المادة كاملة    
إن إطلاق القول بأن العطف بين الشيئين يقتضي التغاير بينهما قول ترده قواعد اللغة وأصولها، كما ترده النصوص الشرعية؛ لأن العطف له عدة مراتب يفهم من خلالها، وبها تتضح معاني الألفاظ، كعطف الشيء على مباينة أو ملازمة أو عطف البعض على الكل أو عطف الصفات للشيء الواحد.
  1. خلاصة شبهة عطف العمل على الإيمان واقتضائه للمغايرة عند المرجئة والرد عليها

     المرفق    
    ‏الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    فالشبهة الخامسة والأخيرة عند استعراض ونقض شبهات المرجئة والتي تعد من أقوى حججهم قديماً وحديثاً، يقولون: إن الله تبارك وتعالى كرر في القرآن مراراً كثيرة عطف الإيمان على العمل كما في قوله تعالى: (( الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ))[البقرة:25] والعطف يقتضي المغايرة، وقد ذكرنا أن هناك ثلاث حالات لورود الإيمان في القرآن والسنة، فإما أن يقترن بغيره، وإما أن يذكر منفرداً كقوله تعالى: (( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ))[الشعراء:227]، وقوله: (( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا ))[يونس:4]، وقوله: (( وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا ))[البقرة:25]، وقوله: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ))[الحجرات:10] وغير ذلك، وهذه هي الحالة الأولى.
    الحالة الثانية: أن يذكر معه الإسلام.
    الحالة الثالثة: أن يذكر معه لفظ العمل أو غيره، وقد بينا معنى الإيمان في كل حالة، وأن الحالة الأولى يكون معنى الإيمان فيها إذا انفرد يشمل الدين كله، وإذا ذكر معه الإسلام فيكون معنى الإسلام الأعمال الظاهرة، والإيمان الأعمال الباطنة كما في آية الحجرات، وحديث جبريل.
    وأما الحالة الثالثة أي: إذا جاء لفظ الإيمان مقترناً بالعمل الصالح فيكون معنى الإيمان التصديق والإقرار، ويكون معنى العمل الصالح -باطناً أو ظاهراً- الانقياد والامتثال لما صدق وأقر به.
  2. تفصيل قاعدة اقتضاء العطف التغاير

     المرفق    
    قال المؤلف رحمه الله: [أما إذا عطف عليه العمل الصالح فاعلم: أن عطف الشيء على الشيء يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه مع الاشتراك في الحكم الذي ذكر لهم، والمغايرة على مراتب].
    أي: من حيث الجملة والعموم لا يعطف الشيء على نفسه، ولا يصح في كلام العرب أن يعطف الشيء على مثله، فلا بد من مغايرة بوجه ما، فإذا قلنا: دخل محمد ومحمد، فإنه يفهم من هذا الكلام أن الداخل رجلان؛ لأنه لا يمكن أن تقول: محمد، ومحمد، وهو نفسه، فليس هذا من كلام العرب ولا من كلام العقلاء، فلا يمكن أن يعطف الشيء على نفسه، لكن إذا قلت: دخل محمد، وعلي فالتباين واضح.
    1. المرتبة الأولى: تباين المعطوفين

      [أعلاها أن يكونا متباينين] والتباين هو الاختلاف الكبير الذي ليس فيه تلازم.
      قال: [ليس أحد المعطوفان هو الآخر، ولا جزءاً منه، ولا بينهما تلازم] أي: فهما ذاتان مختلفتان تماماً، وإنما يذكر هذا ثم يعطف عليه ذلك.
      [كقوله تعالى: ((خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ))[الأنعام:1]] فالأرض غير السماء، وليست جزءاً من السماء ولا بينهما وبين السماء تلازم، بل هي ذات أخرى منفصلة تماماً، وكذلك عطف النور على الظلمات، فالنور ليس هو الظلمات، ولا هو جزءاً منها، ولا بينهما أي تلازم، فالتغاير بينهما واضح جداً.
      ومنه قول الله تعالى: [(( وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ ))[آل عمران:3].
      وهذا هو الغالب] أي: في كلام العرب أنهم إذا عطفوا شيئاً على شيء فهذا دليل على أنهما متغايران، كأن تقول: اشتريت البيت والسيارة، فالسيارة غير البيت، وكذلك قولك: جاءت المرأة والرجل، فالمرأة غير الرجل، أو رأيت الطالب والمدرس وهكذا، فأكثر كلام الناس في هذا يدل على التغاير، وأعلى درجات التغاير هي التباين بين الذاتين.
    2. المرتبة الثانية: تلازم المعطوفين

      أما الدرجة الثانية من درجات التغاير فقال: [ويليه: أن يكون بينهما تلازم]، بأن يكون كل منهما مستقلاً عن الآخر، فليس هو الآخر ولا جزءاً منه، ولكن بينهما تلازم بحيث يلزم من وجود أحدهما وجود الآخر.
      قال: [كقوله تعالى: (( وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ))[البقرة:42]] وهذه الآية فيها خطاب لأهل الكتاب أن لا يلبسوا الحق بالباطل، فهذا هو المعطوف عليه، والمعطوف هو أن لا يكتموا الحق، فلبس الحق بالباطل شيء، وكتم الحق شيء آخر، لكن المتأمل سيجد أنه يلزم من لبس الحق بالباطل كتم الحق، ويلزم أيضاً من كتم الحق لبس الحق بالباطل، فهما متلازمان، وكل منهما يلزم منه الآخر ويؤدي إليه وينشأ عنه، ومثل ذلك قوله تعالى: [(( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ))[المائدة:92]] فهما متلازمان، فمن أطاع الله فقد أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: (( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ))[النساء:80] وكذلك من أطاع الرسول فقد أطاع الله، فيلزم من طاعة الله طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويلزم من طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم طاعة الله، فهما متلازمان، وليس أحدهما عين الآخر؛ لأن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي باعتباره مبلغاً مؤدياً لرسالة الله، أما طاعة الله تعالى فهي باعتبار أن هذا حق الله علينا، فهو خالقنا ورازقنا وربنا ومعبودنا وإلهنا، فلا بد أن نطيعه لكن كيف نطيعه، ويلزم من طاعته؟ أن نطيع رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا يستلزم هذا، وهذا يستلزم هذا.
    3. المرتبة الثالثة: عطف بعض الشيء عليه

      أما الثالثة من مراتب العطف فهي قول المؤلف: [الثالث: عطف بعض الشيء عليه كقوله تعالى: (( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى ))[البقرة:238]] فالصلاة الوسطى هي من الصلوات، ومثله قوله تعالى: [(( مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ))[البقرة:98] وجبريل وميكال هما من الملائكة، وكذلك قوله تعالى: (( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ ))[الأحزاب:7]] ثم قال بعد ذلك: (( وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ))[الأحزاب:7].
      فهذه النصوص نجد فيها عطف بعض الشيء على الشيء كله، يقول المؤلف رحمه الله: [وفي مثل هذا وجهان] يعني: أن عطف بعض الشيء عليه يخرج بأحد وجهين:
      قال: [أحدهما: أن يكون داخلاً في الأول، فيكون مذكوراً مرتين] فمثلاً قوله تعالى: (( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ ))[البقرة:238] أي: كلها (( وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى ))[البقرة:238] وهي من الصلوات، فتكون قد ذكرت مرة أخرى لنكتة بلاغية، وهي الاهتمام بها، وضرورة المحافظة عليها، والتأكيد عليها، وهي صلاة العصر كما هو أشهر الأقوال، وقيل: الصلاة الوسطى بمعنى: الفضلى المتميزة كما قال تعالى: (( مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ))[المائدة:89] قال بعض العلماء: أي: من أفضله ومن أجوده، فالوسط يأتي في لغة العرب بمعنى: الأفضل والأجود، كما جاء في السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه الله من أوسطهم نسباً أي: من أشرفهم نسباً.
      فالصلاة الوسطى بالمعنى الأول أو بالمعنى الثاني تكون قد تكرر ذكرها مرتين، وإن كان الأظهر من كلام العلماء وهو ما تؤيده أحاديث صحيحة هو المعنى الأول، أي: أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، فالصلاة الوسطى تكرر ذكرها؛ لأنها ذكرت في جملة الصلوات وهذا هو الذكر الأول لها، وذكرت منفردة وهو الذكر الآخر.
      قال: [والثاني: أن عطفه عليه يقتضي أنه ليس داخلاً فيه هنا، وإن كان داخلاً فيه منفرداً] فالصلاة الوسطى على هذا ليست داخلة في عموم الصلوات، وجبريل ليس داخلاً في عموم الملائكة، ولكن المعنى في الآية: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ) وخص الصلاة الوسطى وهي ليست داخلة في المأمور به، والأمر بها إنما هو أمر مستقل معطوف على ما قبله، وكذلك قول الله تبارك وتعالى: (( مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ ))[البقرة:98] لا يدخل جبريل في هذا الخطاب حتى جاء منصوصاً عليه بنص جديد، فليس داخلاً فيه، وإن كان داخلاً فيه منفرداً، فلو لم يذكر لدخل فيه.
      قال: [كما قيل مثل ذلك في لفظ الفقراء والمساكين ونحوه مما تتنوع دلالته بالإفراد والاقتران] وموضوع الإفراد والاقتران هو مذكور في أول كتاب الإيمان الكبير لـشيخ الإسلام.
      والألفاظ التي تتنوع دلالتها بالإفراد والاقتران هي مثل لفظ البر، والتقوى، والتوبة، والاستغفار، وكذلك لفظ الفقير، والمسكين، والقضاء والقدر، والإثم، والعدوان، والسيئة، والمعصية، والإيمان، والإسلام، والفحشاء، والمنكر، فمثلاً إذا أفردنا الفحشاء فالمنكر منها أو المنكر فالفحشاء منه، وإذا ذكرنا الإثم فالعدوان منه وإذا ذكرنا البر فالتقوى منه وهكذا، فإذا اقترنا فلذلك دلالة، وللآخر دلالة أخرى، فخلاصة الوجه الثاني أن هذه الألفاظ مما تتنوع دلالتها بحسب الاقتران والإفراد فلا تكرار ولا مغايرة على هذا؛ لأنه كما ذكرنا في قوله تعالى: (( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى ))[البقرة:238] أن المعنيين مختلفان، إذاً: فالمغايرة حاصلة، وقوله تعالى: (( مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ))[البقرة:98].
      كذلك المغايرة حاصلة هنا فلم يكن جبريل داخلاً ولا مذكوراً، والسر أو الحكمة من عطف بعض الشيء عليه هو بيان أهميته، فمثلاً الصلاة الوسطى ليس تركها كترك أي صلاة من الصلوات، وعداوة جبريل عليه السلام ليست كعداوة أي ملك من الملائكة، ومثل ذلك الميثاق الذي أخذه الله تبارك وتعالى على أولي العزم وهم الخمسة المذكورون في آية الأحزاب في قوله تعالى: (( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ))[الأحزاب:7] فليس أخذ العهد منهم أو الميثاق مثل أخذ العهد من بقية الرسل، فهؤلاء الخمسة متميزون عن سائر الرسل؛ لأنهم هم أولو العزم الذين قال الله تبارك وتعالى فيهم: (( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ))[الأحقاف:35].
      وصلاة العصر أيضاً قد ورد في فضلها أحاديث كثيرة مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ( من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله )، ووتر أي: فقد أهله وماله كما قال امرؤ القيس:
      لو كنت يا ذا الخلصة الموتور
      أي: الذي قتل أبوه، فلو أن إنساناً ترك صلاة العصر فخسارته بتركها كما لو فقد أهله وفقد ماله، فكيف تكون مصيبته، وكم يعزيه الناس؟ وتظل ذكرى تلك اللحظة في قلبه إلى أن يموت، فيتذكر هذه المصيبة وأن الناس كانوا يتألمون ويعزونه فيها، وهذا التشبيه يدل على أهمية صلاة العصر، وما أكثر من يتقاعس عنها، فمن ترك صلاة العصر فقد حبط عمله، مع أن ترك الصلاة يحبط العمل، لكن تخصيص صلاة العصر بالذكر لأهميتها، فإذا أفردت فلأهميتها ولمعنى خاص فيها ليس في غيرها، وفي فضلها يقول صلى الله عليه وسلم: ( من صلَى البردين دخل الجنة ) هذا بالنسبة لأهمية صلاة العصر.
      وأما بالنسبة لمكانة جبريل عليه السلام واختصاصه عن سائر الملائكة فإن الآية نزلت حينما قال اليهود قبحهم الله: ( يا محمد! من الذي يأتيك بالوحي من الملائكة؟ قال: جبريل، قالوا: ذلك عدونا من الملائكة ) واتخذوه عدواً؛ لأنه نزل بكل ما أنزله الله تبارك وتعالى في بيان شنائع اليهود وفضائعهم وكفرهم وكفرانهم وجحودهم على موسى أو على عيسى أو على محمد صلى الله عليه وسلم؛ هذا من ناحية، وأما من الناحية الأخرى فإنهم يعادونه ويكرهونه؛ لأنهم يكرهون ذرية إسماعيل حسداً من عند أنفسهم، فيحسدون النبي صلى الله عليه وسلم، ويحسدون العرب أن تكون الرسالة فيهم ولذلك عادوه، فيعادونه لهذه الأسباب مجتمعة فجعل الله تعالى عدواة جبريل أعظم من عدواة غيره، فإن من يعادي الملائكة وهم عباد الله المكرمون، الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون فهذا لا شك أنه يعادي رب العالمين، وهو عدو الله، وإلا فكيف يعادي هؤلاء الذين هم بهذه المنزلة من الله تبارك وتعالى، ولا تصدر منهم معصية؟! وكيف تعاديهم وهم يعبدون ويسبحون له؟ فإذا كان المبغض والمكروه منهم هو جبريل عليه السلام ففيه هذا المعنى وزيادة أمين الوحي والروح الأمين الذي قال الله تعالى فيه: (( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ ))[الشعراء:193] وهو الذي ينزل على الرسل بالوحي كما قال ورقة بن نوفل : [ إنه الناموس الذي نزل على موسى ]، فكل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم إنما يأتيهم بهذا الدين جبريل عليه السلام، فهو رسول الوحي، وهو أشرف الملائكة، وهو سيد الملائكة، فكما أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو أفضل الرسل وأعظمهم شرفاً، فكذلك جبريل عليه السلام هو أفضل الملائكة وأعظمها شرفاً، واليهود أكثر ما يعادون من البشر محمداً صلى الله عليه وسلم، وأكثر ما يعادون من الملائكة جبريل عليه السلام.
      فعطف بعض الشيء عليه سواءٌ قلنا: إنه داخل فيما قبله أو غير داخل وإنما هو من باب تنوع دلالته بالإفراد والاقتران، فإنما يذكر لخاصية فيه، وأهمية استوجبت ذكره.
    4. المرتبة الرابعة: عطف الشيء على الشيء لاختلاف الصفتين

      المرتبة الرابعة كما يقول المؤلف: [الرابع: عطف الشيء على الشيء لاختلاف الصفتين كقوله تعالى: (( غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ ))[غافر:3]] أليس غافر الذنب هو الله، وقابل التوب هو الله؟ ولكن عطف هذا على هذا لتنوع الصفتين، وإن كانت الذات الموصوفة بهما واحدةً، كما يطلق على الرسول الصادق، والأمين، البشير، والنذير، والماحي، والعاقب، والحاشر، وكلها صفات لموصوف واحد، فهو صلى الله عليه وسلم الشاهد والمبشر والنذير، وكذلك قوله تعالى في وصف يحيى عليه السلام: (( وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ))[آل عمران:39] ونحن في كلامنا نقول: محمد هو الشجاع والبطل والكريم، وهو الإمام والمؤذن، وهو شخص واحد، ومثله: لو قلت: فلان هو البائع والمشتري وتقصد أنه هو الذي قامت فيه الصفتان: البيع والشراء، ويقال: هو الخطيب والشاعر، وهو الموظف والتاجر، أي: لديه عملان وهكذا يكثر عطف الصفات وإن كان الموصوف واحداً.
      وبالمناسبة حينما نقول: (( غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ ))[غافر:3] وهنا سر أو نكتة بلاغية وليس الأمر هنا مجرد تكرار، فغافر الذنب صفة لله؛ لأنه يغفر الذنب للعبد وإن لم يتب، وقابل التوب أي: ممن تاب، وهناك من يفسرون الآية بأن غافر الذنب وقابل التوب تكرار؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: (( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ))[طه:82].
      إذاً: غافر الذنب لمن تاب، وقابل التوب ممن تاب، فيصير المعنى واحداً، والذي قال هذا هم الخوارج و المعتزلة ؛ لأن من مات عندهم من غير توبة فهو خالد مخلد في النار، ولكن تسميه الخوارج كافراً، وتقول المعتزلة : هو في منزلة بين المنزلتين، فقد اتفقوا في الحكم وهو التخليد في النار، واختلفوا في الاسم في الدنيا، وهذه الآية يجعلونها دليلاً لهم، فيقولون: معنى غافر الذنب، أي: لمن تاب، وقابل التوب ممن تاب، ولو جعلوا للآية معنيين لكان المعنى: يغفر الذنب من غير توبة، ويقبل التوبة ممن تاب، وهم فروا من هذا واستدلوا بقوله تعالى: (( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ ))[طه:82]، ولا تعارض بين هذه الآية وآية غافر؛ لأن المعنى: يغفر لمن تاب، وقد يغفر لمن لم يتب، فالمعنى: يغفر جزماً لمن تاب؛ لأن التوبة تجب ما قبلها، سواء من الكافر أو غيره، قال تعالى: (( إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ))[الزمر:53] أي: لمن تاب، وقال: (( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ))[الزمر:53] أي: لمن تاب، فالمعنى: توبوا إلى الله تبارك وتعالى، ولا تقنطوا من رحمته، وأنيبوا إليه وأسلموا له، فإذاً: لا تعارض، فإن الله تبارك وتعالى يفتح باب الرجاء ويحض على الاستغفار ويقول: (( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ))[طه:82] وهذا في مقام الحض على ذلك، وبيان أهمية الاستغفار، لكن رحمة الله أيضاً أوسع، وفضل الله أعظم؛ فمع أنه يقبل التوبة ويغفر الذنب لمن تاب، فإنه كذلك يغفر كثيراً ويعفو عن كثير من الذنوب وإن لم يتب صاحبها، وهذا محض الجود والكرم، ولذلك كان مذهب أهل السنة والجماعة في صاحب الكبيرة على خلاف مذهب الخوارج و المعتزلة ، هو أن مرتكب الكبيرة تحت المشيئة؛ لقوله تبارك وتعالى: (( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ))[النساء:48] أي: (قطعاً) (( وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ))[النساء:48] فبعض أهل الكبائر يدخلون النار؛ لأن المغفرة لهؤلاء هي تحت المشيئة، فمن شاء غفر له، فبقي من لم يغفر له يدخل النار ولابد، فبهذا ظهر الفرق بين أهل السنة والجماعة من جهة وبين المرجئة و المعتزلة من جهة، وبين غالية المرجئة من جهة أخرى، وهذا هو حال أهل الكبائر من حيث الجملة، ولذا قلنا: إن الله تعالى قد يغفر لمن لم يتب، و(قد) معناها حصول ذلك للبعض.
      إذاً: يكون حال أهل الكبائر على مذهب الخوارج و المعتزلة أنهم كلهم في النار، ولا أحد يدخل الجنة منهم، وعند المرجئة أنه يجوز -ولا يجزمون- أن لا يدخل النار أحد من أهل الكبائر، بخلاف الخوارج و المعتزلة فيقولون: يجب أن يدخل النار كل أصحاب الكبائر فقابلتهم المرجئة وقالت: يجوز أن لا يدخل النار أحد من أهل الكبائر فيكونون في الجنة، أي: أن رحمة الله تشملهم جميعاً، ولكن أهل السنة والجماعة قالوا: نحن نجزم أن بعض أهل الكبائر يدخلون الجنة، وبعضاً منهم يدخلون النار ثم يخرجون منها.
      فعندما تقول المرجئة أن قول الله تبارك وتعالى: (( غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ ))[غافر:3] هو عطف تكرار لا عطف مغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه جوابه: أنكم أخطأتم في ذلك، فإنه يغفر الذنوب لمن يشاء، ويقبل التوبة ممن تاب فهذا غير هذا.
      يقول المؤلف: [وقد جاء في الشعر العطف لاختلاف اللفظ فقط كقول:
      وألفى قولها كذباً ومينا]
      وهذا في لغة العرب لا يعد بلاغةً أي: ليس هناك أي نكتة بلاغية أو بيانية، بل ذلك لمجرد تنوع في اللفظ، وهذا وإن كان من أضعف الأساليب، ولكن يستخدمه الشعراء مراعاة للضرورة الشعرية فقط كقوله:
      فقدمت الأديم لراهشية            وألفى قولها كذباً ومينا
      وهذا من شعر عدي بن زيد العبادي في قصة الملكة الزباء عندما غررت به بـجذيمة بن الأبرش في قصته في كتب الأدب من حمل الرجال داخل الصناديق كأنهم غلال أو أموال أو متاع إلى آخره، فالمقصود قوله: فألفى قولها كذباً وميناً، والمين هو الكذب، وإنما جاء بذلك لضرورة الشعر، وهذا كثير، والخطباء يكررون بعض العبارات وهي واحدة كما يقتضيه الأسلوب الخطابي إن كان له سراً ومعنى وحكمة، وإلا فإن العطف لمجرد اللفظ فقط يدل على ضعف في الأسلوب، أما إن كان له حكمة أو معنى فيكون من التكرار للإيضاح، ولزيادة تأكيد الصفة، ولذلك يقول المؤلف رحمه الله: [ومن الناس من زعم أن في القرآن من ذلك] فالقرآن لا يمكن أن يكون فيه شيء من غير حكمة ومن غير سر بياني، ولا يتكرر في القرآن شيء بمجرد لفظ، بل لا بد أن له حكمة وبلاغة في الذروة، ولا يمكن أن يوصف القرآن بأن في أسلوبه ضعفاً أبداً، ثم ذكر الشيخ مثالاً لذلك بقوله: [(قوله تعالى: (( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ))[المائدة:48]] قالوا: والشرعة هي المنهاج.
      فقالوا: هنا تكرار، فيجوز أن يعطف لمجرد التغاير اللفظي فقط، والجواب عن هذا أن يقال: إما أن يقال بأن الشرعة هي المنهاج، ولكن التكرار له فائدة عظيمة، وهي تأكيد المعنى، فالمعنى: فهؤلاء لهم شرعة، ومنهاج وهؤلاء لهم شرعة ومنهاج، فعندما يعطف ويكرر اللفظ فيدل على أن هؤلاء غير هؤلاء، وهو زيادة في بيان الفرق بين هذه الأمة وبين من سبقها من أهل الكتاب، وهذا أقوى؛ لأن الصفات كلما تعددت كلما كانت الفوارق أكثر.
      وإما أن يقال: لا يمكن أن يكون في القرآن تكرار قط، بل هذا له معنى، وهذا له معنى، والشرعة والمنهاج قد فسرت بالسبيل والسنة كما قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه: [ أي: جعل الله تعالى لكل سبيلاً وسنة طريقة وهدياً ]، فيمكن أن تفسر بأن تكون الشرعة هي الأحكام الظاهرة والالتزام بالحدود، والمنهاج هو الالتزام بالباطن والهدي، ولا شك أنه في لغة العرب لابد أن تكون هناك فروق، والصحيح الراجح أنه لا يوجد في لغة العرب ترادف مطلق، وهذا هو الذي يميل إليه أكثر اللغويين، فالعرب لا تجعل الترادف مطلقاً ولابد أن هناك اعتباراً معيناً، ولهذا يقول بعضهم: إن هناك فرقاً بين البدر والقمر والهلال، فإذا قلت الهلال فهو الناقص، وإذا قلت البدر فهو التام، وكذلك السيف له في لغة العرب مئات الأسماء، ولكن السيف ليس له اسم واحد، بل يختلف بحسب وصفه وجودته ونوعته، فللغضب يقال: الباتر والصارم، وهكذا في الأوصاف المتكررة، والعرب قد سمت الأسد والشمس والسيف وغيرها بما يقارب أربعمائة اسم أو خمسمائة اسم كما قاله بعضهم، لكن كل اسم منها أو وصف منها له دلالة خاصة تختلف عن الأخرى؛ ولذلك يقول المؤلف: [والكلام على ذلك معروف في موضعه، فإذا كان العطف في الكلام يكون على هذه الوجوه، نظرنا في كلام الشارع كيف ورد فيه الإيمان؟ فوجدناه إذا أطلق يراد به ما يراد بلفظ البر والتقوى والدين ودين الإسلام] فبين أنه إذا كان العطف في الكلام يكون على عدة وجوه فإننا ننظر في كلام الشارع كيف ورد فيه لفظ الإيمان، فإذا نظرنا وتأملنا ذلك في كلام الشارع وموقعه في هذه الأنواع الأربعة سنجد أنه إذا أطلق يراد به ما يراد بلفظ البر والتقوى والدين ودين الإسلام.
      إذاً: فهو من الألفاظ التي تتنوع دلالتها بالإفراد والاقتران وهذا قد تقدم.
      يقول المؤلف: [ذكر في أسباب النزول أنهم سألوا عن الإيمان فأنزل الله هذه الآية: (( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ))[البقرة:177]، قال محمد بن نصر المروزي حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا عبد الله بن زيد المقري والملائي قال: حدثنا المسعودي عن القاسم قال: (جاء رجل إلى أبي ذر رضي الله تعالى عنه فسأله عن الإيمان، فقرأ: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ.. ) إلى آخر الآية فقال الرجل: ليس عن هذا سألتك، فقال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه، فقرأ عليه الذي قرأت عليك، فقال له الذي قلت لي، فلما أبى أن يرضى قال: إن المؤمن الذي إذا عمل الحسنة سرته ورجا ثوابها، وإن عمل السيئة ساءته وخاف عقابها) وكذلك أجاب جماعة من السلف بهذا الجواب]، وقدُمت هذه الآية لفضلها وشرفها لكونها من القرآن، وإلا فالحديث فيه كلام، وهذه الآية ذكرها الإمام البخاري رحمه الله تعالى أيضاً وترجم بها في أول كتاب الإيمان في معنى الإيمان، لكن الحديث بالوقف أشبه منه بالرفع، وفي صحته كلام، والجماعة الذين أشار إليهم بأن جماعة من السلف أجابوا بذلك منهم الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، ولا مانع أن تتوارد خواطرهم وأذهانهم وأن يجيبوا بجواب واحد، قال الشيخ ناصر عن هذا الحديث: ضعيف للانقطاع، فالتفسير صحيح أي: تفسير الإيمان بالآية صحيح وحق، لكن كون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أجاب به فلا؛ لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا، وهذا ذكره الحافظ في الفتح عند ذكر البخاري رحمه الله هذا، لكن كون الإيمان هو البر فهذا حق، وكونه هو ما ذكره الله تبارك وتعالى فهذا صحيح.
      والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.