العلى، وهم المقربون، والمقتصد أيضاً يدخل الجنة لكن له درجات أدنى، وهو من أصحاب اليمين، وليس دخول الجنة لهذين فقط، بل إن الظالم لنفسه وهو مرتكب الكبيرة مآله إلى الجنة وإن بقي في النار ما بقي، فهو يدخل النار ابتداءً لكن مآله في النهاية أن يكون من أهل الجنة، ومآله شكر الله تبارك وتعالى وحمده الذي أذهب عنه الحزن، بل إن أصحاب النار المذكورون في آيات فاطر لا يدخل فيهم أصحاب الوعيد أو أهل الكبائر؛ لأنها صريحة في أنها نار الكفار الخالدين المخلدين فيها، فعلى هذا تكون رداً واضحاً على الخوارج و المعتزلة .
      وإذا عدنا لمعرفة مذهب الخوارج و المعتزلة نجدهم يقولون: إن القسمة ثلاثية كما في سورة الواقعة، لكنهم يفسرونها بأن يجعلوا الظالم لنفسه المرتكب الكبيرة يساوي الكافر، فيقولون: من أمة محمد صلى الله عليه وسلم من هو ظالم لنفسه، وهذا هو الذي ارتكب كبيرة، وهو عندهم كافر، وأما المقتصد فهو عندهم من أصحاب اليمين الذين لم يرتكبوا الكبائر، لكن اكتفوا بأداء الواجبات وترك المحرمات، وأما السابقون فهم الذين كملوا إيمانهم بترك المكروهات وأداء المستحبات، فالقسمة عند الخوارج و المعتزلة ثلاثية، فلا يفرقون بين آيات فاطر وبين آيات الواقعة، وعلى هذا فهم يرون أن مرتكب الكبيرة من هذه الأمة حكمه حكم الكافر المخلد في النار، فلا فرق بين هذا وبين هذا.
    2. وجه الشبه بين حديث جبريل والآيات في مراتب الناس في الدين

      ولذلك فشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ذكر هذه الآية في معرض الرد عليهم، وشبه الأقسام الثلاثة فيها بالأقسام التي في حديث جبريل عليه السلام، فيكون الظالم لنفسه هو المسلم الذي لم يبلغ درجة الإيمان، والمسلم هو من كان من أهل القبلة، لكن لا يبلغ درجة الإيمان، ولا تستطيع أن تقول عنه: إنه مؤمن؛ لأنه يرتكب من المعاصي ما يحول بينه وبين استحقاق وصف بالإيمان، فهذا ينطبق عليه قول الله تبارك وتعالى: (( قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ))[الحجرات:14] وهذا حاله كما في حديث سعد عندما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ( إن أراه لمؤمناً قال: أو مسلماً ) أي: لا تستطيع أن تزكيه بالإيمان؛ لأنه قد يفعل شيئاً من الأمور التي وردت في الحديث المتقدم: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ) وقد يكون عاقاً لوالديه، أو مؤذياً لجيرانه، أو يفقد الحياء، وقد يكون مرتكباً لكبيرة من الكبائر الباطنة، وهذا ما يغفل عنه كثير من الناس حين يظنون أن الكبائر هي في الأمور الظاهرة فقط، كالزنا والسرقة وشرب الخمر وما مثلنا به، في حين أن هناك الكبائر الباطنة أو الخفية مثل الغل على المؤمنين، والحسد، ومثل سوء الظن، ولذلك فقد جاء في نفس الآيات من سورة الحجرات ذكر بعض هذه الكبائر الباطنة كسوء الظن، قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ))[الحجرات:12]، ومنها الغيبة والنميمة والحسد والغل على المؤمنين، فهذه كبائر خفية، والناس يفطنون للربا، أو للزنا، أو لشرب الخمر، أو لأكل مال اليتيم أكثر منها لكنها -والعياذ بالله- خطيرة جداً على الأمة، فعلى الإنسان أن يتجرد من هذه جميعاً.
      فالمسلم الذي في حديث جبريل عليه السلام هو الذي أتى بالأركان الخمسة الظاهرة، فهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويصلي ويصوم ويزكي ويحج البيت، فله أحكام المسلمين كافة، لكنه لا يكون مؤمناً بمجرد ذلك مع وجود ما يمنع استحقاقه اسم أو وصف الإيمان؛ ولهذا نجد أن الموعود بالجنة في القرآن هم المؤمنون، والأوصاف المعلق بها دخول الجنة هي أوصاف الإيمان، وليس مجرد الإسلام، فالإسلام هو المرتبة الأدنى من مراتب الدين التي إن أتى به الإنسان لم يحقق مرتبة الإيمان إلا بترك المحرمات غير الأركان المعلومة، أو فعل الواجبات غير الأركان أيضاً؛ لأن هناك واجبات يجب على الإنسان أن يأتي بها، ومحرمات يجب أن ينتهي عنها وهي غير هذه المباني أو الأركان الخمسة، فلا بد للإنسان أن يأتي بها ليصبح مؤمناً، فإذا أخل بشيء من ذلك فإنه يظل مسلماً ولا يستحق أن يسمى مؤمناً، فإذا لم يأت بما ينقص إيمانه، بل أتى بالواجبات وترك المحرمات بالإضافة إلى تحقيق هذه الأركان والأعمال الظاهرة التي هي أركان الإسلام، فإنه يسمى مؤمناً، وهو ما يقابله وصف المقتصد في آيات فاطر؛ لأن حديث جبريل عليه السلام فيه التدرج من الأدنى إلى الأعلى، وآيات فاطر فيها أيضاً التدرج من الأدنى إلى الأعلى.
      فإذاً: التشابه واضح بأن المسلم يقابله ظالم لنفسه، بمعنى: أنه ليس خارجاً عن هذه الأمة، لكنه لم يأت بما يستحق أن يصل به مرتبة الإيمان.
      المرتبة الثانية في حديث جبريل هي مرتبة الإيمان ويقابلها في آيات فاطر المقتصد، والإحسان في حديث جبريل عليه السلام يقابله في سورة فاطر السابق، فالسابق هنا هو المحسن هنالك، وشيخ الإسلام رحمه الله بين أن الله قسم الأمة التي أورثها الكتاب واصطفاها)، وقد قال ذلك رداً على الخوارج في أول كتاب الإيمان الأوسط ، فقال رحمه الله: (ثلاثة أصناف: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات، وهؤلاء الثلاثة ينطبقون على الثلاث المراتب المذكورة في حديث جبريل: الإسلام، والإيمان، والإحسان، ومعلوم أن الظالم لنفسه أن أريد به من اجتنب الكبائر، والتائب من جميع الذنوب، فذلك مقتصد أو سابق) وقد شرح كلام الشيخ الطحاوي الإمام ابن أبي العز بقوله: (والمقتصد والسابق كلاهما يدخل الجنة بلا عقوبة) الفرق بينهما هو في الدرجات في الجنة (بخلاف الظالم لنفسه فإنه معرض للوعيد).
      وأصحاب الوعيد من هذه الأمة يكونون من أهل الجنة باعتبار النهاية والعاقبة، فيقول رحمه الله: (ومعلوم أن الظالم لنفسه إن أريد به من اجتنب الكبائر، والتائب من جميع الذنوب فذلك مقتصد أو سابق، فإنه ليس أحد من بني آدم يخلو عن ذنب) ومعنى هذا الكلام أن الخوارج لو قالوا: إن الأقسام الثلاثة هي أقسام الناس عموماً فتكون آيات فاطر مثل آيات الواقعة ألزمهم أهل السنة والجماعة بأن هذه الأقسام الثلاثة هي من هذه الأمة، وليس الظالم لنفسه من اجتنب جميع الكبائر وتاب من جميع الذنوب، فهذا لا يمكن، فالأقسام الثلاثة في الآية كلهم مسلمون، والخوارج يلحقون مرتكب الكبيرة عند الخوارج و المعتزلة بالقسم الرابع: (( وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ ))[فاطر:36] والذين كفروا هنا هم اليهود و النصارى والزناة والخمارون والقتلة وأكلة الربا يدخلون هنا عند الخوارج و المعتزلة ، وكذلك الذي ترك المستحبات وفعل المكروهات، وهذا لا يصح أبداً، يقول رحمه الله: (الظالم لنفسه إذا أريد به من اجتنب الكبائر سيخرج من دائرة الكفر على كلام الخوارج والتائب من جميع الذنوب فذلك مقتصد أو سابق، ولا يمكن أن يكون ظالماً لنفسه وهو تارك للكبائر أو تائب منها) أي: ليس أحد من بني آدم يخلو عن ذنب فكل بني آدم خطاء، لكن من تاب وكان مقتصداً أو سابقاً فإنه يخرج عن أن يكون ظالماً لنفسه، وأصبح في إحدى المنزلتين: إما مقتصد وإما سابق بالخيرات، وقد تقدم أن التوبة تجب أو تهدم ما قبلها كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكما هو في آي كثيرة من القرآن، فمن اجتنب الكبائر كفرت عنه السيئات بدليل قوله تعالى: (( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ))[النساء:31]، ولا تحتاج أن تقول: المراد هنا الذي له ذنوب دون الكبائر، وأما الذي له ذنوب مثل الكبائر فهو عند الخوارج لا يكون ظالماً لنفسه؛ لأن ذنوبه هذه تكون مكفرة لارتكابه للكبائر، وقد أخبر تعالى في الآية أن هناك من هو ظالم لنفسه، ولا محيص للخوارج و المعتزلة من إثبات قسم ثالث يكون ظالماً لنفسه وموعوداً بالجنة، وعلى هذا تجتمع عندنا أحاديث الشفاعة مع ما هنا، ولهذا فإن الخوارج و المعتزلة ينكرون الشفاعة لأهل الكبائر، وهم لا ينكرون الشفاعة العظمى، فالشفاعة في رفع درجات أهل الجنة ليس عندهم فيها إشكال، لكن أن تكون الشفاعة لمن كان مرتكباً لكبيرة فيشفع فيه فيتحول من طريق أهل النار إلى طريق أهل الجنة فيدخل الجنة، فهذا لا يؤمن به الخوارج و المعتزلة والأدلة عندنا تتظافر وتتوارد على بطلان مذهبهم هذا وفساده، فإن وجود هذا القسم حاصل قطعاً، وهو ما في الحديث: ( شفاعتي في أهل الكبائر من أمتي ) وهؤلاء هم الصنف الثالث الذي لا بد من افتراضه؛ لأن واقع الأمة المشاهد الآن وفي كل العصور لا يخفى على عاقل فيه أن هناك مذنبين مقصرين عصاة لم يخرجوا عن دائرة الإيمان، وهم أيضاً مقصرون في الالتزام بأعمال الإسلام، فلم يكونوا من أهل الإيمان بمعنى المرتبة أو الدرجة العليا، ففيهم الذنوب والمعاصي والتقصير، فيتخلفون أحياناً عن صلاة الجماعة وعن بعض الواجبات، ويقع في قلوبهم الحسد لإخوانهم المسلمين، وقد يغتابون، ولا يخلو أحد أن يلم بشيء منها ولو كانت صغائر، فلو أنه تاب وأقلع أصبح مقتصداً؛ فيلقى الله وعنده هذه الذنوب التي لا ترقى إلى أن تكفره خلافاً لقول الخوارج و المعتزلة ، ولا ترقى إلى أن تخرجه عن دائرة الإسلام كما يقول أهل السنة والجماعة ولا تخرجه من الدين، بل لا تنزله عن دائرة الإيمان أحياناً، وهذا هو الظالم لنفسه وهو مسلم وعنده الإيمان الذي هو بمعنى: الدين أي: ضد الكفر، والكبائر يتفاوتون الناس فيها، فهناك من يرتكب كبيرة واحدة كأن يكون شارباً للخمر مثلاً أو زانياً أو آكلاً للربا، وبعضهم يكون فيه كبيرتان، وبعضهم يكون فيه ثلاث وأربع، وكذلك في الدرجة الواحدة يتفاوت الناس كذلك، فمن ترك الكبائر الكبرى قد يكون فيه كبيرة أخرى أو أكثر، وهذه الذنوب والمعاصي لا تنزله أن يكون من دائرة المؤمنين والله قد جعل الناس متفاوتين في الطاعات واقتضى عدله أن تكون منازلهم ودرجاتهم في الجنة متفاوتة بحسب أعمالهم وأحوالهم ومقامهم من هذا الدين ومن هذا الإيمان في الدنيا.
  2. الرد على المرجئة من آيات تفصيل مراتب الناس في الدين

     المرفق    
    إذاً: النصوص جميعاً واضحة في الرد على مذهب الخوارج ، ويمكن أن نجعلها رداً على المرجئة أيضاً؛ لأنهم يجعلون الظالم لنفسه مثل المقتصد أو السابق في أنه كامل الإيمان، فهذه الآيات ترد عليهم؛ لأنها فصلت الأقسام وجعلتهم ثلاثة، فالإيمان متفاوت وليس كما يقولون: لا يزيد ولا ينقص، وأهله فيه سواء، ونحن نقول: لا، بل أهله فيه مختلفون؛ لأنهم ثلاثة مراتب، فإذا كانت النصوص الدالة على أن أهل الإيمان مرتبتان كما في آيات الواقعة التي ذكرنا فيها أن أصحاب اليمين والمقربين كلاهما من أهل الجنة، وفي هذا رد على المرجئة ؛ لأنهم يقولون: لا يتفاضل أهل الإيمان فيه، والجواب: بل هنا تفاضل على درجتين، فإذا كانت الدرجات ثلاث فهذا زيادة في الرد عليهم؛ لأن فيها زيادة في إثبات التفاضل.
    فإذاً: الإيمان يزيد وينقص، ومن هنا يمكننا أن نقول: لو أن رجلاً كان في درجة الظالم لنفسه فإن في إمكانه إذا اتقى الله وتاب وتمسك بالواجبات، واجتنب المحرمات، وقرأ القرآن، وقوى إيمانه أن يصبح من المقربين من السابقين والمجتهدين المحسنين، ولكن من يفعل الذنوب ويهمل في الواجبات والفرائض فإيمانه يضعف حتى يصبح في درجة المؤمنين فقط، بل ربما ضعف -والعياذ بالله- حتى يصبح من درجة أهل الإسلام فقط، فإن هذا هو مجال الترقي والارتفاع أو الانحدار، والتفاضل يشمل هذا كله، فمعنى ذلك أن الإيمان يزيد وينقص، ولا صحة لمذهب المرجئة ، فيكون في هذه الآية التي تفصل مراتب الناس إبطال لمذهبي الخوارج و المعتزلة .
    فمن أتى بالإسلام الظاهر مع التصديق بالقلب، لكنه لم يقم بما يجب عليه من الإيمان الباطن فإنه معرض للوعيد، ومعنى أن درجة الظالم لنفسه هي درجة من أتى بالإسلام الظاهر وأتى من الإيمان الباطن بالتصديق فقط، ولكن لم يأت بالانقياد والخضوع والإخلاص والإنابة والخشوع التي تجعله في مرتبة المؤمنين ثم المحسنين أنه معرض للوعيد.
  3. العلاقة بين الإسلام والإيمان والإحسان

     المرفق    
    قال رحمه الله: (فأما الإحسان فهو أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أهله، والإيمان أعم من جهة نفسه وأخص من جهة أهله) وسيبين الشارح رحمه الله تعالى اختلاف الناس في العلاقة بين الإيمان والإسلام أهما مترادفان أم أن أحدهما داخل في الآخر؟ وكذلك الإحسان، والقول الصحيح الذي تشهد له الأدلة، وعليه جمهور السلف هو أن هذه الدرجات ثلاث، وتختلف معانيها بحسب الاقتران والانفراد كما تقدم، وأول ما بدأنا بحث الإيمان بدأنا بموضوع الألفاظ، وبينا الإيمان عند السلف وناقشنا الشبهات في هذه المسألة.
    والشيخ رحمه الله تعالى ترتيبه هنا فيه نوع من عدم الدقة؛ لأنه في الأخير بدأ يقرر الأمور التي لو أنه قررها في البداية لكان أفضل لاستيعاب القاري أو المطلع، وذلك من خلال حديث جبريل وغيره، فالشيخ رحمه الله تعالى أخرها إلى هنا وقال: إن الإيمان والإسلام وكذلك الإحسان إما أن تذكر منفردة، وإما أن تذكر مقترناً بعضها ببعض وكلام الشارح هنا عن ذكرها مقترنة مجتمعة كما في حديث جبريل عليه السلام وفي آيات فاطر، ثم وضحها بأن الإحسان أعم من جهة نفسه إلى آخره، ثم بعد ذلك ذكر مسمى الإسلام عند الناس، ولو كان قدم هذا وأخر هذا لكان أفضل.
    ونبدأ نحن هنا بشرح الكلام الأول، وهو أن هذه الألفاظ الثلاثة إما أن ننظر إليها من جهة حقيقتها ومعناها في ذاتها في نفسها فحقيقة الإحسان مثلاً في ذاته أعم، وإما أن ننظر إليها من جهة الأفراد، أي: ننظر إلى عدد المؤمنين وعدد المسلمين وأيهما الأكثر وأيهما الأقل، وما الذين يدخل عددهم في العدد الآخر؟ فإما أن ننظر إلى الحقيقة والمعنى والذات، وإما إن ننظر إلى الأفراد أو الأتباع أو الموصوفين بهذه الألفاظ الشرعية، فلو نظرنا إلى المعنى والحقيقة والذات، فهل الإسلام أعم أم الإيمان؟ ونريد إن تقرر المذهب الراجح نبدأ بالأفراد؛ لأنه أوضح من جهة الأفراد أيهما أعم وأكثر أفراداً الإسلام أم الإيمان؟
    الجواب: الإسلام أكثر أفراداً كما اتفق العلماء، فما دام أن الأفراد أكثر فيكون المعنى أقل وأخص، إذاً: نقول من جهة الحقيقة والمعنى أوسع شيء حقيقة من الثلاث المراتب هي الإحسان؛ لأنه يدخل فيه الأركان والواجبات والنوافل والمستحبات وكل الأعمال الظاهرة والباطنة، فكلها يشملها الإحسان، وتحقيق ذلك كله هو الإحسان، أما الإيمان من جهة ذاته ومعناه وحقيقته فهو أقل من الإحسان؛ لأنه عبارة عن دائرة داخل الدائرة الواسعة، فهو دائرة أخص؛ لأنه يشمل أداء الواجبات وترك المحرمات وامتثال الأركان إلى آخره، وليس بسعة الإحسان قطعاً، ولم ينحصر إلى أن يصبح في دائرة الإسلام، وهو الدائرة الثالثة الصغرى في الوسط؛ لأن تلك الدائرة هي فقط لمن أتى بالأركان الخمسة، وإن كان فيه بعد ذلك من الكبائر ما فيه.
    فإذاً: من جهة الحقيقة والذات أو المعنى فمعنى الإحسان ومعنى الإيمان أعم وأشمل وأما الإسلام فهو أقل؛ لأنه المباني أو الأركان الخمسة فقط، لكن إذا نظرنا من جهة الأفراد تنعكس الدوائر، فتكون الدائرة الكبرى للموصوفين بالمسلمين؛ لأننا نتكلم عن الأفراد والأتباع، والمؤمنون أقل؛ لأنك تجد أن المسجد يصلي فيه ألف، والمؤمنون منهم ربما كانوا مائة، بل ربما عشرة، بل جاء في بعض الأحاديث: ( أنه آخر الزمان يجتمع الناس في المسجد الواحد ليس فيهم رجل مؤمن ) أي: يغلب النفاق على القلوب، فهم في الظاهر من أهل العبادة ومن أهل الصلاة، لكنهم لا يوجد فيهم مؤمن واحد، ويوضح هذا أننا لو قلنا: جامعة كذا طلابها ثلاثون ألف، ولو تكلمنا عن المتخرجين منها لكانوا أقل، فلو تكلمنا عن الجيدين فيه لكانوا أقل من ذلك أيضاً، وكذلك أفراد المسلمين أكثر؛ لأنهم على آخر إحصاء ألف وستمائة مليون مسلم، والمتحققون منهم بالإيمان أقل، وأضيق هذه الدرجات هم المحسنون؛ ولهذا لو قلنا يوجد في الأمة مؤمنون، لكن المحسن الذي ينطبق عليه ما جاء في الحديث: ( أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) فهذا أقل القليل، ومن لاحظ أصحاب اليمين والمقربين في آيات الواقعة لوجد عددهم ونسبتهم قليلة كما في الآيات: (( ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ ))[الواقعة:13-14] يعني: الصدر الأول من هذه الأمة اجتمع فيه من المقربين ومن السابقين جموع غفيرة، لكن من الآخرين وهم أصحاب اليمين فهم: (( ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ ))[الواقعة:39-40]، فهذا موجود هنا وهنا، فهذا دليل على أن أهل الإحسان قليل -وإن كانوا قليلاً- أفراداً فهم عندما يجتمعون ليكونوا جيلاً يصبحوا أعز وأقل، وبهذا يظهر فضل السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم على من بعدهم، فإنهم كانوا جيلاً بأكمله فيه الدرجة العلياء، وكان الإحسان هو الغالب عليهم، ولم يكونوا أفراداً، فالشيخ هنا عندما يقول: (فأما الإحسان فهو أعم من جهة نفسه -يعني: حقيقته ومعناه وذاته- وأخص من جهة أهله -أي: لأن أهله أقل القليل- والإيمان من جهة نفسه أعم وأخص من جهة أهله من الإسلام) فالإحسان يدخل فيه الإيمان، والإيمان يدخل فيه الإسلام، والمحسنون أخص من المؤمنين، وهم أقل أهل المراتب الثلاث، والمؤمنون أيضاً أخص من المسلمين.
    1. وجه الشبه بين العلاقة بين مراتب الدين والنبوة والرسالة

      ثم قال رحمه الله: (وهذا كالرسالة والنبوة، فالنبوة داخلة في الرسالة، والرسالة أعم من جهة نفسها وأخص من جهة أهلها، فكل رسول نبي ولا ينعكس) يعني: عندما نطبق هذا على الإيمان والإحسان نقول: كل محسن مؤمن، وليس كل مؤمن محسناً، وكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً.
      وهكذا دائماً العلاقة إذا كانت بين شيئين هي العموم والخصوص من وجه فإنها لا تنعكس، وكذلك فالنبوة والرسالة، فعلى القول المشهور: أن الرسل هم مجموعة أو صفوة من الأنبياء، فالأنبياء كثير ولكن الرسل عددهم أقل، فعلى هذا نستطيع أن نقول: إن كل رسول نبي، ولا يصح أن نقول: كل نبي رسول؛ لأننا لو قلنا ذلك أصبح لفظ النبي والرسول تعبيران مترادفين، وعلى هذا وقع الخلاف هنا؛ فإن بعض العلماء ذهبوا إلى أن كل مسلم مؤمن، وكل مؤمن مسلم فكانت النتيجة أن يقولوا بالترادف بينهما، وذهب إلى هذا الإمام البخاري رحمه الله، وهو على فضله وجلالة قدره وعلمه كان يرى ذلك، والإمام محمد بن نصر المروزي أيضاً يذهب إلى الترادف، ولكن قد ذكرنا عندما تعرضنا لآية الحجرات أنها من أوضح ما نستدل به على التغاير بين الإسلام والإيمان، فالإمام البخاري رحمه الله عندما قال هذا قرره بأن الإسلام هو الاستسلام يعني: كأنهم قالوا: استسلمنا وانقدنا بظواهرنا، ولم يسلموا على الحقيقة، وهذا مدلول ترجمته رضي الله تعالى عنه.
      والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.